|
قصر سُعدى وخرافة النهر والزواج
قحطان محمد صالح الهيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3815 - 2012 / 8 / 10 - 19:09
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الأسطورة في لغة العرب تعني: الأباطيل والأكاذيب، والأحاديث التي لا نظام لها. وتُرجع معاجمُ اللغة الأسطورة إلى الفعل( سّطَّرَ). وسَطَّرها :ألفها. وسَطّرَ علينا : أتانا بالأساطير. ويُقال:" سطَّرَ فلان علينا يُسطّرُ، إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل، يقال: هو يسطر ما لا أصل له، أي يؤلف. ويقولون: "سطَّرَ فلانُ على فلانٍ إذا زخرّف له الأقاويل ونمّقها، وتلك الأقاويل الأساطير"(1 ). وتعرّف الأسطورة بأنها" قصة خرافية يسودها الخيال، وتبرز فيها قوى الطبيعة في صور كائنات حية ذات شخصية ممتازة وُبني عليها الأدب الشعبي"(2 )
فالأسطورة أباطيل، وأكاذيب، وأحاديث، وأقاويل منمقة، بل هي قصة خرافية يسودها الخيال ،ومن هذا المدخل أدخل لأبين بأن قصة سعدى بنت الأحمد، وحكاية قصرها ،وزواجها والنهر الذي شُق لتُزف به، هي أسطورة مثلما هو عنوان الموضوع الذي أود أن ابحث فيه وهو" قصر سعدة في هيت يروي أسطورة الحب بين الأنبار والبصرة " والمنشور في أكثر من موقع على الشبكة العنكبوتية، فضلا عن نشره في مجلة هيت الإلكترونية بعددها الحادي عشر الصادر في آب/2012. ومن خلال بحثي هذا سأثبت بأن قصة سعدى بنت الأحمد وكل ما قيل فيها هو خُرافة.
تُعرّفُ الخرافة بأنها :"الحديث المستملح من الكذب". كما أنها تطلق على" ما يكذبونه من الأحاديث وعلى كل ما يستملح ويتعجب منه". وكلمة الخرافة مشتقة من مادة (خ ر ف) ومن معانيه فساد العقل من الكبر. ويقولون:" إن خرافة هو اسم رجل استهوته الجن , فأقام بينهم ما شاء الله ثم عاد إلى قومه فأخذ يحدثهم بالأحاديث الغريبة, فكانوا بعد ذلك كلما سمعوا حكاية أو نادرة أو خبرا فيه من الغرائب قالوا حديث خرافة. ومنها اشتق الناس خرافة وخرافات لكل ما لا يمكن تصديقه أو لكل خبر مبالغ فيه". وتختلف الأسطورة عن الخرافة في أن في الأسطورة بعض الحقائق التاريخية التي لا توجد في الخرافة(3 ).
لابد لنا ومن أجل أن نؤكد خرافة قصة سعدى أن نقرأ القصة على وفق ما قرأناه لا على وفق ما سمعناه. ونبدأ القصة مع ما كتبه لنا الشيخ رشاد الخطيب الهيتي في كتابه الموسوم (هيت في إطارها القديم والحديث) الذي ينقلها لنا عن الأخبار المتواترة قائلا: " انه كان في قرية العطاعط التي تقع على الضفة اليسرى من نهر الفرات والتي تبعد عن قصبة هيت حوالي ستة أميال فتاة بارعة الجمال ،أغرت بجمالها الساحر الفتان ذوي العواطف من الشباب تدعى (سعدى الأحمد) وكان قد بنى لها أبوها قصرا شيده على شاطئ النهر لا زالت آثاره ماثلة للعيان، وقد طلب يدها للزواج منها كثيرون فلم يفز بها أحد، وذاع صيتها حتى وصل إلى أمير من أمراء البصرة، فقصد هيت ليخطبها مصمما أن يدفع الثمن مهما كان غاليا ،ولكن الثمن أصعب مما يتصور، فقد طلبت سعدى أن يشق لها نهرا من هيت إلى البصرة تزف فيه ويسمى باسمها على أن يتم جريان الماء فيه خلال ثلاث سنوات، فتم الاتفاق على ذلك. وما أن انتهت المدة حتى كان العمل منجزا فُزفت سعدى مخترقا زورقها النهر الذي سُمي باسمها وشُق من أجلها. وعاشت في البصرة زمنا في محلة المشراق.... ولكن سعدى كانت رغم ما أحاطها به الأمير من أسباب الترف والرفاهية تَحنُ إلى نواعير الفرات وبساتينه الغناء ساخرة بما هيأه لها زوجها من مظاهر الأبهة ووسائل الراحة حتى سمعها ذات يوم تبكي وتقول: ما طاب في المشراگ مصباح ومبيتِ يطيب لي الناعور يسگي نخل هيــتِ لا تلـــومونــــــــــــي غريبــــــــة لـــــو بجـــــــيــــتِ فلم يَرَ بُدا من إعادتها إلى موطنها فجهزها بأحسن جهاز وسيّرها معززة مكرمة إلى أهلها...." ويقول الشيخ رشاد الخطيب في نهاية الرواية ما نصه" واذا صحت القصة فلا يستبعد أن يكون هذا الأمير الثري قد أعاد حفر خندق سابور وكراه مجددا ليحقق رغبته في الحصول على سعدى" (4)
ويذكر لنا الرحالة (جون بيترز) الذي زار النجف في سنة(1308ه/1890م)، وهو أستاذ أمريكي ورئيس لبعثة بنسلفانيا للتنقيب عن الآثار القديمة في كتابه( نيبور أو الاستكشاف والمغامرات على نهر الفرات، ط2، نيويورك 1898):"أن هناك في غربي الكوفة نهرا مندرسا كبيرا يسمى ( كري سعدى ) .ويَروي الخرافة التي تُروى عن تسميته بهذا الاسم، وهي أن تاجراً غنياً من تجار البصرة كان قد أحب امرأة جميلة اسمها (سعده) من أهالي المنطقة الكائنة ما بين هيت وعانة في شمال البلاد. وكانت هذه المرأة تهوى ضفاف الأنهر المظللة، فاشترطت عليه حينما خطبها من أهلها أن تنقل إلى البصرة في طريق النهر الذي يمر بالأماكن التي يجللها الظل. فما كان منه إلاّ أن يحفر لها هذا النهر ويغرس الأشجار على ضفافه. ويعتقد بيترز أن "كري سعده" هو الجدول الكبير الذي حفره (نبوخذ نصر) فمده من موقع يقرب من هيت إلى الخليج ليحي به مساحات شاسعة من الأرض الموات( 5)
