|
حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة السياسية)
خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 3802 - 2012 / 7 / 28 - 12:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة السياسية) بقلم: خليل كلفت 1: تدور، منذ اندلاع ثورات ما يسمى بالربيع العربى، مناقشات لا تهدأ إلا لتتجدد خاصةً مع فترات هبوط موجات الثورة، حول طبيعة حدث 25 يناير 2011، والأحداث العربية المماثلة الأخرى، بين تأكيد أنها ثورات سياسية بامتياز وإنكار أنها كذلك. فهى ثورات عند البعض وانتفاضات أو هبَّات أو تمردات أو عصيانات أو هوجات عند غيرهم. والحقيقة أن أولئك الذين ينكرون كون هذا الحدث ثورة يجتهدون فى تدقيق تطبيق مفهومٍ للثورة "كما يقول الكِتاب"، أىْ كما جرى استخلاص مفهوم الثورة من تجربة ثورات البلدان الصناعية الحالية فى الغرب أو الشمال فى العصر الحديث. وهو مفهوم يتضمن انتقالا من نظام اجتماعى إلى آخر، على سبيل المثال من الإقطاع إلى الرأسمالية، من ناحية، وانتقالا للسلطة السياسية من طبقة تسود فى النظام الاجتماعى الانتقالى السابق على الثورة إلى طبقة تسود فى النظام الاجتماعى اللاحق، من ناحية أخرى. ورغم أن الواقع الفعلى لثوراتنا هو الأهم فإن فَهْم واقع الثورات الحالية بوضوح لن يتحقق إلا بوضوح مفهومها. 2: ومن المهم كنقطة بداية، وبقدر ما يتعلق الأمر بمفهوم الثورة السياسية، أن أستدعى هنا تمييزا ركزتُ عليه فى كثير من مقالاتى بين الثورة السياسية فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية فى عالم البلدان الصناعية حاليا، والثورة السياسية فى السياق التاريخى للتبعية الاستعمارية فى عالم بلدان الرأسمالية التابعة حاليا، وهو عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة. ويمكن أن ينصبّ التركيز أيضا على جانبين أولهما هو غياب التبعية الاستعمارية فى سياق الثورة الاجتماعية بكل النتائج الإيجابية لهذا الغياب، وغياب الثورة الاجتماعية فى سياق التبعية الاستعمارية بكل النتائج السلبية لهذا الغياب. وتتمثل النتائج الإيجابية لغياب التبعية الاستعمارية فى سياق الثورة الاجتماعية فى تحرُّر الثورتين الاجتماعية والسياسية فى البلدان التى صارت صناعية من التبعية الاستعمارية الثقيلة حقا فى نضالها ضد العراقيل التى تعترض سبيلها. وتتمثل النتائج السلبية لغياب الثورة الاجتماعية فى سياق التبعية الاستعمارية فى عجز الثورة السياسية عن التحرُّر من التبعية الاستعمارية محرومةً ومجرَّدةً من الأساس المادى التاريخى الوحيد الضرورى لهذا التحرُّر، أىْ الثورة الاجتماعية، والمقصود بها هو التحول أو التطور أو التقدم الرأسمالى التدريجى التاريخى التراكمى الطويل الذى يكون قد خلق أرضية اجتماعية اقتصادية ثقافية فعلية، يمكن الانطلاق منها والبناء عليها، إذ تعنى هذه الأرضية الوجود الفعلى "على الأرض" لمرحلة متقدمة من التطور والتقدم الرأسماليين. 3: ويتمثل الجانب الثانى فى أن حدوث الثورة السياسية فى سياق بعينه يعنى الوجود السابق لهذا السياق على الثورة. وبالتالى فإن السياق المتحقق تراكميا عبر زمن طويل قد يمتد إلى قرن أو أكثر قبل الثورة، والثورة العنيفة المفاجئة التى يمكن أن تستغرق بحكم طبيعتها وقتا قصيرا قد يُحْسَب بالأعوام لا يتطابقان زمنيا مطلقا. والحقيقة أن السياق لا يسبق الثورة فقط بل يتبعها أيضا. فالثورة الاجتماعية تتواصل قرنا آخر أو قرنين بمزيد من الاندفاع بعد أن تنجح الثورة السياسية فى إزالة عراقيل وعقبات وحواجز كانت تعترض سبيل اندفاعها. وكذلك تتواصل التبعية الاستعمارية بعد الثورة السياسية العالم-الثالثية لأن هذه الثورة تعجز، إلا فى حالات استثنائية مثل تجربة النمور الآسيوية القديمة والجديدة، عن تصفية التبعية التى تقوم على اندماج قوتين جبارتين راسختين هما الإمپريالية من الخارج والطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية من الداخل. ففى سياق التبعية يغيب سياق الثورة الاجتماعية أىْ التحول الرأسمالى بكل نتائجه، ولو لم يكن غائبا لكنا إزاء مجتمع رأسمالى لا يحتاج إلى ثورة اجتماعية رأسمالية، ولكانت توجد ديمقراطية شعبية فعلية من أسفل تفترض أهداف النضالات الديمقراطية فى نطاق الرأسمالية، إلا عندما تتطور نضالات ثورية تاريخية بالشروط والظروف الموضوعية والذاتية الضرورية للاتجاه نحو ثورة اشتراكية. 4: ويؤدى عدم التطابق الزمنى بين حدث طويل الأمد بحكم طبيعته هو السياق التاريخى (الثورة الاجتماعية فى حالة والتبعية الاستعمارية فى حالة أخرى) وحدث قصير الأمد بحكم طبيعته هو الثورة السياسية، إلى حقيقة أننا لا نستطيع أن نعتبر الثورة السياسية الإنجليزية أو الأمريكية أو الفرنسية أو الروسية ثورات اجتماعية مع أنها جميعا تأتى فى سياق ثورة اجتماعية تمثل غاية الثورة السياسية فيما تمثل هذه الأخيرة وسيلتها الكبرى. ويمكن تشبيه هذه العلاقة بخط طويل ممتدّ يمثل الثورة الاجتماعية أىْ التحوُّل الرأسمالى فى العصر الحديث، ونقطة فى مكان ما على هذا الخط تمثل الثورة السياسية. ومن البديهى أن الثورة السياسية العالم-الثالثية لا تساوى التبعية الاستعمارية فهى تتفجر ضد هذه التبعية بل إن من غاياتها، التى لا تتحقق إلا فى أحوال استثنائية، القضاء على هذه التبعية. ويمكن أن نستنتج هنا فارقا مهمًّا وهو أن الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية تعمل على تحقيق أرضيتها المتمثلة فى الثورة الاجتماعية فهى أداة من أدواتها الأساسية، على حين تعمل الثورة السياسية، ليس على تحقيق أرضيتها، بل فى سبيل القضاء على أرضيتها المتمثلة فى التبعية الاستعمارية، أىْ فى سبيل تحقيق نقيضها الديمقراطى أو الاشتراكى. 5: والمقصود بالثورة الاجتماعية فى العصر الحديث هو الثورة الرأسمالية التى نقلت عالم البلدان الصناعية الحالية من المجتمع الإقطاعى (عندما تُطَوِّره طبقات فيه إلى حالة انتقالية) إلى المجتمع الرأسمالى. فالثورة الاجتماعية الرأسمالية إذن هى الرأسمالية منظورا إليها من زاوية عمليات تطورها التراكمى الطويل الذى يقود، على الأغلب، عند مرحلة من مراحله إلى الثورة السياسية ويستمر بعدها إلى أنْ يتمّ استقراره كمحصلة لهذه العمليات فى نظام اجتماعىّ رأسمالى متقدم. ومن الجلىّ أن هذا المفهوم عن الثورة السياسية التى تمثل وسيلة كبرى من وسائل الثورة الاجتماعية والتحول الرأسمالى التاريخى لا ينطبق على ثورات الربيع العربى. غير أننى أظن أن الإنكار المطلق الذى نلتقى به كثيرا لتعبير الثورة على ثورات الربيع العربى ينطوى على شيء من العقائدية التى يمكن أن تُجازف بتجاهل أحداث وتطورات تاريخية كبرى خاصةً فى عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة التى يكون من الصعب أن نُطبِّق عليها مفهوم الثورة المستخلص من الثورات الاجتماعية والسياسية التى شهدتها البلدان الصناعية الحالية فى العصر الحديث فى إطار الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، غير أن من الصعب أيضا التقليل من شأنها بحصرها فى إطار مفاهيم أو تعابير مثل الانتفاضة أو الهبَّة أو العصيان أو التمرد أو الهوجة أو غير ذلك باعتبارها أقلّ من الناحية الهيراركية من الثورة أو مختلفة عنها بصورة جذرية. 