|
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المنظور الثقافي الاسلامي- عند الدكتور محمود الذوادي (1)
بيرم ناجي
الحوار المتمدن-العدد: 3801 - 2012 / 7 / 27 - 23:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إهداء إلى كل الذين يدافعون في نفس الوقت و بنفس القدر عن حريتي البحث العلمي و المعتقد الديني.
الفــهـــرس إهداء * مقدمة
الفصل الأول: نقد نداء الدكتور محمود الذوادي حول " ضرورة تأصيل علم الاجتماع العربي في صلب فكر مرجعيته الثقافية".
1-وضع المسألة : حول " مشروعية توطين علم الاجتماع العربي". 2- حول " حاجة علم الاجتماع إلى إبستمولوجيا جديدة". 3- حول " مساءلة سوسيولوجيا الرواد الغربيين المؤسسين". 4- حول " الدعوة إلى تأصيل إبستمولوجيا الفكر السوسيولوجي العربي". 5- حول " مكانة الثقافة في الفكر السوسيولوجي للرواد الثلاث". 6- حول " دراسة الثقافة برؤية الثقافة العربية الإسلامية". 7- حول " تجليات الجوانب الميتافيزيقية في الرموز الثقافية". 8- حول " مفهوم الروح الثقافية الرموزية ". 9- حول " علم اجتماع ميتافيزيقيا الرموز الثقافية". 10- حول الانسجام المزعوم مع علم الاجتماع النقدي. 11- حول" الأمة العربية وعصبيتها الثقافية".
الفصل الثاني : حول مقال " في أبجدية الرموز الثقافية؛ من أجل فهم أدقّ للقضايا الهامة":
1- حول "مشروعية البحث في الرموز الثقافية". 2 ـ في تعريف الإنسان و حول" المعالم الخمسة للرموز الثقافية". 3- حول " أمثلة ميدانية ".
الفصل الثالث : ملاحظات نقدية حول كتاب " التخلف الآخر..."
1- حول" الثقافة" و"الرموز الثقافية" و" لمساتها الميتافيزيقية". 2- في تعريف الإنسان. 3- في بعض مسائل العلم عموما وعلم الاجتماع تحديدا. 4- حول بعض القضايا العربية و المغاربية. 5- حول" التخلف الآخر" في تونس.
ـ ملحق؛ حول سوسيولوجيا الأسرة و المرأة.
الفصل الرابع؛ العبر غير العلمية من "عقل صاحب المبتدأ و الخبر".
1ـ حول مسألتي "الوحدة الابستيمولوجية " و "العقل و النقل". 2 ـ حول مفهوم العقل. 3 ـ حول "محدودية صدقية المعرفة البشرية". 4 ـ حول علاقة الإسلام بعلمي الأجنة و الفلك.
ـ ملحق؛ حول " حفريات في مفهوم التغير الاجتماعي عند ابن خلدون ".
الفصل الخامس؛ " الرؤية الإسلامية " للثقافة و اغترابها عن "منظور العلوم الاجتماعية". 1 ـ اعتراف. 2 ـ اعتراف ثان و مغالطتان. 3 ـ الدكتور يقدم فرضيته. 4 ـ القدرة التفسيرية للفرضية. 5 ـ حول ازدواجية الإنسان و المجتمع. 6 ـ حول ازدواجية الجسم و الروح. 7 ـ حول معنى الروح. 8 ـ المخ و العقل والروح. 9 ـ لماذا يعيش الإنسان طويلا ؟ 10 ـ أي الرموز الثقافية أهم عند الإنسان ؟ 11 ـ حول تعريف الثقافة. 12 ـ حول الثقافة و الحضارة. 13 ـ الإنسان لا يبدع الثقافة. 14 ـ الإنسان و الحرية. 15 ـ الحرية و التشابه مع الله. 16 ـ لماذا يخالف العلم الحديث الدين؟ 17 ـ المعرفة التي ما بعدها معرفة.
- قبل الخاتمة ؛ مقدمة قراءة انعكاسية لسوسيولوجيا الدكتور الذوادي .
*ّّ خاتمة ؛ نحو علم اجتماع تاريخي عربي.
2012 مقدمة
كان من المفترض أن يصدر هذا العمل منذ ثلاثة سنوات على الأقل لكن ذلك لم يحدث لأن الظروف وقتها حالت دون نشره. كنت أرغب في نشره في تونس- بلدي- لكن أفضل ناشرين كنت أنوي نشره عندهما رفضا ذلك. الأول لصعوبات مالية- هكذا كان رده - و الثاني أجابني بصراحة انه – يعتذر عن عدم قدرته على نشر مثل هذه الأعمال في تونس في الوقت الحاضر- و فهمت و قتها ان بن علي – الذي يتعرض الكتاب له – لن يسمح بالنشر حتى لو كان المحتوى العام للكتاب موجها لنقد باحث على مسافة من السلطة و تعرض هو نفسه لبعض المضايقات بسبب توجهاته الاسلامية. بعد ذلك حاولت النشر في دور لبنانية لكن أ حد الناشرين رفض بحجة ان الكتاب الأكاديمي لا يباع جيدا و الثاني رفض النشر دون توضيح السبب رغم اصراري على معرفته. تذكرت عبد الرحمان منيف عندما قال ذات يوم "ان مساحة الحرية المتوفرة في العالم العربي لا تسمح لكاتب واحد بالابداع" فصرفت النظرعن الموضوع حانقا ويائسا تقريبا. اليوم وبعدما وصل الاسلاميون الى السلطة و الباحث الذي انقد كتاباته قريب منهم سوف يكون من الصعب النشر في تونس وفي الوطن العربي لأن الأسباب و ان تغيرت فالى الأسوأ على ما يبدو.لذلك لم أبادر حتى الى اعادة الاتصال بمن رفض النشر سابقا. لكن وصول الاسلاميين الى السلطة جعلني أفكر من جديد في نشرالكتاب من جديد ولكن في الانترنات و عبرموقع " الحوار المتمدن" بالذات . يجد القارئ في الاعلى فهرسا عاما لكل اجزاء هذا العمل و ننبهه ان قائمة المصادر و المراجع و الملاحظات متواصلة بين جزء و آخر من 1 الى 71
لن أغير حرفا واحدا من الكتاب رغم انني لو أعدت قراءته لفعلت ذلك- بحكم تطور قراءاتي الشخصية على الأقل- لكنني سأتركه كما هو كشهادة تاريخية لي و لغيري. ان المحتوى الذي يتضمنه هذا العمل يعكس مرحلة ما في البلاد و في شخصيا و هو بالتأكيد يستحق المراجعة و التطوير و التحيين على الأقل لمتابعة تطور أعمال الدكتور محمود الذوادي الذي – والحق يقال- يراوح مكانه منذ سنوات فلا يفعل الا تكرار نفسه تقريبا. ان الأفكار الواردة هنا قد تساعد على فتح حوار ما – أتمناه جديا- حول علاقة العلوم الاجتماعية - بل و العلم عموما- بالاسلام . و لعمري ان الحوار حول هذا قد يصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة للعلم و للدين و لشعوبنا بأكملها.
2012
مقدمة 2009
هل يمكن المطالبة بأسلمة علم الاجتماع ، أو أي علم اجتماعي أو انساني آخر؟ هنالك اجابتان عن هذا السؤال في الوقت الحاضر: الاسلاميون يقولون نعم ويذهب بعضهم بعيدا بالقول بوجوب أسلمة العلوم الطبيعية نفسها . اما العلمانيون ، بتياراتهم المختلفة ، فيرفضون ذلك و يعتقدون ان العلم كوني و ليس مطلوبا من المشتغلين فيه الباسه أي لبوس ديني أو قومي أو ثقافي أو غيره و هذا ما نعتقده و سندافع عنه في هذا العمل. من المدافعين عن أسلمة علم الاجتماع نجد عندنا في تونس الدكتور محمود الذوادي الذي يقدم ما يعتقده أنه " باراديغم " اسلامي للعلوم الاجتماعية مناقض لما يسميه المنظور الغربي . نشر الدّكتور محمود الذوّادي، من قسم علم الاجتماع بالجامعة التونسية، في نفس الفترة مقالين "تأسيسيين " في مجلتّي "عالم الفكر " الكويتية و " الآداب " اللبنانية، المقال الأول عنوانه " نداء حول ضرورة تأصيل علم الاجتماع العربي في صلب فكر مرجعيّته الثقافية « (م 1) والثاني عنوانه " في أبجدّية الرّموز الثقافية، من أجل تفسير أدقّ للقضايا الهامّة « (م2) (سنستعمل إشارات م1، م2،، للإشارة إلى المصادر و المراجع و الملاحظات آخر الكتاب لتفريقها عن الصفحات (ص) وذلك لكثرة الاقتباسات) ويعتبر الدّكتور بحثيه بمثابة نداء من أجل البدء ببحث علمي" أساسي" جديد في علم الاجتماع يفكّ شفرة " الرّموز الثقافية ّ من أجل " تأصيل" علم الاجتماع العربي في" الثقافة الإسلامية العربيّة ".
وبعد دراسة دقيقة للبحثين تبينّ لنا أنّ أطروحات الدّكتور هي بالضّبط، وفي كل تفاصيلها، ما لا يجب أن يكون عليه علم الاجتماع عموما وعلم الاجتماع العربي تحديدا، سواء على المستوى النظري أو التّطبيقي.
إنّنا وصلنا، بعد دراسة البحثين، ثم بعد تناول كتاباته الأخرى السابقة و اللاحقة، إلى أن أطروحات الدّكتور محمود الذوّادي، تعتبر تّراجعا، ليس فقط عن منجزات علم الاجتماع الحديث والمعاصر، بل وحتى عن بعض منجزات علم العمران الخلد وني في وقت يتطلّع فيه الفكر العلمي العربي إلى إحداث نقلة نوعية إلى الأمام لمجابهة واقع تردّي البحث العلمي عندنا وواقع المجتمعات العربيّة التي" تزداد تأخرا"، في ظلّ العولمة، بينما العالم يحققّ واحدة من أعظم ثوراته العلمية والتقنية، ويفرض علينا، إذا أردنا التقدّم، أن ننظر إلى الأمام، وأن نستفيد، في نفس الوقت، من كلّ ما راكمته الأجيال السّابقة من علماء الاجتماع، وكافة العلماء عموما.
و بسبب إحساسنا بخطورة هذا التراجع الخطير فإنّنا سنتتبّع أطروحات الدّكتور بالتحليل وخاصّة بالنّقد في كلّ فكرة وكلّ فقرة كتبها تقريبا ولذلك نرجو تنبيه القارئ إلى نقطتين قبل قراءة هذه الدّراسة:
الأولى : سيلاحظ القارئ المسار الخطّي للدّراسة، خاصة في فصولها الأولى، إذ فضّلنا تتبّع بحثي الدّكتور والردّ على كلّ أفكاره تقريبا.
الثانية: كما سيلاحظ الطّابع السّجالي للدّراسة، الذي فرضه علينا إحساسنا بأنّ كلّ ما قدّمه الدّكتور يتطلب ردّا فوريّا.
نرجو ألاّ يكون الطّابعان الخّطي و السّجالي قد أضرّا بالأفكار الأساسية التي نريد تقديمها في الفصلين الأولين من هذا العمل خاصة، حيث سنركّز على مقاليه المذكورين سابقا باعتبارهما آخر ما وصل إليه الدّكتور من نتائج حول " علم اجتماع الرّموز الثقافية ". أمّا في الفصل الثالث فسنتعرّض خاصة إلى كتابه " التخلّف الآخر..." الذي جمع فيه أهمّ ما نشره سابقا حول علم الاجتماع الثقافي، وذلك من 1975 حتى 2002. بعد ذلك سوف ندرس المقالات التي نشرها بمناسبة الذكرى المئوية السادسة لرحيل ابن خلدون ثم نختم بالتعرض لأهم كتبه حول ما سماه " المنظور الثقافي الإسلامي ".
إن هذا العمل ليس دراسة في علم اجتماع الإسلام ولا هو دراسة في النظريات السوسيولوجية التي اهتمت بالدين الإسلامي. إن هدفه ليس التصدي لهاتين المهمتين رغم أنه قد يساعد، جزئيا، على إنجازهما.
إن الهدف من العمل الحالي هو بالتحديد نقد الدعوة، التي وجهها الدكتور محمود الذوا دي ، إلى " تأ صيل علم الاجتماع العربي" في الثقافة " الإسلامية العربية" انطلاقا مما سماه " الابستمولوجيا القرآنية " و من أجل تأسيس " باراديغم جديد" إسلامي. إنه أقرب إلى ما يسمى بالدراسات الإبستمولوجية للعلوم الاجتماعية عموما، وهو تحديدا يرتبط بعلم الاجتماع، و خاصة علم الاجتماع الثقافي، في الوطن العربي.
إننا نعتبر أن سوسيولوجيا الدكتور محمود الذوادي تمثل تراجعا عن أغلب أبجديات علم الاجتماع، لذلك فهذا العمل هو دفاع عن القواسم المشتركة الكبرى بين بعض أهم مدارس علم الاجتماع الحديث والمعاصر. وهو لا يعلن تبني مدرسة بعينها( رغم أنه قد يتخذ بعض المواقف من بعض تلك المدارس مساندة أو نقدا) و لا يقترح منظورا جديدا، فهدفنا منه هو الدفاع عن تنوع العقل السوسيولوجي أكثر من أي شيء آخر.
إننا نأخذ أيضا من محاولة الدكتور محمود الذوادي مثالا للتحذير من كل محاولة شبيهة موجودة أو قد توجد في المستقبل. فالمهم بالنسبة إلينا، إضافة إلى تفنيد أطروحات الدكتور، هو تحذير علماء الاجتماع العرب من خطورة محاولات كهذه على علمهم الاجتماعي عموما وعلى طريقة تناولهم العلمية للدين خصوصا.
إن هذا العمل ليس دعوة لتصحيح إيمان علماء الاجتماع العرب بإسلامهم، أو مسيحيتهم أو إلحادهم. إنه دعوة إلى الحياد العلمي العلماني، احتراما للمعتقدات الشخصية لكل عالم اجتماع، وكل إنسان، و دفاعا عن علم الاجتماع، موضوعا ومناهج وأهدافا، بوصفه ممارسة علمية، نظرية وميدانية، تختلف عن الدين أو قل عن " البحث الديني" في المجتمع والدين، اختلافا كبيرا ويستحيل تأصيلها في أي دين بما في ذلك الإسلام، بسبب اختلاف الخطابين اختلافا كبيرا. إننا نعتقد إن أية محاولة من هذا النوع سوف تؤدي، على الأرجح إلى استئصال العلم من المجتمع و ليس تأصيله داخله. إن الفكرة الأساسية التي توجهنا في هذا العمل هي أن البحث العلمي عموما، و بالتالي السوسيولوجي أيضا، لا يجب أن يكون خاضعا للتفكير الديني بسبب اختلاف الحقلين العلمي و الديني اختلافا كبيرا. إن خضوع العلم للدين، بما في ذلك الدين الإسلامي، سوف يؤدي إلى خنقه و تحويله إلى خطاب غير علمي و ذلك لأن الإيمان الديني سيعوض الشك العلمي و الاعتقاد سيعوض البحث العلمي و المطلق الديني سيعوض النسبي في العلم و الانغلاق الديني سيعوض الانفتاح العلمي...الخ .
إننا نقول باستحالة، و ننبه إلى ضرر، تأصيل العلم داخل التفكير الديني دون أن ننفي بذلك أن المؤمنين يمكنهم، وهم يفعلون ذلك دائما، ممارسة البحث العلمي و الاستفادة من العلم. لكنهم لا يفعلون ذلك بشكل جيد، مثلهم مثل الملا حدة أحيانا، إلا إذا فصلوا، و لو إجرائيا، معتقدهم الديني عن البحث العلمي. أما في حالة العكس فالأرجح أنهم سيسيئون إلى العلم والدين في نفس الوقت.
إن الخلط بين العلم و الدين يؤدي على الأرجح إلى واحد من أمرين، أو إلى كليهما معا، إما تحنيط العلم و قمعه و لجم تقدمه خوفا على المعتقد الديني أو إلى تحنيط الدين نفسه بادعاء تطابقه التام مع مستوى معين من تقدم المعرفة العلمية، و في الحالتين سيؤدي الأمر إلى الإضرار بالبحث العلمي من ناحية و بالاجتهاد و الإصلاح الدينيين من ناحية ثانية. إن هدف هذا العمل هو بالتالي الدعوة إلى تدعيم الوعي بأهمية و ضرورة صياغة أفضل العلاقات الممكنة بين البحث العلمي و المعتقد الديني عندنا. وان أفضل علاقة ممكنة تساعد البحث العلمي على التطور بين صفوفنا هي تلك التي ترسم حدودا إجرائية و منهجية بين العلم و الدين تضمن في نفس الوقت إطلاق حرية البحث العلمي من قيودها وتسمح بحرية المعتقد الديني بحيث لا يبقى أي مجال لعرقلة البحث العلمي بأية حجة دينية و لا للإساءة إلى المعتقد الديني بأية حجة علمية.
نرجو أن يساهم هذا العمل، رغم نقائصه الأكيدة، في فتح حوار علمي حول تجديد علم الاجتماع العربي عموما، وحول تجديد علاقة هذا العلم بالدين الإسلامي تحديدا. و رغم حساسية التطرق لهذا الأمر لأسباب سياسية و دينية معروفة من الجميع، نرجو أن تبقى التفاعلات معه علمية و أن لا تنحدر إلى مستوياتها البدائية من الإقصاء الفكري أو العملي الذي يمارسه المتطرفون الدينيون و العلمانيون على السواء، هؤلاء باسم الله و أولئك باسم العلم.
إن التطرف الديني يؤدي بالضرورة إلى الإضرار بالحرية العلمية أما التطرف العلماني فيؤدي بالضرورة إلى الإضرار بالحرية الدينية، و في الحالتين هنالك إضرار بالإنسان و بجوانب هامة من ثقافة المجتمع قد تصل إلى إعدام العلم باسم المحافظة على الدين أو إلى العدمية الثقافية، و الدين جزء من ثقافة المجتمع، باسم العلم. إن مجتمعاتنا في حاجة إلى عكس ذلك تماما كما تدل عليه التجربة الإنسانية، و درسا سقوط الاشتراكية الماركسية و "أزمة ما بعد الحداثة " خير شاهد في الغرب، و كما تبينه حياتنا العربية الفكرية و الاجتماعية و السياسية الراهنة التي وصلت إلى هاوية الصراع الديني والطائفي و المذهبي بعد مرارة التجارب الوطنية و القومية و اليسارية و الإسلامية التي غيبت جميعها الإنسان الذي لا بد له من إعادة البحث عن معنى جديد لإنسانيته على أنقاض الخراب و البربرية.
في الأخير، نرجو من القارئ أن ينتبه إلى النقاط التالية تجنبا لأي سوء فهم لم نقصده بالمرة من خلال هذا العمل؛ أولا، نرجو أن لا تفهم الحدة التي قد يتميز بها السجال الدائر في هذا العمل على أنها تهدف إلى الإساءة إلى شخص الدكتور محمود الذوادي بأي وجه من الوجوه، بالعكس تماما فنحن مدينون له لأنه دفعنا إلى الكتابة من خلال أعماله المختلفة إذ هو بعض أنشط من يكتب من الباحثين الاجتماعيين في تونس في السنوات الأخيرة.
ثانيا، نرجو أن لا يفهم دفاعنا عن العلم، كما نراه، ضد تصور الدكتور الذوادي في الموضوع، على أنه دعوة لإسكات الرجل عن حقه في التعبير عن تصوراته كما يحصل أحيانا باسم الدين أو باسم العلمانية الاستبدادية.
ثالثا، نرجو أن لا يفهم حوارنا الديني مع الدكتور على أنه محاولة في الدفاع عن " الدين الصحيح " ضد " أخطاء دينية " يقترفها الدكتور. إننا لم نناقش بعض المسائل الدينية مع الدكتور إلا بهدف واحد وهو إظهار تعدد القراءات و التفاسير و التأويلات التي لا نرى أنه من مهمة البحث العلمي أن يساند بعضها ضد الآخر فجميعها مخالفة للعلم الحديث . إن دخول العلم هذا المربع سوف يجعله خطابا دوغمائيا مثله مثل الخطاب الإيماني الديني المتشدد.
رابعا ، إننا تعمدنا أحيانا في متن الكتاب ما يمكن أن يسمى " الدفاع عن الشيطان " في علاقة بالدفاع عن الوضعية أو غيرها من النظريات الأخرى لأن الدكتور بتشدده ضدها يضر ببعض أسس العلم العامة، لكن القارىء سيلاحظ ، في خاتمة هذا العمل خاصة ، تدويرا نسبيا لبعض الزوايا حرصا منا على تجنب الأحادية المنهجية و النظرية التي كثيرا ما أضرت بالتفكير العلمي.
خامسا، سيلاحظ القارىء تفككا نسبيا بين بعض فصول هذا الكتاب و تكرارا جزئيا، و نود أن نوضح أن ذلك مرده كوننا كنا في البداية نعتزم نشر دراسات منفصلة حول أعمال الدكتور ثم قررنا لاحقا إصدارها في كتاب واحد، فنرجو المعذرة على ذلك. الفصل الأول؛ نقد نداء الدكتور محمود الذوادي "حول ضرورة تأصيل علم الاجتماع العربي في صلب فكر مرجعيته الثقافية"
1: وضع المسألة: حول " مشروعيّة توطين علم الاجتماع العربي ".
عندما نقرا عنوان البحث:" نداء حول ضرورة تأصيل علم الاجتماع في صلب فكر مرجعّيته الثقافية " ثم عنوان العنصر الأوّل " مشروعية توطين علم الاجتماع العربي " نلاحظ منذ البداية اهتزازا في طريقة وضع المسألة، فطورا هنالك نداء من أجل "تأصيل" علم الاجتماع في "مرجعّيته الثقافيّة " وتارة حديث حول "توطين " ذلك العلم.