وتحكي لنا الليدي دراور حكاية سعدى فتقول:" وهذه القصة شبيهة إلى حد كبير بأسطورة الفتاة الوضيئة التي تروى بصدد أحد الجداول المحيطة بمدينة الكوفة ولعله (كري سعدى) إذ تقول الأسطورة:" إن فتاة وضيئة( 6) كانت تسكن عمّان، وخطبها الكثيرون، ولكنها فضّلت من بينهم رجلا بصريا، ولكنها غالت في صداقها ولم ترضَ به بعلا إلا بشرط : هو أن يقوم بحفر جدول تستطيع أن تنقل بواسطته في قارب يحملها من عمان إلى البصرة. وشمر خطيبها عن ساعد الجد، واستغرق حفر الجدول80 سنة، وعندما جاء الخطيب بخطيبته إثر ذلك إلى بيت الزوجية كانت الفتاة الوضيئة قد بلغت من الكِبر عِتيا، وخلفت (زهرة العمر) ظهريا؛ والظاهر أن مغزى الأسطورة هذه يخالف مغازي أساطير الجان وما فيها من شرط تشترطه الأميرة على خطيبها!( 7)
هذه هي قصة (سُعْدى) - وهكذا يكتب اسمها– كما وردت في الكتب الحديثة نقلا عن الأخبار المتواترة والقصص الشائعة دون أن يرد لها أي ذكر في أي كتاب من كتب التاريخ أو التراث. والروايات الثلاث لم تؤكد حقيقة قصة سعدى أو كريها. فالشيخ الخطيب قال:" واذا صحت القصة ... و" فهو يفترض صحتها ولا يؤكدها. وجون بيترز قال بأنها (خُرافة) وأسمتها الليدي دراور بـ(الأسطورة).ولم يتفق الثلاثة على مهنة العاشق فالشيخ قال: (أمير بصري) والرحالة قال:(تاجر بصري) والليدي قالت:(رجل بصري).
ونعود إلى قراءة القصة كما وردت في رواية شيخنا الخطيب الذي وإن لم يؤكد صحة الرواية إلا أنه يوحي للقارئ بأنها قصة حقيقية وهذا ما اعتمده كاتب الموضوع وما يظنه الكثير من الهيتيين. فنقول: لم يذكر لنا الشيخ رشاد الخطيب ولا غيره العهد الذي دارت فيه أحداث القصة، فلم يذكر أي منهم التاريخ الذي بنى به والد سعدى قصر ابنته، مثلما لم يذكروا لنا العهد الذي حفر به الأمير النهر لتزف عبره. ولم يذكر أي منهم حتى ولو على وجه التقريب في عهد مَن مِن الخلفاء والسلاطين والولاة تم العمل. ولم يرد في رواية أي منهم أسم الأمير وإلى أية إمارة ينتمي، وما هو أصله ونسبه وعشيرته! فالزمان غير محدد، وشخصية البطل مجهولة .
ومثلما لم نقرأ في الكتب التاريخية والتراثية عن أمير قصتنا وبطلها، ولم نعرف اسمه ونسبه، فإننا لم نقرأ فيها أية معلومة عن امرأة اسمها سعدى الأحمد، لا في هيت ولا في البصرة ولا في شرقي العراق ولا في غربه. فمن هي سعدى الأحمد؟ ومن هو والدها؟ وإلى أية عشيرة ينتسب؟ ومن هم ذريته في عهدنا هذا؟ فليس من المنطق والمعقول أن يكون الأحمد والد سعدى بكل هذا الثراء ولا يبقى بعده أي ذكر أو أثر. وحينما لا يحدد زمان حدوث القصة أو الواقعة ولا يعرف أشخاصها وأبطالها تكون الرواية أقرب إلى الأسطورة والخيال منها إلى الواقع ، وحيث أن الأسطورة تعني الخرافة والأباطيل والحكايات العجيبة فإن قصة سعدى وكريها وقصرها خرافة في خرافة .
ونبدأ الحكاية مع كاتب الموضوع الذي يقول فيه :" يقوم قصر سعدى بنت الأحمد الذي شيد في العصر العباسي الثاني ليروي حكاية الفتاة الأنبارية الجميلة وما جرى لها مع الأمير الثري في منطقة الأبلّة في البصرة."
يسمي الكاتب سعدى بـ (الفتاة الأنبارية) وقصة سعدى - إذا ما صحت - فهي قد وقعت قبل ما يزيد على الألف سنة من استبدال اسم لواء الدليم ومن ثم الرمادي إلى اسم محافظة الأنبار. فهي قصة( فتاة هيتية)لا أنبارية، ومن وحي الحب في هذه الأسطورة الهيتية الخالصة كتبت قصيدتي (دار سعدى) معبرا عن حبي لهيت ولأهلها، ولأجعل من القصيدة امتدادا لأسطورة الحب تلك لا اعترافا بصحتها، وعلى من يكتب في التاريخ أن يكون منصفا ودقيقا فيما يكتب وأن لا يجامل على حساب الحقائق التاريخية. و يذكر لنا الكاتب بأن قصر سعدى بنت الأحمد شُيد في العصر العباسي الثاني وهو ما يعرف تاريخيا بعصر نفوذ الأتراك ويبدأ بخلافة المتوكل في سنة(232هـ/ 847م) وينتهى بخلافة المستكفي بالله في سنة (334هـ/ 946م). ومن هذا يفهم بان القصر المذكور قد شُيد قبل ما يزيد على الف ومائة سنة. وهذا يعني أن قصة الحب على وفق هذه الرواية قد تمت في تلك الحقبة الزمنية وأن كري سعدى أو نهرها وزفافها فيه قد تم في ذلك العصر.
