|
قصة قصيرة: نادية
عادل بن زين
الحوار المتمدن-العدد: 3813 - 2012 / 8 / 8 - 14:02
المحور:
الادب والفن
بدا البيت العتيق هادئا، لا يكسر هدوءه غير وقع خطوات الأم وهي تعد شاي الإفطار. الوالد في مكان قصي منزو لا يكاد ينم عن وجوده، غير حشرجة أنفاس واهنة، وسحابة سيجارة رديئة. ومروان لا يزال تحت ملاءة باهتة مخدرا بكؤوس البارحة. عندما انتهت الوالدة، نادت ابنتها كي تتناول إفطارها، وتستعد للذهاب إلى المدرسة. انتشلت نادية أشلاءها الصغيرة بصعوبة من الفراش. بدت في حيرة من أمرها؛ فلا هي حزينة ولا هي سعيدة. بقع سوداء تحت جفنيها، تعلن عن ليلة سهر عنيفة، قضتها تحضيرا لاختبار في مادة اللغة الفرنسية. تناولت كأس شاي وكسرة خبز حافية. أخذت محفظتها المهترئة ثم اتجهت إلى المدرسة. يلزم نادية الوصول الى المدرسة، قطع مسافة ثلاثة كيلو مترات مشيا على الأقدام، في بيئة مخيفة. تقهر الخوف والطريق رفقة صديقاتها. كن يجتمعن في نقطة معلومة قبل شد الرحال. هذا الصباح، بدا الجو غائما، وبعد قليل بدت زخات المطر تنهال من السقف. خافت الصبايا فعدن مذعورات إلى المنازل. وحدها نادية تابعت السير يحذوها أمل الوصول قبل موعد الاختبار. وقفت نادية أمام سور المؤسسة. الباب موصد، أصابع البرد القارس تنهش جسدها الطري، والمطر يهمي بلا توقف. طرقت الباب بأصابع متجمدة، فأفسح لها البواب المشقوق الشفة السفلى الباب، ثم انسلت إلى الداخل. قبل أن تصل إلى الحجرة، انتبه إليها المدير المرابط ببطنه المترهل أمام باب الإدارة. وقفت أمامه وهي ترتجف. قال لها وأوداجه تنتفخ مثل ديك رومي: - أين كنت؟ إنها الثامنة وعشر دقائق. رفعت نادية إليه عينيها متوسلة، وكأنها تقول له إنك تؤخرني عن الموعد. لم تنبس ببنت شفة، فقط دمعة حارة انسكبت على خدها، ثم باغتها المدير بصفعة عنيفة شلت أفكارها. اتجهت نادية نحو القاعة دامية القلب. الحذاء مطلي بالوحل، والملابس تقطر بالماء. تطلع إليها التلاميذ بأسى ثم انكبوا على أوراقهم. وحدها كانت تلملم بلورا ساخنا من مقلتيها.الأصابع متجمدة، والأوراق عجين ملون. اقترب المعلم الأثير إلى قلبها منها، مسد شعرها المبلل، طمأنها بكلمات تتدفق أبوية. شرح لها الأسئلة ثم انخرطت في عالم الاختبار. في الساحة، بدت نادية طفلة أخرى. الفرح المشوب بحزن شفيف ينط من عينيها. خيوط الشمس الذهبية المتسللة من أصابع الغيم، أضفت على المدرسة الرابضة في السفح دفءا لذيذا. اعتادت نادية الرجوع دوما مع صديقاتها، لكن هذه المرة، هي على موعد مع الرجوع بمفردها. كانت تنقل أقدامها بصعوبة. الخوف من الغيوم الملبدة يزيدها توترا، والطريق الخالي من المارة يزيد ارتباكا. فجأة، انقض عليها شبح من وراء الحجارة. انتفضت في دواخل نادية غريزة الفرار، وازدادت معها خطوات الشبح خلفها. فقدت توازنها من أثر التعب، فانهارت مثل قطة... أمام المجهول الذي انقض عليها. ظلت نادية تستغيث وراء الأشجار. الجسد ينتفض، والدموع تتوسل. وحده المسخ الرابض فوقها تسيل من عينيه علامات نصر وهمي. كانت