|
ملحق الخليج الثقافي يحاور صبحي حديدي: ينصت إلى قوانين النصوص ولا يتكىء على منهج واحد
حكيم عنكر
الحوار المتمدن-العدد: 1113 - 2005 / 2 / 18 - 11:47
المحور:
الادب والفن
هذا واحد من النقاد العرب الذي يمتلك شمولية معرفية ويجاور في عمارة فكره ما بين الاقامة في برج النص الأدبي والانشغال في المجرد وما بين النزول في مصعد الناس حيث النص يمشي على قدميه ويتحدد كرؤية اجتماعية وثقافية وكمنظور للعالم، إن الناقد السوري والمقيم من زمن بعيد في باريس حيث دخلها شابا هاربا من الأشباح التي كانت تأتي من ليل سبعيني مقيت، لم يبحث وهو المقيم هناك عن حظوة زائفة أو اندماج ميسور الحال، بل ظل صوت المثقف العربي في المهاجر، الصوت الصافي الذي لم تغب عنه قضايا “الأمة، وأدبها، شعره ونثره، كان موجوداً ومقرَّحاً بذات الأسئلة، ولذلك بقدر ما يتسع صدره للعالمين بقدر ما تأخذه غضبة مشروعة من حال التردي الثقافي العربي ومن المناخ العام الذي لا يساعد الآن على أي جهد اعتباري اتجاه صورة العرب المشوهة الممزقة بالآلة الحادة الأمريكية. عن النقد والأدب ونقد النقد وقضايا الراهن كان معه هذا الحوار:
* في هذا الحوار الذي نجريه معك الاستاذ صبحي حديدي ونخصصه لتجربتك النقدية والثقافية، نود أن نتوقف لحظة عند ملتقى الشعر الإماراتي والذي شاركت فيه بمداخلة نقدية عن شاعرات من الإمارات، من موقع اطلاعك المباشر على النص الشعري الإماراتي، كيف ترى هذا المشهد وما يحبل به من تجارب وممكنات؟ وهل يندرج هذا المشهد ضمن اللحظة العربية، لحظة حداثة القصيدة العربية؟
** من حيث المناسبة لبيت دعوة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ضمن هذا الملتقى، أما فيما يخص المشهد الشعري الإماراتي المعاصر، والذي قدمت فيه ورقة حول شعر المرأة، اعتقد أنه أحد أغنى المشاهد الشعرية المعاصرة لأسباب عديدة، أبرزها في تقديري سببان: السبب الأول هو أن الحداثة الشعرية العربية وصلت إلى هذه المناطق متأخرة بسبب جملة معوقات ذات صلة بالمجتمع وذات صلة بالاستقلالات المتأخرة وما يلي ذلك من عوامل، والسبب الثاني ان الحداثة الشعرية العربية إلى حد كبير جرى انطلاقها واحتكارها بما نسميه بتحفظ كبير بالمراكز الشعرية العربية، كأن تقول إن الحداثة تبدأ في بغداد ثم تتسع اكثر في القاهرة وتنتقل قليلا إلى دمشق ثم تستقر في بيروت. هذه هي اذا شئت المراكز، والمشهد الشعري في الإمارات وربما المشهد الشعري في اليمن أو في المغرب، كان بمثابة هوامش، ووقع على شاعرات وشعراء هذه الهوامش عبء إضافي وهو أن يتمثلوا هذه الحداثة المتأخرة وأن يضيفوا إليها خصوصية تجاربهم وتجاربهن ذات الصلة بمجتمعاتهم وأيضاً بمستوى الذائقة المتوافرة في هذه المجتمعات والتي بالطبيعة وبالمنطق لا بد أن تختلف عن الذائقة فيما نسميه بالمراكز الأساسية. وبهذا المعنى ومتابعة لسؤالك اعتقد أن المشهد الشعري الإماراتي يضيف الكثير وهو مشهد شديد الثراء في الواقع، وتحديدا فيما يخص الاصوات النسائية، وأظن وأرجو أنني لا أبالغ إذا قلت، إنه المشهد الأكثر ثراء ليس بمعنى الكم فقط، ولكن أيضاً بمعنى الكيف.