لا أدري على أي مصدر أو مرجع استند كاتب المقال في تحديد العصر الذي بُني فيه قصر سعدى!؟ فحتى مديرية الآثار العامة التي حددت القصر المذكور كموقع من مواقع قضاء هيت الآثارية بالإضبارة المرقمة (163) ونشرت ذلك في جريدة الوقائع العراقية بعددها ذي الرقم 1465 الصادر بتاريخ 17/10/1935 لم تحدد العصر التاريخي للقصر المذكور علما بأنها قد حددت العصور الإسلامية بالفترة من( 636م-1700م ) والعصر الحديث من(1700/ حتى اليوم)( 8). وحيث أن مديرية الآثار العامة لم تقم بالتنقيب في الموقع المذكور بل أهملته وأصبح مجرد خربة مهجورة فأن أي معلومات لم تصدر عنها لبيان تاريخ بناء هذا القصر.
ولم نقرأ في قصص الحب المدونة- غير التي ذكرتها آنفا- قصة بطلتها سعدى بنت الأحمد، وبطلها أمير بصري ثري. ربما تكون الحكاية حقيقية عن شاب أحب فتاة جميلة، فما اكثر هذه القصص في التاريخ، ولكن أن يكون مهر هذه العروس الجميلة حفر نهر طوله اكثر من تسعمائة كيلومتر – كما ورد في الموضوع- يمتد من هيت إلى البصرة فهذا ضرب من الخيال بل خرافة لاعتبارات عدة أهمها: كم هو الوقت الممكن لإنجاز مثل هذا المشروع لو خططت له الدولة اليوم مسخرة كل الآلات والمكائن الثقيلة وغير الثقيلة؟ وهل من الممكن أن يحفر أو يكري أمير عاشق نهرا بهذا الطول في فترة ثلاث سنوات ( وهي الفترة التي ذكرها الشيخ الخطيب)؟ وما هو مبلغ الغنى عند الأمير البصري في ذلك الزمن ليدفع ثمن الحبِّ ألوفَ الألوف من الدنانير الذهبية أجورا لمئات الألوف من العمال كي يحفروا له نهر العشق هذا ؟وكم عاملا أستأجر لينجز هذا المشروع العملاق الذي لا تستطيع الشركات الحديثة اليوم بكل ما تمتلكه من إمكانيات مادية وبشرية من تنفيذه في مثل هذه المدة.
ربما يقول البعض: إن العشاق ساعدوا الأمير العاشق في حفر هذا النهر، ونقول : بارك الله بجهود كل العاشقين. ولكننا لم نقرأ في التاريخ الإنساني كله مثل هذا الفعل أو مثل هذه المشاركة الجماعية. وأين هي الدولة العباسية؟ وأين خلفاؤها؟ وأين ولاة البصرة عن عمل مثل هذا؟ فهل كان العراق في ذلك الوقت ضيعة بيد هذا الأمير ليتصرف به بهذه البساطة؟ ولنفترض أنه من ذوي الشأن، فعلينا أن نتذكر بأن الوضع السياسي في العراق في تلك الحقبة الزمنية لم يكن مستقرا ، فقد مرَّ بأحداث خطيرة منها قيام الدولة الحمدانية، و ثورة الزنج، ومنها سيطرة القرامطة على البصرة، وتولي بعض الأمراء زمام الحكم والسيطرة على مقاليد الدولة فيما عرف بعهد إمرة الأمراء، فلم يكن المناخ السياسي هادئا إلى الحد الذي يمكن للأمير العاشق أن يُسخَّر الإمكانيات لحفر النهر ولا حتى أن يكريه. هذا فضلاً من أن معظم سكان منطقة البصرة في تلك الحقبة التاريخية قد فروا من وجه الزنج وتركوا أراضيهم ، والتجأوا إلى مدينة بغداد التي بدأت تضيق بالسكان المهاجرين ، ولم يعودوا إلى أرضهم ومدينتهم إلا بعد أن وجه اليهم الخليفة الموفق نداءه الشهير يطلب منهم العودة ويبشرهم بمقتل صاحب الزنج.(9 )
لقد ذكر لنا التاريخ قصصا عن أبطال كتبوا بضع أبيات في الغزل وأشخاص نحروا بضعَ شياهٍ إكراما لضيف ، وجارية غنت بيتا أو بيتين من الشعر في حضرة خليفة أو والٍ أو سلطان، ولكنه لم يذكر لنا أي شيء عن قصر الحب هذا. ولم يذكر لنا المؤرخون ،ولم يرد في قصص الحب التي نشرت في كتب التاريخ والتراث العربي أي ذكر لقصة زواج امرأة أسمها سعدى الأحمد أو بنت الأحمد من أمير بصري ثري. كما لم يرد أي ذكر لقصر سعدى قبل القرن العشرين. فلم يذكر القصر مع اشهر القصور العباسية التي بناها الخلفاء في سامراء ومنها قصر المعشوق الذي بناه المتوكل في (سنة263 هـ/876م ) وأكمل بناؤه في سنة (296هـ/882م ) وهو نفس العصر الذي ورد بقصتنا الخرافية هذه. كما لم يرد ذكر خبر زواج الأمير البصري من سعدى الهيتية في كتاب الأغاني لابي الفرج الأصفهاني (284-356هـ/ 891-967م) الذي عاش في ذلك العصر وكتب كتابه المشهور، ولا حتى ذكر امرأة باسم سعدى بنت الأحمد من بين شخصيات الكتاب( 10)، ولم يذكره ياقوت الحموي ( 626هـ/1228م) في كتابه معجم البلدان كواحد من القصور المعروفة في التاريخ والتي ذكرها في معجمه، كما لم يذكره فيما كتبه عن مدينة هيت في المعجم ذاته.