إنّ هنالك فرقا مهمّا بين "التأصيل" و "التوطين " وإن استعمال العبارتين في نفس السّياق يدل على تردّد الدّكتور محمود الذوّادي بين أمرين، الأول هو الاعتراف بوجود علم اجتماع في الوطن العربي والدعوة لتأصيله، والثاني هو اعتبار علم الاجتماع علما غربيّا، وبالتالي الدّعوة إلى " توطينه ". وعلى العموم يمكن تفهم هذا الأمر بسبب الوضعيّة الرديئة لهذا العلم، كبقية العلوم، في وطننا. لكن، وهذا ما يعنينا بالدّرجة الأولى، يعتبر هذا النداء إلى " التأصيل " أو " التوطين " " في صلب فكر مرجعيّته الثقافيّة " نداء معارضا لروح الفكر العلمي لأن العلم، حتى لو كان " علم الاجتماع "، يتراجع عن علمّيته إذا انغلق في " صلب فكر مرجعيتّه الثقافيّة ". ولعلّ هذا الأمر هو الذي أوصل علم الاجتماع الغربي إلى "ا لمركزية الأوروبية الثقافيّة ". وإذا كان عالم الاجتماع العربي يريد تطوير علم الاجتماع العربي (وليس تأصيله أو توطينه)، فعليه أن يتجنّب بالضبط تكرار نفس الخطأ الذي عرفته العلوم الإنسانية والاجتماعية في الغرب. أمّا إذا نادى بالتأصيل والتوطين، فلعله يردّ الفعل عكسيّا، ويدعو إلى "مركزية ثقافية إسلامية عربيّة " عوض العمل على أنسنة العلوم التي يفترض أنّها تتميّز بخاصية الكونية .
عندما يعرّف الدّكتور محمود الذوّادي " مشروعية توطين علم الاجتماع العربي "، يقدم فكرتين أساسيتين:" من ناحية، من واقع المجتمعات العربية، ومن الرؤية المعرفيّة (الإبستمولوجيا) للثقافة الإسلامية العربيّة، من ناحية أخرى، أي أن تكون فرضيات ومناهج و نطريّات هذا الفكر السوسيولوجي العربي حصيلة لتعامل عالم الاجتماع العربي مع معطيات النسيج المجتمعي والحياة الاجتماعية في مجتمعات الوطن العربي، ومرآة عاكسة في الوقت نفسه لصلب الرؤية المعرفية للثقافة الإسلاميّة العربية ".(ص33)
إذن، الفكرة الأولى هي تعامل عالم الاجتماع مع معطيات مجتمعاته أما الثانية فهي أن يكون علم الاجتماع العربي " مرآة عاكسة-لصلب الرؤية المعرفية للثقافة الإسلامية العربيّة " لنر الآن، كيف يحلل الدّكتور الذوّادي الفكرتين:
الفكرة الأولى: إنّ مادّة البحث السوسيولوجي متوافرة بغزارة في المجتمعات العربيّة من الخليج إلى المحيط (ص34-33) وهذا أمر طبيعي في كل مجتمع في العالم وليست هنالك خصوصية عربيّة. لكن الأهم من هذا، عندما نريد الحديث عن تطوير علم الاجتماع، لا يكفي الحديث عن " مادة البحث " بل البحث نفسه و عن الباحثين. وفي هذا الصّدد يعيد علينا الدكتور الذوّادي فكرة قديمة لجاك بيرك مفادها أن المجتمعات العربية هي مجتمعات "ضعيفة الدراسة Sociétés sous étudiées " " عندما يقول "...إن المجتمعات العربيّة تشكو من تخلّف كبير في الدّراسات السوسيولوجيّة..." (ص34)
قد تبدو هذه الفكرة بديهيّة للوهلة الأولى، لكن يبدو لنا أنّه من الضروري تنسيبها قليلا للإشارة إلى " تخلّف آخر"، لا يتعلّق بالباحثين أ نفسهم، بل بالدولة والمؤسسة الجامعية وقطاع النشر...فهنالك آلاف الأطروحات في كل بلد عربي حول المجتمعات العربية لكن لا أحد ينشرها وتترك للفئران الحيوانية والبشرية تقرضها وتنسخها وتهرّبها من بين رفوف مكتباتنا الجامعيّة.
الفكرة الثانية : حول ضرورة الانطلاق من " الرؤية المعرفية للثقافة العربيّة الإسلامية " يبدأها الدكتور الذوّادي، ربطا مع الفكرة الأولى، بالحديث عن عبد الرحمان بن خلدون. يقول :" إنّ ابن خلدون، العالم العربي المسلم، مثال متميز على مقدرة الباحث العربي على دراسة المجتمعات العربية الإسلامية باستقلالية منهجيّة وفكريّة استقاها إبستمولوجيا وميدانيّا من محيطه العربي الإسلامي..." (ص34). ووضح لنا الدكتور الذوادي كيف أن ذلك الأمر ساعد على " تأسيس علم جديد هو علم العمران البشري" لكن، تناسى الدكتور الذوادي أمرا يعرفه حتى تلاميذ الصفوف الأولى من التعليم، هذا الأمر يعترف به ابن خلدون نفسه، وهو تأثر ابن خلدون بالفلسفة اليونانيّة. فالرجل يعترف بفضل من سمّاهم " الحكماء " عليه في اكتشافه لفكرة " الاجتماع الإنساني الضّروري " و " الإنسان المدني بطبعه " وغيرها من الأفكار، بينما الدكتور الذوّادي يصرّ على اعتبار مثال ابن خلدون دليلا على " شرعية رفض علماء الاجتماع العرب اليوم للتبعية العمياء للكثير من الرؤى المعرفية والنظريات والمفاهيم...للفكر السوسيولوجي الغربي المعاصر..." (ص34).
إذا كان الأمر يقف عند حدود رفض " التبعية العمياء " فقط، فلن يختلف اثنان حوله، ولكن، إذا تجاوز ذلك إلى رفض شبه كلّي لمنجزات " علم الاجتماع الغربي " ودعوة إلى التقوقع حول الذات " ابستمولوجيا وميدانيا " فانه ينذر بخطر علمي كبير، قد يحوّل الدّعوة إلى " توطين " أو تأصيل " علم الاجتماع إلى ما يشبه " الأصولية السوسيولوحيّة " التي تسير جنبا إلى جنب مع الأصوليات الدّينية والسياسيّة. وإنّ هذه الفرضيّة هي ما سنبحثه بالأساس في هذا الجزء. وحتى نتجنّب التسرّع، نترك الدكتور الذوّادي يوّضح الأمر: " نحن نرى أنّ للفكر السوسيولوجي العربي الحق في إرساء نفسه على رؤية معرفية مستقاة من الثقافة الرئيسية لمجتمعات الوطن العربي، وهي بلا شكّ الثقافة الإسلامية العربيّة (...) وممّا لا ريب فيه أنّ في ذلك جانبا تاصيليا مهمّا للمعرفة السوسيولوجيّة بالوطن العربي، لا يقل أهميّة عن عروبة وإسلاميّة القضايا والظّواهر التي ينبغي أن تكون لها الأولوية في دراسات علماء الاجتماع العرب." (ص34)
و الهدف من هذا التوّجه هو تحسين " استقلالية علم الاجتماع العربي على المستوى الفكري. وهذا أمر جدّ مهم بالنسبة إلى كسب رهان مصداقية بناء صروح العلوم والمعارف البشريّة...خاصّة وأن الفكر السوسيولوجي الغربي هو نفسه في أزمة وهو نفسه "يطرح قضيّة إبستمولوجيا الفكر السوسيولوجي الغربي كأحد العوامل الرئيسيّة المتسببة في الأزمة المتواصلة التي يعيشها علم الاجتماع الغربي." (ص34)
إذا، هنالك أربعة أفكار أساسيّة لابدّ من التعرض إليها وهي: - الفكر السوسيولوجي العربي لابدّ أن ينطلق من الثقافة الإسلاميّة العربيّة. - أولوية دراسة القضايا والظواهر الإسلامية العربيّة. - استقلالية علم الاجتماع العربي ومصداقيّة بناء صرح العلوم والمعارف البشريّة. - الأزمة المتواصلة لعلم الاجتماع الغربي نفسه.
أولا : هل من المشروع لفكر علمي أن ينطلق من ثقافة خاصّة ؟ ألا يتميز الفكر العلمي عموما (والسوسيولوجي أيضا) بأنه فكر إنساني يبحث في قوانين الظواهر العامّة، سواء في الطبيعة أو المجتمع، مع النظر ألي خصوصيّات تحقق تلك القوانين هنا أو هناك ؟
صحيح أن العلوم الإنسانية والاجتماعية لها ميزاتها الخاصة، لكن تلك الميزات التي تأسرها ضمن " ثقافة خاصة " هي بالذّات ما يعيقها عن التحوّل إلى علوم تتصف بالكونيّة.
صحيح أيضا أن على عالم الاجتماع أن ينطلق من مجتمعه، لكن ذلك لا يعني تحويل العلوم إلى " مرآة عاكسة "( ص (33 لابستمولوجيا ثقافة خاصة هي في حالتنا " الثقافة الإسلامية العربيّة " ولا يعني ذلك أن دراسة "ظواهر وقضايا" عالميّة يؤذي البحث في " القضايا والظواهر المجتمعيّة " ا لخاصة. إنّ تداخل المجتمعات والثقافات وترابطهما يفرضان العكس تماما. و نعتقد أن الأبحاث والعلوم الإنسانية والاجتماعية كانت في كل مراحل تاريخها إنسانية، متفتحة على ثقافات الشعوب الأخرى من حيث "الإبستمولوجيا" و "القضايا والظّواهر"معا.
إنّ الفكر العلمي هو قاسم مشترك بين كل المجتمعات على اختلاف ثقافاتها، وإن التصّورات "العلميّة" التي انطلقت، أو تريد أن تنطلق من خصوصيات ثقافيّة هي تصوّرات " مركزية ثقافية "، سواء وجدت عند الثقافات المسيطرة أو المغلوبة. وإذا كنا نعيب على علماء الاجتماع الغربيين مركزيتهم الثقافية، فعلى علماء الاجتماع العرب ألا "يعكسوا الآية"، بل أن يدافعوا عن إنسانيتهم العلمية، وعن قوميتهم الثقافية النيرّة في نفس الوقت والا فإننا سنبرر غدا وجود علم اجتماع عربي إسلامي وآخر إحيائي-إفريقي وآخر مسيحي غربي (أرثوذكسي روسي- بروتستانتي ألماني- كاثوليكي فرنسي...) و آخر يهودي – إسرائيلي وآخر بوذي أو هندوسي أو سيخي...ونصل، ليس فقط إلى " صراع الحضارات " بل إلى " صراع العلوم " !!!.
ثانيا: حول أولويّة دراسة القضايا والظّواهر الإسلامية العربيّة.
إنّ هذه الفكرة هي في نفس الوقت ردّة فعل على المركزية الثقافيّة الأوروبية ولكن، كذلك على علم الاجتماع " غير الثقافي ". إنّ مشروع الدّكتور الذوّادي، كما سنرى لاحقا، يعطي الصّدارة لعلم الاجتماع الثقافي، وكأنه يريد أن يحوّل أنظار علماء الاجتماع العرب عن الدراسات السوسيولوجيّة الاقتصادية أو السياسية أو القانونية...مثلا.
إن إعطاء الأولويّة للقضايا والظواهر " الإسلامية العربيّة " يغفل أيضا القضايا والظواهر " المسيحية العربية " أو" الإسلامية الكردية " أو الإسلامية البربرية " أو الإحيائية و المسيحية السوداء " أو غيرها من القضايا والظواهر التي لابدّ من إعطائها من الأهمية ما تستحقه، مثلها مثل الأخرى.
إن مشروع الدّكتور محمود الذوّادي قد ينحرف بالبحث السوسيولوجي العربي إلى نزعة عروبية واسلامويّة لا علاقة لها، ليس فقط بالبحث العلمي عموما من حيث طابعها الديني الثقافوي، بل كذلك بالقضايا - أو ببعضها على الأقل – "الجوهريّة" للوطن العربي اليوم، سواء في علاقاته بالعالم أو بمكوّناته المتعدّدة والمتنوعة في الداّخل، هذا، إضافة الى تحويل مبالغ فيه، يكرّر، ولكن يقلب، أخطاء قديمة تم فيها التركيز فقط على الدراسات الاقتصادية أو التنمويّة أو غيرها. لكن الأمر لا يعني أن علم الاجتماع لا يهتم بالقضايا العربية.
ثالثا: حول استقلالية علم الاجتماع العربي كشرط للمصداقية العلّمية.
يطرح الدكتور الذوّادي ضرورة استقلالية "ابستمولوجيّة " عن علم الاجتماع الغربي بعد طرح " استقلالية ميدانية " تتعلق بالظواهر والقضايا صاحبة الأولوية في الدراسة. إن مطلب الاستقلالية الابستمولوجيّة هو حسب رأينا مطلب غير علمي سواء تعلّق الأمر بعلم الاجتماع الغربي أو البرازيلي أو الهندي أو غيره. إنّ المطلوب هو إعادة توحيد ابستمولوجيّة مشتركة على أساس علمي موضوعي و إنساني وليس على أساس خصوصي إسلامي عربي. إنّه من الغريب تماما ان يطالب عالم اجتماع " بالاستقلال الابستمولوجي " كما يطالب رجل السياسة بالاستقلال السياسي أو كما يطالب رجل الدّين بالحفاظ على الهوية الدّينية.
إنّ الأساس الابستمولوجي لعلم من العلوم لا يمكن إلا أن يكون – أو يجب أن يكون – إنسانيا مشتركا. لكن الاشتراك الإنساني العلمي لا يجب أن يعني عولمة " نموذج ثقافي " خصوصي، سواء كان غربيا أو شرقيا فإذا كانت العلوم الإنسانية الغربية، رغم إسهاماتها الجبارة، قد سقطت، أو سقط بعض أعلامها، في مركزية ثقافية فإن على علماء الاجتماع العرب اليوم أن يدفعوا باتجاه تخليص تلك العلوم من مركزيتها وليس بناء مركزية خاصّة بنا تعيد تكرار نفس الأخطاء.
إنّ المصداقية العلمية مصداقية كونية إنسانية أو لا تكون، إنّها لا يمكن أبدا أن تكون دينية – قومية، " إسلامية – عربية ". مثلما ثبت أنها لم تكن أبدا مصداقية هندو-أروبية أو يهودية-مسيحية أو أي شئ آخر. وأنّه من غير المبرّر علميا أن نستغل " أزمة علم الاجتماع الغربي " لطرح المسألة بهذه الطريقة دون أن ينفى دلك طبعا إمكانية إنتاج مفاهيم خاصة بالمجتمع العربي لأن الكوني لا يتناقض مع الخصوصي بل يتطلبه .
رابعا: حول الأزمة المتواصلة لعلم الاجتماع الغربي:
ماذا يعني أن يكون علم الاجتماع الغربي في أزمة ؟ هل يعني مشاركة عالم الاجتماع العربي في حلّ هذه الأزمة، وهي إمكانية واردة بحكم التحوّلات المعرفية الكبرى التي تحدث الآن في العالم، أم دعوته لعلم اجتماع شرقي ؟
لقد ظل علم الاجتماع الغربي في أزمة لأنه، من بين أسباب أخرى، ظلّ غربيّا، فهل أن حلّ أزمة علم الاجتماع تكون بتحويله إلى علم اجتماع شرقي ؟
هل عدنا إلى الثنائية القديمة بين الشرق الحكيم والغرب المادّي – العلماني...؟
إن تواصل أزمة علم الاجتماع الغربي، التي نبالغ فيها نحن العرب أحيانا لإرضاء أنفسنا، مثلها مثل أزمة المجتمع الغربي، تستعمل مطيّة مع الأسف للتنكر لكل المكتسبات الاجتماعية والعلمية التي تحققت هنالك وللدّعوة لنوع من العدمية العلمية تجاه تراث علم الاجتماع ونوع من " الأصولية العلميّة " التي تتزاوج مع الأصولية الاجتماعية-السياسية. إننّا لم نستوعب، على ما يبدو، إلى اليوم كون أزمات الغرب الاجتماعية والعلمية على السواء، هي أزمات تقدّم بينما أزمتنا هي أزمة تخلف. إن البعض منّا يسعد لتأزم المجتمعات أو العلوم الغربيّة ليدعونا إلى نكوص اجتماعي وعلمي بينما المطلوب، اجتماعيا وعلميا هو الاستفادة من التقدّم ونقد سلبياته الرّاجعة إلى سيطرة رأس المال، وكذلك النزعات الاستعمارية،،، على العلاقات الاجتماعية وعلى البحث العلمي في نفس الوقت.
إن أزمة علم الاجتماع الغربي لا تقاس بأزمة علم الاجتماع العربي، فيا ليت أزمتنا مثل أزمتهم. إننا أحيانا نتمنى أن نجد في مكتباتنا الوطنية فقط بعضا من أهم أعمالهم العلمية، ناهيك عن مكتباتنا الجامعية أو الخاصة.
كما إنّ حرية البحث العلمي والأكاديمي عندنا، كما يقال، لا تكفي، أحيانا، مبدعا واحدا للعمل بحريّة. إنّ الفقر الرهيب الذي يعاني منه الباحثون ومراكز البحث (إن وجدت) تعرقل القيام بأبسط البحوث الميدانية.
إنّ أزمة علم الاجتماع الغربي، هي أزمة تقدّم، إنّها أزمة وفرة وتخمة معرفيّة بينما نحن نعاني من الجوع المعرفي والقرف من المعرفة، بسبب كل أنواع الظروف المالية والمؤسساتيّة والسياسية والتربويّة وغيرها. فرجاءا، لا تتحججوا بأزمة علم الاجتماع الغربي لجرّنا باتجاه الجهل والتعصّب وأدخلونا في أزمات مثل أزماتهم، سنتقدّم عندها بكل تأكيد.
إنّ أزمة علم الاجتماع الغربي، على الأقل، هي أزمة يعترف بها أصحابها ويحاولون حلّها ويوفرون لحلها "كل" الإمكانيات المالية والبشريّة... أما أزمتنا، فهي على ما يبدو في عدم اعترافنا بأننا في أزمة، أو بتوهّمنا في أن حلّها، إن اعترفنا بوجودها، يكمن في ماض سعيد اجتماعيا وعلميّا ولذلك، يطرح علينا السياسيون " أصولية سياسيّة " والعلماء " تأصيلا " للعلوم في " عصبيتّنا الثقافية ".
2 : حول " حاجة علم الاجتماع إلى ابستمولوجيا جديدة "
في هذه الفقرة – الأطروحة من نداء الدكتور محمود الذوّادي، نجده يختفي تقريبا وراء إمّانويل فالرشتاين رئيس الجمعية العالمية لعلم الاجتماع لتبرير دعوته إلى " ابستمولوجيا جديدة " حتى أن الفقرة الثانية هذه تحتوي على استشهاد من فالرشتاين يحتل ثلاثة عشر سطرا، من ضمن تسعة عشر هي كامل الفقرة، مع مجرّد تقديم لها. فما هي أفكار فالرشتاين وكيف يقدّمها لنا الدّكتور محمود الذوّادي ضمن نداء حول " تأصيل علم الاجتماع العربي " ؟ يدعو فالرشتاين إلى ضرورة تجاوز ميكانيكا نيوتن كنموذج ابستمولوجي ويدعو، على أعقاب إيليا بريجوجين الى نقطتين: الأولى: النظر إلى العمليات الطبيعية كعمليات ابتكار وإبداع مثل "الابتكار والإبداع الإنساني" فهي لم تعد تخضع لمنطق الحتمية التقليدي بل بها جانب احتمالي… الثانية: الدّعوة إلى اعتماد الواقعية التي عبّر عنها فيبر بالنّظر إلى الظوّاهر الاجتماعية على أنّها حصيلة لعوامل متعدّدة وتجنب "الحتمية الضيقّة ".
إنّنا نساند الدكتور الذوّادي في الدعوة التي وجهها إلى علماء الاجتماع العرب بضرورة الاستفادة من دعوة إ. فالرشتاين. لكن الغريب هو أن الطريقة التي قدّم بها الدّكتور الذوّداي لنداء فالرشتاين مخالفة تماما لفكرة الرجل :
يقول إنه "...يرى أن توحيد الرؤية المعرفيّة (ابستمولوجيا)، لما يسمى بالثقافتين : ثقافة العلوم الصحيحة وثقافة العلوم الاجتماعية والإنسانية، هو مطلب ملح وذو مشروعيّة كبيرة مع مطلع هذا القرن." (ص35).
إنّ فالرشتاين، في فقرته التي استشهد بها الدكتور الذوّادي، لم يدع إلى توحيد الرؤية المعرفية للعلوم، بل إلى تجديدها. إن فالرشتاين لم يقل إن ابستمولوجيا العلوم الطبيعية كانت منفصلة عن ابستمولوجيا العلوم الاجتماعية والإنسانية. بالعكس تماما، فهو قال : " لقد تعوّدنا (نحن علماء الاجتماع) على الاعتقاد في رؤية نيوتن الميكانيكية للأشياء كنموذج ابستمولوجي ينبغي علينا تقليده." (ص35)
إنّه يعرف أن علم الاجتماع كان صاحب ابستمولوجيا نيوتونية مسيطرة هي الأخرى في العلوم الطبيعية، أي، كان علم الاجتماع ميكانيكيّا وحتميّا. إذن، الذي يدعو له فالرشتاين، ليس توحيدا ابستمولوجيا، فهي كانت واحدة، ميكانيكية في " الثقافتين ". إنّ ما يدعو له هو الوعي بأنّ "رؤية نيوتن المعرفيّة هذه تواجه تحدّيا كبيرا داخل ميدان العلوم الصحيحة نفسها" (ص35). وبالتالي، فإذا كانت العلوم الصحيحة نفسها تتجاوز " الابستمولوجيا النيوتنيّة " فعلى علم الاجتماع "الالتحاق" بها. الغريب في الأمر، أن عنوان الفقرة الثانية من مقال الدّكتور الذوّادي هو: " حاجة علم الاجتماع إلى "ابستمولوجيا جديدة "، بينما يركّز في تقديمه لنصّ فالرشتاين على "توحيد " الرؤية المعرفية وليس تجديدها. يمكن للدّكتور الذوّادي أن يقول مثلا، في محاولة للرّبط بين " التجديد " و "التوحيد" ان العلوم الصحيحة غيّرت رؤيتها المعرفية وجدّدتها، بينما تأخر علم الاجتماع وعليه أن يلتحق، وبالتالي فتوحيد الرؤية الابستمولوجيّة يعني عمليا، التحاق العلوم الإنسانية بالعلوم الصحيحة.