* في الغالب الأعم نلحظ بأن القراءات النقدية التي تتناول تجارب المبدعات العربيات غالبا ما تستند على جوانب خارج نصية، هل تعتقد أن مثل هذا الصنيع النقدي يقدم كشفا لهذه النصوص ويسهم في اضاءة جوانب من مسارهن وتجاربهن الابداعية؟ بمعنى ألم ينته النقد العربي من تكرار المقولة نفسها السائدة: مقولة المعادل الموضوعي؟
** بصرف النظر عن اختلاف النقاد أو دارسي الشعر في تياراتهم ومدارسهم ومناهجهم التطبيقية، فإني اعتقد ببساطة ان افضل النقد يقوم بواحد من اثنين، واذا قام بهما معا فخير على خير. الناقد الذي ينبغي أن يكون مدربا ومسلحا بذائقة متقدمة وبالتالي اطلاعه يسمح له بأن يقترح قراءة على القارئ، قراءة هي مثل كل القراءات الأخرى التي قد تكون بعدد النسخ المطبوعة، ولكن قراءة الناقد ينبغي ان تتميز بكونها تنصف النص وتهيئه، بتلك الدربة وتلك الخبرة وتلك الذائقة المختلفة لكي تساعد القارئ سواء بالقبول أو بالاعتراض على هذه القراءة، وربما لاقتراح قراءة ثالثة أخرى للنص الأدبي. الوظيفة الثانية، أنه اذا تمكن النقد، من خلال دراسة النص الأدبي، من استنباط أي أساس نظري أو جانب نظري يتيحه النص، ومن هنا تأتي فكرة نظرية الأدب، بمعنى أن يعكس النص الأدبي أو يساعد الناقد على استنباط جانب نظري مهم، وهذا يكون مهمة ثانية للناقد، وهي مهمة أرقى في الواقع من مهمة الاكتفاء باقتراح قراءة. وأحيلك إلى مثال دائماً أشير إليه، فنظرية المعادل الموضوعي التي اشتقها ت.س إليوت، في مقالة قصيرة عن الجانب العاطفي في شخصية هاملت، كان يتحدث عن المسرح وليس عن الشعر، هذا النص أوحى له بتطبيق نظري، وهذه النظرية باتت أساية في دراسة النصوص ذات الخصائص المشتركة، بهذا المعنى، أياً كانت دراسة النص النسائي أو غير النسائي، إذا بدأنا من انصاف النص، وهذه في تقديري قاعدة “فقهية”، إننا إذا بدأنا من حقوق النص نفسه بما يقدمه، فإني اعتقد بأن الناقد في هذه الحالة إذا كان مدربا، ليس في الحد الأدنى، وإذا لم يكن تقليديا في قراءته، فإنه أيا كانت في الواقع المدارس التي تقترب من النص أو داخله أو تنتقل خارجا عنه، أعتقد انها سوف تكون مفيدة للنص وما يتيحه من مساحة جغرافية خارجة. إننا بالطبع لا نستطيع ان نغلق النص بالمعنى البنيوي الأول الذي كان يحول النص إلى معادلات وألغاز مكتفية بذاتها ولذاتها.