كما أن الرحالة ابن بطوطة لم يذكر في رحلته المعروفة التي مرَّ بها بهيت في سنة(748هـ/1348م) قصر سعدى ، حيث قال:" ثم رحلت من بغداد إلى مدينة الأنبار ثم إلى هيت ثم إلى الحديثة ثم إلى عانة وهذه البلاد من احسن البلاد وأخصبها والطريق فيما بينها كثيرة العمارة كأن الماشي في سوق من الأسواق . وقد ذكرنا أنا لم نر ما يشبه البلاد التي على نهر الصين إلا هذه البلاد."( 11)
ولم يذكر الرحالة ليو نهارت راوولف في كتابه رحلة إلى المشرق قصر سعدى عندما وصل إلى هيت بتاريخ 20-21/10/1573م وقال في وصفها: "هيت مدينة كبيرة تقع على الضفة اليمنى من الفرات فوق ارض مرتفعة وقد بلغناها في العشرين من تشرين الأول وفي وقت حسن من الليل ويقايض التجار الأثمار التي يشترونها(التمر و التين واللوز ) بقوالب الصابون والسكاكين والورق وغيره، وتلك هي السلع التي يطلبها أهل هذه المدن منهم. ولقد أعطيناهم صحائف من الورق الأبيض تقبلوها بفرح كبير وشكرونا على ذلك كثيرا. وبعد أن اكتفى تجارنا من شراء هذه المواد، ودفع ربان السفينة الرسم المطلوب اقلعنا ظهر يوم الحادي والعشرين من الشهر مستأنفين رحلتنا"(12)
لقد مر بهيت بعد الرحالة ليو نهارت راوولف الكثير من الرَّحالة والباحثين ومنهم :الرحالة غوسبار بالبي الذي مر بها عبر الفرات في سنة( 992هـ/ 1583م ) والرحالة تاكسير الذي مر بها عبر نهر الفرات في سنة ( 1014هـ/ 1605م) والرحالة ديلا فال الذي مر بها في سنة (1035هـ/1625م) قادما من حلب ولم يذكر أي من هؤلاء وجود قصر في هيت يعرف بقصر سعدى (13 ).
وفي سنة( 1212هـ/1797م ) مر بمدينة هيت الرحالة الفرنسي أوليفيه ووصفها ووصف أهلها وذكر بعض عاداتهم ومما قاله فيها:" تسقى الأراضي بواسطة دولاب كبير بحركة ماء النهر وتشاهد النواعير بين مسافة وأخرى. ويقوم على النهر طوف مخصص لعبور السكان من ضفة إلى أخرى."( 14) ولم يذكر قصر سعدى . كما لم يرد أي ذكر لهذا القصر في رحلة المنشئ البغدادي في سنة (1237هـ/1822م). ولا في رحلة جنسي الأولى في سنة( 1246هـ/ 1830م ) الذي انحدر في أسطوله مارا بعانة ثم الحديثة ثم هيت. ولا في رحلته الثانية في سنة ( 1252هـ/1836م) عندما أنزل الباخرتين (دجلة والفرات) وقد غرقت الأولى بعد تحركها من دير الزور بسبب عاصفة مفاجئة واستمرت الثانية نازلة في النهر مارة بعانة والحديثة وهيت.
وفي سنة (1286هـ/ 1869م) جاء إلى هيت الوالي العثماني مدحت باشا للتأكد من صلاحية نهر الفرات للملاحة النهرية ولم يذكر لنا المؤرخون أنه شاهد أو علم بوجود قصر أسمه قصر سعدى. بعدها وفي سنة (1307 هـ/1889م ) تحرك المهندس شوندر ومعاونه ديو من بغداد في طريق البر ليكشفا على نهر الفرات وأن يعاينا كوانين الأحجار وعادا إلى بغداد عبر نهر الفرات ولم يذكرا القصر المذكور. كما لم يذكره الرحالة فالتين كير عندما مرَّ بهيت في طريقه من بغداد إلى حلب في سنة (1313هـ/ 1895م ).
ومن أهم الرحالة الذين مروا بهيت عبر نهر الفرات، وكتبوا بمذكراتهم عنها الدبلوماسي فريدرك روزون وكان ذلك في سنة (1315هـ/1898م) والذي وصفها:" بانها المدينة المعروفة منذ القدم بينابيع القار فيها والذي ذكر في سفر التكوين واستعمله نوح في طلاء سفينته"( 15) . ولم يذكر قصر سعدى بالرغم من أنه دخل المدينة عن طريق نهر الفرات.
انتهى القرن التاسع عشر بمرور كل هؤلاء بهيت عبر البر والنهر. وكتبوا عن زياراتهم تلك ،ولكن أيا منهم لم يذكر وجود قصر على نهر الفرات في قرية العطاعط يعرف باسم قصر سعدى وهذا يعني فيما يعني أن القصر أو آثاره لم تكن قائمة حتى العام 1900م أو ربما كانت قائمة ولكنها ليست بذات شأن وأن ما هو قائم إنما هو بناء أقيم على أطلال بيت قديم .