لكن، في هذه الحالة، ما قيمة ذكر ماكس فيبر في نهاية الفقرة والرجل قد توفّي منذ سنة 1920. أي قبل خطاب فالرشتاين ب68عاما ؟؟!. إنّ فكرة فالرشتاين حول اعتبار علماء الاجتماع لرؤية نيوتن المعرفية نموذجا يجب الإقتداء به مبالغ فيها نسبيا، ولعله عمّم كثيرا حتى يبرّر لنفسه حتميته المبالغ فيها في بعض كتبه. إنّ علم الاجتماع لم يكن في الواقع، بهذه الصّورة الاطلاقية، ميكانيكيّا – نوتونيّا كلّه. نترك الأمر و نرجع الآن إلى" الاستنتاج الابستمولوجي" من أعمال البلجيكي إيليا بريجوجين. قلنا ان فالرشتاين استنتج منه فكرتين، فهل يمكن فعلا للدّكتور الذوّادي أن يوافق عليهما وهو الذي قدّم لهما بالطريقة التي ذكرناها ؟ - الفكرة الأولى تقول الآتي:" أصبح من الممكن النظر إلى الأنشطة المادّية للطبّيعة كعمليات ابتكار و إبداع "و " فهم ابتكار و إبداع الإنسان على أنّه تضخيم لقوانين الطبيعة..."(ص35). يا حبذا لو كان الدّكتور الذوّادي يعتقد فعلا أن الطبيعة " تبتكر وتبدع "، إذ، عندما نواصل قراءة مقاله، وعذرا على هذا الاستباق، سنعرف الجواب التالي: سلوك الحيوان غريزي أما سلوك الإنسان فهو ثقافي (ص47) ثم يستنتج الدّكتور ما يلي:" فالسلوك البشري يتمتّع بإمكانيات ضخمة من المرونة. أي أنّه تحكمه حتميّة مرنة، لا حتمية متصلّبة، مثلما هو الشأن في عالم سلوك الحيوانات و الدّاوب..." (ص48). و"هذا ما يفسر استمرارية التطابق الكامل، أو شبه الكامل في سلوك كل نوع من أنواع الحيوانات والحشرات والطيور والزواحف، عبر الأجيال المتلاحقة عبر الزمان والمكان" (ص47). أين الإبداع والابتكار في الطبيعة إذن ؟ إن الدّكتور الذوّادي ينفي أية تحوّلات ،على ما يبدو، تقع في عالم الحيوان، فما بالك بعالم النّبات أو المادّة الجامدة. لماذا إذن يصرّ على إيهامنا بأنه يريد توحيدا ابستمولوجيا بين الثقافتين ؟ إنّه أوّل من يناقض نفسه، على عكس العقلية المتماسكة التي تدافع عن الروح العلمية عند فالرشتاين و بريجوجين. إذا كان الدّكتور الذوّادي لا يعتقد فعلا في إبداع وابتكار عند الطبيعة، فكيف نصدّق أنّه يوافق فالرشتاين عندما ينقل عن برجوجين فكرة اعتبار "ابتكار وإبداع الإنسان على أنه تضخيم لقوانين الطبيعة "؟
إنّ الدّكتور الذوّادي يتراجع لاحقا، مثلما هو الأمر حول الفكرة السابقة، فيقول أن الابتكار والإبداع البشري نابع من تميز الإنسان، وهذا التميّز الإنساني نابع من اختصاص الإنسان بالثقافة، وهذه الثقافة هي " روح رموزّية ثقافية " وهذه الروح هي من" النفخة الإلهية"، ( سنرى ذلك لاحقا بالتفصيل).
إذن، لا ابتكار عند الطبيعة ولا يعقل أن يفهم الدّكتور الذوادي "الابتكار والإبداع البشري" على أنه تضخيم لقوانين الطبيعة المبدعة والمبتكرة هي الأخرى.
إن العلماء (بما في ذلك علماء الاجتماع) الذين لهم الشجاعة العلميّة في مسايرة بريجوجين أو فالرشتاين في وطننا العربي أقلية نادرة مع الأسف، لأن التقاليد العلمية من ناحية والإرهاب الفكري والاجتماعي المسلط على رقابهم عبر التكفير، يجعل من الباحث العلمي العربي مكبلا بحقل اجتماعي ومعرفي معاد بصورة شبه تامّة للروح العلميّة، بالكاد مواكب لقشور الفكر العلمي وبعض منجزاته.
- الفكرة الثانية: تجنب الحتمية الضيّقة والدعوة " للواقعية " والنظر للظواهر الاجتماعية على أنّها " حصيلة عوامل متعددة "، أي رفض التحليل الأحادي.
هل يوافق الدكتور الذوّادي فعلا على هذا، في إطار دعوته الى تأصيل علم الاجتماع العربي والبحث عن " توحيد ابستمولوجيا" الثقافتين ؟
هذه إجابته: " إنّ الكائن البشري عندنا هو كائن رموزي ثقافي بالطّبع." (ص50)، وبالتالي، اذا أردنا البحث عن ظاهرة اجتماعية، مثلا، ظاهرة الانتفاضة الفلسطينيّة، يقول الدّكتور ما يلي: " والسؤال المعرفي الملح الذي يتحتم طرحه هو: ما هي العوامل الحاسمة التي أدت إلى ظهور الانتفاضة...؟" (ص49) ويجيب بنفسه كما يلي:" إنّ...دور ما سمّيناه بعالم الرّموز الثقافيّة، من حيث فهم الإنسان والمؤثرات في سلوكه، دور رئيسي يتمتع يثقل لا يكاد يضاهيه في نهاية الأمر أي عنصر آخر مؤثر في السلوك البشري." (ص50). بل ويضيف إن ذلك راجع لخصوصية الرّموز الثقافيّة التي تلهم الإنسان طاقة " تستمد قوّتها من عالم السّماء لا من عالم المحسوسات " (ص50). فأي مكان بقي " للواقعيّة " وللتفسير بالعوامل المتعدّدة ؟ إنّنا لسنا حتى في قلب التحليل الأحادي – النيوتني، لأن نيوتن يحلل المادّة بالمادة، أي في "عالم المحسوسات " وعلماء الاجتماع النيوتنيّون يحللّون الاجتماع بالاجتماع، حتى لو كان بصورة أحادية. أمّا الدّكتور الذوّادي فإنّه يحلّل الظواهر الاجتماعية " بالسّماء" وليس بأمر /أو أمور من "عالم المحسوسات ".
ماذا بقي اذن من فالرشتاين و بريجوجين ؟. لاشئ على الإطلاق. لماذا استشهد الدكتور الذوّادي بالرّجلين إذن؟. الأرجح، من أجل إضفاء شرعيّة على بحوثه لا غير، مع الأسف الشديد. وهو الذي يقدّم كلام فالرشتاين بما يلي :" فيرى أنّ توحيد الرؤية المعرفية لما يسمى بالثقافتين : ثقافة العلوم الاجتماعية والإنسانية، هو مطلب ملّح وذو مشروعية كبيرة..." (ص35).
3 : حول " مساءلة سوسيولوجيا الروّاد الغربيين المؤسّسين".
في هذه الفقرة، يواصل الدّكتور الذوّادي الاستشهاد بفالرشتاين حول الروّاد المؤسسين لعلم الاجتماع، ماركس و دوركهايم و فيبر ولا يضيف شيئا جديدا تقريبا. يقدم لنا أربعة مقتطفات من خطاب فالرشتاين المذكور سابقا، ثم يحيطنا علما بكتابين أحدهما شارك فيه فالرشتاين والآخر هو من تأليفه الخاصّ (أي تأليف فالرشتاين). من بين ما يذكره الدكتور الذوّادي، اعتراف إمانويل فالرشتاين، في خطابه، أن المؤسسيين قدموا ملاحظات " ليست بالشاملة " ولا " بالكافية "، وقدمّوا فقط " نقطة بداية " وبالتالي فإن التراث السوسيولوجي " حديث التكوين، وإذا كان قوّيا فهو أيضا هش" (ص36). بعد ذلك يستغل الدّكتور الذوّادي " الإشارات الصريحة السابقة لأحد أكبر المفكرين الاجتماعيين الغربيين في الوقت الرّاهن "(ص36)، وهو فعلا احد أهمّهم، ليدعو الى إنهاء حالة الجفاء بين الثقافتين "...والى عدم البقاء في سجن " الفكر السوسيولوجي الكلاسيكي "...(ص36-37). وذلك لمواجهة متطلبات القرن الواحد والعشرين.
إنّ هذه الفقرة الثالثة من "نداء" الدّكتور الذوّادي هي تقريبا مجرد عرض لأفكار وأعمال فالرشتاين، وهو عرض شديد الاختصار طبعا، لكن ما يهمّنا الآن ليس العرض نفسه بل ما يتبعه. إنّه أراد استثمار التقييم الذي قدّمه فالرشتاين للدّعوة، ليس إلى الاستفادة من المؤسسين الثلاث المذكورين باعتبار أن كلّ واحد منهم ركّز تحليليّا على جانب دون آخر، بل للتخلّي عنهم تماما والادعاء لاحقا-(في باقي المقال)-أنه بصدد ممارسة ما يسمّى " البحث العلمي الأساسي " واقتراح باراديغم جديد " إسلامي عربي " لعلم الاجتماع، بل وللبحث العلمي عموما.
وإذا تركنا جانبا مسألة " التوحيد الابستيمولوجي " التي أشرنا إليها سابقا، وسنعود إلى تفاصيلها لاحقا، فانه يبقى أمامنا في هذه الفقرة الثالثة قول الدّكتور الذوّادي عن فالرشتاين " يناشدهم ألاّ يبقوا سجناء الفكرالسوسيولوجي الكلاسيكي لكي لا يعجزوا عن تغيير خريطة مشروعهم الفكري..." (ص37).
طبعا، الدّعوة للتحرّر من " سجن الفكر السوسيولوجي الكلاسيكي " تبدو ظاهريا طبيعيّة جدّا، ولكن على شرط عدم اعتبار كلّ ذلك الفكر سجنا، إذ في هذه الحالة ستكون الدّعوة عدميّة تماما، وسيجد الفكر السوسيولوجي المعاصر نفسه يتيما وعندها تصبح هذه الدّعوة تخريبا علميا وليس "تأصيلا". في اعتقادنا، يبدو أن الدّكتور الذوّادي يسير، مع الأسف، في هذا الاتجاه العدمي تقريبا، ولو كان الأمر غير ذلك لما ادّعى أن أبحاثه تمثل:" نوعا من البحث الأساسي – Basic research -...(ص43).
إنّه يعتبر أن كل علماء الاجتماع الذين سبقوه لم يكتشفوا " جوهر الإنسان"، وبما أنّه هو الذي اكتشف لنا هذا الجوهر "الرّموزي الثقافي " أخيرا، فإنّ بحثه العلمي " أساسي" يفتح عصرا جديدا بعد أن انقضى آخر في تاريخ الفكر السّوسيولوجي.
اذن، نحن أمام قراءة " تأسيسية " لعلم الاجتماع الذي كان مع ابن خلدون وكونت وماركس و دوركهايم و فيبر غيرهم، جاهلا " بجوهر الإنسان ".
ولهذا فان الدّكتور الذوّادي، يقترح علينا " ما يعرف بالبحث العلمي الأساسي، وهو ذلك البحث الذي يحاول أن يكشف جوهر الأشياء "(ص53)، مع العلم أن " الجوهر " الجديد الذي سيكشفه لنا هذا البحث الأساسي " هو الجوانب الأخرى (الميتافيزيقيّة) للرّموز الثقافية " "(ص53)
نحن إذن أمام علم جديد هو " علم اجتماع الميتافيزيقا " !! نكتفي بهذا مؤقتا، ونعود إلى نقطة أخرى.
لعلّنا نظلم الرّجل عندما نصفه بالعدميّة السوسيولوجيّة. لكن ، ما الذي يجب تجاوزه بالتحديد عند " الرّواد المؤسّسين ؟
يختار الدّكتور الذوّادي من خطاب فالرشتاين حول هذا الثالوث ثلاثة فقرات.
الأولى تتعلق بدوركهايم حول "بنى منطقية " تفسّر الوجود الاجتماعي البشري!
الثانية عن ماركس تركّز حول وجود الطبقات غير المتساوية وحول كونها " متصارعة بعضها مع بعض "!
الثالثة عن فيبر وتتمحور حول فكرة " احتواء الصّراعات " عبر ميكانيزمات إعطاء " الشرعية لسلطة المجموعة الحاكمة..."! بعد ذلك، وفي آخر الفقرة، كما قلنا، يصل الدّكتور الذوّادي إلى ضرورة الخروج من سجن " الفكر السوسيولوجي الكلاسيكي " ماذا يعني هذا الخروج ؟ يعني حسب الدكتور ، على ما يبدو ، وهذا ما سنفصلّه لاحقا، أنه عند دراسة الإنسان والمجتمع من خارج "سجن الكلاسيكيين "، علينا ألا نعير الاهتمام لا " بالبنى المنطقية " ولا بأشكال السلطة وطرق " إضفاء الشرعيّة " ولا بانقسام المجتمع إلى طبقات و لا بالصّراع...إلخ.
فما دامت هذه الأفكار هي من علماء كلاسيكيين، لم يفهموا " جوهر الإنسان" وهي " جوهر فكرهم "، يبدو، منطقيا، أن الدّكتور الذوّادي يدعونا إلى ترك كل هذا للاهتمام " بميتافيزيقيا الرّموز الثقافيّة ". إذا كان الأمر هكذا، فان علماء الاجتماع العرب ستكون لهم مساهمة عظيمة فعلا في " تأصيل علم الاجتماع "! أمّا الغربيون من العلماء فإنهم يتذكّرون قول إسحاق نيوتن (!) الشهير " لم أستطع النظر بعيدا إلاّ لأننّي كنت واقفا على أكتاف عمالقة "!
4 : حول " الدعوة إلى تأصيل إبستمولوجيا الفكر السوسيولوجي العربي ":
بعد إقرار واقع أزمة الفكر السوسيولوجي الغربي، يدعونا الدّكتور محمود الذوّادي إلى ما يلي : " هناك حاجة ماسّة لكي لا يقف علماء الاجتماع العرب اليوم متفرّجين على ذلك المشهد للفكر السوسيولوجي الغربي، من دون أن يستفيدوا من عبر ذلك، فيصلحوا الشأن السّوسيولوجي في المجتمعات العربيّة والإسلامية في المقام الأوّل، كما فعل ابن خلدون منذ قرون في مقدّمته الشهيرة." (ص37) تحتوي هذه الدّعوة على مزالق قد تصبح خطيرة في رأينا، يمكن تلخيصها كالآتي:
أوّلا: ماذا يقصد بعبارة إصلاح الشأن السوسيولوجي العربي الإسلامي في المقام الأول ؟ هل يعني ذلك أن مساهمتنا في إصلاح المشهد السوسيولوجي العالمي قابلة للتأجيل مثلا، أم هي فقط ثانوية الآن ؟ هل يعني ذلك أن عالم الاجتماع الفرنسي أو الأمريكي، هو الآخر، عليه أن يصلح " في المقام الأول" مشهده السوسيولوجي القومي-الدّيني ؟ ألا يوجد خطر في ترتيب أولويّات بين الإصلاح الدّاخلي والإصلاح العالمي عندما يتعلّق الأمر بالعلم تحديدا ؟ ألا يعبّر هذا عن دعوة لعلم قومي – ديني مستقل عن علم غربي وآخر ياباني...إلخ ؟ نكتفي بهذه الأسئلة الآن، وسنتعرض لاحقا لما يريده الدكتور الذوّادي بالتحديد.
ثانيا: ماذا يقصد الدكتور بجملة:" كما فعل ابن خلدون منذ قرون في مقدّمته الشهيّرة "؟ هل كان ابن خلدون يصلح شأنا سوسيولوجيا إسلاميا-عربيا وقتها ؟ أم هل إن الدّكتور الذوّادي يريد تمرير فكرة " البحث الأساسي " من خلال مثال مقدّمة ابن خلدون ؟ هل نحن الآن في مرحلة " تأسيسيّة " لعلم الاجتماع أم في مهمّة " إصلاحيّة " ؟ وهل كان ابن خلدون فعلا يريد تأسيس علم اجتماع إسلامي-عربي أم " علم جديد " للبشرية جمعاء، ولكن انطلاقا من تأمل ودراسة المجتمع الذي يعيش داخله باعتباره المجتمع الأكثر قابلية للملاحظة والدّرس عنده؟
نكتفي هنا أيضا بهذه الأسئلة وننتقل إلى موضوع " الدعوة إلى تأصيل إبستمولوجيا الفكر السّوسيولوجي العربي "
*****
يقوم الدّكتور الذوّادي من جديد باعادة صياغة أفكار فالرشتاين و بريجوجين التي تعّرضنا لها سابقا حول " الحتمية والاحتمالية " ثم حول " الإبداع والابتكار ". بعد ذلك يعيد طرح فكرة ضرورة " التوحيد الابستمولوجي للثقافتين " ليصل إلى ما يلي :
" ممّا لا شكّ فيه أن الثقافة الإسلامية العربيّة سبّاقة – على المستويين الفكري والتطبيقي- إلى تبنّي الرؤية الابستمولوجية التوحيديّة للمعارف والعلوم." (ص38)
وعندما يريد البرهنة على هذا السّبق، يقول التّالي:
"فالقرآن، كتاب الثقافة الإسلامية العربية الأوّل، تنادي آياته المتعدّدة بوحدانيّة الخالق ومن ثم بوحدة ظواهر الكون رغم تنوّعها..." (ص38)
ثم :" ومن منظور الابستمولوجيا القرآنية، تأتي قوّة ذلك الترابط والوحدة بين كل ما يوجد في الكون من أن خالق كل ذلك هو إله واحد لا شريك له." (ص38)
إنّ العنصر الأوّل هذا، من الفقرة-الأطروحة الرّابعة يتضمن كارثتين معرفيّتين:
الكارثة الأولى: والتي نعتقد أنّ الانتباه لها ممكن حتى لقارىء عادي لا علاقة له بالعلوم تماما هي الادعاء بأنّ المسلمين-عبر القرآن – كانوا سبّاقين إلى المناداة بوحدة الخالق !
إنّ أي قارئ، أو سامع للقرآن، حتى لو لم يدخل المدرسة يوما واحدا في حياته يعرف أن اليهود والمسيحيين- ونكتفي بهم هنا – كانوا موّحدين.
إنّ القرآن نفسه يعترف بذلك، ولكن الدّكتور الذوّادي ـ على ما يبدو ـ لا يعترف !.
قد يقول الدكتور إن اليهود والمسيحيين لهم تصوّر مخالف عن وحدانية الإله، هذا شانه، لكن، هل يريد من علم الاجتماع أن ينخرط في هذا النقاش؟
على الدكتور الذوّادي أن يوضّح لعلماء الاجتماع المسيحيين-العرب، على سبيل الذكر، دورهم في عملية " تأصيل علم الاجتماع العربي " التي ينادي بها، هل يعنيهم بندائه أم لا، ولماذا ؟
ثم إنّ على الدّكتور الذوّادي التثبت من هوّية إيليا بريجوجين و إماّنويل فالرشتاين الدّينية!! حتى يدقق مصادره! ربما عليه أن ينتبه فقط لأسمائهم ليعرف الإجابة ! ولعله سيندم على اليوم الذي ذكرهم فيه بهذا الإطراء، ونحن نتمنى عكس ذلك بالطّبع.
الكارثة الثانية: هي خلط الدّكتور الذوّادي بين الانطولوجيا والإبستمولوجيا.
إنّه يدّعي أنّ مشروعه الفكري مشروع تأسيسي في العلم عموما وفي علم الاجتماع تحديدا، لكنّه يخلط في هذا المشروع بين " علم الاجتماع والفلسفة والدّين"(ص55)
ولذلك يخلط بين المبحث الانطولوجي والمبحث الابستمولوجي ويبدو أنّ سبب هذا هو رغبته الجامحة في القطع مع الماركسيّة والوضعيّة خاصّة.
لكن هذه الرّغبة هى التي أوقعته في فخّ الماركسية والوضعيّة ولكن بصورة معكوسة، مثلما حصل مع ماركس عندما قلب الجدل الهيغلي، ولكن مع فوارق عظيمة طبعا. إنّ الحديث عن وحدانية الخالق الذي خلق كل ما يوجد في الكون مبدأ أنطولوجي يدخل ضمن ما يسمى " مبحث الوجود " وهو لا يعني أبدا ومطلقا توحيدا إبستمولوجيا للعلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية بل بالعكس تماما، إنّه يسمح باختلاف تام في معالجة الظواهر الطبيعية عن الظواهر الإنسانية بسبب " اختلاف طبائع المخلوقات". أن الدّكتور الذوّادي يورّط نفسه في أمر سيكون أوّل المتراجعين عنه كما سنرى لاحقا، لأن التوحيد الانطولوجي الدّيني هو تحديدا توحيد قائم على الثنائيات ولا يوصل الى " التوحيد الابستمولوجي! الذي يريده! بل إلى اختلاف "وحدة الخالق "عن "تعدد المخلوقات "
أما فكرة " وحدة ظواهر الكون " التي ينادي بها الدكتور الذوّادي ويعتبرها " سابقة " إسلامية – عربيّة، هي في الواقع فكرة قديمة جدّا، لم توجد فقط بالارتباط بالديانات التوحيديّة، بل حتى بمذاهب فلسفية يونانية قديمة. بل إن الفلسفات الماديّة والإلحادية توافق هي الأخرى على مبدأ " وحدة العالم "، لكنها طبعا تقول إن " وحدته تكمن في مادّيتة ". بينما فكرته اقرب إلى فكرة " وحدة الوجود " الصوفيّة التي رفضها حتى أغلب الفلاسفة والفقهاء المسلمين القدامى لأنها فكرة "قريبة من الإلحاد" توحد وجود الله مع وجود العالم وتجعلهما "متماثلين" و متحايثين فيصبح " ما تحت الجبّة إلا الله " كما قال الحلاّج !