6: وهنا تثور مشكلة دقيقة تتعلق بتسمية أشياء مختلفة باسم واحد. فكيف نُطْلِق اسم الثورة على الثورة الاجتماعية وفى الوقت نفسه على الثورة السياسية رغم كل الاختلاف الجوهرى القائم بينهما، بين تحوُّلٍ فى المجتمع وتحوُّلٍ فى السلطة؟ وكيف نُطْلِق اسم الثورة السياسية على تلك التى تأتى فى سياق الثورة الاجتماعية وفى الوقت نفسه على تلك التى تأتى فى سياق التبعية الاستعمارية رغم كل الاختلاف الجوهرى القائم بينهما؟ وكيف نستعمل لفظة الثورة للثورات الاجتماعية والسياسية والفكرية والجمالية والعلمية والأدبية والفنية والتكنولوچية وغيرها رغم الاختلاف الواضح بين هذه الأشياء؟ ولا شك فى أن للثورة مفهوما خاصا فى كل المجالات السابقة ومجالات عديدة أخرى، كما يتنوع عمقها وتتنوع جذريتها ومستوياتها بين مختلف الحالات والمجالات. وهناك أيضا حقائق أخرى؛ فنحن نستعمل لفظة الثورة للثورة السياسية الجماهيرية الشعبية (مثلا الثورة الفرنسية الكبرى) تماما كما نستعملها للثورة السياسية الفوقية التدريجية التراكمية التى ترافق الثورة الاجتماعية الفوقية التدريجية التراكمية فى نموذج التحول الرأسمالى الفوقى الپروسى اليونكرى كما تحقق فى الياپان بالذات وفى مثل هاتين الثورتين الاجتماعية والسياسية الفوقيتين التدريجيتن التراكميتين يتحول النظام الإقطاعى تراكميا إلى نظام رأسمالى، وتتحول الطبقة الأريستقراطية الإقطاعية تراكميا إلى طبقة رأسمالية حديثة، وتنتقل سلطة الدولة بالتدريج أيضا من الطابع الأريستقراطى السابق إلى الطابع الرأسمالى داخل نفس الطبقة الاجتماعية المتحوِّلة من داخلها، فلا نكون إزاء انتقالٍ للسلطة السياسية من أيدى طبقة إقطاعية فى مرحلة انتقالية إلى طبقة رأسمالية. وهناك أيضا حقيقة أننا نسمِّى بالثورة، الثورة الاشتراكية التى تتمثل غايتها التاريخية البعيدة فى إلغاء انقسام المجتمع إلى طبقات وخلق المجتمع اللاطبقى، والثورة العبودية التى تتمثل وظيفتها التاريخية الكبرى فى القضاء على المجتمع اللاطبقى وإقامة مجتمع طبقى عبودى. ويعنى هذا أن التغيير الاجتماعى أو السياسى أو العلمى أو الجمالى العميق هو الثورة رغم اختلاف المدى والمستوى والاتجاه. وهنا أشير على الهامش إلى أننا نسمى بالثورة كُلًّا من الثورة والثورة المضادة رغم التناقض التناحرىّ بينهما. 7: وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن لمفكر جادّ أنْ ينكر وجود الثورة الاجتماعية طوال تاريخ البشر؛ لأن مجرد التسليم بوجود نظم اجتماعية اقتصادية متعاقبة يعنى التسليم بالانتقالات التى أوجدتْها، فهذه الانتقالات إنما هى الثورات الاجتماعية ذاتها والتى قد تحتاج (وهذا هو النموذجى فى الثورات الرأسمالية) أو لا تحتاج (وهذا هو الاستثناء) إلى لحظات أو ضربات أو ثورات سياسية عنيفة. ولاجدال فى الوقت نفسه فى أن نماذج أو أنماط أو أنواع أو أشكال الثورات الاجتماعية بالغة التنوُّع فلا سبيل إلى إنكار اختلاف الثورات العبودية عن الثورات الإقطاعية عن الثورات الرأسمالية ولا إلى إنكار اختلاف الثورات العبودية فيما بينها والإقطاعية فيما بينها والرأسمالية فيما بينها. وصحيح أن أوجه تماثل الثورات الرأسمالية فيما بينها وحتى النظم الرأسمالية فيما بينها قائمة دون شك غير أن هذه الثورات الرأسمالية والنظم الرأسمالية (المتطوِّرة: أىْ التى تستحق هذه التسمية عن جدارة) تقدِّم لنا لوحة بالغة التنوع فى أشكال وألوان وخصوصيات تحقيقها ووجودها بعيدا عن كل تطابق ولكنْ بعيدا أيضا عن الاختلاف الجوهرىّ فى الخصائص الأساسية التى تجعلها ثورات رأسمالية ورأسماليات. ولا يتَّسع المجال هنا لمقارنات بين أشكال تحقيق ثورات اجتماعية تنتمى إلى نفس النظام الاجتماعىّ الواحد (مثلا: الإقطاع اللاتينىّ-الجرمانىّ والإقطاع الشرقىّ أو العبودية الجريكو-رومانية والعبوديَّة المعمَّمة فيما يسمَّى بنمط الإنتاج الآسيوى أو الفرعونى) أو إلى نُظُم اجتماعية مختلفة (مثلا: نظام العبودية المعمَّمة الفرعونىّ أو العراقى القديم والنظام الرأسمالىّ الأمريكىّ). ومن البديهىّ أن هذه العمليات لا تتمّ فى المختبر وأنها لا تتمّ فى عزلة بل تتشابك فيها شروط وأوضاع داخلية وخارجية، بنيوية وظرفية، لأنها تجرى فى هذا البلد أو ذاك وفى الوقت نفسه فى العالم وأيضا فى التاريخ بالمكوِّنات التزامنية والتعاقبية لهذا الأخير. 8: وأعتقد أن إشكالية مفهوم الثورة السياسية بين عالم البلدان الصناعية حاليا وعالم المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة تتضافر مع إشكاليات تتصل بمفاهيم اجتماعية وسياسية أخرى بين هذين العالمين، مثل مفهوم الرأسمالية ومفهوم الطبقة ومفهوم الصراع الطبقى وغيرها، لتصنع معا تمايُزا عميقا بينهما. فالرأسمالية الصناعية المتقدمة تختلف عن الرأسمالية التابعة للإمپريالية، ولكننا نستعمل لهذين الشيئين المختلفين بصورة جوهرية لفظة واحدة هى الرأسمالية مع تمييز إضافى بينهما، وينطبق الشيء ذاته على الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة كما ينطبق على الصراع الطبقى بين طبقات ذات طبيعة مختلفة. ومن ناحية فإنه لا يمكن إنكار حقائق أساسية كالرأسمالية والطبقتين الرأسمالية والعاملة وغيرهما وكذلك الصراع الطبقى فى العالم الثالث، ومن ناحية أخرى فإنه لا معنى لمطابقة هذه المفاهيم وواقعها بين العالمين: الغرب والشرق أو الشمال والجنوب. ويتمثل السبب وراء هذا التمايز أو الاختلاف العميق فى انقسام العالم إلى غرب أو شمال متقدم مسيطر سائد وشرق أو جنوب متأخر وتابع ومَسُود. 9: ولا مخرج من مأزق هذه الإشكالية سوى بالنظر إلى الثورة السياسية على أنها تتمثل فى ثورة شعبية عفوية واسعة شاملة بقيادة طبقة صاعدة أو بدونها بهدف إحداث تغيير تاريخى عميق قد ينجح وقد يفشل فى نهاية المطاف، ويمكن التعبير عن هذا بطريقة مختلفة بالتمييز بين مفهوم الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية ومفهوم الثورة السياسية العالم-الثالثية فى سياق التبعية الاستعمارية فى العالم الحديث والمعاصر. وهذا تماما كما يجرى التمييز بين مفهوم الرأسمالية الصناعية المتقدمة ومفهوم الرأسمالية المتأخرة التابعة للإمپريالية رغم استعمال نفس اللفظة: الرأسمالية. 