وفي القرن العشرين زارت المس بل مدينة هيت ومنها كتبت رسالة إلى أبيها بتاريخ 3/كانون الثاني/1921 تقول فيها: "أن بلدة هيت - بما فيها من آبار أو برك للقار- لا تشبهها بلدة أخرى في العراق .ثم تقول مشيرة فيما يبدو إلى سفرات لها سابقة مرت فيها بهيت قبل الحرب العالمية الأولى:" ولكن هيت زاخرة بالنسبة إلي بذكريات سفرات مرحة، صاخبة بذكريات أشباح تتجول على ظهور الجمال وذلك من قبل أن يتشقق العالم الذي كان عالمي فيمتلئ بالماء ويغرق". ولم تورد أي ذكر عن قصر سعدى.(16 )
وفي سنة 1912 وصل الرحالة ألوا موسيل إلى هيت عن طريق البر في رحلته الأولى قادما من بلاد الشام في الطريق البري وفي الضفة اليمنى لنهر الفرات، وقد وصف مدينة هيت وأهلها وصفا دقيقا، ولم يذكر أي شيء عن قصر سعدى، وإنما ذكر كري سعدى وهذا ما سنوضحه لاحقا.( 17)
وفي رحلته الثانية وصف لنا ألوا موسيل طريق الرحلة التي كانت في الضفة اليسرى لنهر الفرات وصفا دقيقا لكل قرية مرَّ بها في طريقه وكان ذلك في يوم 12/أيار /1915 فقال :" في9,05كانت هيت على يسارنا .وقد تجمعت البيوت هناك على مدرجات تل هائل الحجم ،مخروطي الشكل، وفي وسط المدينة تقريبا ترتفع مئذنة المسجد القديم. وعلى الضفة اليسرى من الفرات في الجهة المقابلة للمدينة يقوم ضريح علي الهيتي يجاوره بستان نخيل التربة. وفي 9،45 رأينا على اليمين خربة (الصَّدقة) ويتفرع من الفرات أمامها نهر قديم يجلب الماء لري الحقول الممتدة على طول الضفة اليسرى وعلى هذه الضفة تقع قرية (الناطل)، وتليها قرية (الحسنية) حيث استرحنا من 10،00-11،54.. وكان قد تم حصاد الحنطة والشعير. وكان التفاح والمشمش قد نضج تقريبا في البساتين . وفي 12,04، بعد الظهر اجتزنا قرية (الكُميّهْ) الصغيرة وإلى شمالها ينبجس القار من عين بصورة قوية وفي 12،10 كانت على يميننا عينان أخريان للقار يقال إن ما يستخرج منهما يوميا يعادل حمولة ستة حمير.وفي 12،20 كانت قرية الحبية على يسارنا"(18 )
لقد ذكر ألوا موسيل القرى التي مر بها ولم يذكر قرية (العطاعط) وإنما ذكر وجود عينين للقار، وهاتان العينان هما عين العطاعط الأولى وعين العطاعط الثانية حيث توجد في هذه القرية عينان للقار الأولى(19 ) . ولم يذكر أي شيء عن قصر سعدى بالرغم من دقته في تدوين المعلومات عن الأماكن التي يمر بها. وفي سنة 1935م وهي السنة التي اعتبرت مديرية الآثار العامة قصر سعدى موقعا آثاريا كتب ميخائل توماس موضوعا عن عادات الهيتين في ذلك الوقت؛ وكان قد عاش فترة طويلة في هيت ولكنه لم يذكر شيئا عن قصر سعدى.(20 )
ولم يرد ذكر القصر المذكور من قبل في أي كتاب أو وثيقة أو مخطوطة إلى أن ذكره لنا شيخنا الجليل رشاد الخطيب الهيتي في كتابه (هيت في إطارها القديم والحديث ) ذكرا موجزا ضمن آثار مدينة هيت دون أن يستند إلى أي مصدر أو مرجع وإنما بالاعتماد على الروايات الشفهية المتواترة ، فكتب فضلا عما نقلناه عنه آنفا ما يأتي: " على الضفة اليسرى من نهر الفرات والذي لا تزال آثاره باقية لحد الآن تشهد لعظمة بناء ذلك الوقت الذي حفر فيه نهر سعدى من هيت إلى البصرة والذي لا زالت أثاره صورة باقية إلى الآن"(21 )
وانتهي من حكاية قصر سعدى بما انتهى اليه الشيخ رشاد الخطيب وأقول إنه أثر مازال قائما دون هوية . أما قصة خطبتها وزفافها ومهرها الذي كان نهرا فكل هذا خرافات لا يمكن لعاقل أن يصدقها.
وفيما يتعلق بما يعرف اليوم بكري سعدى أو (چري سعدى) أو نهر سعدى في هيت والنجف والكوفة والناصرية والبصرة فأن المؤرخين ومن ثم الباحثين لم يتفقوا على رأي محدد من هذا الموضوع، فمنهم من قال بأنه خندق، ومنهم من قال بأنه مجرى قديم لنهر الفرات ،ومنهم من قال بأنه بقايا نهر مندرس . فقد قال ياقوت الحموي :" وخندق سابور في برية الكوفة ، حفرة سابور بينه وبين العرب خوفا من شرهم ، قالوا : كانت هيت وعانات مضافة إلى طسوج الأنبار ، فلما ملك انو شروان من سنة (531- 579 م ) بلغه ان طوائف من الأعراب يغيرون على ما قرب من السواد إلى البادية ، فامر بتجديد سور مدينة تعرف بـ " النسر " كان سابور ذو الأكتاف بناها وجعلها مسلحة تحفظ ما قرب من البادية ، وامر بحفر خندق من هيت يشق طف البادية إلى كاظمة مما يلي البصرة وينفذ إلى البحر ، وبنى عليه المناظر والجواسق ونظمه بالمسالح ليكون ذلك مانعا لأهل البادية من السواد ، فخرجت هيت وعانات بسبب ذلك من طسوج شاه فيروز، لان عانات كانت قرى مضمون إلى هيت" (22)
وقال البلاذرى : كانت عيون الطف مثل عين الصيد والقطقطانة والرهيمة وعين جمل وذواتها للموكلين بالمسالح التي وراء السواد وهي عيون خندق سابور الذي حفره بينه وبين العرب الموكلين بمسالح الخندق وغيرهم (23 )
