|
الخطاب الأبكم الهامس في الفقه الأصولي .. قراءة في كتاب -النص والاجتهاد في الفقه الأصولي -لبثينة الجلاصي
هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية
(Howaida Saleh)
الحوار المتمدن-العدد: 3815 - 2012 / 8 / 10 - 11:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كان أبو المعالي الجويني يقول : " لقد خليت أهل الإسلام وعلومه ، وركبت البحر الأعظم ، وغصت في كل ذلك في طلب الحق ، وهربا من التقليد ، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق ، عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطف ، فأموت على دين العجائز ، وتحتم علي فيه أمري بكلمة الإخلاص." هو دين العجائز الذي يعود بنا إلى الوراء ، والذ يوقف حركة الزمن ويصر على أن نحاكم الواقع ونستنتج أحكامه الفقهية من أزمنة ووقائع وأحداث كانت مقبولة في زمنها ، لكنها حتما لا تناسب لحظتنا الراهنة . هي الأصولية التي ترجع بمجتمعاتنا إلى الوراء ، وتضعنا تحت سلطة الماضي ، فيشعر من يتأمل مشروع أمتنا الثقافي أنها أمة ماضوية لا تكاد تخرج من معاطف الماضي وثناياه حتى تعود إليه، وتخضع لسلطة النص ، أي نص نال القداسة بماضاويته. من هنا يصير للنص الفقهي سلطة تكاد تفوق سلطة النص القرآني . وسلطات النصوص الدينية ومحاولات الاجتهاد هي ما تطرحه الباحثة التونسية بثينة الجلاصي في كتابها الصادر حديثا عن دار " رؤية " بالقاهرة في " النص والاجتهاد في الفكر الأصولي من تقديس النقل إلى تسريح العقل " . ومن يتأمل أوضاع مجتمعاتنا في ظل الربيع العربي الراهن يدرك أهمية مثل هذه الأطروحات الفكرية في ظل المد الأصولي، وما يُسمى بالإسلام السياسي ، وترى الجلاصي أن النص الأصولي شأنه شن النصوص المنتمية إلى حقول معرفية مختلفة يوظف الشاهد الديني، وهو خطاب يسعى إلى أسر المتلقي من خلال إقناعه بحجية الأدلة التشريعية وتنقيتها من كل الشوائب تنقية تنهض على مسلمات تمثل امتلاك الحقيقة واحتكار اليقين ، وهذا الإدعاء وإن كان يستند إلى سلطة الشاهد الديني ، فإن غايته القصوى إقرار سلطة الخطاب الأصولي. كيف يمكن للمجتهد أن يقرأ النص الشرعي ، وبأي عين يمكن للاحق أن يقر اجتهاد السابق ، وما حدود العقل في هذه القراءة ؟ وهل تجوز القراءة دون تفكيك آليات الخطاب وإبعاده، فيغلب الإيمان على البرهان، ويغلب التبرير على التأويل ، هذه هي إشكاليات كتاب النص والاجتهاد الذي تطرحه الجلاصي من خلال تفكيك القراءات الفقهية للخطاب الأصولي ، وأعلام ذلك الخطاب مثل ابن تيمية وابن حزم والعز بن عبد السلام والشاطبي و الشوكاني وغيرهم من أعلام الخطاب الأصولي . وقد قسَّمت بثينة الجلاصي كتابها إلى ثلاثة أبواب رئيسية ، وقسّمت كل باب إلى عدة فصول.أتى الباب الأول تحت عنوان " اجتهاد العقل " والثاني" الاجتهاد في علاقته بنظام النص " والثالث "الاجتهاد في علاقته بالتشريع". و الاختلافات في تحديد مفهوم النص عند الأصوليين ، وفي الاتفاق حول وجوده أو عدمه تكشف عن عديد من القضايا في الفكر الأصولي خاصة، وفي الفكر العربي الإسلامي عامة ويمكن حصرها في ثلاثة أقسام أولها يتصل بقضية اللفظ والمعنى في علاقتهما بالدلالات وخاصة في مفهوم البيان. وقد انتصر شق اللفظ وبين أهميته وأسبقيته على المعنى ، وانحسار البيان فيه ، وفي ذلك يؤكد الغزالي أن بعض الناس ذهب إلى "أن حد الشيئ هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يمنع ويجمع، فقدم بذلك اللفظ على المعنى، إذ أن ضبط الحدود وجه من وجوه طالب البيان أي فهم النص" أما الشق الآخر، فإنه انتصر في المقابل للمعنى، وينضوي الغزالي ضمن هذه الرؤية ويقول : " فاعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك" ثانيهما يتعلق بإشكالية البيان إذ أن هاجس الأصولي أثناء التشريع إنما هو الكشف عن مقصود المشرع من خطابه، فلا يمكن فهم قضية الاجتهاد عند الأصوليين إلا في إطار دائرة البيان، بيان النص الشرعي، لأنه المنطلق لكل ناظر في الشرع والمنتهى ، وحسبنا من هذا قول للشاطبي يكشف عن الصراع الذي يتملك الوعي الأصولي بين سلطتي النقل والعقل، وإزاحة سلطة العقل أمام سلطة النقل حيث يقول: " إذا تعارض النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل، فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا.وهنا تكمن مشكلة الفكر الأصولي ، فهو يجعل العقل تابعا، ويقيده بسلطة النقل، فلا يُسرِّح أبدا العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل وبسمح به. ثالثهما يتعلق بوعي الأصوليين بأن قضية البيان وإدعاء اليقين، وبلوغ المعنى الأصلي تمثل شعارات يُنافح عنها ويُحارب من أجل إرسائها الأصولي، لأنه ينافح عن شرعية خطاب مُنظَّم سلفا وهو ما به تُفسَّر نمطية الخطاب التشريعي حتى أن الباحث به يكاد يجزم أنه أمام مصنف أصولي واحد رغم اختلاف المذاهب . و الفكر الأصولي كان يبحث دائما عن مرجعيات نقلية يستمد منها شرعيته ، تلك المرجعيات مستأثرة بامتلاك الحقيقة في نظر الأصولي وهو ما نفسر به دعوة الجويني والغزالي والرازي والشوكاني إلى الإيمان ، إيمان العجائز دون الخوض في أمهات القضايا كما يفسر ذلك إلحاح ابن تيمية والشاطبي وابن رشد وغيرهم على أهمية النقل باعتباره النبع الأصيل لكل تشريع وهو ما أفضى إلى تخفيت أصوات النقد والعدول عن إعادة النظر . والقياس نمَّى الطاقات الفقهية الاجتهادية، وطورها من الفقه الواقعي إلى الفقه الافتراضي أو التقديري، إلا أن الضبط القياسي غدا مُقيِّدا للفقه، فقد وقع القياس في مشكلة لم تمكن الفقهاء من تفعيله في إنتاج الأحكام الفقهية. وهذه المشكلة تتمثل في عدم مطابقة هذه الأحكام للزمان والمكان، مما يقف حاجزا أمام المشرعين في الإفتاء بالصالح ، وترتد إنتاجية القياس إلى آليته التمثيلية الاستدلالية، التي يسميها الفلاسفة بالقياس التمثيلي، والمتكلمون بقياس الشاهد على الغائب، والأصوليون بقياس الفرع على الأصل، وهو يُعنَي بإلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر آخر منصوص على حكمه للاشتراك بينهما في علة الحكم. تخضع أنواع القياس تبعاً لذلك إلى مدى ضعف العلة المشتركة أو قوتها ما بين الفرع والأصل، ومع ذلك يظل الإشكال الأكبر للقياس الفقهي محدودا، إذ إنها مقيدة بنوع من أنواع فهم مُغلِق للنص، مُقيد بمثال سابق قد لا يناسب اللحظة الراهنة التي يتمُّ فيها القياس . وقد رصدت الباحثة تاريخ الفكر الإسلامي في مراحل متأخرة من التأصيل ،منذ القرن الثامن الهجري ، واتخذت نموذج ابن تيمية، لأنه كان معبرا عن ملامح الفكر الإسلامي، ولكنها لم تركز فقط على الخطاب