* تصر على تقديم نفسك باعتبارك ناقدا مستقلا، بمعنى أنك تحاول عبر منجزك النقدي أن تؤسس لنفسك طريقا نقديا بعيدا عن التأثيرات التي يمكن ان تمارسها هذه المؤسسة الثقافية أو تلك؟
** في الحقيقة، لا أعتقد أنني أقوم بذلك تماما كما تصف، ولكن إذا افلحت فإن ذلك سيكون شيئاً باهراً، أعترف بأن الأمر صعب المنال، واعترف بأنني ربما لم أبلغه. وكلامك صحيح في جانب آخر، بما معناه، أنني لا أتكئ على منهج نقدي بعينه ولا أبدأ منه في دراسة النص، وسأعبر بطريقة أكثر إنصافا للنص لأقول: أنا لا أقحم النص على النظرية الأدبية ولا أقحم النظرية الأدبية على النص، فأنا أبدأ فعلاً من النص وأحاول قدر الإمكان أن أجد ما يتيحه لي المنهج الدراسي الأفضل لكي يتجلى هذا النص، وليس لكي اتجلى أنا كدارس للنص. من جهة أخرى، فأنا لا أزعم انني متحرر من النظرية، مثل كل الذين يشتغلون في دراسة النصوص بشكل جاد، وأقول لك بكل وضوح أبدأ من الماركسية وأنا أنظر للنص الأدبي كظاهرة اجتماعية، ولكن كظاهرة فنية لها خصوصية عالية جداً، ليست كما هي في التنظير الماركسي التقليدي أنها بنية فوقية، ولها قوانينها العشوائية، ليس كذلك، فأنا استهدي كثيراً بالماركسية، وأستهدي بدراسات ادوارد سعيد العميقة حول الخطاب السياسي الضمني في النص، خصوصا جانب التيقظ للجوانب الاستشراقية، واستهدي أيضا بفكر ميشيل فوكو وكيف ان خطاب القوة يمكن ان يكون شديد التمويه داخل النص الأدبي ويجب أن نحترس وأن نتيقظ من ان يمر هذا الخطاب خطاب القوة دون ان نسلط عليه الضوء. إني أستفيد من كل هذه المنجزات في مجالات تحليل الخطاب، وقد أفاجئك في الكلام، فأنا استفيد أيضاً من مدرسة في النقد وهي المدرسة الهندية، وهي غير مترجمة للغة العربية مع الأسف، ولكن أراها واحدة من أعمق مدارس النقد القائمة الآن في العالم وهي تعادل إلى حد كبير انجازات النصف الثاني من القرن الماضي في فرنسا وهي قريبة من الإنجازات الأنجلوساكسونية، وأعود إلى سؤالك، فإنه يطرح مسألة في غاية الأهمية وأتمنى أن أنجو في الفرار من منهج مسبق واحد متماثل.
* الذي يقرأ أبحاثك النقدية يلحظ انك لست مؤولا ايديولوجيا ولا تنجر وراء الاسقاطات والتأويلات المباشرة لكينونة ووجود النص الأدبي؟
** هذه مسألة مهمة بالنسبة لي وأتمنى أن أفلح في هذا المسار، ولكن من جانب آخر أشعر بالحرج من استعمال كلمة ناقد في وصف نفسي، وأفضل كلمة دارس، وأشعر أن كلمة ناقد تحتوي على تكريس مؤسساتي، بمعنى أنه مؤسسة مكرسة وسلطة فوق النص، وفي هذا أختلف مع الكثيرين، فأنا سلطة تبدأ من النص إذا كانت لي سلطة، وأنا سلطة تنتهي في النص وليس لي سلطة على النص ولا آتي إلى النص من سلطة خارجية، بهذا المعنى أفضل أن أتحدث عن نفسي كدارس للنص، لا آتي من أية اعراف مؤسساتية إذا صح التعبير.
* لقد وقعت تحولات كبيرة على جينيالوجيا النص الأدبي العربي منذ السبعينات إلى الآن، هل واكب النقد العربي هذه التحولات واستوعبها وارتقى إلى الرهانات الجديدة لنظريات تلقي النص وتداوله؟
** إن الحياة نفسها حسمت مسألة التطور فكيف بالنص الأدبي أو النظرية النقدية، فقبل ثلاثة عقود أو أربعة عقود كان لدينا الناقد المدرسة أو ما يمكن تسميته بالناقد المؤسسة والعلم، كأن تقول مثلاً إن شوقي ضيف هو أبو الحكمة في الشعر العباسي مثلاً، أو تقول هذا الكتاب بعينه لمحمد مندور هو مؤسسة مستقلة بذاتها، أما الآن فإن افضل ما يمكن أن ينجزه النقد العربي المعاصر، هو قائم على اكتاف مجموعة وليس على نقاد أفراد، إذ ينبغي أن يكون هناك اشتغال متعدد التيارات ومتعدد المناهج تقوم به مجموعة من الأفراد حول مجموعة من الظواهر، لكي يتم التوصل إلى مشهد نقدي، يخص النصوص، ويخص التنظير للنصوص ولكنه ليس مشهدا متماثلاً وليس مشهدا له طابع التقارب النظري أو حتى إذا شئت نوعا من أنواع “التطبيع” النظري ما بين مدرسة وأخرى، فالحياة حسمت مسألة عُدَّة الناقد، والنقاد التقليديون بدأوا يشعرون أن مكانهم ليس في النص الجديد، وهذا أمر مؤسف، لأنه ينبغي على الدارس التقليدي والناقد التقليدي الذي ينطلق من خطاب اكاديمي أن يؤهل نفسه لكي يطل على النص الابداعي الجديد ولكي يكسب العمل النقدي خبرته في التراث، وليس عيبا على هذا الناقد أن يعيد تأهيل نفسه، والحياة تعيد تأهيل نفسها وينبغي للمرء بين فينة وأخرى ان يعيد تأهيل عقله وعدته وأدواته.