وذكر المؤرخون أن سعد بن أبي وقاص عندما افتتح ارض العراق طلب منه دهاقين الأنبار أن يحفر لهم نهرا كان عظيم الفرس قد حفره ، فأوعز ابن أبي وقاص إلى عامله سعد بن عمرو بن حزام أن يحفر هذا النهر فقام الأخير بحفره من وضع يقرب من الأنبار مارا باتجاه خندق سابور القديم فوصل الحفر لهذا النهر إلى الجبل المعروف اليوم بجبل سعدة الواقع غربي الحبانية في طريق الرحالية (الرمادي ) ، ثم لم يتمكن من شقه فترك حتى ولي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي سنة(83 هـ/702م) فامر بفتح النهر المذكور، فجمع الفَعَلة من كل ناحية، وقال لقومه: انظروا إلى قيمة ما يأكل الرجل من الحفارين في اليوم فان كان وزنه مثل وزن ما يقلع فلا تمتنعوا عن الحفر. فاتفقوا عليه واستتموه فنسب ذلك الجبل إلى الحجاج، ونسب النهر إلى سعد بن أبي وقاص.( 24)
أما الاتجاه الذي كان يسلكه هذا النهر، فيذهب احمد سوسة إلى أن هذا النهر كان يسلك المنطقة الواقعة في الجهة الغربية من بحيرة الحبانية وهو طريق يمر بجبل سعدة ثم يتصل بوادي أبي فروخ الحالي فينحدر فيه إلى الجنوب الشرقي باتجاه غدير المالح فيسلك بعد ذلك اتجاه وادي الغضاوي ثم يترك هور أبي دبس إلى جنوبه، ويمتد حتى يصل أكناف طف كربلاء من ناحية الغرب، ومن هناك يمتد بمحاذاة نهر سورا من جهة الغرب حتى يقرب من مدينة الكوفة ، ثم يسير حتى هور البطايح . وقد جرت تطورات على هذا النهر بغية إيصال الماء منه إلى مدينة النجف (25)
ويرى بعض الباحثين بـأن ما يعرف اليوم بـ (كري السدير) في محافظة النجف هو كري سعده وهو جدول إروائي أثاره ظاهرة بالقرب من الخورنق يشق آثار الحيرة والكوفة آخذاً مياهه من شمال سدة الهندية وكانت له صفات إروائية على ما يسمى بارض الطفوف على عهد الحكومات العربية والإسلامية ويعتقد انه جدول اثري قديم يطلق عليه بخندق سابور.( 26)
ويرى الجيولوجي العراقي (جعفر الساكني) أنّ مجرى الفرات الحالي حديث نسبياً، وهو يفترض أنّ النهر غيّر مجراه، وقد استند إلى دراسة أجراها العالم (ڨوت) في سنة 1957 أعطى فيها وصفاً لمجرى نهر لم يذكر اسمه يقع إلى الغرب من مجرى الفرات الحالي بين الرمادي والنجف، حيث يقول ما نصّه: "هناك مجرى لنهر قديم ومهم جداً كان يربط بحيرة الحبانية ببحر النجف ومن مجرى الفرات الحالي قرب النجف وذلك خلال بحر النجف وطار السيد ومنخفض أبي دبس" (27)
أما وليم ويلكوكس فقد بيّن بأنّ هناك مجرى قديماً بين الرمادي وكربلاء ويشمل منخفض الحبانية وأبي دبس الكوفة وهو واحد من أربعة رؤوس لنهر يخرج من عدن ليسقي الجنة ،وقد أسماه بنهر فيشون.( 28)
وقامت شركة الاستكشافات النفطية العراقية بدراسة بواسطة الأقمار الصناعية لمناطق النجف، وكربلاء والرمادي يمكن الاستنتاج منها بأن الفرات في العصور السحيقة كان يجري باتجاه هيت، منخفض الرزازة، طار السيّد، بحر النجف، جنوب النجف. وأوضحت الصور وجود مجارٍ واسعة ومطمورة في المنطقة الواقعة في جنوب السماوة الحالية حتى جنوب الناصرية، وأنّ هذه المجاري قد تكون قديمة حيث يمكن أن تربط مع مجاري الفرات القديم بين هيت والنجف لتكوين مجرى كامل ولكنّه تقريبي جداً يبدأ من هيت وينتهي جنوباً قرب غرب الناصرية.
ولاحظ عالم الآثار الأمريكي ( گبسون) في دراسة نشرها سنة 1972 أنّ هناك نهراً عباسياً كان يسمى (نهر سعيد) يأخذ مياهه من الجهة الغربية لنهر الفرات الحالي عند مدينة هيت، والظاهر أن هذا النهر كان من بقايا مشروع إروائي يرجع إلى القرن الرابع الميلادي يسمى (خندق سابور)، وقد أعيد حفره في زمن العباسيين حيث كان يجهّز الماء إلى خطّ الحصون في الصحراء الرملية (مناطق غرب الفرات الحالية) ومزارع النجف الحالية قبل أن يفرّغ مياهه في الخليج قرب البصرة ( 29).
ويذكر ألوا موسيل في خلال رحلته الوصفية وفي أثناء مروره بهيت وعند وصوله إلى منطقة (العْگبه) والتي ذكرها باسم العقبة في 21/نيسان/1912ما نصه:" وسرنا بمحاذاة الجانب الشرقي من (جدول كري سعده)خلال حقول تكون جزءا من سهل أبو طيبان ،وانخفض ارتفاع الأجراف التي تسد وادي الفرات على اليمين في وسط السهل الخصيب ربوة (كليل العدّة) كان إلى الغرب من والى الشرق منا يتصل جدول (كري سعده) بالفرات ثانية حيث يلاطم ماؤه نتوءا صخريا يسمى (الأسود).(30 )
نقف مع المصادر والمراجع التي أشارت إلى ما يعرف اليوم بكري سعده أو نهر سعده ونرجع إلى المقال والى حيث ينقل لنا كاتبه ما قاله السيد صلاح محيسن حول وجود النهر قبل قصة سعدى وعشق الأمير البصري لها فيقول : إن "النهر الذي حفره شابور أو سابور أو شاهبور الثاني وجد ليكون حاجزاً مائيا لحماية مدن غرب العراق ومنها هيت من هجمات قبائل الجزيرة، ويمتد من منطقة الحسنية حتى مدينة الأبلّة".
يقول :"إن النهر الذي حفره شابور...." ولا أدري بعد الذي ذكرناه سابقا إلى أي مرجع أو مصدر استند السيد صلاح ومن ثم الكاتب فيما قال أن شابور قد حفر نهرا وليس خندقا؟ كما إن ما ورد في الموضوع عن أن المؤرخ حسين أمين: "إنه قد مشى في بعض مناطق كري سعدى لا يعني حقيقية أن هذا الكري قد اصبح في يوم من الأيام نهرا اجرى به الأمير البصري ماءا فزفت عبره حبيبته سعدى . فمناطق في النجف والكوفة والبصرة معروفة بهذا الاسم ولا يعني وجود اسم لأكثر من محلة في العالم أن هناك تواصلا بين تلك المحلات، فهناك الكثير من المحلات والمدن تعرف باسم واحد ومثالنا على هذا أن هناك مدينة في مصر تعرف باسم هيت مثلما تعرف به مدينتنا. أما القناطر والأمواج فما هي إلا عوارض وهمية في خيال الرواة.