10: ويمكن أن يُلْقِى واقع استعمال نفس لفظة الثورة لكلٍّ من الثورة الاجتماعية والثورة السياسية ضوءًا جديدا على أبعاد إشكالية مفهوم ومعانى ودلالات الثورة رغم البون الشاسع، رغم الارتباط الوثيق كقاعدة أغلبية، بين واقع الثورة الاجتماعية وواقع الثورة السياسية. فالثورة الاجتماعية، ليس فى العصر الحديث، بل فى مختلف عصور تاريخ البشر، تراكُمٌ تدريجى طويل للغاية لعناصر تكوين اجتماعى لاحق لتكوين اجتماعى قائم. و ينطبق هذا على الثورة العبودية التى أخرجت المجتمع العبودى فى العصور القديمة من المجتمع المشاعى البدائى، وعلى الثورة الإقطاعية التى أخرجت المجتمع الإقطاعى القروسطى من المجتمع العبودى القديم، وعلى الثورة الرأسمالية التى أخرجت المجتمع الرأسمالى الحديث من المجتمع الإقطاعى. وعندما يبلغ هذا التحول المادى التدريجى التراكمى الطويل إلى مرحلة بعينها من النضج من ناحية والعراقيل من ناحية أخرى تأتى ثورة سياسية تزيل تلك العراقيل وتسمح للتحول الجارى قبلها بالاستمرار بعدها فى سياق تطور مادى تراكمى تدريجى بدوره ولكنْ باندفاع أكبر إلى أن يستقر النظام الاجتماعى الجديد. ولأن الثورة الاجتماعية تتخذ شكل التراكم المادى التدريجى الطويل ولا تأتى الثورة السياسية إلا فى مرحلة ناضجة من هذا التحول فإن الثورة السياسية تتفجر فى ظل نظام انتقالى يجمع بين عناصر نظامين اجتماعيين سابق ولاحق، فلا يكون الانتقال، من خلال الثورة، من الإقطاع إلى الرأسمالية، مثلا، بل من مجتمع انتقالى بلغ مرحلة بعينها من التطور الرأسمالى إلى الرأسمالية من خلال فترة جديدة من التراكم الرأسمالى. 11: والثورة الاجتماعية ليست عاصفة عاتية تنقضّ فجأة تحت سماء صافية، كما يُقال، وليست ضربتها العنيفة المفاجئة، حسب قول شهير ﻟ ماركس فى معرض حديثه عن "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، سوى "الدَّاية" (القابلة أو المولِّدة): "العنف داية كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد. وهو ذاته قوة اقتصادية" Karl Marx, Capital, Vol. I, Progress Publishers, Moscow, 703, 1974. ومن الجلىّ أن المقصود بالعنف هنا هو الثورة السياسية. وفى مدخل "ثورة" فى الترجمة العربية ﻟ "معجم الماركسية النقدى"، الصادر عن دار محمد على الحامى للنشر (صفاقس) ودار الفارابى (بيروت)، الطبعة الأولى، 2003، نقرأ، نقلا عن أعمال ماركس و إنجلس الكاملة: "كل ثورة تلغى المجتمع القديم وبهذا المعنى فهى ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغى السلطة القديمة ولذلك فهى ثورة سياسية". وخلاصة هذين النصين هى أن التحوُّل من "أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ" أىْ من "مجتمع قديم" إقطاعى "حامل بمجتمع جديد" رأسمالى "إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ" يتمثل فى عملية تحويل أو تحوُّل اجتماعى-اقتصادى تحتاج عندما ينضج هذا الحمل وهذا الجنين إلى "العنف" أىْ إلى ثورة سياسية فهى "الداية" التى تقوم بعملية تحويل أو تحوُّل سياسى هو فى حد ذاته "قوة اقتصادية" لأنه يفتح مجالا أوسع للتحول الاجتماعى الاقتصادى. والحقيقة أن النصين يشكوان من شيء من الغموض. ويوضح النصان معًا أن الثورة السياسية تأتى عندما يغدو المجتمع القديم الإقطاعى حاملا بالفعل بالمجتمع الجديد الرأسمالى. فالتمييز قائم إذن بين الثورة الاجتماعية "الرأسمالية" المتمثلة فى الحمل المادى الفعلى بالرأسمالية والثورة السياسية "الداية" التى تقوم بعملية التوليد. ومن الجلىّ أيضا أن النص الأول يقدم الثورة الاجتماعية كعملية تدريجية طويلة لأن حمل المجتمع القديم بمجتمع جديد يحتاج إلى الزمن الكافى للتطور التدريجى الطويل، كما يقدم الثورة السياسية أو "العنف" أو "الداية" بوصفها حدثا عنيفا غير تدريجى يأتى فى سياق التطور التدريجى للثورة الاجتماعية. ويأتى الغموض من النص الثانى. فرغم أنه يوضح أن "الثورة الاجتماعية" هى التى تُلغى "المجتمع القديم" (فتأتى بمجتمع جديد يحلّ محله) وأن "الثورة السياسية" هى التى تلغى "السلطة القديمة"، وهذا تمييز يوضِّح ويعمِّق ويُثرى النص الأول، إلا أن حديثه عن أن "كل ثورة" تلغى "المجتمع القديم" وتلغى "السلطة القديمة" قد يوحى بأن كل ثورة تندمج فيها الثورتان الاجتماعية والسياسية معًا وبهذا يعانى من الدمج الذى نشكو منه اليوم عندما يجرى النظر إلى الثورة السياسية على أنها ثورة اجتماعية، رغم أنها فى الحقيقة لحظة سياسية عنيفة فى سياق ثورة اجتماعية تسبقها بزمن طويل قد يمتد قرنا أو أكثر وتستمر بعدها باندفاع أقوى زمنا طويلا قد يمتد قرنا أو أكثر إلى أن يستقر النظام الاجتماعى الرأسمالى الجديد. 12: ويركِّز المؤرخ الأمريكىّ للثورة الفرنسية كرين برينتون Crane Brenton فى كتابه المهم "تشريح الثورة" The Anatomy of Revolution, Vintage Books, New York, 1965، على التماثلات أو أوجه التماثل uniformities بين أربع ثورات كبرى فى العصر الحديث: الثورة الإنجليزية (1688)، والثورة الأمريكية (فى ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر)، والثورة الفرنسية (1789)، وثورة أكتوبر الروسية (1917). ولا يقول هذا المؤلف بوجود أىّ تطابق فما يطرحه هو التماثل مع أخذ التنوُّع فى الاعتبار، ومتأثرا بعمق بكتاب توكڤيل، "النظام القديم والثورة [الفرنسية]"، يجعل هذا المؤلف "الثورة" امتدادا لما قبلها. ويقول برينتون: "منذ وقت طويل أوضح توكڤيل أن الثورة الفرنسية جاءت لتكمل عمل صف طويل من ملوك فرنسا، لجعل السلطة الممركزة [أو: المركزية] فى فرنسا فعالة ومكتملة" (page 239). ويجعل هذا المؤلف بعض التعابير التى نشأتْ فى سياق بعض الثورات قابلة للامتداد إلى ثورات أخرى (مثلا: تعبير "النظام القديم" و "التيرميدور")، وينقل تعبير "النظام القديم" من الثورة الفرنسية إلى غيرها من الثورات بلفظه ومحتواه: "من فرنسا جاءت عبارة ’النظام القديم‘. وهى تشير، عند تطبيقها على تاريخ فرنسا، إلى طريقة حياة ثلاثة أو أربعة أجيال سابقة لثورة 1789. ولعلّ مما يحقّ لنا أنْ نَمُدّ استعمالها لِنَصِفَ بها المجتمعات المتنوعة التى نشأتْ منها ثوراتنا" (page 27). على أن أىّ استعادة لاحقة للنظام الملكىّ لم تكن تعنى مطلقا استعادة ما دمرتْه ثورة 1789 من ذلك "النظام القديم" السابق عليها، ويستشهد بقول مأثور فرنسىّ: "Toute restauration est révolution" [كل استعادة ثورة]، (page 225). 