إنّ الدّكتور الذوّادي لا يفرّق على ما يبدو بين الانطولوجيا التي تبحث في قضية الوجود الأول والابستمولوجيا التي تبحث في مسألة المعرفة بوصفها علاقة بين الذّات الإنسانية العارفة ومواضيع معرفتها الطبيعية والاجتماعية، (سواء ما يتعلّق بآليات المعرفة أو أشكالها أو مناهجها...إلخ)، في حين أن ج، ف، فيريير، الفيلسوف الاسكتلندي الذي هو أول من قدم اصطلاح الابستمولوجيا، سنة 1854، في كتابه "سنن الميتافيزيقا" دعا صراحة الى ضرورة هذا التفريق. (م 3 ،ص447-449)
إن مبحث "الله الخالق لكل شئ " هو مبحث انطولوجي بينما المبحث الابستمولوجي يتمحور حول قدرة الإنسان على معرفة الطبيعة والمجتمع. ورغم الترابط بين المبحثين، يوجد انفصال نسبي بينهما أيضا، ويظهر هذا الانفصال بالذات عند العلماء، فالعالم المؤمن والعالم الملحد يتفقان حول خصائص المادّة باعتبارها خصائص موضوعية رغم أنهما يختلفان في كون المؤمن قد ينسب تلك الخصائص إلى الله بينما الملحد يعتبرها فقط خاصية مادية للطبيعة. إنّ الدّكتور الذوّادي، عندما يقدّم فكرة خلق الله للكون كمبدأ توحيد ابستمولوجي بين العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية يحكم مسبّقا أن علم الاجتماع هو علم المسلمين فقط، أو المؤمنين فقط، في رد فعل، على ما يبدو، على من يعتقد أن علم الاجتماع هو علم ملحد بالضرورة. إنّ التجديد الابستمولوجي لعلم الاجتماع لا يمكن أن يتم إلا إذا تم الوعي بضرورة الفصل المنهجي بين مبحث الوجود ومبحث المعرفة، أي، بلغة السياسة، لا يمكن أن يتم إلا إذا كان العلم علمانيّا، وإذا مارس العلماء، بما في ذلك علماء الاجتماع، البحث العلمي وهم محايدون دينيّا، أثناء عملهم العلمي، دون أن يعني ذلك دعوتهم للتخلي عن دينهم أو عن إلحادهم، "خارج المخبر "، أو خارج ميدان العلم عموما. إنّ المبحث الابستمولوجي الأساسي لعلم الاجتماع هو علاقة عالم الاجتماع أو الباحث الاجتماعي بموضوع بحثه الذي هو بالضرورة اجتماع تاريخي. فلابدّ من تحقيق معادلة في علم الاجتماع تسمح، "مثلما هو الأمر" في العلوم الصحيحة، بأن يدخل عالمان المخبر، أو الميدان المبحوث، ويتفقان على توصيف وتحليل المادة أو الموضوع المدروس علميا، بقطع النّظر عن القناعات الدّينية. إذا لم يتم هذا، لا يحقق العلم الاجتماعي علميّته، وهذا الشرط هو وجه من وجوه الموضوعيّة العلمية التي ينادي بها الجميع.
****
بعد تقديم تصوّره " الابستمولوجي" يواصل الدّكتور الذوّادي في الفقرة – الأطروحة الرّابعة حديثه بالتركيز على عراقيل عملية التوحيد هذه رغم أنّها دعوة شعارها كما يقول، المثل العربي " الرجوع الى الأصل فضيلة" (ص38) يلخّص هذه العراقيل في عاملين، المؤسسات الأكاد يميّة والعقليّة الأكاديميّة في نفس الوقت ويقترح إصلاح المؤسسات والتصالح والتقارب بين الفرقاء... لكن، رغم هذه النّبرة الإصلاحية والتصالحية، تخفى دعوة الدّكتور خطرا قاتلا يهدّد البحث العلمي في الوطن العربي يتمثل فيما يلي: إذا كان الدّكتور الذوّادي يدعونا إلى إصلاح المؤسسات الأكاديمية ومصالحة العقليات فإنّما يريدنا جميعا أن نؤمن بمبدئه الانطولوجي موهما إيّانا بأنه " توحيد ابستمولوجي " وفي هذه الحالة قد تصبح دعوته مطيّة لرفض تدريس ماركس ودوركهايم بحجة رفض المادية والوضعية وتنطبق دعوته على علماء الطبيعة الذين يدّرسون داروين وكل التظريات التطوّرية وكذلك كل العلوم الباليونطولوجيّة و الانتربولوجيّة وكل الفلسفات غير " التوحيديّة"...إلخ.
يظهر خطر هذه الدّعوة عندما نقرأ للدّكتور حديثه عن وجود دافعين يحمسان إلى " التوحيد الابستمولوجي " هما: " الرؤية الإسلامية تدعو إلى أن أصل الأشياء واحد، هذا أوّلا، ثم مسألة " خلق الجفاء والقطيعة بين علوم "الثقافيين" هي ظاهرة غربية " (ص39)، وبما أن أشهر العلماء الغربيين أنفسهم يدعون حسب الدّكتور الذوّادي إلى "توحيده الابستمولوجي " فهنالك دافع ثان يجعلنا نسير في صفّه. وعندما يلخّص المسألة يقول إن دعوة فالرشتاين وغيره من العلماء " تتفق تماما مع الرؤية المعرفية للثقافة الإسلامية العربيّة(...) هذه الثقافة التي تنادي ابستمولوجيتها بصوت عال بوحدة ظواهر الكون وترابطها على رغم تنوّعها لأن خالقها هو الله الواحد الأحد".(ص39).
إذن، تحول فالرشتاين بقدرة الدكتور الذوّادي إلى داعية إسلامي وعلينا جميعا أن نتخلى عن اختلافاتنا المعرفية الابستمولوجيّة لأنه لا يعقل أن يكون الواحد منا عربيّا دون أن يؤمن بابستمولوجيا ثقافته المتمثلة في الإيمان بالخالق الواحد الأحد.أما مسألة التنوع في ظواهر الكون فيبدو أن الدكتور لا ينتبه إلى نتائجها الدينية تماما .
عفوا دكتور، هذا ليس نداء لتأصيل علم الاجتماع، إنّه نداء لاستئصاله أصوليّا!!.
5: حول "مكانة الثقافة في الفكر السوسيولوجي للرواد الثلاثة":
لأن الدكتور الذوادي يعتقد أن جوهر الإنسان هو " رموزي ثقافي"، ولأنه يريد الاستقلال عن علم الاجتماع الغربي و"تأصيل علم الاجتماع العربي"، يقترح في الفقرة الخامسة من النداء تقييما لمكانة الثقافة عند ماركس و دوركهايم و فيبر وهو بذلك يريد إنشاء " بحث علمي أساسي" في علم الاجتماع الثقافي بالأساس. لنتابع كيف يقوم بهذه المهمة.
يبدأ الدكتور بالتذكير بأزمة علم الاجتماع الغربي ويوضح لنا أن تلك الأزمة ليست فقط في " الثنائية" الابستمولوجية، بل وكذلك في الرؤية المعرفية التي يتعاملون بها مع الظواهر الاجتماعية المدروسة. أي أن ابستمولوجيتهم "الاجتماعية" نفسها هي في أزمة ويأخذ كمثال على ذلك: الثقافة، وهو طبعا ليس مثالا اعتباطيا كما ذكرنا و كما سيظهر لاحقا.
بعد ذلك يقدّم لنا الدكتور أشهر التعريفات للثقافة، وهو تعريف إدوارد تايلور: " ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والتقاليد وأي مهارات وعادات يكتسبها الإنسان كونه عضوا في المجتمع" ( ص40).
وبتقديمه هذا التعريف الشهير، الذي يبدو أن الدكتور الذوادي يقبل به إجرائيا على الأقل، يقوم بنفس ما فعله مع الفقرات التي أخذها عن إ. فالرشتاين.
إنه لا يعرف أنه" يقدم الحبل الذي يشنق به نفسه"، لأن تعريف تايلور للثقافة يناقض تماما كل ما يريد هو إقناعنا به.
- يقتطف الدكتور الذوادي من تعريف تايلور ما يتصور أنه يخدمه، ونذكر أن الفقرة الشهيرة التي يعرف فيها تايلور الثقافة تبدأ بالعبارات الآتية: "ان كلمة ثقافة، أو حضارة، في معناها الإثنوغرافي الواسع، تعني، ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة..." (م 4 ،ص131) وبالتالي فإن تعريف تايلور هو تعريف أنتربوسوسيولوجي عام، وليس تعريفا تقافويا بالمعنى الضيق للكلمة الذي يحصرها في " عالم الأفكار" أو " الرموز".
كما أن الدكتور يختلف عن تايلور في ما يلي؛ - أولا: تايلور لا يقول أن " العقيدة" هي العنصر الأساسي في الثقافة لاهي ولا أي عنصر آخر، مثل اللغة أو غيرها. تايلور يرى أن الثقافة " كل معقدّ".
- ثانيا: تايلور يتحدث عن " أي مهارات" يكتسبها الإنسان وهذا يجعل تعريفه يحوي جوانب «مادية" في الثقافة، مثل العمل أو الجنس، على عكس ما يذهب إليه الدكتور الذوادي.
- ثالثا: تايلور يرى أن الثقافة " يكتسبها الإنسان بواسطة التربية و التنشئة الاجتماعية داخل المجتمع وبالتالي يعلمها الكبار للصغار من خلال ممارسات التنشئة التي تؤثر على حواس الأطفال لأنها تكون محسوسة هي الأخرى وليست " ميتا فيزيقية". إنها اجتماعية (و ليس الاهية) و تكتسب ( و ليست نتيجة النفخة الإلهية).
.إذن يقدم لنا الدكتور الذوادي تعريفا للثقافة ( نقصد تعريف تايلور للثقافة) أنتربو- سوسيولوجيا بامتياز سيتراجع عنه لاحقا، ثم ينتقل فيما بعد ليتناول مكانة الثقافة في فكر دوركهايم و ماركس و فيبر فلنتابعه. ***
يبدأ الدكتور الذوادي بدوركهايم ليذكرنا بان هذا العالم الاجتماعي وضعي وأن تصوره السوسيولوجي فيه " إنكار لدور العوامل النفسية" (ص 40). وأنه يعتبر الظاهرة الاجتماعية "شيئا" و " خارجيا" إلى آخره مما يعرفه الجميع تقريبا.
لكن، في معرض نقده يتجنى الدكتور الذوادي على هذا العالم البارز أحيانا إلى درجة تشككنا في نوايا النقد الحقيقية. إن قراءات عديدة لفكر دور كهايم تحاول تنسيب أفكاره وتضعها في نسقها المعرفي وإطارها التاريخي و تعترف لدوركهايم على الأقل بأن " إنكاره لدور العوامل النفسية" لم يكن إنكارا مطلقا، بالمعنى العادي الذي قد يفهمه الجميع، بل بمعنى أن موضوع علم الاجتماع يختلف عن موضوع علم النفس الفردي، وبالتالي، عند التحليل، على عالم الاجتماع أن يحلل ظاهرته بعوامل اجتماعية، بالمعنى الذي يعطيه دوركهايم لها.
من ناحية أخرى، عندما يتحدث دوركهايم في الظاهرة كشيء خارجي وبالتالي "ضاغط" فإنه يريد ان يقول، في عصره هو، أنه إذا لم تكن الظاهرة شيئا خاصا محددا تختلف عن غيرها من الأشياء فكيف يمكن تحليلها بموضوعية علمية عبر علم مختص بها على الطريقة الوضعية.
إن هذه الظاهرة خارجية لأن تلك هي الطريقة الوحيدة لدراستها موضوعيا، لكن طبعا على وجه مغاير للظاهرة الطبيعية. انه "إذا توافقنا على القول بأننا نسمي شيئا كل واقعة يمكن و يجب علينا ملاحظتها من الخارج و اننا لا نعرف طبيعتها مباشرة، يكون مع دوركهايم الحق...في المقابل، إذا عنى المصطلح أن الظواهر الاجتماعية لا تحوي تفسيرا مختلفا عن التفسير الذي تحويه الظواهر الطبيعية، و كذلك لو طلب إبعاد أي تفسير للمعنى الذي يعطيه الناس للظواهر الاجتماعية من قبل علم الاجتماع، يكون دوركهايم على خطأ " (م 5، ص452)
إن الحوار حول تأويل مقاصد دوركهايم شيء لكن اتهامه بأنه يفهم الواقع الاجتماعي " كأنه شيء جامد لا حياة و لا حركة في داخله" (ص40) أمر آخر ونحن نتمنى أن يعتبر الدكتور الثقافة ( التي يعتبر دراستها موضوعه المفضل) حية ومتحركة، ولكن الأمر عكس ذلك.
* أولا: دوركهايم لا ينفي الحياة والحركة عن الظاهرة الاجتماعية، ولو كان الأمر كذلك لما كان وضعيا. فالوضعية تقول أن التاريخ الاجتماعي ( وهي فلسفة للتاريخ) عرف الحركة عبر التاريخ وانتقل من حالة إلى أخرى ( الحالات الثلاث عند أوغست كونت مثلا) بفعل عوامل فكرية أساسا. و دوركهايم نفسه تحدث عن انتقال المجتمع من شكل للتضامن إلى آخر ( من التضامن الآلي إلى التضامن العضوي)، لكن عيب الوضعية هو في اعتقادها أن " المرحلة الوضعية" هي نهاية التاريخ دون أن تقول أنه لم يعد هنالك " لا حياة ولا حركة"، إذ تبقى الحياة والحركة ولكن داخل المرحلة الوضعية نفسها، دون تجاوزها.
إن ربط الدكتور الذوادي بين عبارات " الشيء" و " لا حياة ولا حركة" هو ربط مبالغ فيه نسبيا. لأنه يعتقد في قرارة نفسه أن الأشياء لا حياة و لا حركة فيها. انه يسقط تصوره الاسلاموي الشخصي على مفهوم الشيء عند دوركهايم .
* ثانيا: لنفترض أن دوركهايم لا يعترف بالحياة والحركة داخل الظاهرة الاجتماعية فما هو موقف الدكتور الذوادي؟
يقول لنا: " يؤكد القرآن الكريم خلود الذات الإلهية. إن بعض الرموز الثقافية تتصف هي الأخرى بالبقاء الطويل، أو حتى بالخلود" ( ص45).
قد يقول الدكتور أن الخلود لا يعني انعدام الحياة والحركة، وهذا صحيح، ولكن المماثلة بين خلود الذات الإلهية وخلود بعض الرموز الثقافية توحي أنه بما أن خلود الله لا يعني تغير صفاته ولا انتقاله من حالة إلى أخرى عبر الزمن ولا تكاثره أو تناقصه فإن خلود " بعض الرموز الثقافية" قد يعني جمودها في الواقع.
إن الدكتور الذوادي يعطي تلك الرموز الثقافية صفات قد " لا يليق" بمسلم أن يعطيها إلا لله. فإذا كان دوركهايم يحول الظواهر إلى "أشياء جامدة" فإن الدكتور يحولها إلى أشباه " آلهة خالدة".
****
بعد دوركهايم يتعرض الدكتور إلى ماركس بنقد مكانة الثقافة عنده، ويقوم في هذا الجزء من الفقرة- الأطروحة الخامسة بنفس ما فعله مع دوركهايم، بل أكثر. يقول انه من غير المنتظر تماما أن يولي الفكر الماركسي " اهتماما جديرا يذكر للثقافة كمؤثر رئيسي" نظرا لأنه يعطي الأولوية للعوامل الاقتصادية. وكان على الدكتور أن يوضح أمرا مهما وهو: هل يعتبر ماركس الاقتصاد خارجا عن الثقافة أم لا، حسب مفهوم ماركس الخاص عن الثقافة وليس حسب مفهوم الدكتور الذوادي عنها؟
المعروف أن الألمان في مرحلة ماركس كانوا عموما لا يفرقون بين عبارات حضارة وثقافة والمعروف أيضا أن ماركس لم يستعمل مفهوم الثقافة، كمفهوم مركزي في نظريته. أما إذا عدنا إلى "تعريف تايلور" للثقافة وقسّمناها إلى علم ودين وأخلاق... فعندها، على الدكتور الذوادي أن يدقق الأمر مع ماركس.
إن ماركس يعطي أدوارا مختلفة بل ومتناقضة لأقسام مختلفة من الثقافة بالمعنى المذكور. فدور العلم عند ماركس ليس كدور الدين أو دور القانون والأخلاق...رغم انتمائهم جميعا إلى ما يسمى " الوعي" أو " الفكر عنده.
كان من الأجدر بالدكتور الذوادي أن يقول لنا بصراحة أن الدين هو جوهر الثقافة عنده، وبعد ذلك نفهم ببساطة تامة تقييمه لماركس دون أن يكون في حاجة إلى تقسيمه غير الواضح بين " عوامل ثقافية موضوعية" وأخرى " غير موضوعية" ( ص41). لكن الدكتور يواصل قائلا:" نحن نعرف مدى عداء الفكر الماركسي لما يسميه بالبنية الفوقية ( الثقافة) في المجتمع" (ص41). وبصراحة تامة، إذا كانت المعرفة بماركس على هذه الشاكلة فإن علم الاجتماع العربي هو فعلا بخير!
أولا: هل الفكر الماركسي يعادي البنية الفوقية عموما، أم يدعو إلى قلب البنية الفوقية الرأسمالية وتغييرها ببنية أخرى؟
وثانيا: هل البنية الفوقية عند ماركس هي الثقافة، أم أنها في نفس الوقت وأولا الدولة بقوانينها وسياستها ثم إيديولوجيتها السائدة المعبرة، عند ماركس عن مصالح الطبقات السائدة؟
هل يعقل ألا ينتبه الدكتور الذوادي إلى مثل هذه الأمور؟ ثم أليست غريبة المقارنة بين ماركس و دوركهايم تلك التي قال فيها: " يعطي دوركهايم أهمية كبرى في دراسة المجتمعات للمعالم الموضوعية للثقافة ( أي الثقافة كشيء). بينما يقلل ماركس كثيرا من تلك الأهمية، ولا يتحفظ عن إعلانه العداء على البنية الثقافية كمعرقل لتحولات المجتمع ( ص41).
هل أهمل ماركس فعلا " المعالم الموضوعية للثقافة" أم أن الدكتور يريد أن يقول لنا إنه لا يوافق ماركس في " إعلانه العداء للبنية الثقافية" ( والدكتور يعني الدين أساسا) كمعرقل لتحولات المجتمع؟
على الدكتور الذوادي أن يطبّق الأحكام العلمية البسيطة على ماركس. فألا نوافق ماركس على تصوره عن الدين أو المجتمع عموما ، أمر مشروع علميا ، أما أن نقول انه " يعادي البنية الثقافية" عموما، أو نقول أنه لم يهتم كباحث، في دراساته، بالدين والايديولوجيا والفن... فهذا أمر آخر تماما. أن التطورات الحديثة في العلوم الإنسانية بينت أزمة الماركسية، الاورثوذكسية خاصة، في نظرتها للثقافة بسبب أزمة "نظرية الانعكاس" و" نظرية البنية الفوقية"، ولعل مثال اللغة أكبر دليل على ذلك؛ فعندما نتصفح أشهر كتابين ماركسيين حول اللغة في المكتبة العربية نجد أن ميخائيل باختين، في "الماركسية و فلسفة اللغة" يعجز عن توضيح علاقة اللغة بالبناء الفوقي رغم أنه خصص لذلك فصلا كاملا من الكتاب ( م 6) .
و عندما نراجع كتاب جوزيف ستالين حول "الماركسية و مسائل علم اللغة"، نجده يعتبر اللغة، التي هي جزء من " التشكيلة الاجتماعية"، لا بناء تحتيا و لا فوقيا، إنما مكون من مكونات الأمة. ( م 7) كما أننا، عندما نرجع الى الموسوعة الفلسفية السوفيتية، في مادة "اللغة" لا نقرأ أية إشارة إلى نظرية البنى، لكن نقرأ، في صيغة ماركس و أنجلز في "الايديولوجيا الالمانية"، أن "العلامة اللغوية باعتبارها اصطلاحا بالنسبة لما تدل عليه بفضل طبيعتها المادية مشروطة مع هذا اجتماعيا..." ( م 8، ص66) فنحن أمام إشكال فعلي حول اللغة التي هي أيضا «الواقع المباشر للفكر" حسب ماركس و لا نعرف هل هي من الواقع الاجتماعي( الوجود الاجتماعي ) أم الوعي الاجتماعي ؟
عموما، بالنسبة إلى ماركس، كما هو الحال عند دوركهايم يرى الدكتور الذوادي أن الرجلين يتساويان " في كونهما لم يكترثا بسبر الجوانب غير الموضوعية ( الخفية) للثقافة، هذا الكل المعقد " ( ص41). وهذا أمر طبيعي جدا من الناحية العلمية، طالما أن "غير الموضوعية" لا تعني عند الدكتور الذوادي " الذاتية" بل "الخفية" في حين أن البحث العلمي هو بحث تقوم به ذات عارفة حول موضوع معرفة، و هو يترك "الخفي" للدكتور، إذ يبدو أن هذه" الجوانب الخفية" لا تعطي سرها إلا لنا نحن العرب المسلمين.