ونستمر مع الكاتب وما نقله عن نجاح ساسون "ويوضح عضو جمعية التراث والثقافة في هيت أن "الروايات والأثر المنقول ترى أن سعدى نذرت أن تهدي خلخالها إلى صاحب أول ناعور ماء يصادفها في طريق عودتها إلى هيت".
يقول السيد نجاح أن الروايات والأثر المنقول ترى أن سعدى..... أي أن كل ما قيل هو روايات شفهية وليست وثائق تاريخية مدونة . وأيا كان نذر سعدى وصحة البيت الشعري الذي استشهد به السيد نجاح ساسون فإن النذر وقصة الخلخال مجرد خيال في قصة غير واقعية.
أما فيما يتعلق بما أورده الكاتب عن السيد صلاح محيسن بأن" العروسة لم تمكث في بيت الزوجية سوى شهرين إذ لم تستطع العيش هناك، فكان أن عادت وأهدت خلخالها إلى صاحب أول ناعور صادفته في طريقها. خلعته وعلقتها على الناعور عند تخوم الديار في منطقة قرية الدرستانية". أقول لم يذكر لنا أحد من المؤرخين طول المدة التي قضتها سعدى في (المشراگ) قبل أن تعود إلى هيت وتعلق خلخالها في ناعور الدرستانية. ولا أدري على أي سند اعتمد السيد صلاح محيسن ، فقرر بأن سعدى لم تمكث في بيت الزوجية سوى شهرين؟ فعادت إلى أهلها حيث النواعير والخضرة وكأن البصرة واحة في صحراء نجدٍ وليست هي المدينة الأكثر خضرة وماءا في العراق كله والتي قال عنها لسترنج " ولا عجب بعدها إذ كانت بساتين نهر الأبلة احدى جنان الدنيا الأربع" (31 ) وانه كانت تقوم على حافتي نهر الأبلة قصور وبساتين متصلة كأنها بستان واحد قد مدت على خيط واحد ولكن هذه البساتين والجنان ذوت في نيران الزنج التي التهمت المدينة وبساتينها(32 ). و مثلما تساءلنا عن المدة التي مكثت بها سعدى في بيت الزوجية ،نسأل كم هي المدة التي استغرقها موكب زفاف سعدى من هيت إلى البصرة عبر نهرها؟ وهل أنها عادت إلى أهلها عن طريق البر أو عن طريق نهر الفرات ؟
وكما اختلفت رواية الخلخال، فقد اختلفت رواية الكاتب بصدد بناء قصر سعدى فهو يقول" وبعد عودة سعدى إلى ديارها بنى لها والدها الشيخ الأحمد قصرا على ضفة الفرات مباشرة بشكل رباعي الأضلاع وبتصميم جميل، وعلى مساحة تبلغ 200 مترا مربعا..... " في حين يذكر لنا الشيخ رشاد الخطيب ما نصه:" انه كان في قرية العطاعط التي تقع على الضفة اليسرى من نهر الفرات والتي تبعد عن قصبة هيت حوالي ستة أميال فتاة بارعة الجمال ،أغرت بجمالها الساحر الفتان ذوي العواطف من الشباب تدعى (سعدى الأحمد) وكان قد بنى لها أبوها قصرا شيده على شاطئ النهر..." فبناء القصر حسب رواية الشيخ رشاد الخطيب كان قبل زواج سعدى وليس بعد عودتها من بيت الزوجية في البصرة. من كل هذا يتبين بأن ما يعرف اليوم بكري سعدى سواء في هيت أو كربلاء أو النجف أو الكوفة أو الناصرية هو بقايا نهر مندرس. والأرجح هو مجرى نهر الفرات القديم حسب ما ورد بدراسة الساكني أستغله سابور خندقا لصد هجمات الأعراب عن دولته فسمي بخندق سابور، ثم أعيد حفره في زمن العباسيين بعدها اندرس وأصبح أثرا، وقد عرف بأسماء عدة منها (نهر سعده) و (كري سعده) و(نهر سعيد) و(كري السدير).
ولم تثبت الوقائع التاريخية أنه في يوم من الأيام قد حصلت المعجزة من أمير عاشق فأجرى الماء في هذا النهر لتزف عبره خطيبته ومعشوقته الهيتية سعدى بنت الأحمد .ولم يذكر لنا التاريخ أن عروسا أسمها سعدى قد زفت بنهر مهر أسمه (نهر مهر الهيتية) وما ذكر هو مجرد أسطورة، بل خرافة تناقلتها الأجيال على شكل حكاية حب جميل. لقد عرف الهيتيون اسم (كري سعده) باسم(چري سِعْده)، وقد أصبحت بداية (الچري) اليوم أحد اكبر الشوارع في هيت ويعرف بشارع (الچري) وكان هذا الشارع في خمسينات القرن الماضي على شكل منخفض سبخ تأثر كثيرا بالملوحة التي كانت تتنشر في أرضه بسبب محاذاته لمملحة هيت الشهيرة والتي كانت إحدى اكبر الممالح في العراق بعد مملحة الفاو حتى عرفت المنطقة بـ(الصبخه) ويمتد (الچري) إلى منطقة (الدوارة) ويتقاطع مع (وادي الدوارة) دون أي أثر واضح له كمجرى نهر قديم ولكن حوض الچري كان واضحا بشكل جلي في منطقة (الشيخ أحمد ) وعلى امتداد يقرب من كيلو متر واحد ينتهي في( وادي الحنينه) وهناك يختفي أثره. وقد أصبحت جميع هذه المساحات أحياء سكنية في بداية سبعينات القرن العشرين، ولم يبقّ من چري سعدى المعروف لدى الهيتيين سوى اسمه وأسطورة الحب التي تحكى عنه.
