أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد بقوح - أمكنة ناطقة ( 7 ) : راس الما.. عبر الأبواب الزرقاء المعلقة - بمدينة شفشاون المغربية















المزيد.....

أمكنة ناطقة ( 7 ) : راس الما.. عبر الأبواب الزرقاء المعلقة - بمدينة شفشاون المغربية


محمد بقوح

الحوار المتمدن-العدد: 3807 - 2012 / 8 / 2 - 20:44
المحور: سيرة ذاتية
    


تبدو من أعلى الجبل المقابل، قبل الوصول إليها ببعض الكيلومترات، كما لو كانت عروسا محتجزة بين قضبان جبل صخري، تمتد أعضاؤه العليا، في اتجاه السماء اللانهائية. نظرة فوقية بانورامية من بعيد إلى مدينة شفشاون، تعطيك انطباعا بكونها مكان معزول و غريب، يخفي أسرارا من نوع ما، و لا يمكن الوقوف على حقيقة تلك الأسرار إلا بخوض مغامرة التقدم إلى الأمام، صوب الجبل العالي الشفشاوني الواقف هناك كالبطل.

تقودك الطريق الطويلة و الضيقة، إلى ملتقى طرق طبيعي خلاب، يجعلك تتوقف لحظة، و تفكر في محيطه المشجر و المحجر في نفس الوقت، لكن الفواح برائحة صيف متميز، حتى أنك تتخيل نفسك شخصا قادما من بلد غير المغرب. مكان يرحب بالزائر شعرا و إبداعا. الشيء الذي يجعله مختلفا عن أي مكان آخر، من أمكنة المدينة المكفهرة و الصاخبة. كلما تقدمت نحو المدينة، تلك التي تتمنى في داخلك أن يطول ابتعادها عنك، كلما ازددت امتلاءا بتفكير بسيط و ممتع، يرفع عنك غطاء ثقل التعب، الذي رافق رحلتك قادما من "ترجيست" و قاصدا "تطوان". غير أن شفشاون، تشكل لمن زارها من قبل، داءا جميلا، لابد أن يصاب به كل من دخلها بصدر رحب. هو العشق الأبدي، الذي يلازم صاحبه، كلما فكر ضرورة، في السفر و الخروج من دائرة الملل و ضجر المدينة الخانق. هل هي أعجوبة التفاعل الكيميائي بين الإنسان و الطبيعة، باعتبار أن الطبيعة هي الأصل و الإنسان هو الفرع ؟ أحيانا مهما بحثت عن تفسير بعض الظواهر، فلا يمكن أن تقتنع بالنتائج مهما كانت أهميتها، تلك التي يمكنك التوصل إليها. لهذا بدل البحث في مسألة التفسير، و الانشغال المجاني " بصداع الرأس"، يستحسن ممارسة نوع من سلوك جرأة الصمت و السكوت. ثم يليه الارتماء العفوي، كأسلوب مغامراتي متميز، في أحضان ما سماه الفيلسوف الألماني هايدغر، بفعل الإنصات الجيد لوجود الطبيعة من حولك. هنا بالضبط، تدرك بالملموس، ذلك التفسير الفعلي للعلاقة البريئة، بين الإنسان و الطبيعة الجبلية من النمط الشفشاوني المتحدث عنه. صورة جسد أبيض ممتد و متشبث، بأطراف حدود الجبل الصخري الواقف، و الصامد إلى درجة العزلة العجيبة. لست أدري كما طال ذلك الوقوف. نحن نسمي ذلك في لغتنا بالتاريخ. تاريخ المدينة هنا، هو نفسه تاريخ هذا الجبل الصخري العظيم. هل هو نوع من الخلوة الطبيعية و البدائية، الممارسة هنا بين جبل أعزل، يطفو على صهوة فرس مائي هو "راس الما"*، و بين الإنسان الشفشاوني العريق.
هنا تتكلم الروح لغة الجسد.