***
ماذا عن ماكس فيبر الآن؟ يبدأ الدكتور الذوادي بتوجيه القارىء باتجاه المنحى الذي يريد هو أن يحشر ويحصر فيه فكر فيبر قائلا: يرى العديد من المحللين للفكر السوسيولوجي الكلاسيكي الغربي أن بعض جوانب فكر ماكس فيبر يمكن أن ينظر إليها على أنها ردة فعل على الفكر الماركسي، تجعل سوسيولوجيا فيبر تتخذ اتجاها معاكسا لنظيرتها عند ماركس فالماركسية تركز على دراسة العوامل الاقتصادية وفي المقابل، يتبنى موقفا ذا اتجاه معاكس يؤدي به إلى إبراز ثقل دور العوامل الثقافية" ( ص41) إن "عتابنا" على الدكتور الذوادي في خصوص هذه الفقرة يتمثل في نقطتين:
أولا: لماذا لم يقدم لنا رأي عدد آخر من المحللين الذين لا يرون في مشروع فيبر السوسيولوجي " ردة فعل على الفكر الماركسي". مع أن هذا الرأي منتشر أيضا عند العديد من المحللين. نأخذ مثلا على ذلك ما كتبه محمد الشرقاوي في مادة "ماكس فيبر" في "معجم علم الاجتماع" الذي أشرف على إصداره مع ريمون بودون و آخرين. كتب تحديدا "انه من الخاطىء اختصار الأطروحة الفيبرية في نقد ماركس بحيث تعني أن الدين يفسر الاقتصاد..." ( م9، ص247)
ثانيا: لماذا لم يقدم لنا رأي ماكس فيبر نفسه في هذه المسألة؟ يبدو أن الدكتور الذوادي لا يريد البحث عن هذا لأن من مصلحته إظهار فيبر " كردة فعل" على ماركس. لكن للأمانة العلمية، كان على الدكتور أن يكون متناسقا على الأقل مع نفسه. فعند استشهاده بخطاب فالرشتاين لتبرير " حاجة علم الاجتماع إلى ابستمولوجيا جديدة" نقل الدكتور عن فالرشتاين قوله: " وتتمثل هذه الواقعية، في نظر ماكس فيبر، في النظر إلى الظواهر الاجتماعية على أنها حصيلة لعوامل متعددة" ( ص 35) وكنا نظن أن الدكتور الذوادي يوافق فالرشتاين على هذا، لكن، يبدو أنه تراجع عن ذلك.
كيف يمكن أن نقول عن ماكس فيبر انه يدعو إلى التحليل بعوامل متعددة من ناحية ثم نوافق من يقول أن سوسيولوجياه " ردة فعل " على ماركس بمعنى أنها " أحادية" ثقافية" ؟ هذا تناقض تام.
إننا نعتقد أن فيبر لم يكن مجرد " ردة فعل" على ماركس على رغم خلافه الحاد معه. و فيبر لم يصرح أبدا بأن هدفه العلمي هو إرساء تحليل سوسيولوجي في " اتجاه معاكس" للماركسية يؤدي إلى معاكسة " تحليل اقتصادي " ب" تحليل ثقافي".بل قال إن محاولة كهذه " تسيء إلى الحقيقة التاريخية" ، و إن "هدفنا ليس أبدا استبدال تحليل سببي "مادي" حصرا بتأويل روحاني للحضارة و التاريخ ،تأويل لن يكون إلا كغيره أحادي الجانب ..."( م10، ص149)
لقد حاول دائما التأكيد، حتى في " الأخلاق البروتسانتية وروح الرأسمالية" على أهمية التحليل المتعدد الأبعاد من خلال مصطلحه الشهير؛ الترابط « La Corrélation».
وأراد أن يبين أنه، إضافة إلى التحليل الاقتصادي الضروري لنشأة الرأسمالية، يمكن تقديم تحليل ثقافي يتكامل مع التحليل الاقتصادي دون أن يلغيه ودون أن يكون " مجرد انعكاس" أو " بناءا فوقيا" له. وفي هذا الإطار تأتي الإشارات العديدة حول " المادية التاريخية" في كتب فيبر.
إننا نعتقد أن هذه الرؤية لسوسيولوجيا فيبر أقرب إلى الحقيقة وإلى أعمال فيبر نفسها من اعتباره " ردة فعل" على ماركس. وأن هذه الرؤية يدافع عنها محللون عديدون في العالم، وكان على الدكتور الذوادي أن يذكرنا بها على الأقل، حتى لو كان لا يقبلها.
على عكس هذا، يكتب الدكتور الذوادي حول كتاب ماكس فيبر " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" ما يلي " فمقولة الكتاب الرئيسية تتمثل في أن القيم الدينية البروتستانتية ( والدين عنصر من الثقافة عند تايلور)، هي العامل الحاسم الذي أدى إلى ظهور الرأسمالية المعاصرة..." ( ص 41).
والغريب في الأمر، أن الدكتور الذوادي، لو قلب بين يديه النسخة العربية التي استشهد بها من كتاب فيبر دون أن يفتحه تماما، لقرأ في الصفحة الأخيرة على الغلاف(ص12 داخل الكتاب) ما يلي: " في أية صيغة تحدد بعض المعتقدات الدينية بروز " عقلية اقتصادية"، وبعبارة أخرى بروز " التقـليد" المتعلق بشكل معين من الاقتصاد؟ وقد أخذنا مثلا على ذلك العلاقات بين روح الحياة الاقتصادية الحديثة وبين الأخلاق العقلانية لدى البروتستانتية النسكية. ولن نهتم إذن إلا بوجه واحد من التسلسل السببي".
الفرق واضح تماما بين ما يكتبه ماكس فيبر وما يفهمه الدكتور الذوادي، هنالك تناقضان أساسيان:
الأول: فيبر لا يدرس العلاقة بين القيم الدينية وظهور الرأسمالية بل بين تلك القيم والعقلية الاقتصادية أو " التقليد" المتعلق بالرأسمالية.
الثاني: فيبر لا يدرس " العامل الحاسم" كما يريد الدكتور، بل يقول صراحة أنه لن يهتم " إلا بوجه واحد من التسلسل السبيي"، دون أن يقصد أن ذلك التسلسل هو الوحيد المفسر لنشأة الرأسمالية، ولو رجع الدكتور إلى مقدمة "الأخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية" لوجد فيبر يذكر العوامل التالية لنشأة الرأسمالية بواسطة المقاول الحديث؛ التنظيم العقلاني للعمل، العلم والتقنية، ظهور البيروقراطية، فصل المؤسسة عن العمل المنزلي ، المحاسبة العقلانية، ظهور العمل الحر وتطور القانون الإداري ...
ما هو إذن ذلك ا لوجه " الواحد من التسلسل السببي" الذي يدرسه ماكس فيبر؟ إنه العلاقة بين " الأخلاق البروتستانتية" من ناحية و "روح الرأسمالية" من ناحية ثانية، كما يدل على ذلك عنوان الكتاب. إن فيبر لا يدرس العلاقة بين الدين والرأسمالية، كما يريد أن يوهمنا الدكتور الذوادي، بل بين " الأخلاق الدينية" و " روح" الرأسمالية فقط وبذلك، لا يمكن اعتبار فيبر " رد فعل" على ماركس.
بهذا المعنى، إذا كان من الممكن اعتبار فيبر رائدا في علم الاجتماع الثقافي، فإنه من الواجب التنبيه إلى أنه لم يكن يعني تماما تحليل نشأة الرأسمالية بكاملها، بل " روحها" فقط، بواسطة عامل " الأخلاق الدينية". و كذلك يكون من الخطأ الادعاء بأن فيبر كان يعتبر " القيم الدينية" عاملا حاسما، في ظهور الرأسمالية. بل كان يهتم " بوجه واحد من التسلسل السببي الثقافي للرأسمالية.
إضافة إلى سوء فهم نظرية فيبر، "لا يفهم" الدكتور الذوادي المنهج الفيبري " التفهمي" أيضا لأنه يربطه بوهم إعطاء فيبر " الصدارة لأهمية الجوانب الثقافية ". يقول: " ونتيجة لذلك، أصبح الفكر السوسيولوجي الفيبري يعرف بعلم الاجتماع الفهمي" (ص41). ثم يواصل: " فعلم الاجتماع الفهمي هو محاولة لفهم خبايا العوامل الثقافية، ومدى تأثيرها في خلق الدوافع والحوافز عند أفراد المجتمع الذي تتأثر حتما مسيرته بها"(ص41).
أولا: إن إعطاء " الصدارة لأهمية الجوانب الثقافية" لا تعني أن المنهج يصبح " فهميا" فهنالك نظريات أخرى قد تعطي الثقافة دورا أساسا في تفسير المجتمع دون أن تكون تفهمية بالمعنى الفيبري.
ثانيا: المنهج التفهمي لا يعني " فهم خبايا العوامل الثقافية". إنه كما يعرف الجميع، " الانطلاق من المعاني التي يعطيها الفاعل لفعله وتفهّمها"، وإعطاء المعنى، لا يعني " فهم الخبايا" بالضرورة، بالمعنى الذي يفهمه الدكتور الذوادي، أي " الخبايا" الميتا فيزيقية.
إن المنهج التفهمي يريد معرفة وتفهم المعنى الذاتي الذي يعطيه الفاعل لفعله وليس المعاني " غير الموضوعية ( الخفية) "كما يقول الدكتور.والمعاني التي توجه الفاعلين" ذاتية" و ليست " خفية" في علم الاجتماع الفهمي، و يمكن و يجب تفسيرها تاريخيا عند ماكس فيبر، لان الفهم عنده لا يناقض التفسير. (م11) و في هذا الإطار يمكن معارضة فيبر كما فعل فيرنر سومبارت الذي يرى أن "روح الرأسمالية" ترجع إلى النهضة الإيطالية في فلورنس وأن لليهود دور فيها مثلا، كما توجد اعتراضات أخرى حول أطروحة فيبر من بينها عمل تريفور روبر ( من الإصلاح إلى الأنوار، غاليمار، باريس، 1972) الذي ذكر به ريمون بودون في "موضع الفوضى" في الفصل الذي يحمل عنوان "التماس الباعث الأول..."حيث بين أن المقاول البروتستانتي لم يكن دائما متقشفا و أنه كان في الغالب مهاجرا فلامنديا يعمل في ألمانيا و هولندا و أنه لا يتميز عن مقاول ما قبل الإصلاح البروتستانتي تقريبا .. .
وثالثا: المنهج التفهمي ليس حتميا كما يريد أن يوهمنا الدكتور الذوادي، فعبارة " تتأثر حتما" التي يطل بها علينا، دون أن يوضح، هل هذه الحتمية " صلبة أم مرنة"، كما نصحنا بأن نفعل في مقدمة النداء إلى تأصيل علم الاجتماع العربي، لا تدل على فكر فيبر.
إذن، حتى وإن بدا الدكتور الذوادي متحمسا لماكس فيبر أكثر من تحمسه لماركس و دوركهايم، نعتقد أنه متحمس لأشياء غير موجودة عند فيبر، بل متحمس لفهمه الخاص له. لذلك، لن نقف كثيرا عند قوله إن ماكس فيبر " أكثر قربا من زميليه من أنسنة الفكر السوسيولوجي الحديث "(ص42). وان " المنظور الدوركهايمي الوضعي ونظيره الماركسي المادي كانا عقبة رئيسية أمام قرب علم الاجتماع من فهم طبيعة وعمق الجوانب الخفية لمكونات الثقافة كمعلم بشري معقد" (ص42)، فعلى الأرجح، لو "فهم" الدكتور الذوادي جيدا فكر فيبر، ولو علم أن ماركس في "رأس المال" وأنجلز في "حرب الفلاحين في ألمانيا" سبقا فيبر في تثمين دور الإصلاح البروتستانتي في ظهور الرأسمالية ولو علم أن دوركهايم في "الانتحار" أشار لعلاقة البروتستانتية بالفردية الرأسمالية لألحقه بنظيريه الوضعي والمادي.
* *** بعد عرضه لمكانة الثقافة في فكر دوركهايم وماركس و فيبر يقوم الدكتور الذوادي بقفزة زمنية/ معرفية غريبة جدا.
يقول: " وأمام هذا الصمت الطويل لعلم الاجتماع المعاصر عن الوجه الآخر للعوامل الثقافية نقدم في الصفحات التالية حصيلة جهودنا البحثية المتواضعة. لقد أعاننا على التقدم في مشروعنا الفكري حول الثقافة الملاحظة والتحليل لما نسميه بالجوانب المتعالية ( الميتافيزيقية) للثقافة ككل معقد. ومن ناحية أخرى، فقد وجدنا في ايستمولوجيا الثقافة الإسلامية العربية حول الثقافة سندا كبيرا لملاحظاتنا وتحاليلنا في هذا الميدان، الأمر الذي يجعلنا نشعر بأنه يثري على الخصوص آفاق التنظير في علم الاجتماع الثقافي" (ص42). إن هنالك قفزة زمنية ومعرفية غريبة جدا للأسباب التالية:
أولا: لماذا توقف الدكتور عند دوركهايم وماركس وفيبر، ثم تحدث عن " الصمت الطويل لعلم الاجتماع المعاصر" وبعدها، تواضع و أعلن لنا " حصيلة جهوده"؟
ثانيا: ماذا يعني اللجوء إلى الجوانب المتعالية ( الميتافيزيقية) في علم الاجتماع، وهل يثري ذلك "آفاق التنظير في علم الاجتماع الثقافي" ؟
سنترك الإجابة على السؤال الثاني لما بقي من " أطروحات " الدكتور ونكتفي الآن بالسؤال الأول لنختم به نقد الأطروحة الخامسة من " النداء".
اكتفى الدكتور الذوادي، بعد استعراضه السيئ لأفكار دوركهايم و ماركس و فيبر بالقول إن سيطرة ماركس و دوركهايم على علم الاجتماع الثقافي كانت قوية وبالتالي خلص إلى أن علم الاجتماع المعاصر مارس " الصمت الطويل" حتى جاء هو على ما يبدو لإيقاظه من "نومه الثقافي" بواسطة " التعالي الميتافيزيقي".
أولا: ليس صحيحا تماما، أن فيبر كان غائبا عن علم الاجتماع الثقافي، وعلم الاجتماع المعاصر. وإذا كان الدكتور الذوادي يتعاطف ظاهريا مع فيبر فلا بدّ أنه يعرف تأثُير هذا الرجل المتعاظم في العالم خاصة منذ انتهاء الحرب الثانية.و يكفي القول إن شقيق فيبر المسمى ألفريد فيبر هو أول من استعمل مصطلح علم الاجتماع الثقافي . ثانيا: أين هو كل تاريخ علم الاجتماع الثقافي والانتربولوجيا الثقافية وكل الأبحاث العظيمة التي تطورت وتراكمت من قبل علماء من كل المدارس الفكرية؟ كيف يعقل أن الدكتور الذوادي، وهو الذي يعرف كندا والولايات المتحدة، وهو الذي يجيد الانقليزية، ينسى أو يتناسى أطنان الأبحاث الانتربولوجية والسوسيولوجية الخاصة بالثقافة ليقفز لنا من فيبر عبر " صمت علم الاجتماع المعاصر" مباشرة إلى أبحاثه الخاصة المتواضعة؟
إن التواضع العلمي الذي يذكرنا به الدكتور الذوادي يفرض عليه ألا يقفز على أكثر من ثمانين سنة من البحث السوسيولوجي ( فيبر توفي سنة 1920) والانثربولوجي حول الثقافة ليقدم لنا أبحاثه الخاصة بعد « الصمت الطويل" لعلم الاجتماع المعاصر.
طبعا، نحن لن نؤرخ الآن للباحثين والأبحاث التي تمت في هذا الميدان، إن الإطلاع على أي ملخص لعلم الاجتماع الثقافي أو الانتربولوجيا الثقافية يفيد بأنه لم يكن هنالك لا " صمت" ولا " طويل" حول الثقافة، ولا حتى حول " جوانبها الخفية". ( م12)
أين الإشارة لأعمال مالينوفسكي و ألفريد فيبر وليزلي هوايت ورالف لنتون وروث بنديكت وبيتريم سوروكين وكلوكهون؟
أين الإشارة إلى أعمال مارسيل موس وكلود ليفي شتراوس وبيار بورديو وأعمال هربرت ماركيوز ولوسيان غولدمان وغيرهم ؟
إن نداء الدكتور الذوادي، ينسف تاريخ علم الاجتماع عموما بتشويه " الروّاد المؤسسين" والتنكر لتراث خمس وثمانين سنة من البحث المتواصل حول الثقافة من كل الاتجاهات النظرية.
هل يعقل هذا؟ ألا تعلمنا أبسط مراجع المنهجية العلمية، عند إعداد الأبحاث والاطروحات، أنه لا بد من عرض ما تمّ إنجازه في موضوع البحث من قبل السابقين قبل تقديم وجهة النظر الخاصة؟ أم أن الدكتور يريد أن يقنعنا فعلا بأنه يقوم بما يشبه " البحث العلمي الأساسي" Basic Research . الذي يشبه الفتح العلمي الجديد تماما؟
وهل فشل ما يقارب القرن من البحث الانتربولوجي والسوسيولوجي حول الثقافة "ليعيدنا" الدكتور الذوادي إلى معجم كانط و " التعالي الميتافيزيقي" و " الخفي" الذي يذكر" بالشىء في ذاته"
إذا كان الأمر كذلك، عليه أن يبينه، و ألا يقف عند الروّاد الثلاثة وعليه أن يقنعنا بعلاقة كل هذا بالثقافة العربية الإسلامية.
6 : حول " دراسة الثقافة برؤية الثقافة العربية الإسلامية":
يبدأ الدكتور الذوادي بتذكيرنا أنه اكتشف معالم جديدة لما يطلق عليه " الرموز الثقافية" ويقول " وقد أهملت العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية المعاصرة هذه المعالم إهمالا شبه كامل بسبب الإبستمولوجيا الرئيسية التي تنطلق منها في دراستها للظواهر الثقافية والاجتماعية..." (ص42) وهو يعني الابستمولوجيا الوضعية تحديدا. ولكنه يتناسى أن العلوم الغربية، لم تكن كلها علوما وضعية، وأن أحد تياراتها الأساسية كان التيار الكانطي الجديد الذي هو ضدّ الوضعية من منطلق " التعالي" العزيز عليه. كان على الدكتور أن يعترف بأنه يناصر هذا التيار الذي له حضور كبير في الفلسفة والدين خاصة، وربما ليس في علم الاجتماع. (مع الفارق الكبير بين الرجلين طبعا لأن كانط ، في المرحلة النقدية ،يتناول الدين ضمن ما يسميه "العقل العملي" بينما يقحم الدكتور الدين في" الأساس الابستيمولوجي" للعلم) .
كما يتناسى الدكتور الذوادي، أن نقد ما يسميه " إبستمولوجيا" العلوم الغربية في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية كان قد " بدأ" مثلا مع المدرسة التاريخية الألمانية الجديدة مع دلتاي و ريكرت و زيمل و فيبر، كما بين ذلك عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون في كتابه الشهير حول " فلسفة التاريخ النقدية". ( م13)
كما أن مبالغته في وضع النظريات الوضعية والمادية، كعراقيل لتطور العلوم الإنسانية تهمل ما قدمته هذه النظريات لتطوير العلوم، في زمنها، وتحاول ربط ذلك بالغرب عموما لتبرير الدعوة السابقة إلى " الاستقلال عن العلوم الغربية والانطلاق من " ابستمولوجيا " ( ثبت أنها انطولوجيا دينية) إسلامية – عربية.
إن هدف الدكتور الذوادي من كل هذا هو إيهامنا بأن أبحاثه تمثل:
" 1- نوعا من البحث الأساسي Basic Research الذي به تتقدم مسيرة المعرفة، وينضج به الفكر في مجال الثقافة ( هذا الكل المعقد) الذي يتميز به الجنس البشري.
2- مساهمة فكرية إسلامية عربية في علم اجتماع الثقافة، الذي يعتبر اليوم من أكثر فروع علم الاجتماع حركية وجاذبية" ( ص 43).
إن أبحاث الدكتور الذوادي، من خلال هذا النداء على الأقل، ليست " نوعا من البحث الأساسي" في شيء. وهي في رأينا مساهمة في أسلمة علم الاجتماع من منطلق " أصولي صوفي" أكثر منه علمي كما سنواصل بيانه الآن:
يقول الدكتور انه يريد توطين علم الاجتماع الثقافي عندنا ويختار: " الرؤية القرآنية للرموز الثقافية باعتبار القرآن المصدر الأول للثقافة الإسلامية العربية" (ص43).
بعد ذلك، يعلمنا الدكتور أن القرآن لا يحتوي على لفظة " ثقافة" لكنه يحتوي على آيات حول سبعة من "الرموز الثقافية الأساسية" هي: العلم، الدين، التفكير، اللغة، القيم والتقاليد ثم الأساطير".
والغريب في الأمر، أنه عندما يذكر الدكتور هذه الآيات. ضمن فكرته الأساسية حول احتواء القرآن على ابستمولوجيا الرموز الثقافية، لا ينتبه لما يلي:
أولا: أن النص الديني ليس نصا علميا، وأنه يختلف " جوهريا" عن النص العلمي إذا استعملنا عبارة الفيلسوف كارل بوبر، في أنه" لا يقبل الدحض". ولا نعتقد أن الدكتور الذوادي سيقول لنا العكس، فكيف سيضع الدكتور الذوادي اشكالياته العلمية وفرضيات بحوثه وكيف سيتثبت من صحتها أو خطئها وكيف سيطور المعرفة السوسيولوجية بالقضايا التي يقول النص الديني انه أجاب عليها وما فرّط فيها من شيء.
ثانيا: لا يدقق الدكتور الذوادي في معاني الكلمات التي تشير إلى الرموز الثقافية السبعة التي أشار إليها. فمصطلح " العلم" في القرآن، ليس هو مصطلح العلم في العلوم الحديثة، لا من حيث الموضوع و المنهج ولا من حيث تصوّر معنى الحقيقة العلمية لأنه يعني علم الدين بالأساس.
ومصطلح الدين في القرآن يختلف عنه في العلم، خاصة في مسألة الموقف القيمي للقرآن من الدين، ومن الأديان عموما، مقابل الموقف العلمي من الأديان عموما، سواء من حيث الحياد المنهجي عند البحث، أو من حيث التعريف الموضوعي للدين كظاهرة إنسانية عامة، دون البحث عن ماهية " الدين الحق". ومصطلح التفكير والعقل في الدين يختلف عنه في العلم لأن النص الديني قد يرفض مسبقا أشكالا محددة من أعمال العقل والتفكير، تلك التي توصل إلى العلمنة أو الإلحاد مثلا. ومصطلح اللغة وتناوله في النص الديني يختلفان عنه في البحث العلمي فعندما يحوّل الدكتور الذوادي المعرفة السوسيولوجية باللغة إلى معرفة دينية فإنه قد يقتل علم اجتماع اللغة الذي يعتبر اللغة كائنا اجتماعيا من حيث النشأة والاختلاف بين اللغات، أي كظاهرة اجتماعية وليس "هبة إلهية"، هذا إضافة إلى احتمال كبير لتبرير الاضطهاد اللغوي على الشعوب الأخرى بسبب تقديس العربية لغة القرآن.