تتمزق من الألم الذي يخترقها. كل الظلم والغبن والعار احتقن فجأة في دواخلها. في البيت، أحست الوالدة أن البنت تأخرت على غير عادتها. الوالد غارق في سحابة الدخان. قالت الوالدة لمروان: - اخرج إلى الطريق لعلك تعثر على أختك. قال مروان في موجة غضب عارمة: - مرة أخرى نادية، إنها قادمة مع صديقاتها. واستكان الجميع إلى الدعة والهدوء. وحده قلب الأم تسرب إليه خوف شفيف. وطال غياب نادية ثلاثة أيام في أحضان المسخ، سامها المهانة والمذلة والعار، بينما اجتمعت في عيني المسخ كل أمجاد الفحولة والرجولة والأمجاد العريقة. بغتة، انتفضت في دواخل مروان حميا الفحولة. كال لنادية الصفعات تلو الصفعات. سب، وشتم، وتوعد اللصوص والشياطين. أما نادية فظلت صامتة تنظر إلى الفراغ، وتقضم أظافرها بتلذذ. الوالدة أخرس لسانها، والوالد دفن نفسه لأخر مرة في ركنه القصي. قال القاضي الذي كانت عيناه نيزكان من رعب لنادية: - أين كنت ذلك اليوم؟ قالت وهي تقضم أظافرها: - كنت عائدة من المدرسة. أردف القاضي بصوت مزمجر: - هل أغويت المدعى عليه؟ التفتت نادية إلى أمها والخوف يسيل من عينيها ثم قالت: - لم أفهم السؤال سيدي. - هل كنت ترتدين ثيابا شفافة أو كنت على موعد غرامي معه مثلا؟ تطلعت نادية إلى أمها تستنجد بها. أحست بأصابع غصة من فولاذ تقبض على حلقها. لم تتفوه بكلمة واحدة. تطلعت إلى الفراغ بصمت ثم أخذت تقضم أظافرها. أما القاضي المحترم فقد أصدر قراره غير القابل للطعن: "بناء على تحريات الشرطة القضائية، وبناء على البند ... من الفصل ...، وبناء على صمت المسماة... فقد تقرر تزويجها من المسمى...". زفت نادية إلى المجهول. يوم ذاك، لم تعرف أين تصنف هذا المجهول، هل في خانة الأب أم الزوج أم الفارس الذي اختطفها. ما ظل يبرق في ذاكرتها، هو أنه مسخ شوه براءتها ذات يوم ممطر. عندما اقترب المسخ من جسدها المتحفز، تراءت لها في عينيه كل الذئاب والأفاعي والقردة واللصوص. كانت تتأمله وهو يلهو فوق صدرها الصغير ببلاهة؛ تحتضن الفراغ في صمت وتقضم أظافرها بمرارة. في اليوم الموالي، اجتاحت عاصفة القرية، هدمت البيوت المنخورة، ونفقت الأغنام والبقر، وغرقت المحاصيل. قال أم المسخ وكانت مطفأة العين اليسرى: - لن تكون هذه العاصفة إلا عين الحسد. إنها المأفونة التي جاءت إلى البيت مشحونة بالنحس والشؤم. رد المسخ عليها: - إنها مشيئة الله. قال نادية: - لعنة الله عليكما إلى يوم القيامة. قالت نادية عبارتها بنغمة مشحونة بالقهر، ثم اتجهت إلى غرفتها وهي تقضم أظافرها. أحكمت إغلاق الغرفة، ثم ابتسمت حين تراءى لها بياض يطل بعينيه العصفوريتين من السقف. طرق المسخ الباب. كسر القفل. لم يجد نادية فوق سريرها، فقط : "قتلوني ياما... قتلوني ياما". أكادير 25.06.2012.
#عادل_بن_زين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سقط الليل
-
وطن الحبال
-
في مديح الخال
-
حالة إبداع
-
الشيخ والبحر
-
قصيدة
-
قصة قصيرة
المزيد.....
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|