13: وينتج عما سبق بصورة منطقية تماما، وهذه فكرة أصيلة فى الماركسية، أن الثورة الاجتماعية الرأسمالية ليست شيئا آخر سوى تشكُّل ونموّ وتطوُّر وتكوُّن أسلوب الإنتاج الرأسمالىّ، وقد تأتى الثورة السياسية مبكرا وقد تأتى بعد تقدُّم ونضج هذه العملية الرأسمالية. وإذا نظرنا إلى الثورة السياسية على أنها قد تتكون من أكثر من حلقة فإنه يمكن القول إن الحلقة الرئيسية للثورة السياسية (مثلا، ثورة 1789 الكبرى) قد تسبقها حلقة مهمة (مثلا، المركزة الإدارية التى أدخلتها الملكية المطلقة قبل 1789 بأكثر من مائة عام منذ عصر لويس الثالث عشر). وقد لا تأتى الثورة السياسية بمعنى الثورة الشعبية الجماهيرية مطلقا؛ وهنا يتحقق التحوُّل من خلال ثورة اجتماعية تدريجية فوقية، وفى نهاية المطاف نجد أنفسنا وجها لوجه أمام نظام رأسمالىّ مستقر فى ظل السلطة السياسية الأرستقراطية التى قادت الثورة الاجتماعية من فوق، كما حدث فى نموذج الثورة الإجتماعية التى قادتها حركة الميچى فى الياپان والذى كان أكمل نموذج للثورة الاجتماعية الفوقية (الطريق اليونكرى الپروسى للتطور الرأسمالى)، حيث تتحول السلطة السياسية الإقطاعية الأرستقراطية بصورة تدريجية فوقية إلى شكل من أشكال الديمقراطية الپرچوازية وهى فى الحقيقة شكل من أشكال الديكتاتورية الپرچوازية. على أن النظام الرأسمالىّ الذى كان محصلةً لذلك التطور الطويل الأمد لا ينغلق باكتماله ونضجه واستقراره، ولا ينكفئ على نفسه، بل تتمّ داخل نطاقه تطورات وثورات علمية ومعرفية وتقنية وتكنولوچية وتحديثية وغيرها بكل نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبكل هذه الأشياء يعيش النظام الرأسمالى "حياته الطبيعية"، على أن تناقضاته لا تكفّ بدورها عن النموّ والتفاقم مما يقودها فى الأمد الطويل على طريق الركود المزمن والتفسُّخ والانهيار والموت أمام احتمالين كبيرين متناقضين: الاشتراكية أو البربرية. على أن تشكُّل وتكوين وتطوُّر النظام الاجتماعىّ الاشتراكىّ داخل نطاق هذه الرأسمالية هى الأشياء التى من شأنها أن تنقذ البشر من الهلاك وتهزم البربرية وتبنى الاشتراكية وليس أطيافها وأوهامها الجميلة كما فعلتْ الثورات المسماة بالاشتراكية التى شهد القرن العشرون لحظة ميلاد ولحظة موت كل منها. 14: على أن الحلقة الرئيسية للثورة السياسية قد تتبعها تطورات وحتى ثورات سياسية بالغة الأهمية تقوم بوظائف سياسية متنوعة وحتى متناقضة لصالح الرأسمالية أو على النقيض لصالح الشعب. وهنا يمكن أن نتذكر تطورات سياسية مهمة تتمثل فى تحوُّل الملكية فى فرنسا فى سياق الثورة عبر الجمهورية إلى إمپراطورية وإلى استعادة ملكية البوربون ثم الأورليان ثم الجمهورية أخيرا وكذلك ثورات 1830 و 1848 وكومونة پاريس فى 1871 وثورة الشباب فى 1968. ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات ووحشيتها لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من التراكم البدائى والحروب الداخلية والخارجية. والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير! وهناك مَنْ يُدينون الثورات بصورة مطلقة كما تفعل الفيلسوفة السياسية حنة أرندت لأنها لا تحقق الحرية ولا تمحو الفقر والعنصرية فيما يمجِّد ماركس الثورة الاجتماعية ويُدين العبوديات الاستغلالية المتعاقبة الناشئة عنها وعن الاستبداد الناشئ عن الثورات السياسية باستثناء الثورة الاشتراكية، كما كان يفترض أو يأمل، وكما نظلّ نفترض ونأمل فيما يتعلق بالمستقبل. 15: وقبل أن نواصل مناقشتنا أتوقف هنا قليلا عند مسألة "الثنائية" فى السياقين التاريخيين للثورة السياسية؛ سياق الثورة الاجتماعية، وسياق التبعية الاستعمارية. فلماذا لا توجد سياقات أكثر رغم وجود تنويعات بالغة التعقيد لكلٍّ من هذين السياقين؟ السبب ببساطة هو انقسام العالم إلى عالميْن اثنيْن لا ثالث لهما. وكما حدث طوال التاريخ (وحتى قبل التاريخ) كانت تتطور وتتقدم بعض مناطق الكرة الأرضية على حين تبقى مناطق أخرى متأخرة فتنشأ علاقات الغزو والفتح والسيطرة ويحدث قيام وانهيار الإمپراطوريات، ولأن الأيام بالتالى "دُوَل"، كما يقال، نشأ العالم الحديث منقسما فقد تطورت الرأسمالية بكل ما تعنيه من قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية وثقافية وعلمية وتكنولوچية فى أوروپا الغربية ولحقت بها بلدان ومناطق فى أوروپا وقارات أخرى فيما عُرف بالغرب ثم الشمال، وصار الغرب أو الشمال يسيطر على باقى العالم من خلال الفتوحات الاستعمارية الإمپريالية. وهكذا صار التقدم والسيطرة سمة الغرب والشمال والتأخر والتبعية مصير وقدر المستعمرات وأشباه المستعمرات التى صارت تسمَّى العالم الثالث. وهنا نجد بلدانا تجسِّد الثورة الرأسمالية والحضارة الرأسمالية وبلدانا تجسَّد على النقيض الخضوع والتبعية لتكون أفنية خلفية للرأسمالية العالمية. وصارت قسمة البلدان المستعمَرة وشبه المستعمَرة تتمثل فى معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية". وفى ظل التبعية الاستعمارية صار التطور الرأسمالى الحقيقى الجذرى مستحيلا تقريبا فى العالم المسمى بالثالث فلم يكسر القفص الحديدى للتبعية للانطلاق إلى الأمام سوى بلدان قليلة كاستثناءات تُثْبِت القاعدة بحكم الطريق الذى تطورت من خلاله. وعندما تحدث ثورات سياسية فى بلد من بلدان العالم الثالث أو منطقة من مناطقه علينا، لكى نفهم طبيعة هذه الثورة السياسية، أن ننظر إلى الأرضية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية التاريخية الفعلية القائمة فى ذلك البلد أو تلك المنطقة. وهنا نكون إزاء وجود أو عدم وجود تحوُّل رأسمالى عميق فى البلد الذى يشهد ثورة سياسية. على أنه فى ضوء انتشار الرأسمالية فى كل بقاع العالم، ووجود "حالة" (سائدة أو مَسُودة) تسمى الرأسمالية، يغدو من المهم التمييز بين رأسمالية ورأسمالية، بين رأسمالية متقدمة ورأسمالية تابعة. وعندما تتفجر ثورة سياسية عالم-ثالثية فى بلد أو مجموعة من البلدان فى منطقة فإنه لا غنى عن معرفة مغزى غياب الرأسمالية المتقدمة فى هذا البلد أو هذه البلدان. وهذا الغياب وهو بعبارة أخرى غياب الثورة الاجتماعية يعنى أن البلد المعنىّ تغيب فيه ثمار الثورة الرأسمالية اقتصاديا وثقافيا وعلميا وتكنولوچيًّا، تلك الثمار التى كان يمكن الانطلاق منها إلى الأمام. ويمكن أن يفسِّر لنا إدراك هذا الغياب لماذا كان محكوما على العالم الثالث أن يبقى فى إسار التأخر والتخلف والتبعية والتراجع التاريخى إلى الوراء بدلا من التقدم إلى الأمام إلا فى حالات استثنائية لها دلالتها مع ذلك. إن الثورة السياسية هنا تتفجر فى خرائب اجتماعية اقتصادية نشأت عن التبعية الاستعمارية الأمر الذى يحكم عليها فى أغلب الحالات بطريق مسدود ليس فقط نتيجة لتراكم السيطرة الاستعمارية فى السابق بل كذلك أيضا نتيجة العمل الجديد المباشر من جانب الرأسمالية الإمپريالية العالمية والطبقة الرأسمالية العالم-الثالثية الريعية التابعة فى سياق تحالفهما التاريخى. 