وكذلك مصطلح القيم و التقاليد، إذ النص الديني موقفه منها قيمي وليس علمي، والدكتور الذوادي على ما يبدو، لن يطرح علينا دراسة القيم والتقاليد علميا، بل يدعو إلى تمييز" القيم السامية" عن "غير السامية"، وكذلك سيدعونا إلى " المحافظة على التقاليد الصالحة والتخلي عن التقاليد الباطلة" وليس دراستها علميا، وهذا سيحول علم الاجتماع الثقافي على الأرجح إلى وعظ أخلاقي إسلامي. ومصطلح الأساطير (و السحر الذي لم يذكره الدكتور) هو الآخر له معنى خاص في النص الديني يرتبط بتصور مخالف تماما للدراسات الانتروبوـ سوسيولوجية ومصحوب دائما بموقف سلبي من" أساطير الأولين".
إضافة إلى هذه المصطلحات، لا نعرف لماذا لم يذكر الدكتور الذوادي الفن في معرض " الرموز الثقافية"، رغم أن القرآن يحتوي مثلا على " سورة الشعراء".
هل أن موقفه معاد للفن "غير الإسلامي"، بسبب قراءة خاصة به للقرآن أم أن الأمر مجرد سهو لا غير؟ بعد استعراض هذه النقاط يطرح الدكتور ما يسميه هو " السؤال الابستمولوجي" ويقول: " ما هي طبيعة الرموز الثقافية من منظور الرؤية القرآنية؟" (ص 43)
ثم يجيب إجابة "غريبة عن الدين" وخاصة عن العلم في نفس الوقت. يقول: ترجع الآيات القرآنية أصول تميز الجنس البشري إلى نفخ روح الله في الإنسان ( آدم)" (ص45).
- علميا: وفي إطار ما يسميه الدكتور الذوادي " التوحيد الابستمولوجي" بين الثقافتين، تتجاوز العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية الآن تلك المقابلة الحادة بين الطبيعة/ الثقافة- الغريزة/ الاكتساب...إلخ.
إن عددا كبيرا من الدراسات العلمية يعيد الاعتبار للتواصل بين الطبيعي والثقافي وليس القطيعة بينهما، وذلك باعتماد آخر نتائج العلوم البيولوجية والفيزيولوجية وعلوم الإحاثة وعلوم الايطولوجيا (L’Ethologie)...
سوسيولوجيا بالتحديد، أحدث الدراسات تحاول تعريف الإنسان والمجتمع تعريفا جديدا يتميز فيه عن الطبيعي والحيواني ولكن دون أن ينقطع عنه. أما عندنا، في تونس مثلا، ففي أحسن الحالات اكتفي بعض أفضلنا (علماء الاجتماع ) معرفة بالموضوع بعرض التصورات الدينية و العلمية و الخرافية جنبا الى جنب دون التعمق في البحث المقارن مع الأسف. (م14).
إذا، في الوقت الذي يدعو فيه الدكتور إلى " التوحيد الابستمولوجي" بين العلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية والاجتماعية. يقبع عند التعريفات القديمة ، السابقة للقرن التاسع عشر، ما قبل اللاماركية و الداروينية سواء للإنسان أو للحيوان.
- دينيا: يرجع الدكتور تميز الإنسان عن الكائنات الأخرى إلى " نفخ روح الله في الإنسان" وهذا غريب عن قراءات الإسلام الأكثر انتشارا، بل وعن الآية التي استشهد بها الدكتور نفسه والتي لا تكتفي بفكرة نفخ الروح، بل تسبقها بفكرة التسوية الجسدية لآدم من التراب. فحتى من منظور ديني "صرف"، لا شيء يدّل على أن عملية النفخ الإلهية كانت " عاملا حاسما" في تشكل آدم، مقارنة بعملية الصنع باليدين اللاهيتين من الصلصال " الحما المسنون، التي هي أيضا فعل إلهي متميز حسب النص الديني، هذا إضافة إلى تعليم "الأسماء كلها" و "أمر الملائكة بالسجود لآدم"...
لهذا، نعتقد أن الدكتور الذوادي يسقط تصوراته الشخصية جدا على الدين والعلم في نفس الوقت وهي تصورات أقرب إلى التصوف منها إلى أي رأي آخر.
من ناحية أخرى ، عندما يقول الدكتور إن الإنسان يتميز فقط بالرموز الثقافية (ويقصي منها العمل مثلا) يناقض أهم النظريات العلمية وحتى بعض التصورات الدينية التي تقول جميعها بأن " الجسد" الإنساني، بيو- فزيولوجيا، متميز كجسد (ولكن نسبيا)، وأيضا هو متميز بقدرته على العمل (كنشاط فكري- جسدي). هذا رغم أن الدراسات الحديثة للحيوانات كسرت مثلا الصورة القديمة للإنسان الذي ينفرد " بصنع الأدوات" وبينت أن الشامبانزي يفعل ذلك وله أحيانا ما يشبه " الثقافة" عند بعض القطعان. . لكن، يبدو أن الدكتور الذوادي يعتقد، إضافة إلى موقفه من " الصمت الطويل" للعلم المعاصر، أن " علم التفسير" الإسلامي هو أيضا غير كاف. فيقول انه برؤيته التأسيسية ينهي " الغموض" الذي أحاط بالمسألة: " وبهذه الرؤية تصبح ماهية النفخة الروحية الإلهية أقل غموضا مما كانت عليه في تفسيرات المفسرين" ( ص45).
والعجيب في الأمر أن محاولة التوفيق بين المفهوم العلمي والمفهوم الديني للرموز الثقافية توصل الدكتور الذوادي إلى تصور غريب عن الإنسان.
" وهكذا يتجلى مما سبق أن تميز الإنسان يعود، من ناحية إلى الرموز الثقافية باصطلاح العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، وإلى نفخة روح الله في الإنسان، من ناحية أخرى، كما جاء في القرآن. و من ثم يمكن الاستنتاج بأن نفخة روح الله في آدم تتضمن رصيد الرموز الثقافية الذي أهل الجنس البشري وحده لخلافة الله في الأرض. فالرموز الثقافية هي إذن على المستوى الابستمولوجي ذات طبيعة ألاهية، ما ورائية متعالية. ومن ثم لا غرابة أن تكون لها بعض الصفات التي تجعلها تشبه الكائنات الماورائية، كما سوف نرى"(ص44).
و يقول لاحقا: " وفي رأينا لا يكاد يوجد أي تناقض بين المنظورين" (ص44).
ويعتقد الدكتور أحيانا أن الرموز الثقافية هي " جزء، على الأقل، من نفخة روح الله في الإنسان"(ص44)، وأحيانا أخرى"العنصر المركزي" منها ثم يقول إن: " الرموز الثقافية هي كل نفخة الروح الإلهية نفسها في ذات آدم" (ص45).
ولسنا نعرف ما هي الوسائل العلمية التي اعتمدها الدكتور في قياس العلاقة الكمية النسبية بين الرموز الثقافية من ناحية و " نفخة الروح الإلهية" من ناحية ثانية. وما الذي حمل الدكتور على الانتقال من اعتبار هذه الرموز، في المرة الأولى " جزءا على الأقل" ثم في المرة الثانية" العنصر المركزي" ثم المرة الثالثة " كل نفخة الروح الإلهية"؟ فهل هذا التردد بين " الجزء" و " العنصر المركزي" و" الكل" هو ما يقدمه لنا من أجل تجاوز غموض المفسرين وصمت علماء الاجتماع؟
إن شغف الدكتور الذوادي بالتوحيد بين العلم والدين، إذ في رأيه: " لا يكاد يوجد أي تناقض بين المنظورين"، هو الذي يجعله يكسر رقبتيهما معا و يطوعهما لمشروع " البحث العلمي الأساسي" الذي يقترحه علينا. و هو بهذه الطريقة يبتعد حتى عن بعض المحاولات القديمة جدا في علم الاجتماع.
إن ابن خلدون، الذي يذكرنا الدكتور الذوادي به باستمرار، عندما عرف الإنسان، عرفه على أنه " مدني بالطبع" وليس " رموزيا بالطبع". و قد حاول ابن خلدون التعبير عن ذلك دون السقوط في تفسير " متعال" للإنسان، حتى مقارنة بالحيوانات.
فعند الرجوع إلى " المقدمة" (م 15) نعرف أن " الاجتماع الإنساني ضروري" للأسباب التالية: أولا: عجز الإنسان المنفرد عن تحصيل القوت وذلك بسبب خصائص الجسد البشري الفردي وحاجته إلى الغذاء والملبس والمسكن...
ثانيا: عجز الإنسان الفرد عن حماية نفسه من الطبيعة، وخاصة من الحيوانات التي تتمتع ببعض القدرات التي تفوق بها الإنسان وقد تكون مضرة له. و يضيف ابن خلدون أن الله " جعل للإنسان عوضا من ذلك كله الفكر واليد، فاليد مهيأة للصنائع بخدمة الفكر و الصنائع تحصل الآلات" ( المقدمة ص47). ثالثا: وإذا تم العمران، " فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة" ( المقدمة صص47-48).
وبعد مقارنة خلدونية بين ظاهرة " الوازع" عند الحيوان والإنسان، يقول إن البعض يعتقد أن الوازع لا يتم إلا بالنبوة ويرفض ذلك قائلا:
" وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلا عن الحياة..." ( المقدمة ص48).
نلاحظ إذن، أن ابن خلدون العربي المسلم، منذ ستة قرون، قدم تعريفا للإنسان أكثر سوسيولوجية من الدكتور الذوادي. إنه عرّف الاجتماع البشري بأنه اجتماع شامل فيه الاقتصاد والاجتماع والفكر والحكم. و هو عندما يقارن بين الإنسان والحيوان يقول إن الحيوان له ما يتفوق به أحيانا على الإنسان ( القوة) وله ما يشابهه به نسبيا ( الوازع عند النحل...) وأن الإنسان يتفوق بالفكر واليد والسياسة، لكنه رغم ذلك عنده " طباع حيوانية" من " العدوان والظلم" إضافة لتشابهه مع الحيوان في ضرورة " تحصيل القوت"...
إن تعريف الدكتور الذوادي الإنسان بأنه كائن " رموزي ثقافي" مع تقديمه للرموز الثقافية وكأنها «ما ورائية" بسبب كونها " جزءا" أو " عنصرا مركزيا" أو " كل نفخة الروح الإلهية"، يحوّل سوسيولوجياه إلى ميتا سوسيولوجيا لاهوتية، لا علاقة لها حتى بعلم الاجتماع العربي الخلدوني ولا بعلم الاجتماع إجمالا. بل إنها على ما يبدو مخالفة حتى ل " التفاسير" الإسلامية أو لأكثرها انتشارا على الأقل.
إن الإيمان ب"وحده العالم " و"وحدة الخالق" مع اعتبار " النفخة الإلهية" مساوية تقريبا للرموز الثقافية، يجعل تصور الدكتور تصورا صوفيا و حلوليا تقريبا. وكأن الله، عبر نفخته الروحية، مازال مع روح كل واحد منا عبر «الرموز الثقافية". والدكتور لا يريد أن يقول لنا أن تصوره ليس تفسيرا جديدا لأنه قريب من تعريف المتصوفة للإنسان "آدم" الذي "يتمتع بسبع مزايا روحانية، تلك المزايا التي نسبت إلى الله، لكن مزايا آدم كانت محدودة، ألا و هي؛ الحياة، المعرفة، الإرادة، القدرة، السمع، البصر، الكلام... " ( م16، ص09) إن الدكتور الذوادي يكاد يحوّل الإنسان إلى " نصف مسيح". فكلّ واحد منا، على ما يبدو، مازال يحمل معه، من خلال " رصيد الرموز الثقافية" بعضا من " الروح القدس" ولهذا فإننا نتميز، نحن البشر، بأننا نحمل معنا رموزا " ذات طبيعة إلهية/ ما ورائية متعالية". إننا نكاد نرجع مع الدكتور إلى العرفان الصوفي و الى تصور الحلاج حول وحدة "الناسوت و اللاهوت" في الإنسان، إننا نراوح بين "الحلول الصوفي" و مذهب "وحدة الوجود" تقريبا.(م 17 ص 131-152) بل انه قد يتجاوز الصوفية أحيانا في اتجاه أكثر لاهوتا كما سنرى ذلك لاحقا.
7: حول " تجليات الجوانب الميتافيزيقية في الرموز الثقافية:
يقترح علينا الدكتور في هذه الفقرة ( بعد أن ادعى أن " الرموز الثقافية" هي " جزء مركزي" من " نفخة الروح الإلهية"،) بيان كيف أن نفخة الروح الإلهية تتجلى في بعض الرموز الثقافية نفسها" (ص45) ويعدنا بدراسة ثلاثة أمثلة، لكنه، عن سهو ربما، تعرض فقط لاثنتين وهما اللغة والقيم.
أ- حول اللغة ولمساتها الميتافيزيقية:
يبدأ الدكتور بما يلي " يؤكد القرآن الكريم خلود بالذات الإلهية إن بعض الرموز الثقافية تتصف هي الأخرى بالبقاء الطويل، أو حتى الخلود" (ص45).
لقد ناقشنا سابقا مسألة الخلود وعلاقتها بالرموز الثقافية.
ونريد فقط أن نذكر الدكتور الذوادي، أنه لو قرأ القرآن لفهم أنه يذكر شعوبا وقبائل عديدة انقرضت هي و " رموزها الثقافية ". ولو كانت له عقلية علمية حقيقية، لما تجرأ على مخالفة أبسط الحقائق العلمية حول اللغة، فالدكتور يجيد العربية والفرنسية والإنجليزية، وهو يعرف أن هذه اللغات هي تفريعات عن لغات ماتت وهي اللغات الشرقية القديمة ( بالنسبة إلى العربية) وبعض اللغات الأوروبية القديمة بالنسبة إلى الفرنسية والإنجليزية. إنه يعرف بالتأكيد أن اللغة الفرنسية مثلا ليست هي " الفرنسية القديمة" ولاهي "اللاتينية القديمة"...
من ناحية ثانية، يقول الدكتور: " إن ملامح اللمسات الميتافيزيقية في الأنساق اللغوية لا تحتاج إلى عناء إثباتها، فاللغة هي أهم الرموز الثقافية جميعا"، ومن ثم فهي مهيأة أكثر من غيرها لحمل ومضات "عالم اللامحسوس" وفقا لرؤيتنا لعالم الرموز الثقافية للإنسان" (ص45).
- إن الاعتقاد بعدم الحاجة " إلى عناء" لإثبات أفكاره أمر غريب عند الدكتور، فإذا كان الأمر كذلك، لماذا يكتب لنا مقالات وكتبا؟ - ثم إن عدم الحاجة إلى " عناء" هو من باب المصادرات المغلوطة لأنه، إذا كان يقدم لنا " بحثا علميا أساسيا" و براد يغما" جديدا، فعليه أن يتحمل بعض العناء لإقناعنا بهما.
- بعد ذلك ، إن القول بأن اللغة هي " أهم الرموز الثقافية" إذا ربطناه برؤيته لتلك الرموز سيجعلنا نعتقد أن الإنسان هو بالأساس " كائن ناطق" وهذا فتح علمي جديد على ما يبدو.
كما أن اعتبار اللغة أهم رمز، سيجعل منها ربما أهم مكوّن أيضا من مكونات " نفخة الروح الإلهية" وهذا أيضا فتح جديد في ميدان التفسير الإسلامي. من ناحية أخرى، على الدكتور الذوادي أن يوضح لنا ما معنى عبارة " فهي مهيأة أكثر من غيرها لحمل ومضات عالم اللامحسوس"، ما معنى حمل؟ ما معنى ومضات؟ وما معنى " عالم اللامحسوس"؟
يقول لنا: " يمكن الاقتصار على ذكر وتحديدا أربع ملامح...".
- سرعة التواصل التي " لا ترجع إلى تقنيات الاتصال العصرية فحسب، وإنما تتأثر هذه السرعة في العمق بطبيعة اللغة بنفسها فالتواصل باللغة مع تحسن تقنيات الاتصال ( عن طريق الهاتف والفاكس و الانترنت)...(أضفى على عالمنا) " صفات العجائب والغرائب" وهذا " يوحي بما يمكن أن نسميه بالبعد الميتافيزيقي لوجود الكائنات البشرية في هذا العالم" (ص46).
إذا كان هذا الأمر يوحي للدكتور ببعد ميتافيزيقي للإنسان فهذا شأنه، لكن عليه أن يقنعنا بذلك. صحيح أن اللغة عامل مهم جدا في حياة الإنسان وأن الاتصال تطور إلى درجة كبيرة جدا. لكن هل ذلك من باب " العجائب والغرائب"؟ وهل يوحي ببعد ميتافيزيقي ما؟
ماذا يوجد من ميتا فيزيقا في اللغة،( مع العلم أن الدكتور لم يتعب نفسه تماما ويوضح لنا الفرق بين اللغة و الكتابة) ، وفي تقنيات الاتصال من هاتف وفاكس وأنترنات؟
إن كل هذه العناصر فيزيائية بامتياز؛ أصوات و كلمات و جمل و حروف مكتوبة على ورق- هاتف وفاكس وأنترنات ( حاسوب) وأسلاك وأقراص و تيار كهربائي و الخ.
ما الغريب والعجيب الميتافيزيقي الذي يراه في هذا؟
العجيب و الغريب هو أن يستنتج الدكتور الذوادي من ذلك ما يلي: " منه تتجسم بطرح جديد ثنائية كينونة الإنسان. فالصياغة التقليدية لطبيعة الإنسان تتمثل في كونه جسما وروحا، أما التصور الجديد لكينونة الإنسان، الذي بلورته ثورة المعلومات، فهو يتمثل في أن الإنسان جسم قابع هنا على سطح الأرض، أو سابح في الفضاء، لكنه متصل وموجود عن طريق اللغة هناك على بعد خيالي على هذه الأرض، وفي ذلك الفضاء الرحب. فهذه الثنائية الجديدة الملامح تطرح الجانب الميتافيزيقي القديم ( الروح). لهوية الإنسان في ثوب جديد يظل، على رغم جدته، ذا وشائج صلبة مع عالم الماورائيات و اللامحسوسات..."(ص46).
إنه فعلا أمر غريب وعجيب ا
لم يعد الإنسان عند الدكتور " جسدا وروحا" بل أصبح جسدا ولغة. لكنها ثنائية جديدة ذات " وشائج صلبة مع عالم الماورائيات و اللامحسوسات". ما علاقة هذا بالعلم وخاصة بألفين طوفلر ( Toffler) و نظريته حول الموجات الثلاث الزراعية والصناعية و العلمية ـ التكنولوجية ؟ وما علاقة هذا بالتفاسير الدينية؟ لا أحد يعرف ذلك سوى الدكتور.
- اللغة: حسب الدكتور ، اللغة قادرة على " تخليد الأفراد والجماعات رمزيا عبر الزمان والمكان" وهي " تسمح لرصيد ذا كرات الشعوب وأفكار الشخصيات اللامعة بالتمتع بالقليل، أو بالكثير من سمات الخلود والأزلية" (ص46). يبدو أن الدكتور لا يفرق حتى بين اللغة والكتابة أو الأشكال الحديثة من الطباعة الإلكترونية. صحيح أن الكتابة والطباعة ( بمختلف الأشكال) تجعل الأفكار تبقى رغم الزمن والمكان. لكن، هل ذلك دليل على طابعها الميتافيزيقي؟
وهل ذلك يسمح بالحديث عن " الخلود والأزلية"؟ إن الدكتور يتجاوز هنا حتى بعض الاطروحات الصوفية التي تقول أن الله وحده أزلي بينما بقية الوجود يتمتع بالقدم فقط. ( انظر مادة " أزل" في " معجم مصطلحات الصوفية" ) (م18 ، ص 15)
- غريب أمر الدكتور، إنه يقول بـ" مقدرة الرموز الثقافية على السماح للإنسان بالتمتع بنوع من الخلود بسبب استمرار توالي الاكتشافات التقنية الحديثة في ميدان الإلكترونيات المتقدمة" (ص46)
إذن السبّب في " الخلود" ليس الرموز الثقافية " بل الصناعة الحديثة". أكثر من ذلك، عندما يواصل هذه النقطة ويذكر " تسجيل الصوت والصورة" وصناعة الفيديو يقول أن ذلك مثال حي على " تخليد الكلمة والصوت والصورة الحية الطبيعية للكائنات الحية والظاهرات الجامدة" (ص47) إذن حتى " الظاهرات الجامدة" تتميز بالخلود !
الإنسان، بواسطة الرموز، لا يخلد نفسه فقط، بل " الظاهرات الجامدة" أيضا وباقي " الكائنات الحية".
فلعل الطبيعة الجامدة أيضا، بفضل صناعة الإنسان تكتسب في يوم ما هوية ثنائية هي الأخرى ! أما بالنسبة لباقي الكائنات الحية، وتحديدا الحيوانات، فنوّد أن يجيبنا الدكتور هل لها أرواح أم لا؟ وهل لأرواحها، إن كان لها، علاقة ما " بالنفخة الإلهية"؟
- يقول الدكتور... بتميزه باللغة " على المستوى الشفوي" عن بقية الكائنات، يستطيع الإنسان أن يحرر نفسه من العراقيل المادية لهذا العالم ويقيم علاقات وروابط مع العالم الميتافيزيقي"(ص47). لكنه ينسى أن يقول لنا ما يلي: هل بامكان الإنسان التحرر من دماغه المادي وجهازه الصوتي العضلي وهما أداتا اللغة، " على المستوى الشفوي "حتى يحرر نفسه نهائيا من " العراقيل المادية"؟
وهل هي " عراقيل" أصلا حتى يتحرر منها، أليست إما وسائل تفكيره أو مواضيعها المادية؟ طبعا، إن اللغة وسيلة مهمة للتفكير والتجريد والحلم و" الابتهال والتضرع". ولكنها لا تصطدم بالضرورة بعراقيل مادية، سواء أدواتها العضلية أو المواضيع التي ترمز إليها.