* بموازاة هذا النقد غير المؤسساتي، هناك النقد الأكاديمي الذي يقوم به اساتذة الجامعة والمدرسون والذي يكتسي في أغلبه طابعا حجريا، ألا تعتقد بأن هذا النوع من النقد قد خلق تشويشا مفاهيميا ومنهجيا في الساحة النقدية العربية؟ وأن ذلك قد وصل إلى نوع من التسيب المفاهيمي ومن فوضى الترجمات والترجمات المضادة؟
** من حيث المبدأ فإنه لا غنى على الاطلاق عن النقد الأكاديمي، إن لم يكن بسبب الحرص على التعددية والتنوع فإنه على الأقل على هذا الجانب الدراسي المدرسي الذي لا نستطيع أن نتخلى عنه، هنالك نقد أكاديمي يدرس التراث ويدرس نصوصا أدبية قديمة على ضوء مناهج معاصرة، أو على ضوء مناهج تقليدية تعكس الذائقة الجمالية للنص العربي القديم. لكن لا يمكن لأي نص أدبي خالد حين ننظر إلى ما هو خالد في تراثنا، لا يمكنه إلا أن يستدرج ويستدعي التيارات النقدية والفكرية الحديثة له، كما ان المتنبي معاصرنا، فإن النص الأدبي أيضاً هو معاصرنا، ولذلك فإنه من حق النص الأدبي أن نقدم له ما تقدمه النظرية من تحديث وتطوير. من جانب آخر اعتقد أن النقد والترجمة لولا وضع الاجمالي للنشاط النقدي ليس منفصلا البتة عن وضع الثقافة العربية، بمعنى أنه كم من الكتب تترجم في كل الصعد، وإذا قرأت تقرير التنمية العربية فإن الأرقام مخجلة ومفزعة، إن أعداد ما يترجم على نطاق العالم العربي في كل العلوم بما فيها العلوم الانسانية لا يعادل 14% مما تترجمه بلجيكا، إذن هذه مصيبة تخص مستوى الوعي الثقافي ومستوى وعي المؤسسات، وتخص في تقديري، السلطة الثقافية. مثلاً لنأخذ المشروع القومي المصري للترجمة فإنه قام بترجمة مجموعة كتب رغم أنه يصدر عن سلطة ثقافية وسياسية أيضاً، والجانب المهم في تقديري أن الترجمة لم تتحول لدينا إلى واجب يقع على عاتق المثقف، والذي يعتبر شيئاً أساسيا، أن أحد الذين يعتبرون ، أنه كل من يمتلك لغة اجنبية ويستطيع أن يترجم عليه واجب الترجمة بلا أي تنصل، وأن هذه المسألة شديدة الأهمية وشديدة الحيوية، وأنا يعنيني أن أترجم كتبا أكثر مما يعنيني أن أكتب كتبا وأضع اسمي على غلافها، لقد ترجمت إلى الآن نحو ثمانية كتب، لأن حجم الحاجة إلى الكتاب المترجم كبير جداً وحاد، ثم إن ان هذا التقصير له علاقة بعدم وجود ثقافة الترجمة لدى المثقفين العرب.