16: وهكذا فإنه، نتيجة، من جهة، لتأخر باقى بلدان العالم عن اللحاق برأسمالية الغرب وبانتشارها ممتدة إلى مناطق أخرى فى العالم فى "الشمال"، ونتيجة، من جهة أخرى، لنشأة وتطور عالم البلدان التى صارت بلدانا صناعية رأسمالية متقدمة فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية الرأسمالية وأداتها المتمثلة فى الثورة السياسية أىْ نتيجة لسيطرة البلدان الصناعية التى صارت إمپريالية على باقى العالم، والسيطرة بالتالى على سيرورتها وصيرورتها، نشأ عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات الذى سُمِّىَ عند بلوغ العالم مرحلة بعينها انقسم فيها، أو بدا أنه انقسم فيها، إلى ثلاثة عوالم تحمل أرقام الأول والثانى والثالث، بتسمية العالم الثالث التى ما تزال تلتصق به رغم الأوضاع المتغيِّرة. وشهد هذا العالم الثالث بدوره ثورات يمكن وصفها بالثورات السياسية لأنها رغم عدم مساسها بصورة جوهرية بالتبعية الاستعمارية وعدم نقلها للسلطة من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى كانت تدور مع هذا حول أهداف كبرى تتعلق بالاستقلال الوطنى والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وقد حالف النجاح الساحق بعض هذه الثورات فيما انكفأت أخرى فلم تحقق أهدافها إلا بصورة جزئية ومؤقتة فى أفضل الحالات. وعلى سبيل المثال نجحت الثورة السياسية الشعبية الكبرى فى الصين فى تحويل الصين الشعبية إلى بلد صناعى رأسمالى متقدم، فى ظل أوضاع محلية وعالمية خاصة، رغم مشكلات عميقة ما تزال قائمة فى صميم البنية الاجتماعية الصينية، وحققت استقلالها الوطنى فى هذا السياق ولم يُقَدَّر لقضية الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أن تنجح إلا بصورة جزئية ومؤقتة فى سياق الشعارات الاشتراكية والشيوعية على سطح عملية تحوُّل رأسمالى. وفى المقابل انكفأت الثورة السياسية الشعبية الإيرانية على نفسها وغرقت فى مستنقع الدولة الدينية الاستبدادية والتبعية الاستعمارية اقتصاديا والتضخم والبطالة والإفقار رغم ما سمحت به الثروة النفطية من تقدُّم فى بعض المجالات التى يأتى فى مقدمتها مجال السلاح، ورغم العداء المستحكم بينها وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروپى وإسرائيل وبلدان رأسمالية وإمپريالية أخرى سياسيا وبالأخص فيما يتعلق بمشروعها النووى. وهناك بالطبع انقلابات عسكرية تطلعت أحيانا إلى ما تطلعت إليه الثورات السياسية فصارت انقلابات عسكرية أيدها الشعب وصارت بنعمة الرب ثورات نموذجها الأكمل انقلاب يوليو 1952. وكما هو متوقع فى ثورات العالم الثالث كقاعدة تجيئ الثورات وتذهب وتبقى التبعية الاستعمارية والرأسمالية المحلية التابعة وديكتاتوريتها حيث تتواصل التبعية الاستعمارية فى مصر على سبيل المثال بعد ثورة 1919، وانقلاب 1952 العسكرى، ومن المتوقع بالطبع أن تستمر بعد ثورة 25 يناير 2011. وقد جاءت ثورة 1919 بالديمقراطية الشعبية من أسفل، وعصف بها الانقلاب العسكرى فى يوليو 1952 لأنه انقلاب عسكرى ليس من المفترض أن يتهادن مع ديمقراطية شعبية قائمة وناهيك بأن يسمح بقيام ديمقراطية جديدة، ومن المأمول أن تنجح الثورات الراهنة فى أن تتمثل محصلتها فى الديمقراطية الشعبية من أسفل فهى الثمرة الناضجة الحلوة الوحيدة التى تخرج بها الشعوب من ثوراتها السياسية المماثلة وهى تمثل تغيُّرا تاريخيا فى حالة المجتمع ليس فقط من حيث الحريات والحقوق الديمقراطية بل من حيث تحوُّل شامل فى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقات العاملة والشعبية والفقيرة. 17: وكما تأتى الثورات السياسية فى العالم الثالث فى سياق النظام المستقر للتبعية الاستعمارية بوصفها كذلك، تأتى الثورات السياسية كذلك فى سياق نظام رأسمالى مستقر فتنجح أو تفشل إستراتيچيًّا رغم نجاحات جزئية مهمة. وكانت ثورة الشباب فى 1968 فى أوروپا ثورة سياسية هزت فرنسا بالذات ومناطق أخرى فى أوروپا فى سياق نظام رأسمالى مستقر وكانت نجاحاتها جزئية فلم تحقق أهدافا لاسلطوية كبرى، على حين أن الثورات السياسية فى "الكتلة الشرقية" وبالأخص فى نموذجها الأكثر أهمية أىْ روسيا كانت ثورات سياسية ناجحة بامتياز فقد حققت فى سياق نظام رأسمالى قائم فى بلد صناعى كبير ودولة من الدول العظمى أهدافا كبرى تتمثل فى تحويل الاقتصاد الرأسمالى للبلاد من شكل رأسمالية الدولة إلى شكل الرأسمالية من الطراز الغربى النموذجى تحت لافتة اشتراكية السوق بالإضافة إلى نشأة ونموّ الديمقراطية الشعبية من أسفل. وبالطبع فإن ثورات أوروپا الشرقية والجنوبية تتنوع ومنها ثورات سياسية حدثت فى سياق رأسمالية صناعية متقدمة فى روسيا وبعض البلدان القليلة الأخرى فيما حدثت ثورات سياسية أخرى فى سياق أشبه بسياق الرأسمالية التابعة فى العالم الثالث فى بلدان أخرى فى أوروپا الشرقية والجنوبية وفى أغلب دول الكومنولث التى استقلت بمفهوم القانون الدولى فقط عن تبعيتها السابقة للاتحاد السوڤييتى السابق، وعن تبعيتها الراهنة لروسيا والرأسمالية العالمية. 