ماذا يعني أن يرحب بالزائر، في مدخل المدينة الجميلة كشفشاون، برمز المدينة الخالد، الذي هو البوابة التقليدية، ذات اللون الأزرق السماوي المفتوح حتى الثمالة، و المشدود ضرورة إلى هيكلة مزخرفة أصيلة، يعود تاريخها إلى العصور الطفولية، لكافة المدن المغربية. الأسوار و الأبواب و القصبات.. بوابة لا تشبه الأبواب الأخرى المعروفة، إلا في شكلها الصوري التقديري، لكنها مختلفة و فريدة عنها من حيث معناها و مغزاها العميقين. و كأني بالرسالة التي يجب أن تصل إلى زائر شفشاون، و هو متوقف أمام تلك البوابة الغراء، يتأملها مفكرا في لونها و شكلها و أشيائها الأخرى، و كأني بها تقول : سلاما و مرحبا أيها الزائر الكريم. لكن، احذر أيها الداخل إلى جنان أرض شفشاون.. تخل عن كل أنواع السوء و الحزن و الملل التي حملتها معك من مدينتك التي نحترمها. هنا في هذه المدينة.. مدينتنا الغراء لا مكان للحزن و الملل و الضجر و الضجيج و النظام إلى حد الابتذال. هنا توجد الفوضى الطبيعية البسيطة. الدهشة كما ولدت معك، و أنت ترى العالم من حولك.. في زمنك الأول.. هنا و الآن فقط، بدخولك إلى نقط مدينة شفشاون الموزعة عبر بحار مياهه و أنهاره الجارية، ستربح الكثير من المعاني التي لا ثمن لها، لأن أبواب شفشاون المغروسة في تربتها الجبلية، ستعيدك حتما إلى زوايا معتمة في ذاكرتك البعيدة.. ربما ستنجح هذه المدينة في إشعال و إحياء ذاتك الأخرى، التي انفصلت عنها مبكرا، و لم تأتيك منذ سنوات أو عقود في حياتك..

بالفعل، يجرك الشارع الطويل الأنيق إلى أجواء مدينة هادئة. الأشجار الخضراء و الظليلة، في أوج موسم الصيف الملتهب، تصطف يمنة ويسرة على جانبي الشارع العام. قامات الرجال و النساء و الأطفال على الأرصفة تذهب و تأتي. مقاهي جد أنيقة. كائنات بشرية منشرحة، لم تكن قبل قليل في أجندة مخيلتي. يبدو في أقصى الشارع الجبل الضخم في صورته المقربة. بملامح صارمة.. لكنها في غاية البهاء. التاريخ هنا يتكلم لغة الشعر و الرياضيات. الدقة و الأشكال.. إلى جاني ترانيم اللون و عمق الخيال.

عند دخولك من بوابة السويقة، حيث خليط من باعة شفشاونيين : رجالا و نساء يبيعون بعض منتوجاتهم المحلية ( اللبن، الزبدة، عشبة النعناع.. خضروات .. فاكهة.. إلخ )، تشعر و كأنك قد دخلت إلى مدينة أكاد أقول أنها تمارس حريتها الطبيعية، داخل متاهة جبلية لا حدود لها.. مدينة شفشاون القديمة، في جوف جبل صخري هائل، يقود، عبر مسالك و دروب و أزقة مسقفة بشكل جميل، إلى منبع "راس الما" : أقصى درجات التحقق الفعلي، لحرية الإنسان في علاقته الطبيعية المفترضة، بينه و بين هذا الجبل الصخري الهائل.