* هل يمكن للمؤسسات الثقافية الرسمية أن تقوم بدور ما على مستوى انجاز مشروع عربي في مجالات الترجمة؟
** اعتقد أن مسؤولية الترجمة تقع بدرجة أولى على عاتق الجامعة، حتى يترسخ لدينا تقليد نشر في الجامعات، فلاحظ أن معظم ما ينشر من أبحاث وكتب نقدية في بريطانيا أو فرنسا أو امريكا هو إلى حد كبير نتاج مراكز أبحاث تابعة للجامعات. أضف إلى ذلك أن تقاليد النشر لدينا تعتمد على الربح السريع وحاجة السوق وحاجة الاستهلاك اكثر من حاجتها إلى تنفيذ مشاريع ترجمة متماسكة وتهدف إلى حد كبير منسق ومنظم ثم إني لا استطيع أن أعفي المثقفين الأفراد من مسؤولياتهم، يجب أن نترجم أولاً، وإن كانت تأتي بعد ذلك مشكلة البحث عن ناشر أو مركز أبحاث، وللأسف هناك تنصل في مجال الترجمة بل أنه حين تنظر إلى ما أنجز من ترجمات في الخمسينات من القرن الماضي ترى أن الوضع الآن كارثي، ونحن لا نتراجع إلى الخلف فقط بل نحن ننحط إلى أدنى مستوى.
* أنت تعيش في فرنسا، وتشتغل في الاعلام العربي والفرنسي وتعايش خطابات متعددة بصدد العرب، كيف ترى إلى هذه الصورة المرسومة عن العربي، والتي تتجه يوما عن يوم إلى أن تكون عدائية؟
بالنسبة لصورة المثقف العربي المقيم في المنفى، هناك على الأقل وضعان، الوضع الأول هو المثقف المنفي بسبب معارضته لسلطة بلاده والتي تكون اهتماماته سياسية غالبا، والثاني هو المثقف العربي الذي اختار الهجرة بإرادته وغالبية لا بأس بها من هؤلاء اندمجوا في المجتمعات الغربية وأصبحوا مثقفين فرنسيين أو بريطانيين وهناك شرائح تشتغل ضمن منطقة رمادية ما بين المنطقتين، إذا اتاحت لها الهوامش الحركة. وأريد أن أشير إلى أن المثقف العربي قبل 11 سبتمبر/ايلول كان في حال وبعده أصبح في حال آخر، وهذه الصورة تزداد تدهوراً في ظل هذا الميل الأمريكي في تكريس عقلية الامبراطورية وتكريس الفكر الواحد، والعودة ليس إلى التفكير المحافظ بل إلى التفكير القدري الذي يكتسب طابع النظرة الأحادية. إن مشكلات المثقف العربي ليست كما كانت قبل عشر سنوات، بل هي أسوأ الآن، وهذا المثقف في وضع لا يحسد عليه، لأنه إما أن يكسر الحائط الفاصل ما بينه وبين المستنير في ثقافته أو أنه سيسقط في الأصولية، فأنت حين تدافع عن الإسلام كثقافة ينبغي أن تمسك بذلك الخيط الرفيع الذي لا يجعل من الناس تتهمك بأنك أصولي. أما إذا أراد أن يكون مثل بقرة سوداء في ليل اسود كما يقول المثل الفرنسي، ويعتبر أن هذا هو خطاب الغرب، وأنه ليس هناك دور له الآن، فلأسكت أو أنخرط في القطيع، فتلك كارثة كبرى. زيادة على ذلك أن المثقف العربي لم يكرس مؤسسات ثقافية تستطيع أن تحفظ له خط الرجعة وتضمن له أن يقول رأيه بصراحة، بما يعني ذلك من وجود دور نشر حرة قادرة على أن تنشر الرأي والرأي الآخر ودون أن يجري تأتيمه، ثم إنه لا توجد مؤسسات ثقافية قادرة على أن يشكل من خلالها المثقف العربي خطا (مع التعدد)، متماسكا وقادر على الدفاع بالمعنى المشروع.