المعلن في فكر ابن تيمية ، بل ركزت على ما وراء الخطاب التيمي علها تصل إلى الكلام " الأبكم " بحسب تعبير ميشيل فوكو في " حفريات المعرفة " حيث يرى فوكو أن الخطاب الهامس هو الذي يحرك من الداخل الصوت الذي نسمعه يتعلق باستعادة النص الرفيع ، اللامنظور الذي يسري ما بين السطور المكتوبة ويزاحمها ، وكأنها لا تكتفي بالخطاب المقول والمقصود إليه في فكر الإمام ، بل تسعى إلى الخطاب المسكوت عنه والمختفي في ثنايا النصوص ، وهذا لا يتأتى لها ولا يتسنى فهمه وتحليله إلا بدراسة أصول هذا الفكر باعتباره إنتاجا ثقافيا تقول : " إن هذا المشغل لا يتسنى لنا فهمه وتحليله إلا بدراسة أصول هذا الفكر ، باعتباره إنتاجا ثقافيا ، ونعني حدود تقبله للأصول اليونانية المنطقية ، فإذا تمّ تبين حدود التقبل وجب أن نلقي الأسئلة الملحة : ما هي ملامح القياس الشرعي عند ابن تيمية ؟ وهل أن فهمه للقياس كان امتدادا للفهم الأصولي له قبل القرن الثامن للهجرة ؟ ونعني ما فضل ابن تيمية في الإقرار بالقياس الشرعي ؟ ثم كيف نفسر تقبله للقياس المنطقي ؟ وما هي المؤثرات الفكرية التي أسهمت في بلورة هذا الموقف ؟ هذه هي الأسئلة التي طرحتها الباحثة وحاولت أن تكشف عنها ، ليس لدى ابن تيمية فقط ، بل أعادت قراءة المشروع الفكري الفقهي لكافة الفقهاء الذين اشتغلت على مشروعهم وحاولت تفكيكه، وربطه بالظروف التاريخية والمجتمعية التي ساعدت على إنتاجه، فلا يمكن فصل النص الفقهي عن ظروف إنتاجه التاريخية والمجتمعية ، وهذا يحيلنا لرهان القراءة الرئيس لهذا الكتاب ، هل تصلح الأحكام الفقهية التي أنتجتها ظروف عصر ما أن يُقاس عليها في لحظتنا الراهنة أو ما يأتي من مستقبل ؟ كذلك طرحت الباحثة علاقة الأصوليين الآخر المغاير ، سواء الآخر المغاير دينيا وعقديا أو الآخر المغاير ثقافيا . وتلك العلاقة التي تنهض على الإقصاء تجاه ذلك الآخر جاءت منجمة في ثنايا الدراسة ، ثم أفردت لها فصلا كاملا عن صورة النصارى في المدونة الفقهية الكبرى للإمام سحنون ، وترسمه لخطوات ابن تيمية في هذا الأمر .
#هويدا_صالح (هاشتاغ)
Howaida_Saleh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعادة استباحة مصر مجددا / ردا على تصريحات فاطمة ناعوت في جري
...
-
دماء الصبايا على مذابح الإخوان المسلمين في مصر
-
ذاكرة مصر البصرية في لوحات زهرة المندلية - حياة النفوس -
-
أزمة الجسد في رواية عالم المندل
-
ليس ثمة موسيقى .. لكنها سترقص غدا
-
المستبعد واللامقول في رواية - وردية ليل - لإبراهيم أصلان
-
هل آن أوان ربيع النساء في ظل الثورات العربية ؟!
-
مرايا الذات المتكسرة في رجوع الشيخ
-
اللحن المتصاعد في الحالة دايت
-
وخزات الألم
-
مثقفون مصريون يرفعون صوت الثورة السورية في سماء القاهرة
-
بيان الكتاب والمثقفين العرب ضد مذابح بشار الأسد بحق الشعب ال
...
-
جدلية العلاقة بين الأنا والآخر في رواية - بروكلين هايتس - لم
...
-
بشار الأسد الذي يُعمّد كرسي عرشه بدماء أطفال سورية
-
حفيف رصاصة
-
إلى قناص بشار الأسد الذي يغتال ربيع سورية
-
انتفاضة الصعيد بعد سقوط النظام !
-
الشعب المصري يسطر عظم ملاحم التاريخ
-
ثورة مصر الشعبية
-
في مديح - نساء حسن سليمان -
المزيد.....
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|