وربما بالعكس تماما، كل التجارب الفردية والعلمية تقول أن اللغة هي نفسها أحيانا " معرقل" مادي- رمزي لانطلاق الفكر. إن الأدب العالمي يحفل بمعاناة المبدعين بسبب عجز اللغة عن مساعدتهم على التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم وأحلامهم، لكن، وكما قلنا، يبدو أن موقف الدكتور من الفن كمكوّن من مكونات" الرموز الثقافية" لم يتركه ينتبه إلى هذه الأمور.
ب- حول اللمسات الميتا فيزيقية لقيم الحرية والعدالة والمساواة:
يبدأ الدكتور الذوادي بتعريف " اللمسات الميتافيزيقية" للقيم ويقول " أنها تحول سلوكات البشر خاصة في بعض الحالات إلى سلوكات، كأنها متأثرة بقوى ما ورائية" (ص47). وقد يبدو للوهلة الأولى أن تأثير القيم هو " الماورائي" وليست القيم نفسها لكن الدكتور لا يريدنا أن نصاب بسوء فهم من هذا القبيل، لذلك يقترح علينا " بعض الملاحظات أو المقدمات، كما فعل ابن خلدون في فصول مقدمته الشهيرة" (ص47).
يقول أولا، الحيوان كائن غريزي والإنسان كائن ثقافي، " هذا ما يفسر استمرارية التطابق الكامل، أو شبه الكامل في سلوك كل نوع من أنواع الحيوانات والحشرات والطيور والزواحف، عبر الأجيال المتلاحقة عبر الزمان والمكان"(ص47).
وينطلق الدكتور في إقرار هذه الفكرة من " الملاحظة الميدانية". وهو يريد أن يقول أن ملاحظاته، الميدانية على ما يبدو، تتفق مع العلوم الطبيعية وينسى أن العلوم الحديثة ما انفكت تكّرر، منذ داروين خاصة، إن السلوك الحيواني نفسه يتغير تدريجيا، وفق قوانين التأقلم مع المحيط الطبيعي ويتثبت وفق قوانين الوراثة.
فالعالم الحيواني يتطور هو الآخر، وإن بشكل مختلف من حيث السرعة والسعة والعمق عن التطور الاجتماعي التاريخي.
ان التطورات الواقعة داخل عالم الحيوان أصبحت الآن معروفة لكل تلامذة الابتدائي الذين يعرفون أن قوانين التأقلم مع الطبيعة حوّلت حيوانات عديدة عبر تغير تركيبتها العضوية وأن حيوانات جديدة، وكواكب جديدة يمكن أن تظهر بحكم "التجدد والإبداع" المتواصل داخل عالم الطبيعة نفسه.
ومن ناحية أخرى، يحلل لنا الدكتور الذوادي التنوع الكبير في السلوك الإنساني بــ" تأثيرات عالم الرموز الثقافية" دون أن يواصل السير بالحجة العلمية إلى أقصاها. أي إلى الثراء البيو- فزيولوجي الضمني الذي يتمتع به الإنسان.
إن العلوم الحديثة تؤكد أن من ميزات الإنسان الكبرى، ليس " طبعه" الثقافي أو الاجتماعي الذي لا أصل له في عالم الطبيعة/ الغريزة، بل إمكاناته الافتراضية البيوفزيولوجية الغنية التي تسمح بكل ذلك الإبداع والتنوع الثقافي.
إن المقابلة القديمة بين الطبيعة والثقافة، بين الغريزة والاكتساب يتم تعديلها بسرعة مهولة في إطار"التوحيد الابستمولوجي" الذي لم يفهم الدكتور معناه العلمي رغم حديثه المتكرر عن " علماء الاجتماع والانتربولوجيا المعاصرين".
وكما ذكرنا سابقا، مازال الدكتور الذوادي يعتبر أنه، على عكس السلوك الحيواني، يتميز السلوك الإنساني وحده بالحتمية المرنة، ورغم أنه دعانا في أول مقاله إلى الكف عن هذه الفكرة مستشهدا بفالرشناين و بريجوجين. يقول: " فالسلوك البشري تحكمه حتمية مرنة لا حتمية متصلبة، مثلما هو الشأن في عالم سلوك الحيوانات والدواب" (ص 48).
بعد هذه " المقدمة" يعيد علينا الدكتور حديثه حول أزمة علماء الاجتماع، هذه المرة لأنهم لم يهتموا بالقيم فهي حسب رأيه " لم تلق أي اعتناء علمي يذكر من طرف علماء السلوك الفردي والجماعي المحدثين..." (ص48). والغريب في الأمر، أن علم الاجتماع الثقافي تحديدا، والانتربولوجيا أيضا، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، ناقشت مسألة القيم هذه، ربما أكثر من أي موضوع آخر.
إن الفكر العلمي عموما يكرر منذ نشأته ذلك التفريق المعروف بين الحكم العلمي والحكم القيمي. وبالتالي تعرّض لمسألة القيم منذ نشأته.
أما إذا أردنا العودة إلى " الثلاثة المؤسسين"، فإنه من الغريب أن الدكتور الذوادي ينسف تاريخ سوسيولوجيا القيم عند ماركس. ( بإمكاننا "نصحه" بقراءة كتاب ف أنجلز: ضدّ دوهرينغ) ـ م19 ـ وعند فيبر الذي انقسمت أصناف الفعل العقلاني عنده بين " فعل عقلاني الهدف وفعل عقلاني القيمة". كما أن دوركهايم تعرض لنفس المسألة وركز خاصة على " المعايير" Normes.
أما علماء الاجتماع والانتربولوجيا في القرن العشرين فقد أشبعوا مسألة القيم دراسة، لأن صراعا حادا شق المدارس العلمية بين الدعوة للمحافظة على القيم والدعوة للتغيير سواء في علاقة بالتنمية و التحول الاجتماعي أو غيرها من الاهتمامات والدراسات.
إن الدكتور الذوادي يريد أن يهتم علم الاجتماع ليس بالقيم الاجتماعية بل " بالقيم الماورائية" التي لا يهتم بها إلا هو على ما يبدو.
يقول: " إن تمتع الإنسان دون سواه بالحرية والقدرة على الاختيار، ميزة تربط الكائن البشري بعالم الميتافيزيقا. فالإله في معظم الديانات والعقائد يختص بتلك الخصال. فالإنسان هو الوحيد الذي وهبه الإله تلك الخصال" (ص48).
إن فكرة " الحرية والقدرة على الاختيار" مسألة قديمة جدا في الفكر البشري و لا يمكن تلخيص الآراء حولها، لكن ما يهمنا الآن هو الآتي. إن العلوم الحديثة، كما ينقل الدكتور الذوادي عن فالرشتاين و بريجوجين، لم تعد تنظر إلى السلوك الحيواني مثلا على أنه خال من أية قدرة على " الحرية والاختيار"، ليس طبعا بنفس الأبعاد الإنسانية، ولكن على أية حال، هنالك تأكيد على أنه طالما يوجد حدّ، ولو بسيط، من الذكاء عند الحيوانات وخاصة العليا، فإنه يمكن القول أن " الحتمية" التي تحكم عالم الحيوان ليست " صلبة " بالدرجة التي كنا نتصورها.
أكثر من ذلك، هنالك بعض الدراسات الايطولوجية أكدت أن الشامبانزي في بعض الأماكن. له " ما يشبه الثقافة"، له طرق عديدة في تناول الغذاء غير موجودة عند نفس النوع من الحيوان في أماكن أخرى.
كما أن محاولات تعليم الشامبانزي "اللغة"، ونجاح ذلك جزئيا، أكدت أن مستوى الذكاء عند هذا الحيوان متطور، و خاصة عند تأثير الإنسان عليه طبعا.
المهم هو ان" جدار الصين" المعرفي القديم بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان لم يعد موجودا. إن الطريقة التي طرح بها الدكتور الذوادي المسألة لا علاقة لها بالعلوم الحديثة، فهو حتى من داخل الدين قابل للنقاش، إذ ما معنى: " فالإله...يختص بتلك الخصال. فالإنسان هو الوحيد الذي وهبه الإله تلك الخصال...".
هل يعني ذلك أن الإله وهب الإنسان " نفس" القدرة على الاختيار؟ أم "بعضا" من تلك القدرة أم " العنصر المركزي" منها أم كل تلك القدرة أم ماذا؟
ولكن، لندع العلاقة بين الإنسان والحيوان وبين الإنسان والله جانبا ولنعد إلى مسألة الضرورة والحرية والقدرة على الاختيار في علم الاجتماع. تنقسم النظريات السوسيولوجية حول هذه المسألة، عموما، إلى ثلاثة اتجاهات كبرى؛
الاتجاه الأول هو الاتجاه النسقي و البنيوي بمختلف تفريعاته، هذا الاتجاه يعتبر أن المجتمع يفرض على الإنسان سلوكه. الاتجاه الثاني، المعاكس تقريبا هو ما يسمى باتجاه " الاختيار العقلاني" الذي يرتبط عادة بنزعة فردية، ويقول أن الإنسان حر، أو قادر على خلق هامش كبير من الحرية، هذا إضافة إلى الاتجاهين الفوضوي والوجودي السارتري الذين أكدا على دور " الإرادة الحرة".
الاتجاه الثالث: هو اتجاه " وسطي" نسبيا يحاول تجاوز التناقض المفاهيمي بين الحرية والضرورة، بين الكلية (holisme) و الفردية ... أين يقع موقف الدكتور الذوادي من هذه الاتجاهات؟
نحن نعتقد أنه يقع خارجها جميعا، فإن كان يقول بتميز الإنسان " بالحرية والقدرة على الاختيار" فذلك ليس بمعنى الحرية الاجتماعية والقدرة على الاختيار الفردي- الجماعي، داخل الطبيعة والمجتمع، بل بمعنى " الحرية المتعالية" و " القدرة على الاختيار الميتافيزيقي". يقول: " فالتراث القرآني يشير بالبنان إلى الرباط الماورائي الذي هو مصدر الحرية والإرادة والمقدرة على الاختيار عند الإنسان..." (ص48). و من الطبيعي أن يفسر لنا الدكتور ذلك بعلاقة الرموز الثقافية "بنفخة الروح الأولى".
والغريب في الأمر، أن الدكتور عندما أراد التدليل على ذلك بآية قرآنية أختار " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" (الأحزاب، 71) (ص48).
إن مثاله عن حرية الاختيار هو مثال عن كائن " ظلوم جهول"، ولسنا نعرف، كيف أن إنسانا شديد الجهل شديد الظلم يصبح حرّا في اختياره بإرادة و بحرية. ولسنا نعرف كيف سيفسر لنا الدكتور، علميا، كيف أن السماوات والأرض والجبال أبين وأشفقن- وهي سلوكات يخصها هو بالبشر ( الرفض علامة تحرر، والإشفاق شعور)، فهل لها إرادة وحرية هي الأخرى ولها لغة رفضت بها في الملإ الأعلى أم ماذا ؟ و لسنا نعرف لماذا اختار الدكتور هذه الآية بالذات لأن بعض المفسرين المسلمين يقرنون مصطلح الأمانة فيها بالصلاة فقط ( أنظر تفسير الجلالين مثلا).
كما أن الغريب في الأمر أيضا. أن الدكتور الذوادي يتحدث عن " كمّ وكيف طبيعة عالم الرموز الثقافية التي يملكها الإنسان..."(ص48) في نفس الوقت الذي ينفي فيه " الطابع المحسوس" للروح الرموزية الثقافية". ولعله يريد أن يقول لنا أنه تعرّف في " بحثه العلمي الأساسي" على كمّ وكيف ميتا فيزيقيين يرتبطان «بعالم اللامحسوسات".
وهو يصرّ على " شرعية حتمية ربط كينونة الإنسان بالعالم الميتافيزيقي. اذ من دون عالم الرموز الثقافية ودلالاته،" يظل تشخيصنا للإنسان، وعلاقاته بما حوله هنا على الأرض، وبما فوق السماء، تشخيصا منقوصا على المستوى العلمي والعملي" (ص48).
بعد هذه التحاليل النظرية، يقدم لنا الدكتور مثالا في تطبيق نظريته عن " اللمسات" الميتاسوسيولوجية على الانتفاضة الفلسطينية.
يبدأ الدكتور بمقدمة يتحدث فيها عن انتفاضة الشعب العربي الفلسطيني ضد الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، ثم يتحدث عن هدف الانتفاضة ويقول: " من أجل تحرير أرضه وتحقيق المساواة والعدل بينه وبين الشعب الإسرائيلي المغتصب" (ص49).
بعد الحديث عن المساواة والعدل بين شعب محتل و"شعب مغتصب"(بكسر الصاد)
يواصل الدكتور تحليله " السوسيولوجي الميتافيزيقي" للانتفاضة ساردا بعض المعطيات إلى أن يصل إلى فرادة الانتفاضة في استعمال الحجارة ثم العمليات الاستشهادية. وعند الوصول إلى هذه النقطة الأخيرة يقول ما يلي: " فالمقاومة عن طريق التفجير الاستشهادي تنفرد بها هي الأخرى، المجابهة الفلسطينية للعدو الصهيوني"(ص49)، وهذا خطأ بين، لأن اليابانيين استعملوا التفجير الكاميكازي قبلنا.
كل هذا "ثانوي" ونصل الآن إلى الأهم وهو حسب تعبير الدكتور " السؤال المعرفي الملحّ الذي يتحتم طرحه هو: ما هي العوامل الحاسمة التي أدت إلى ظاهرة الانتفاضة...؟"(ص49).
كنا نظن أن الدكتور تجاوز " الحتمية الصلبة" و " النيوتنية" و الأحادية السببية وأصبح يحلل مثل فيبر "بتظافر العوامل"، لكن، هاهو يعتبر أن " السؤال المعرفي" يجب أن يكون " ما هي العوامل الحاسمة"؟ قد يقال إن السؤال ورد في صيغة الجمع" العوامل الحاسمة" وليس العامل الحاسم، وهذا صحيح. ولكن لنقرأ التوضيح التالي:
" إن الكائن البشري عندنا هو كائن رموزي ثقافي بالطبع، أي أن دور ما سميناه بعالم الرموز الثقافية، من حيث فهم الإنسان والمؤشرات في سلوكه، دور رئيسي يتمتع بثقل لا يكاد يضاهيه في نهاية الأمر أي عنصر آخر مؤثر في السلوك البشري" (ص50).
وإذا لم يكن الأمر واضحا، نعود إلى الانتفاضة.
يقول الدكتور: " إن القوى الدافعة والمحركة لمثل ذلك السلوك الفلسطيني المناضل ليست بالتأكيد قوى مادية. وإنما هي قوى معنوية عالية مصدرها منظومة الرموز الثقافية الفلسطينية..."(ص49).
لنذكر أن ماكس فيبر، عند تحليله لمثال " الفعل العقلاني القيمة" تحدث عن موت المناضل الاشتراكي فرديناد لاسال بسبب القيم التي يحملها. ولنذكر أيضا أن الشعب الفرنسي في ثورته والشعوب السوفياتية وشعب فيتنام دافعت عن أوطانها بقيادة تعتقد في " أولوية العوامل المادية".
إن القيم تحرّك السلوك البشري، لكن ليس فقط " القيم المتعالية" ذات اللمسات الميتافيزيقية بل كذلك " القيم الأرضية".
إن الدكتور الذوادي بعيد كل البعد، ليس فقط عن ماكس فيبر، بل وعن التاريخ العالمي، وحتى عن الانتفاضة الفلسطينية التي يستشهد فيها المناضلون " الماديون" و " الثقافيون" معا.
إن عنفوان المقاومة عند الشعوب لا يستمد دائما وبالضرورة طاقته " من السماء". أما الدكتور الذوادي فيقول: " فعنفوان هذه الطاقة التي يستلهمها الإنسان من عالم الرموز الثقافية تستمد قوتها من عالم السماء لا من عالم المحسوسات..."(ص50). وهذه الطاقة " تشبه إلى حدّ ما القوى الماورائية الضارية، التي لا يستطيع اعتراض سبيلها معترض" (ص50). و" هذا ما يفسر لجوء الناس إلى الحديث عن المعجزات في بعض الأحداث الفردية أو الجماعية، التي تدخل سجل تاريخ الأفراد والمجتمعات، على رغم عدم توافر المعطيات المادية لذلك"(ص50). إن التحليل " الرموزي- السماوي" للانتفاضة ينسى أن العدوّ أيضا له " روحه الرموزية" ويختزله عمدا، بقصد نظري، في " القوى المادية العاتية والضخمة للمستعمر" (ص 50). ولكن مؤقتا فقط، إذ أن أفكارا لاحقة للدكتور ستوحي بالعكس تماما.
إن هذا التحليل الرموزي على ما يبدو يحول العدو إلى " قوى مادية عاتية" ويسلب الإنسان فيه، الإنسان العدو، من " روحه الرموزية" الخاصة به.
وكأن القيم التي يحملها تختلف نوعيا عن قيمنا من الناحية " الابستمولوجية" بمعنى أنها ليست معنوية، وخاصة ليست " ميتا فيزيقية متعالية".
إن " الصراع القيمي" أي مجابهة قيم بأخرى، في الأمثلة التي يقدمها الدكتور يبدو غائبا تماما. من ناحية أخرى، إن التمجيد المبالغ فيه لقوة القيم مقابل " القوى المادية العاتية" يصاحبه احتفال مبالغ فيه أيضا بالحجارة والعمليات الانتحارية، أي بأقل أشكال العمل المسلح استعمالا " للقوة المادية". وهذا الاحتفاء عليه ألا يصبح عائقا ابستمولوجيا أمام تطوير الكفاح السياسي والمسلح للشعوب المستعمرة.
وأخيرا، وبعد أن رأينا كيف يحول الدكتور الذوادي تطور الاتصالات إلى " عجائب وغرائب" يقترح الدكتور "سوسيولوجيا للمعجزات" فهو يرى أن المعجزات " تدخل سجل تاريخ الأفراد والمجتمعات، على رغم عدم توافر المعطيات المادية لذلك" (ص50) و في الهامش رقم (40) يعطي كمثال عملية 11/9 في نيويورك.
ولسنا نعرف بالضبط ماذا يقصد مثلا بأن " معجزة11/9/2001" لم تتوفر فيها " المعطيات المادية". فهل هاجم الانتحاريون البرجين وهم على أجنحة " الملائكة المقاتلة" أم ماذا؟
إن علم الاجتماع العربي، كما يريد له الدكتور أن يكون، سوف يصبح على ما يبدو ضربا من المعجزات العجيبة والغربية. هنيئا لنا بهذا المولود الجديد الذي، ولأول مرة في تاريخ علم الاجتماع، وهبنا بحثا علميا أساسيا يصبح من الممكن بفضله القيام بالتحليل السوسيولوجي "لنفخة الروح الأولي" ولعالم " اللامحسوسات" وعوالم " العجائب والغرائب" و" المعجزات" ويصبح بالإمكان فيه تجاوز علم الاجتماع العسكري وعلم الاجتماع الديني، عند تحليل " المعجزات العسكرية" للحركات الدينية المسلحة.
8: حول " مفهوم الروح الثقافية الرموزية"
يعيد الدكتور الذوادي في البداية تعريفه للكائن البشري بواسطة " الروح الرموزية الثقافية" ويقول لنا: "وقد اخترنا مفردة الروح في مفهومنا الاصطلاحي هذا عن قصد، ذلك لنشير بكل وضوح إلى أننا نعتبر أن عالم الرموز الثقافية هو ذلك الجزء من كينونة الإنسان الأكثر مركزية وعمقا في تكوين ذاتية الأفراد والجماعات"(ص51).
ولو اقتصر الأمر على هذا، لاعتبرنا تصوّر الدكتور واحدا من التيارات ( إذا صح هذا المصطلح) الثقافية التوجه. لكن، ما يجعل الأمر " عجيبا وغريبا" هو إصراره على ما يسميه " لمسات ما ورائية بالمعنى المتعدد الدلالات" (ص51) لعناصر الثقافة.
بعد ذلك يقترح علينا أن تكون فكرته، التي تعتبر أن " الروح الرموزية الثقافية" ، " المصدر الرئيسي الذي ينبغي أن يرجع إليه علماء النفس والاجتماع والانثربولوجيا والسياسة في أي محاولة طموح لفهم وتفسير سلوكات الأفراد والمجموعات البشرية" (ص51).
إذن الدكتور الذوادي لا يطرح فقط "تأصيل علم الاجتماع العربي " بل كل العلوم الإنسانية والاجتماعية على ما يبدو. وهذا التأصيل الشامل شعاره الظاهر الدفاع عن " التعقيد" و " الواقعية" في العلوم، لكن مبدأه الحقيقي هو " الأحادية الروحية الماورائية".
يقول الدكتور: " وبذلك يساهم منظورنا الرموزي الثقافي في إبراز مدى أهمية الأطر الفكرية Paradigmes للعلوم الاجتماعية التي بدأت تنظر إلى الظواهر الاجتماعية على أنها نتيجة لعوامل معقدة لا بسيطة. فإضافة دور الرموز الثقافية الحاسم في تشكل سلوكات الأفراد والجماعات، إلى عوامل البنى الاجتماعية والاقتصادية تتفق مع من ينادون اليوم في العلوم الاجتماعية بتبني مفهوم التعقيد complexity لا التبسيط في محاولة فهم وتفسير سلوكات الأفراد والظواهر الاجتماعية " (ص51).
هكذا إذن، من ناحية يتحدث الدكتور عن العوامل المعقدة ويتبنى مفهوم " التعقيد" لكن من ناحية أخرى يتبنى مفهوم " الدور الحاسم"، ويعطيه للروح الثقافية – الماورائية. إن الدكتور الذوادي في رأينا، إما أنه " لا يفهم" معنى " التعقيد" أو يستبلهنا معتقدا أن آراءه يمكن القبول بها بسهولة عند العرب.