18: وهناك نوع من التفكير لا يستهان بمدى انتشاره حتى بين المثقفين مؤداه أن الثورة لا تكون ثورة إلا عندما تنجح فى تحقيق أهدافها. والحقيقة أن الثورة تكون أو لا تكون ثورة بحكم وقوعها أو عدم وقوعها بالسمات السابقة الذكر. فإذا استنتجنا أننا إزاء ثورات سياسية شعبية كما سبق القول فإنه لا مناص من استنتاج أن الثورة يمكن أن تنجح كما يمكن أن تفشل وبالتالى فإن النجاح وإنْ كان الهدف الطبيعى لثورة ليس بحال من الأحوال معيار تصنيفها كثورة. وكانت الثورة الفرنسية الكبرى ثورة ليس فقط لأنها نجحت فى تحقيق هدفها الموضوعى أىْ تحقيق النظام الرأسمالى بل بحكم معايير التصنيف التى سبقت الإشارة إليها، وكانت الثورة الصينية العظمى ثورة بنفس المعايير رغم أنها فشلت فى تحقيق هدف إقامة نظام اشتراكى كما أراد الحزب الشيوعى الذى قاد تلك الثورة دون أن يدرك هدفها الموضوعى الحقيقى الذى نجحت الثورة فى تحقيقه وهو النظام الرأسمالى الراهن فى الصين "الشيوعية". ومن ناحية أخرى فإن النجاح بدوره ينبغى أن يقاس بمعايير سليمة حيث يخطئ من يقيس نجاح ثورة سياسية من ثورات العالم الثالث كما هو الحال بالنسبة لثوراتنا الراهنة بمعايير الثورة الاشتراكية أو بمعايير الثورة الرأسمالية (البرچوازية)، فنحن إذْ نفترض أهدافا وهمية زائفة لثورة إنما نفقد كل أساس لمعرفة طبيعة نجاحاتها وإخفاقاتها. وبطبيعة الحال فإن التقدير السليم لأهداف ثورة ولمعايير النجاح والفشل فى تحقيقها أمر يرتبط بصورة كاملة بالفهم الصحيح لطبيعة الثورة وهذا بدوره يتوقف على الإدراك الواضح لكل سمات وخصائص وأبعاد السياق التاريخى للثورة المعنية. 19: وإذا كانت الثورة الراهنة شعبية ولا جدال فى أنها شعبية بحكم النضال الثورى المتواصل للملايين وعشرات الملايين من الجماهير العاملة والشعبية فإن الحديث عن كونها ثورة سياسية يثير الجدال من جديد. فالثورة السياسية، وفقا لمفهوم بعينه كما رأينا أعلاه، تنقل السلطة من طبقة إلى طبقة متناقضة جذريا معها على حين أن من المستبعد تماما أن تقوم ثوراتنا الراهنة بهذا. فلأسباب يطول شرحها، ستظل السلطة فى البلدان العربية المعنية فى أيدى الطبقة الرأسمالية التابعة حتى بعد النجاح الكامل لهذه الثورات فى إحداث تغيير تاريخى لمجتمعاتنا بتحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل. فكيف نكون إزاء ثورة سياسية مع أن مفهوم الثورة السياسية يتمثل فى نقل السلطة من طبقة إلى طبقة متناقضة جذريا معها: من طبقة إقطاعية إلى طبقة رأسمالية أو من طبقة رأسمالية إلى الطبقة العاملة؟ ولأن من العبث أن نسمى ثورتنا ثورة سياسية بهذا المعنى فإنها ثورة سياسية وفقا لمفهوم الثورة السياسية العالم-الثالثية، أىْ ثورة سياسية فى غياب السياق التاريخى للتحول الرأسمالى حيث لا يحل نمط إنتاج أو نظام اجتماعى-اقتصادى محلّ آخر، ولا تنتقل السلطة من طبقة إلى أخرى، بل تبقى الرأسمالية التابعة وتبقى طبقتها التى تحتفظ بسلطتها، فهى بالتالى ثورة بمعنى متواضع نسبيا وإنْ كانت كفيلة بإحداث تغيير سياسى واجتماعى تاريخى فى بلدان الثورة كما سبق القول! 20: ويمكن بطبيعة الحال أن تحدث الثورة السياسية فى سياقات تاريخية مختلفة اختلافا جوهريا بحيث تكون لدينا أنواع من الثورة السياسية وبحيث تكون لكل نوع تنويعاته المتباينة أو المتقاربة. وإذا ركزنا الحديث عن ثورات العصر الحديث يمكن القول إن الثورة السياسية تأتى فى سياق ثورة اجتماعية كما حدث تاريخيا بالفعل (الثورات السياسية الرأسمالية أو البرچوازية فى سياق الثورة الاجتماعية الرأسمالية التى تنقل المجتمع من نمط الإنتاج الإقطاعى إلى نمط الإنتاج الرأسمالى) وقد تتخذ شكل الثورة السياسية الجماهيرية (ثورة 1789 الفرنسية على سبيل المثال) كما أنها قد تتخذ شكل الثورة السياسية الفوقية التى تُحْدِثها فى سياقها التاريخى ثورة اجتماعية رأسمالية فوقية فى شكلها اليونكرى الپروسى ونموذجها الأنقى ثورة أريستقراطية الميچى فى الياپان. وقد أدت هذه الثورات الاجتماعية التى هى ثورات التحول الرأسمالى وأدواتها السياسية المتمثلة فى الثورات السياسية عند مستويات بعينها من تطورها إلى نشأة وتطور ونضج رأسماليات البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية صناعية متقدمة رغم تنوُّع مستويات تقدُّمها وخصوصية تركيبة كل بلد منها. وتنتمى إلى هذه الثورات تلك الثورات السياسية المسماة بالاشتراكية التى حدثت فى سياق التحول إلى الرأسمالية أىْ فى سياق الثورة الاجتماعية الرأسمالية فأدت رغم فكر وإخلاص قياداتها الماركسية إلى بلدان صناعية رأسمالية عبر رأسمالية الدولة والبيروقراطية ونموذجها الأمثل ثورة أكتوبر 1917 البلشڤية فى روسيا. 21: ولأن السياقات التاريخية للثورات السياسة تختلف وتتنوع إلى هذا الحد، يغدو من الضرورى أن ندرك بوضوح السياق التاريخى لثوراتنا العربية وبالتالى طبيعة هذه الثورات والأهداف النابعة من هذه الطبيعة. وإذا كان العالم الحديث والمعاصر قد انقسم إلى عالمين العالم الصناعى الرأسمالى الإمپريالى وعالم الرأسمالية التابعة فيما يسمى بالعالم الثالث (وسبب الانقسام هو سيطرة العالم الأول على العالم الثالث أو الثانى بالأحرى)، كما رأينا أعلاه، فقد صار للثورة السياسية سياقان تاريخيان: سياق الثورة الاجتماعية وسياق التبعية الاستعمارية. وقد شرحت هذين السياقين فى عدد من مقالاتى، ويمكن أن أكرر هنا أننا لسنا إزاء السياق التاريخى لثورة اشتراكية ببداهة غياب شروط هذه الثورة فى الوقت الحالى ليس عندنا فقط بل فى العالم كله بلا استثناء، كما أننا لسنا إزاء السياق التاريخى لثورة رأسمالية بحكم واقع التبعية الاقتصادية والسيطرة الاستعمارية؛ هذا الواقع الذى قطع طريق تطور الرأسمالية الصناعية فى بلدان العالم الثالث كله ومنها بلدان عالمنا العربى. ومعنى هذا أنه ليس من المفترض أن تحقق هذه الثورات السياسية تحولا اجتماعيا تاريخيا إلى رأسمالية صناعية متطورة تضع حدا للتبعية الاستعمارية لأن مثل هذا التحول يفترض تطورا اجتماعيا اقتصاديا صناعيا طويل الأمد قبل الثورة يكون نموه التراكمى قد أحدث التحول الفعلى قبل انفجار الثورة السياسية التى تنقل إلى طبقته القيادية أىْ الطبقة الرأسمالية الصناعية سلطة الدولة. وعلى أساس إدراك واضح لطبيعة الثورة تتحدد الأهداف النابعة منها ويمكن تلخيصها جميعا كما سبق القول فى هدف واحد واضح هو الديمقراطية الشعبية من أسفل. ومن مثل هذا الهدف المحدد يمكن أن تنبع الإستراتيچيات والتاكتيكات الملائمة لتحقيقه بدلا من متاهات يلقى بنا إليها غياب رؤية واضحة. 