في طريقي إلى سدرة المنتهى، كما قال رفيقي أو "راس الما"، كما هو معروف، بدت لي هذه المدينة العتيقة من الداخل طبعا، كما لو كانت متحفا حي يرزق. بمنازله الأنيقة، و أبوابه الزرقاء، المطروزة بتلك الأيدي المعدنية المدلاة، في مستوى صدرها، و سقوفه المنحدرة، و المصقولة باللون البدائي، و قصباته الفارعة، كما لو كانت صامدة هناك، تنتظر الذي يأتي و لا يأتي، و أهاليه الطيبين و الكرماء، إلى حد أنك أحيانا تشعر و كأنك داخل أروقة بيتك و دارك.. تبا للذين يحسون بالغربة في بلدانهم الواسعة سعة البحر.. أو بالأحرى في مدنهم الكبيرة، التي تعج بكل أنماط البشر و وسائل الترفيه، أما دروب متحفنا الشفشاوني الجميل فهي دروب مفتوحة على كل الاحتمالات : جدران مزينة برسوم زاهية، و جنبات المحلات و البيوت كلها مغروسة بالورد و الياسمين، و بالكثير من النباتات الخضراء المورقة.
خارج أسوار مدينة شفشاون العتيقة جحيم.. غير أنها هي تزهو بأجوائها الرطبة و الباردة. شيء طبيعي أن تشعر بسعادة نادرة، و أنت تواصل رحلتك على متن سفينة / متحف طبيعي تطفو قاعدته الصخرية على تدفق أنهار تقود إلى "راس الما".
وجوه الناس هنا منشرحة، إن لم تسألها فلا تنتظر منها أي نوع من أنواع الإزعاج. لست أدري من أين جاءتهم كل هذه الأخلاق الطيبة ؟ كان هيغل على حق حين تحدث، في فلسفته عن الواجب الأخلاقي. إنه هنا في عمق المدينة العتيقة.. عمق أروقة متحف شفشاون مجسد و واقع فعلي، دون أن يكونوا مجبرين لقراءة فلسفة هيغل. الطبيعة بمعناها الوجودي الأصلي العميق، تكون في كثير من الأحيان، خير مدرسة للإنسان. فقط يلزمه أن يحسن الإنصات لصوتها، بشكل يغيّب ضرورة كبرياءه غير المرغوب فيه هنا.
هي ذي راس الما.. تعطي نفسها لمن يملك مفاتيح أبوابها الزرقاء..
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
• أي منبع الماء الذي يعني العين.



#محمد_بقوح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أمكنة ناطقة ( 6 ) : مقبرة الأندلس أو شتائل -لاغلاغ- الشجرية
- قراءة في كتاب ( الفكر الجذري - أطروحة موت الواقع - ) لجان بو ...
- قراءة في كتاب : ( مواقع - حوارات ) لجاك ديريدا
- قراءة في كتاب : ( التراث و الهوية ) لعبد السلام بنعبد العالي
- قراءة في كتاب : ( المتن الرشدي ) لجمال الدين العلوي
- قراءة في كتاب ( حوار فلسفي ) لمحمد وقيدي
- فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف ( للكاتب عادل حد جامي )
- أمكنة ناطقة ( 5 ) : تبارين.. أو معوزفة السنونو
- الفلسفة و الابداع : البعد الفلسفي في الكلمة الغنائية لمجموعة ...
- عودة إلى أزمة المؤسسة التعليمية المغربية و رهان التغيير..
- الفلسفة و الدولة
- الصراع السياسي الحزبي تحول في البرلمان المغربي إلى ملاكمة سي ...
- الفلسفة باعتبارها سيرة الفيلسوف
- مفهوم إرادة القوة في فلسفة نيتشه
- أمكنة ناطقة ( 4 ) : إمزيلن
- قراءة في كتاب : ( الفلسفة أداة للحوار ) لعبد السلام بنعبد ال ...
- الأسد الذي لا يحب أن يأكل سوى les bananes
- قصة قصيرة : القمر الفضّي ( 2 )
- قصة قصيرة : القمر الفضي
- أمكنة ناطقة ( 3 ) : جوطيا إنزكان


المزيد.....




- صدق أو لا تصدق.. العثور على زعيم -كارتيل- مكسيكي وكيف يعيش ب ...
- لفهم خطورة الأمر.. إليكم عدد الرؤوس النووية الروسية الممكن ح ...
- الشرطة تنفذ تفجيراً متحكما به خارج السفارة الأمريكية في لندن ...
- المليارديريان إيلون ماسك وجيف بيزوس يتنازعان علنًا بشأن ترام ...
- كرملين روستوف.. تحفة معمارية روسية من قصص الخيال! (صور)
- إيران تنوي تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة رداً على انتقادات لوك ...
- العراق.. توجيه عاجل بإخلاء بناية حكومية في البصرة بعد العثور ...
- الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا استعدادا لضرب منطقة جديدة في ضا ...
- -أحسن رد من بوتين على تعنّت الغرب-.. صدى صاروخ -أوريشنيك- يص ...
- درونات -تشيرنيكا-2- الروسية تثبت جدارتها في المعارك


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد بقوح - أمكنة ناطقة ( 7 ) : راس الما.. عبر الأبواب الزرقاء المعلقة - بمدينة شفشاون المغربية