هذه هي حقيقة قصر سعدى بنت الأحمد على وفق المصادر والمراجع التاريخية وكل ما يتعلق بقصة سعدى وزواجها من الأمير البصري الذي دفع مهرها نهرا سمي باسمها هو مجرد خرافة. ولكنها تبقى حكاية حب جميل وواحدة من حكايات مدينتنا الخالدة .
المصادر والمراجع --------------------- (1) ابن منظور، لسان العرب ، دار الكتب العلمية،(بيروت،2005)،ج3، ص 339. (2) معجم المصطلحات العربيّة في اللغة والأدب ، مجدي وهبة وكامل المهندس، مكتبة لبنان،( بيروت ،1979) ،ص338. (3) الأسطورة عند العرب في الجاهلية ،حسين الحاج حسن ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،(بيروت‘1998)، ص17. (4) رشاد الخطيب الهيتي ،هيت في إطارها القديم والحديث، مطبعة اسعد،(بغداد،1966)،ص25-26 (5) جعفر الخياط ، النجف في المراجع، بحث ضمن موسوعة العتبات المقدسة ،ج1،ط1، بيروت، دار التعارف،1965م ص53. (6) وضيئة : من وَضُؤَ ، يُوضَؤ وضَاءة فهو وَضيءٌ وهي وضَيئة ، وهي الجميلة النظيفة والحسنة ، ومنه قولهم يستحب اختيار الوضيئة لمن أراد إرضاع ولده . (7) ليدي دراور ، في بلاد الرافدين ( صور وخواطر ) ، ترجمة : فؤاد جميل ، دار شفيق للطباعة (بغداد ، 1961م) (8) انظر :مديرية الآثار العامة ،المواقع الآثارية في العراق، مطبعة الحكومة،(بغداد،1970) ،ص 385. (9) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك، مؤسسة عز الدين،(بيروت، د.ت) ،ج13، ص2097. (10) انظر: داود سلوم و نوري حمودي القيسي، شخصيات كتاب الأغاني، المجمع العلمي العراقي،(بغداد،1982) (11) انظر طلال حرب ، رحلة ابن بطوطة دار الكتب العلمية بيروت،1987،ص655-656 (12) ليونهارت راوولف ،رحلة إلى المشرق، ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي، وزارة الثقافة والإعلام ، (بغداد،1987)، ص 159. (13) فرحان الحديثي، تاريخ الحديثة، مطبعة اسعد، (بغداد ،1989)،ج1،ص26-30. (14) رحلة أوليفيه إلى العراق(1794-1796) ، ترجمة يوسف حبي ، مطبعة المجمع العلمي العراقي، (بغداد،1988)، ص209-211. (15) نجدة فتحي صفوة، العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب، مكتبة التحرير،(بغداد،1984)،ص55. (16) مس بيل ،خلق الملوك ،جمع وتحقيق، بثينة الناصري، مكتبة النهضة ،(بغداد،1973)، ص79-81. (17) ألوا موسيل، الفرات الأوسط رحلة وصفية، ترجمة صدقي حمدي وعبد المطلب عبد الرحمن، منشورات المجمع العلمي العراقي،(بغداد،1990/)،ص49-51. (18) ألوا موسيل ، مرجع سابق ، ص233-234 (19) رشاد الخطيب، مرجع سابق ، ج2 ص 91. (20) ميخائيل أفندي توماس ،هيت معلومات عمومية ، مجلة النجم الموصلية ، السنة السابعة، العدد السابع، أيلول 1935،ص311-315 (21) رشاد الخطيب الهيتي، مرجع سابق ،ج2،ص 42. (22) ياقوت الحموي ، معجم البلدان، دار صادر ، ( بيروت ،د.ت) ،ج2،ص392. (23) البلاذري ، فتوح البلدان، مطبعة الموسوعات،( مصر، 1901) ج2،ص365.. (24) ياقوت الحموي ، مصدر سابق ، ج5,ص320-321. (25) أحمد سوسه ، وادي الفرات ، مشروع سدة الهندية ، (مطبعة الحكومة 1945) ،ج1،ص2. (26) محسن عبد الصاحب المظفر، مدينة النجف الكبرى، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الكوفة، كلية الآداب، قسم الجغرافية، عام1975، ص9 (27) جعفر الساكني ،نافذة جديدة على تاريخ الفراتين، دار الشؤون الثقافية،(بغداد،1993) ، ص55. (28) وليم ويلكوكس ،جنة عدن إلى عبور الأردن ، ترجمة محمد الهاشمي ، الطبعة الأولى ، مطبعة المعارف ،( بغداد ،1955 )، ص110-12. (29) جعفر الساكني ، مرجع سابق ،ص 60-61. (30) ألو اموسيل، الفرات الأوسط رحلة وصفية، منشورات المجمع العلمي العراقي ، (بغداد ،1990) ، ص55 (31) لسترنج ، بلدان الخلافة الشرقية ،ترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد، مطبعة الرابطة، (بغداد،1954)، ص67. (32) أحمد علبي ، ثورة الزنج، دارالفارابي ،(بيروت،2007)، ص 102.
#قحطان_محمد_صالح_الهيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لمن العراق ؟ لمن يكون؟
-
سبحان ربي
-
قراءة في قصص (حمامة شاقوفيان)
-
قتلوا أم عامر ...قتلوا الديمقراطية
-
ولي أنت
-
ذات الخال
-
آلية سحب الثقة من الحكومة وحل البرلمان
-
وداعا يا صباح
-
أباطيل وأكاذيب فيما قاله إبراهيم عبد الرحمن الداود
-
نشيد هيت
-
مانريده وما يريده السياسيون
-
أمنيات عراقي بالعام الجديد
-
حوار مع رجل تعدى الستين
-
عبد الحميد عبد المجيد الهيتي
-
سألت الحب
-
إقليم الانبار بين الداعين اليه والرافضين له
-
قصيدة دار سعدى
-
المهلهل بن ربيعة
-
الأفوه الأودي
-
الشنفرى الأزدي
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|