22: ونقف قليلا عند نقطة تمييز إضافى يبدو لى مهمًّا بين ما يمكن أن تحققه الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية وما يمكن أن تحققه الثورة السياسية فى سياق التبعية الاستعمارية، من وجهة نظر كل من الطبقتين الرأسمالية والعاملة. وفى الحالة الأولى (الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية فى البلدان الصناعية الحالية) تتحقق لكل سكان البلد المعنىّ ولكل طبقات المجتمع خطوة تاريخية كبرى إلى الأمام، إلى الرأسمالية المتطورة التى تنقل حياة السكان بأسرهم إلى مستوى حضارى جديد رغم الاستغلال الرأسمالى وديكتاتوريته الطبقية، وتتحقق للطبقة الرأسمالية انتقال السلطة السياسية إليها وإزالة العراقيل التى تعترض طريق اندفاع تطور اقتصادها، بما فى ذلك سيطرتها على بلادها وعلى مناطق أخرى فى العالم، وتتحقق للطبقة العاملة والجماهير الشعبية الديمقراطية الشعبية من أسفل والتى تعنى مستويات معيشية جديدة وكذلك الحقوق والحريات النضالية والحياتية. وينبغى أن يكون واضحا جدا أن كل هذا لا يتحقق بفضل الثورة السياسية بل بفضل الثورة الاجتماعية التى تمثل الثورة السياسية لحظة تاريخية من لحظاتها وأداة تاريخية من أدواتها، على أن الديمقراطية الشعبية من أسفل لا يجرى الظفر بها إلا بانتزاعها ثوريا وترسيخها وحمايتها بعد ذلك بالنضالات الاقتصادية والسياسية المتواصلة. فماذا تحقق الثورة السياسية فى سياق التبعية الاستعمارية (كما حدثت طوال أكثر من قرن فى العالم الثالث)؟ الحقيقة أن هذه التبعية الاستعمارية تحكم على الثورة السياسية بحدود وقيود. وهنا يمكن القول إن الطبقة الرأسمالية التابعة لا تكسب شيئا سوى الاحتفاظ ببقائها رغم خسارتها الأكيدة نتيجةً لكل مكسب للطبقة العاملة والشعب. وبالطبع فإن للاستقلال السياسى الدستورى مكاسبه للطبقة الرأسمالية التابعة غير أن هذا الاستقلال لا يتحقق عن طريق الثورة السياسية الشعبية فى كل تجاربه وحالاته بل فقط فى حالات بعينها. فماذا تكسب الطبقة العاملة وجماهير الطبقات الشعبية بصورة جوهرية من الثورات السياسية الشعبية؟ وبالطبع فإن التبعية الاستعمارية مع التخلص من الاحتلال الأجنبى الاستعمارى تمثل خطوة لا يمكن إنكارها بالمقارنة مع التبعية الاستعمارية فى ظل مثل ذلك الاحتلال، حيث تقدم فُرَصا جديدة خاصةً فى العقود الأولى التالية للاستقلال الدستورى أىْ الاستقلال وفقا لمفهوم القانون الدولى بعيدا عن الاستقلال الحقيقى الذى لا يتحقق إلا بالتحرر من التبعية، هذا التحرر الذى يفترض بالضرورة التحول إلى بلد صناعى. على أن الطبقة العاملة وجماهير الطبقات الشعبية يمكن أن تحقق بالثورة السياسية حريات وحقوق ومستويات معيشة الديمقراطية الشعبية من أسفل، ويتحدد مصير هذه الديمقراطية بالصراعات الطبقية التى يمكن أن تنجح بسرعة أو على مدى أطول فى تصفية هذه الديمقراطية أو تفشل فى القضاء التام على كل ركائز وأدوات ومؤسسات هذه الديمقراطية الشعبية. وإذا نظرنا إلى التاريخ المعاصر لبلدان العالم الثالث فإننا سنجد أن تصفية الديمقراطية الشعبية هى القاعدة رغم استمرارها بعناد فى عدد من الحالات. وهنا وهناك فى العالم الثالث نلتقى بأشكال من التعددية النقابية والحزبية والثقافية وقدرة الطبقة العاملة والطبقات الشعبية على مقاومة العدوان المتواصل على مكاسبها وحقوقها وحرياتها ومستويات معيشتها. وتتعدد وتتنوع أشكال هذه التعددية من الهند إلى البرازيل إلى بلدان أخرى فى العالم الثالث. وهنا لا نكون إزاء بلدان ديمقراطية بل فقط إزاء أشكال من الديمقراطية من أسفل رغم بؤس شعوب هذه البلدان ورغم عجزها عن التقدم الاجتماعى-الاقتصادى. وعلى هذا النحو أدت الثورة السياسية الشعبية الغاندية فى الهند (وما أدراك ما الهند التى يُضرب المثل بديمقراطيتها المزعومة) إلى استمرار أشكال لهذه الديمقراطية بأحزابها ونقاباتها فى حياة سياسية تسيطر عليها الأحزاب والقوى الرأسمالية التابعة فى سياق من بؤس الشعب وسيطرة الجهل والفقر والمرض. وقد رأينا مصير الثورة السياسية الإيرانية من هذه الناحية، ولو تجوَّل ديوچينيز الكلبى بمصباحه الشهير فى أراضى ومناطق وبلدان وأقطار العالم الثالث بحثا عن الديمقراطية الشعبية الباقية من الثورات أو من نضالات الشعوب ما كان بوسعه أن يخرج إلا باكتشافات محدودة لآثارها. 23: على أن المكاسب الحقيقية لشعوبنا من ثوراتها السياسية تظل تتمثل فى الديمقراطية الشعبية من أسفل ولا يمكن التطلع إلى أهداف سياسية أبعد منها كالاستقلال الحقيقى القائم على التحول إلى بلد صناعى إلا فى حالة الظفر بها أولا. وأنقل هنا فقرة من مقال سابق لى عن الديمقراطية الشعبية من أسفل: فما هى هذه الديمقراطية من أسفل؟ والحقيقة أنها لا تعنى أن المجتمع أو البلد قد صار ديمقراطيا أو أن "الدولة" بمعناها فى القانون الدولى (ودعك من المفهوم العلمى الاجتماعى للدولة ووظيفتها فى مجال العلاقة بين طبقات المجتمع) قد صارت ديمقراطية. فالمجتمع الطبقى لا يكون ديمقراطيا كما أن الدولة التى هى أداة فى أيدى الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل لا مناص من أن يكون هذا المجتمع ديكتاتوريا ولا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعنى الديمقراطية من أسفل أو الديمقراطية ببساطة أدوات النضال التى صار الشعب يمتلكها، والحقوق والحريات التى انتزعها وصار يمارسها، والإطار العام الديمقراطى الذى صار يفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية من أسفل فى الأحزاب المتعددة المستقلة عن سلطة ونظام ودولة الطبقة الحاكمة، هذه الأحزاب التى تفرض التعددية الحقيقية على البلاد، وتتمثل فى النقابات العمالية والمهنية المستقلة التى تدافع بفعالية عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية فلا تمثل نفوذ السلطة الحاكمة على هذه الطبقات، وتتمثل فى مختلف أشكال جمعيات المنتجين الصغار واتحادات المستهلكين، وتتمثل فى الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التى تنتمى إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، وتتمثل فى استقلال القضاء والتحقيق الفعلى لكل المطالب العادلة للقضاء الجالس والقضاء الواقف وتمتع المواطنين جميعا بالتقاضى أمام قاضيهم الطبيعى بعيدا عن القضاء الاستثنائى والعسكرى، وتتمثل فى انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلى للحد الأدنى العادل للأجور المربوطة بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل وبدلات البطالة للعمال ولكل العاملين، ومثل التحقيق الفعلى لمطالب الفلاحين المتعلقة بالجوع إلى الأرض وبالأسعار المجزية وبمختلف صور تطوير نوعية حياة الفلاحين، ومثل التحقيق الفعلى للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة والتأمين الشامل وتطوير المستشفيات والحل الجذرى لمشكلات الأطباء وباقى العاملين فى المجال الطبى والصحى من حيث الأجور وتحسين شروط وأوضاع العمل، وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية من أسفل فى التطوير الجذرى للتعليم بكل