* هناك كلام يتردد الآن في العالم العربي عن ضرورة تصحيح صورة العرب. هل هذا ممكن الآن؟ وبأية وسائل؟
** أنا اعترض تماماً على ما يسمى بحملة تصحيح صورة العرب، لأن هذه الصورة لم تتشوه بسبب العرب أنفسهم وإنما جرى تشويهها لأن الغرب خلط شعبويا ومؤسساتيا (السلطة مثل الشارع) ما بين العربي والإسلام وبالتالي بات العربي مسلما والمسلم عربيا، والأسوأ من ذلك أنه بات المسلم العربي ارهابيا أو على الأقل مشروع ارهابي. حتى وإن كان علمانياً أو ملحداً. إن المسألة ذات صلة بالواقع الذي يعيشه الغرب وإطار العولمة الذي يتيح له إلى حد كبير وأمريكا تحديدا كل هذه المادة في الهيمنة، وهي مادة اقتصادية واجتماعية وثقافية، وما دامت هذه المادة على هذه الدرجة من القوة والفخامة فإنك لا تستطيع ان تقوم بأي شيء لتصحيح صورة أي شعب وليس صورة العرب، وإنك لن تستطيع ذلك لأن الطرف الآخر الذي هو المجتمع العربي والإسلامي بدأ ينظر بريبة كثيرة وببغضاء وحقد على سبيل المعاملة بالمثل. وأعطيك مثالاً حياً: كان الروائي إلياس خوري في فرنسا (وهي بلد الأنوار) وكان في مرسيليا، وكان يرسل مقاله من الفندق إلى صحيفة “القدس العربي”، فبمجرد أن صاحب الفندق انتبه إلى أنه يرسل فاكسا بالعربية، استدعى الشرطة وجرى التحقيق معه، وفي فرنسا العلمانية سئل: ما هي ديانتك؟ لكنه رفض الإجابة، وفي نهاية المطاف تبين لهم أنهم كانوا على خطأ، تصور ان هذا حدث بسبب فاكس باللغة العربية، فأين نحن من أيام لويس ماسنون وأيام جاك بيرك وماكسيم رودنسون حين كان الفرنسيون يشتغلون على النص العربي. إن مهمة تصحيح صورة العرب أصبحت الآن مهمة شديدة الصعوبة.
* أين دور الغرب النقدي الآن في مناصرته للقضايا الانسانية وقضايا الشعوب؟
** هذه النخبة هي المعول عليها الآن في الغرب، ولكنها توجد في هذه اللحظة في صف الأقلية، أمثال تشومسكي وهارولد بنتر المسرحي البريطاني وآخرين، انظر مثلاً إلى حجم الناس التي نزلت إلى الشوارع إبان الغزو الأمريكي للعراق، بالملايين، لكنها لم تستطع ان تغير واقع الحال. إن هذا الهامش النقدي صغير ومحدود الإمكانات ويوجد في صف الأقلية ولذلك لا يمكن التعويل عليه كثيراً.
* استرجاع المثقف العربي لدوره وإعادته مجددا إلى صلب الحياة الاجتماعية والسياسية العربية ومنحه دورا ضمن حركة المجتمع وانتشاله من عزلته وأبراجه، هذه التمنيات التي أضحت تتردد على كل لسان، هل هي ممكنة الآن؟
** لست متشائماً، ولكنني لا أجد الآن، أنه من المحكمة أن يزعم المثقف في نفسه قدرة على تبديل الحال، فالآن الحال يا صديقي أقوى وأكثر طغيانا من أن تتدخل فيه وإلا تتحول المسألة إلى نوع من الارتطام الذاتي. لكن أقول إن المثقف العربي الموجود في المهاجر والمنافي يستطيع أن يقوم بالشيء الكثير، وهذه فرصة ذهبية ليشتغل المثقف على التنوير وعلى الاستنارة وتنمية ما يستطيع من مفاهيم الديمقراطية والتعددية السياسية وقبول الاختلاف وقبول الآخر وأن يشتغل على اضاءة الجوانب والنماذج الحية في تراثنا وأن يرتد من جديد إلى المجتمعات التي أهملها المثقف بسبب اغترابه أو نفيه أو بسبب ما تعرض له من قرارات ومن وجود سلطات غير ديمقراطية. فالفرصة سانحة الآن والشارع العربي في ظني متعطش للتغيير ويتطلع لخطوط التغيير ومصادره. وأقول أخيراً إنه إذا لم يصح الغرب ويعيد النظر في موقفه من ثقافات وحضارات الشعوب ومالم تتضح معالم الرؤية الأمريكية للعالم فإن المثقف العربي لا يستطيع أن يفعل شيئاً ولا أي شعب من الشعوب، وبالتالي فإن العالم كله سيسير باتجاه نوع من الانتحار الذاتي.
#حكيم_عنكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
-
مدينة حلب تنفض ركام الحرب عن تراثها العريق
-
الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في ا
...
-
-الحريفة 2: الريمونتادا-.. فيلم يعبر عن الجيل -زد- ولا عزاء
...
-
لماذا يعد -رامايانا- أكثر أفلام بوليود انتظارا؟
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|