مراحله وتحقيق مجانيته الكاملة وإنصاف المعلمين بمرتبات مجزية مربوطة مثل كل أجور العاملين فى البلاد بالأسعار، وتقتضى الديمقراطية من أسفل التحقيق الدستورى والفعلى للمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو المعتقد أو اللون أو الإثنية، وكذلك التحقيق الفعلى لتضمين كل الحقوق والحريات المنتزعة فى الدستور بصياغات واضحة قاطعة حاسمة لا يجرى تقييدها بقوانين، مع إعادة صياغة القوانين كإطار عام يعكس قدرة الديمقراطية من أسفل، عن طريق نضالاتها المتواصلة، على فرض السيادة الفعلية للقانون. وبالطبع فإن مهام خلق وحراسة الديمقراطية من أسفل ضخمة هائلة وهى تحتاج إلى كل طاقات الثورة التى لا ينبغى تبديدها فى سبيل پرلمانات ورئاسات عبثية أصلا ولا طائل تحتها. ومن البديهى أنه بقدر ما يتم النجاح فى إجبار السلطات المعنية الحالية والقادمة على التحقيق الفعلى لمطالب الثورة سيجرى تأمين أن تسير الحياة الطبيعية وكذلك الإنتاج وإعادة البناء بصورة طبيعية جنبا إلى جنب مع تطورات الثورة التى لا تريد الفوضى ولا تعمل على تعطيل الحياة بكل مقتضياتها وضروراتها بل تعمل على إنصاف الشعب من خلال انتزاع حقوقه وحرياته وأدوات نضاله فى سبيل التطلع ليس فقط إلى حياة كريمة بل كذلك إلى تصنيع البلاد وتحديثها على قدم وساق كشرط لإنقاذها من المصير البائس الذى ظلت تتجه إليه، مع العالم الثالث كله، بسرعة مخيفة وللتحقيق الفعلى للاستقلال الذى هو نقيض التبعية الحالية للرأسمالية العالمية. 24: ويتصور مناضلون أن النضال فى الثورة الراهنة ومن خلال الفعل الثورى فى سبيل الديمقراطية الشعبية تعنى النضال فى سبيل "سلطة" الديمقراطية الشعبية. وفيما يتعلق بى فإننى لا أتحدث عن هذه "السلطة" التى لا يمكن إلا أن تكون "من أعلى" بل أتحدث عن الديمقراطية الشعبية "من أسفل". وينظر مناضلون إلى أن "سلطة الديمقراطية الشعبية" ينبغى أن تكون الشعار الدعائى الناظم لنضالاتنا فى الثورة، أما أنا فأرى أن "الديمقراطية الشعبية" وليس "سلطتها" هى الشعار الدعائى الناظم. فالسلطة حتى كشعار دعائى تعنى هدفا قريبا نسبيا وهى تفترض قوة سياسية مادية منظمة تنمو بسرعة على الأرض، أما الحديث عن "السلطة" فى غياب ذلك فإنه يضعنا أمام شعار شعبوى مضلل يكتفى بترديد جملة ثورية هائمة فى عالم الأحلام. والحقيقة أن مثل هذا الشعار ضارّ بالثورة التى ينبغى أن تركز على التحقيق الفعلى لأهداف حقيقية تشير إليها نضالات فعلية راهنة وعلى الشعارات التى تسير بنا فى اتجاهها. إن السلطة قضية عسكرية وحربية تدخل فى مواجهة مع الطبقة الحاكمة أو تجبرها على الاستسلام حتى بدون الاستخدام الفعلى المباشر لهذه القوة. ولنفترض أن ثورة سياسية شعبية عفوية كثورتنا المصرية أو ثوراتنا العربية الراهنة استطاعت "بقدرة قادر" استلام السلطة السياسية فإن السؤال هو: ماذا ستصنع بها غير إعادة إنتاج نفس النظام الاستغلالى الفاسد الذى لا تدمره إلا الثورة الاشتراكية. وتمنعنا شوڤينية مستحكمة من إدراك أن قوانين الثورة فى سياق التبعية الاستعمارية فى العالم الثالث تنطبق على الثورة المصرية وكل الثورات العربية الراهنة. فأين فى العالم الثالث طوال تاريخه رأينا بلدا يشهد "سلطة الديمقراطية الشعبية" هذه؟! والحقيقة أننا أمام أحد أمرين: إما النضال المباشر من أجل أهدااف حقيقية مثل الديمقراطية الشعبية من أسفل حتى وإنْ عجزنا عن ترسيخها على المدى المتوسط والبعيد وعن البناء اللاحق على منجزاتها، وإما الترديد الشعبوى العفوى لشعارات فارغة جوفاء لكىْ لا يتهمنا أحد باليمينية بدلا من التمتع بالنظر إلى أنفسنا كثوريين! وبطبيعة الحال فإن تقدير أهداف الثورة بصور مبالغ فيها، وتعجُّل نتائجها، والإحباط فى لحظات هبوطها، والدوران حول الصراعات التى تدور بين قطاعات مختلفة للرأسمالية من أعلى بالمشاركة فيها بطريقة أو أخرى بدلا من التركيز على الفعل الثورى، وكذلك الحيرة أمام مشهد احتمال لا مبرر للمبالغة فيه وكأنه قدر محتوم وهو أن تؤدى هذه الجهود النضالية الخارقة للشعوب العربية فى بلدان الثورة ومعاناتها الهائلة إلى قيام جمهوريات عربية إسلامية ستكون بالضرورة أنظمة استغلالية فاسدة وديكتاتورية وعسكرية أكثر عتوًّا وجبروتا، تقود فى كثير من الأحيان إلى الاتجاه إلى ملاذات الشعارات الشعبوية دون التفكير حتى فى التحليل الملموس للوقائع المحدَّدة التى ترتكز عليها. 28 يوليو 2012
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قبل تشكيل حكومة هشام قنديل
-
أثبتت فحوصى الطبية الأخيرة خلوّ جسمى من سرطان الكبد (لطمأنة
...
-
احتمالات الصراع الحالى بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإ
...
-
ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى
-
ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول
-
هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
-
الانقلاب العسكرى المكمِّل
-
كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر
-
محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله وإلغاء الانتخابات ال
...
-
مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر
-
مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقرا
...
-
أساطير الجبال والغابات - برنار كلاﭭيل
-
هاجس الحرب الأهلية فى مصر
-
أساطير البحيرات والأنهار - برنار كلاڤيل
-
أضأل امرأة فى العالم - كلاريس ليسپكتور
-
أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مص
...
-
مقالات مترجمة فى الفن التشكيلى
-
أساطير البحر - برنار كلاڤيل
-
تسع قصائد للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
-
سبع قصائد لناظم حكمت
المزيد.....
-
العراق يعلن توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل وفقدان 5500
...
-
ما هي قوائم الإرهاب في مصر وكيف يتم إدراج الأشخاص عليها؟
-
حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على ق
...
-
نتنياهو يندد بعنف مستوطنين ضد الجيش الإسرائيلي بالضفة الغربي
...
-
اشتباكات عنيفة بين القوات الروسية وقوات كييف في مقاطعة خاركو
...
-
مولدوفا تؤكد استمرار علاقاتها مع الإمارات بعد مقتل حاخام إسر
...
-
بيدرسون: من الضروري منع جر سوريا للصراع
-
لندن.. رفض لإنكار الحكومة الإبادة في غزة
-
الرياض.. معرض بنان للحرف اليدوية
-
تل أبيب تتعرض لضربة صاروخية جديدة الآن.. مدن إسرائيلية تحت ن
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|