إن النظريات التي تأثرت قليلا أو تتبنى صراحة التعقيد في مسألة "العامل الحاسم" عديدة نذكر منها في فرنسا و عندنا مثلا:
المفكر الفرنسي إدغار موران، يعتقد أن التحليل المعقد لا يمكن أن يكون إلا دائريا، أي تحليل الظاهرة الاجتماعية في كليتها المركبة، بما في ذلك جانبها " المحيطي"، المرتبط بالمحيط الطبيعي، وكذلك جانبها البيو- فزيولوجي، دون الحديث عن أي عامل محدد. ولعل تعريف إدغار موران المعقد للمجتمع على أنه " نسق- أوطو- إيكو - معاد- التنظيم" « Auto- éco -ré- organisateur » يدل على هذا. إن هذا الاتجاه في نظرية التعقيد يمكن اعتباره تيارا كلي التعقيد. و يصرح إدغار موران أن البحث العلمي السوسيولوجي هو في الحقيقة عبارة عن وحدة بين علم على هيئة " محاولات Essais « و آخر يسميه " علم الاجتماع العلمي "، و يقصد به التجريبي خاصة، و يقول أحيانا أن علم الاجتماع «لم ينشأ بعد" لأنه لا يزال أسير التصورات الميكانيكية الكلاسيكية التي تركز على " العامل المحدد الواحد " و لم يتجاوز الثنائية التي تعارض بين العوامل المختلفة، ولكن القابلة للتركيب، مثل الوحدة و التناقض، الداخلي و الخارجي، العلمي و المخيالي و الرمزي، الفردي و المجتمعي...الخ.
إن أعمال ادغار موران، على عظمتها، قد تؤدي إلى مشكل سوسيولوجي كبير يتمثل في عدم القدرة على تفسير اتجاه التحول الاجتماعي، ليس في كيفية حدوث التحول، بل في تفسير اتجاهه. ان التحليل الدائري مهم جدا في جانبه التعقيدي لكنه، رغم تأكيده على التطور اللولبي ضد التطور الخطي، كما قال ذلك هيغل و ماركس أيضا، قد يسقطه عداؤه لماركس في نزعة ترفض البحث في التأثير اللامتكافىء للعناصر المتفاعلة ضمن " الظاهرة الاجتماعية الكلية" بحجة أن " الواقع الاجتماعي متعدد الأبعاد وان الجدلية بين العوامل المختلفة التي تكونه تمثل حلقة ( boucle ) تفاعلات ـ انفعالات دون أن يحدد عامل منها الآخر أو يتحكم فيه.» (م20 ،ص355 ) عندها يصبح نقد و تجاوز ماركس قد تم بعملية "قلب "جديدة لا غير، فمقابل عامل محدد واحد عابر للتاريخ و في كل المجتمعات، مع تأثير ضعيف لعوامل أخرى، نقول ان " الدائرة ستكون عجلتنا وان طريقنا ستكون لولبية " ( م21 ، ص19) و قد نعجز وقتها عن تفسير الاتجاه الذي تسلكه "العجلة" في تطورها اللولبي إلا إذا قلنا إنها سارت في هذا الاتجاه أو ذاك لأن هذا العامل كان هنا أقوى أما هنالك فكان عامل آخر أكثر تأثيرا أو سنضطر للبحث عن فاعل يدفع العجلة من الخارج باتجاه لولبي . يبدو لنا أن " التحليل الدائري" قد يقف عند المنظور الأنتروبولوجي للإنسان في وحدته ـ و"وحدة الإنسان" هو عنوان الندوة الشهيرة التي أشرف عليها موران و ماسيمو بالماريني أواسط الستينات من القرن الماضي و التي كانت منطلق أعمال موران الأنتروبولوجية، "ندوة سوريزي" ـ و قد يضعف التحليل السوسيولوجي. ان الدائرة المغلقة " العجلة " كنموذج تحليلي قد توحي بأن كل شيء ( أي كل الأبعاد الأنتروبولوجية ) كان موجودا منذ البداية، في "لحظة تاريخية أولى"، وقد لا تساعد على فهم الأسباب الاجتماعية التاريخية التي جعلت المجتمعات تتطور وفق أشكال و معدلات تحول واتجاهات مختلفة. لقد انتقد ماركس فيورباخ و تجاوزه في منظوره الانتروبولوجي لكنه قلب التحليل في اتجاه خطي نسبيا ونعتقد ان تجاوز ماركس الآن لا يجب أن يتم في اتجاه تعويض " الخطي" ب " الدائري " ، إذ قد تتحول " العجلة " إلى حلقة مفرغة تكتفي بتحليل "أي شيء بكل شيء" ، لأن " اللولب" ليس مجموعة من الدوائر، انه "خط لولبي" مفتوح .علينا، إذن، أن نبحث ـ إذا كان ذلك ضروريا ـ عن نماذج «أكثر تعقيدا " تبتعد عن فخ الاستعارة من عوالم الفيزياء أو البيولوجيا أو غيرهما.
و على ذكر الماركسية، يرى موريس غودولييه مثلا، أن العامل الاقتصادي حاسم في المرحلة الرأسمالية فقط بينما العوامل الفكرية ( أو الدينية تحديدا) أو السياسية قد كانت حاسمة في مراحل سابقة.
وعبّر عن ذلك بعض الماركسيين الجدد، مثل سمير أمين (م22 ) عندنا في الوطن العربي، بضرورة تجاوز "الحتمية الزائدة "، ولكن دون نسيان تحديد " العامل الحاسم" الذي قد يختلف من مرحلة لأخرى أيضا. لكن يتناسى هؤلاء أن التحليل بهذه الطريقة يقوض الماركسية تماما، من حيث هي نسق، لأنه يضرب في العمق تصورها في مسألتي " التصنيف و التحقيب ". فإذا كان الاقتصاد غير مهيمن قبل الرأسمالية فان مفهوم " التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية" الماركسي يفقد مصداقيته العلمية بوصفه مصطلحا للتصنيف العلمي، كما أنه لا يعود صالحا لتحقيب مراحل التاريخ الاجتماعي لسبب " بسيط" هو أن المجتمع ما قبل الرأسمالي سوف يصبح "تشكيلة اجتماعية ـ سياسية أو دينية..." و ليس "اجتماعية ـ اقتصادية". ان هذه المراجعة التجديدية للماركسية تنقصها الشجاعة الكاملة للدعوة لتجاوز ماركس ايجابيا و ليس الاكتفاء بمجرد «التجديد "من داخل النسق.
ويرى آخرون مثل آلان توران، أن العامل الاقتصادي كان حاسما مثلا في الرأسمالية الصناعية بينما العامل الثقافي أصبح حاسما في مرحلة " ما بعد الحداثة" المتميز بما يسمى " مجتمع التنظيمات" أو لاحقا " مجتمع المعرفة" و الآن زمن العولمة. لكن توران وصل إلى درجة الاتفاق التقريبي مع فوكوياما، و لكن بلغة مختلفة بعض الشيء، في القول بأننا " لم نعد محددين بالتاريخ " "( م23 ،ص186) و كأنه انتهى، و أنه من غير المقبول التفكير في إمكانية تجاوز الرأسمالية نحو" مجتمع جديد". ناسيا أنه يمكن تجاوزها ليس عبر الاشتراكية بالضرورة، فالإنسانية قد تتجاوز الرأسمالية نحو مجتمع آخر غير خال من الطبقات مثلا ، أي غير شيوعي بالضرورة، لكن العداء لماركس يسجن ألمع المفكرين على ما يبدو و يعيدهم إلى هيغل في غالب الأحيان.
و عموما، يعتقد هذا التيار الثاني إن تعقّد الظاهرة لا يعني غياب عامل حاسم، بل أن هنالك هذا العامل الذي يتغير حسب المجتمع وحسب المرحلة التاريخية. لكن في كل حال، ليس هنالك عامل حاسم عابر للتاريخ ويحاول البعض الهروب من المسألة بالتفريق بين العامل المحدد في نهاية المطاف و العامل المهيمن للخروج من الوضعية المأزقية التي يعيشها الفكر الماركسي دون جدوى على ما نعتقد . هذا إضافة إلى التيارات القريبة من ماكس فيبر مثل ما يسمى " المنهجية الذاتية" عند ريمون بودون الذي وضح المسألة مثلا في كتابه "موضع الفوضى " (م24 ) بأن أعاد صياغة العلاقات بين مفاهيم الفوضى و النظام، و الفرد والمجتمع، و التغير والثبات، و البنية و "العناصر الللابنيوية"... وقال صراحة أن "دور الأفكار و القيم هو أحيانا أهم مما نعتقد"و "هو أحيانا أقل أهمية مما نظن" حسب الحالات الدقيقة التي ندرسها و ليس وفق "الرأي المسبق المتعلق بعلم الكائن"....هذا رغم ان بعض الانتقادات الموجهة لبودون، وليس عن غير حق، تبين، مثلا، أنه يبالغ في التأكيد على الفرد مقابل المجتمع.
ما هو موقف الدكتور الذوادي؟
إنه " يقول" بالتعقيد ولكن يقول بالدور الحاسم العابر للتاريخ في نفس الوقت، وذلك بسبب وجود تصور عن " الطبيعة البشرية" أزلي عنده. إن هذا الموقف ليس تعقيديا، فلو كان الأمر كذلك لاعتبرنا ماركس، على سبيل المثال، تعقيديا أيضا.
إن ماركس لم يقل يوما أن العامل الاقتصادي هو " العامل الوحيد" المؤثر في التاريخ، بل قال إنه العامل الأكثر تأثيرا في كل مراحل التاريخ و في كل المجتمعات. وهذا ما يجعله " نيوتنيا" من الناحية " الابستمولوجية" كما يحلو للدكتور الذوادي أن يقول. إن " براديغم" الدكتور الذوادي هو في الواقع قلب لماركس بالدرجة الأولى، ( وليس للوضعية حسب رأينا)، إن الدكتور سقط في فخّ ماركس المادي الذي قدّم ما يسمى " المسألة الأساسية في الفلسفة"، تقديما انطولوجيا بالأساس، حتى داخل " المادية التاريخية".
ماركس يجيب بأن المسألة الأساسية في المعرفة هي مسألة العلاقة بين المادة والفكر انطولوجيا- زمنيا- وسببيا ويختار هو الحل المادي. بينما الدكتور الذوادي يقول إن " جوهر المسألة الابستمولوجية " هو أن " الله واحد، وهو خالق الكون".
ماركس يقول إن الإنسان كائن عامل بالأساس و العمل هو الذي " حوّل القرد إلى إنسان". (م25) حسب أنجلز و الدكتور الذوادي يقول " الإنسان كائن رموزي بالأساس، والله هو الذي جعله كذلك عبر " نفخة الروح الأولى".
ماركس يقول إن الإنسان هو أساسا عضو في طبقة اجتماعية و الدكتور الذوادي يقول أن الإنسان له بالدرجة الأولى " عصبية ثقافية"...
يمكن أن نواصل المقارنة بعيدا، في نقاط أخرى عديدة، لكن المهم حسب رأينا، هو أن الدكتور الذوادي لا علاقة له بمفهوم التعقيد تماما.
إنه يعتقد أن " العامل الرموزي الثقافي" هو العامل الحاسم دائما وأبدا، بقطع النظر عن الزمان والمكان بسبب " الطبيعة البشرية" الرموزية – الماورائية.
إذن، رجاء يا دكتور، إما أن تعيد دراسة نظريات التعقيد وتصحح موقفك منها فعليا، أو أن تقول لنا بصراحة أنك لا تؤمن بها، وهذا من حقك " الابستمولوجي" طبعا. ***
نرجع الآن إلى " مفهوم الروح الثقافية الرموزية" ونبدأ بما سماه الدكتور " فقدان الرموز الثقافية للوزن والحجم".
الفكرة الأساسية التي يقدمها الدكتور هي التالية: على عكس المادة، ذات الوزن والحجم، ليس للرموز الثقافية لا وزن ولا حجم وبذلك فإن انتقالها في المكان وعبر الزمان أسرع بكثير من " المادة".
يقول: " تعود سهولة نقل ونشر الرموز الثقافية على بساط الأرض إلى فقدانها بعض المعطيات المادية المحسوسة. فالوزن والحجم الماديان للأشياء يمثلان المعطيات الأساسية المحسوسة لعالم المادة، ويتطلبان في نهاية الأمر جهدا بشريا في عملية نقل الأشياء المادية من مكان إلى آخر. أما بالنسبة إلى الرموز الثقافية ذاتها، فإنها بطبيعتها فاقدة للوزن والحجم الماديين" (صص51-52). ولذلك تكون حركتها أسرع ويصبح لها وزن فقط: " عند طباعتها على الورق الذي له وزن وحجم.."(ص52).
يبدو أن الدكتور الذوادي الذي دعانا إلى تجاوز نيوتن في بداية هذا النداء، لا يطبق على نفسه هذه الدعوة.
إن تصوره عن حركة المادة نيوتني بحت متوقف عند الوزن والحجم والمكان والسرعة، فهو لم ينس سوى " الاحتكاك".
إن الدكتور الذوادي يقوم عمدا باستعمال المنطق النيوتني على المادة الصلبة ليبين فقدان " الوزن والحجم" عند الرموز الثقافية. وكان عليه لو أراد التعامل مع الموضوع بشكل جاد، أن يهتم بالعلوم اللغوية وبالفزيولوجيا وعلوم الاتصال الحديثة حتى يتطرق إلى خصائص " الرموز الثقافية".
إن هذه الرموز لها ما يشبه الوزن والحجم، ولكن ليس بالشكل الذي للمادة الصلبة. إن الشكل المادي لهذه الرموز نورو- فزيولوجي بالأساس.
فالصوت له حجم كالوزن يقاس علميا بمقياس " ديسيبل " وعلى الدكتور الذوادي فقط أن يتأمل في جهاز التسجيل أو الراديو أو التلفاز الذي بجانبه كي يعرف ذلك بحواسه. والصوت له " حجم" يقاس بمقاطع و يكفي أن يجيد الدكتور الذوادي التقطيع الشعري العروضي العربي العظيم ليدركه.
"اللغة الشفوية" إذن، وهي التي تعتمد ( من بين ما تعتمد) الصوت يمكن قياسها ماديا، من حيث تغير درجات الصوت في الحدة ومن حيث الأبعاد الصوتية الطويلة أو القصيرة للكلمة أو الجملة أو الخطاب عموما.
وإذا كان "وزن" الكلمة "أثيريا" فإنه إما يصم الأذن أو تقدر على سماعه أو لا تقدر تماما بفعل المسافة مثلا. وإذا كان " حجم" الكلمة (طول مقاطعها، أو طول النص- الخطاب) كبيرا، فإن الذاكرة عادة لا تستطيع الاحتفاظ به نظرا لمحدودية القدرة على الحفظ وعلى التخزين – التذكر.
إذن، صحيح جدا أنه ليس للغة وزن وحجم مثل المادة الجامدة، وصحيح أن ذلك قد يساعد في نشرها، رغم أن هذا الأمر نسبي تماما إذ أن نشر أفكار ممنوعة في المجتمع أصعب من نشر وترويج الشاي والسكر وقد يتطلب جهدا إنسانيا خارقا.
لكن هل يعني ذلك أن "اللغة" مثلا لا حجم ولا وزن لها، بأي معنى من المعاني؟ إلى درجة اعتبارها كائنا غير محسوس.
من ناحية أخرى، لماذا يعمّم الدكتور الذوادي كل هذا الأمر على " كل الرموز الثقافية".
لنأخذ فن النحت مثلا، وقد أخذناه عمدا لسبب علمي وآخر ديني، هل يمكن للدكتور الذوادي أن يتصور هذا " الرمز الثقافي" دون حجم ووزن منحوتاته؟ ( ومن الممكن طرح نفس السؤال حول الرسم والسينما...).
اللغة تنقسم إلى شفوية ومكتوبة، وعندما تكون شفوية تعتمد على الأصوات والحركات وعندما تكون مكتوبة تحتاج إلى مادة ذات حجم ووزن للكتابة. لكن، ماذا عن فن النحت يا دكتور؟ هل تقسمه لنا إلى نحت شفوي وآخر بحجم ووزن؟ نرجو ألا يجيب الدكتور بأن " النحت حرام" ولذلك فهو غير موجود أو لا يجب أن يوجد.
نرجع إلى مسألة سهولة النشر الآن ونسأل الدكتور الذوادي. ألا يمكن أن يكون " انعدام الوزن والحجم عاملا على صعوبة النشر.
إذا كان انعدام " الوزن والحجم" يسّهل النشر يا دكتور، لماذا اخترع الناس الورق والمطبعة. لماذا " لوثوا كائناتهم غير المحسوسة" ( حسب عبارة لماركس) بالورق والقماش والأفلام والأقراص؟ أليس العكس هو الأصح يا دكتور، ألا تنقص العلاقات الاجتماعية المحددة بالمكان والزمان الذين يقع داخلهما الجسد الناطق من قدرة الإنسان على نشر رموزه بحكم محدودية صوته، من حيث " الحجم"، و بمحدودية علاقاته ؟
ألا يعرقل الموت الإنسان على نشر رموزه، فيخترع لذلك الكتابة التي تحتاج إلى مادة للكتابة عليها حتى يوّرث رموزه؟
لماذا يطبّق الدكتور الذوادي قوانين الفيزياء والحركة الميكانيكية على قوانين النورو- فزيولوجيا والتواصل والاتصال؟
أليس هذا خلطا فظيعا من دكتور يريد تأسيس " باراديغم جديد" ويقوم بـ" بحث علمي أساسي"؟
هل يعقل أن يتحول علم الاجتماع العربي إلى مجرد تأصيل صوفي يريد، رغما عن الوقائع، تطبيق "مواصفات الروح" عند القدامى على " الروح الثقافية الرموزية" ؟
أليس هذا بالضبط ما يعنيه الدكتور الذوادي عندما يقول: " ويصبح هذا الأمر واضح المعالم عند التخلص من عاملي الوزن والحجم في عملية بث الرموز الثقافية: أي عندما تسترجع الرموز الثقافية حالتها الطبيعية الأولى الفاقدة للحجم والوزن"(ص52).
وهل تضع " سهولة التواصل" فعلا، الرموز الثقافية " في فلك الكائنات غير المحسوسة" (ص52) و هل "حالتها الطبيعية الأولى" تخلصها حتى من الحواس والدماغ ؟ وهل يعقل من " عالم اجتماع" أن يقول أن " اختراع آلة الفاكس قد ألغى معطيات الوزن والحجم..."(ص52) وهو يعرف جيدا أن تلك الآلة نفسها لها وزن وحجم وتعمل بالورق ذي الوزن والحجم؟
وهل يعقل أن يقول عالم اجتماع أن: " التواصل الصامت عبر التخاطر والتخاطب الشفوي بالهاتف والتواصل الكتابي بالفاكس بين بني البشر، كلها أمثلة للتواصل الحيني ويجمع بين هذه الأنواع الثلاثة من الاتصالات عامل مشترك يتمثل في فقدانها الكامل لعراقيل الحجم والوزن"(ص52).
طيب، لو كان الأمر كذلك، لماذا لم تتخاطر معنا حول مقالك وتعفينا من دفع المال وشراء المجلات و الكتب ذات الحجم والوزن؟
وهل يعقل أن يقول عالم اجتماع أن التواصل بالهاتف والفاكس يفقدان " بالكامل" عراقيل الحجم والوزن مثلهما مثل " التخاطر"؟
هل هذه هي الرؤية السوسيولوجية العربية – الاسلامية للثقافة المتفقة مع " رؤية القرآن لطبيعة الرموز الثقافية البشرية" (ص52).
أليس حريا بالدكتور أن يقول على الأقل " هذه محاولة" أو " هذا اجتهاد" عوض أن يقول لنا: " وتمثل هذه الرؤية للرموز الثقافية صلب منظور الثقافة الإسلامية العربية، التي هي الإطار الفكري الرئيسي والشرعي الذي ينبغي تأصيل علم الاجتماع العربي فيه" (ص52).
هل هذا نداء علمي أم فقهي يا دكتور؟
قبل أن نختم هذا الجزء نوّد الرجوع إلى علاقة فكرة " مفهوم الروح الرموزية الثقافية" بمفهوم الثقافة عند إ.تايلور الذي قدمه لنا الدكتور وأوهمنا أنه يوافق عليه، ولكن في جانب واحد فقط يرتبط بفكرتين:
الأولى: فكرة انعدام الحجم والوزن والطابع غير المحسوس والميتافيزيقي للثقافة.
الثانية: فكرة الانتشار السريع.
قلنا سابقا في تعليق على تعريف أدوارد تايلور، أن هذا العالم يعتبر أن الثقافة تكتسب داخل المجتمع وذلك بواسطة التربية أو التنشئة الثقافية عموما.
أما الدكتور الذوادي فعندما تحدث عن " الروح الرموزية" وفقدانها " للوزن والحجم" فقد سجنه نيوتن في سرعة انتشار الثقافة في المكان فقط وسجن هو نفسه في اعتبار ذلك جوهرا لتلك الروح فأساء التعميم.
قد يبدو الأمر خاليا من مشكل لو أننا أدمجنا التربية والتنشئة ضمن " الانتشار في المكان"، لكن هذا الدمج غير ممكن في علم الاجتماع الثقافي بسبب خصوصية العمليتين.
إن ما يهّمنا من الأمر الآن هو التالي:
أولا: يبدو أن الدكتور الذوادي تورط في مسألة " نفخة الروح الأولى" إلى درجة أنه لم يتكلم عن التربية والتنشئة تماما في مشروع " بحث علمي أساسي" حول الثقافة يريد تأسيس" باراديغم جديد"
ثانيا: يبدو أن تركيزه على " سرعة الانتشار" رغم بعد المكان ورغم الزمان، أنساه عملية التربية التي تقع " وجها لوجه" غالبا، بين المربي والمربّى، وتتطلب انتباها حسيا وذهنيا وإعمالا للحواس والدماغ في تعلم اللغة والفكر وكل " الرموز" الأخرى.
إنه أحسّ أن الحديث عن التربية يبطل نظريته الجديدة لأن العملية التربوية " تحتاج إلى جهد" "غريب وعجيب" لنشر "الرموز الثقافية" رغم أنها قد تقع وجها لوجه بين البشر.
إن تصور الدكتور الذوادي " للروح الرموزية" جعله يفكر في " التخاطر" ولكن أنساه واحدا من أكثر أنواع التواصل المباشر حضورا في حياة الإنسان " العربي المسلم" والذي من المحتمل أن يكتشف بواسطته فشل هذه " النظرية الجديدة".
9: " حول" علم اجتماع ميتا فيزيقا الرموز الثقافية":
يقدم لنا الدكتور الذوادي علمه الجديد ويسميه " علم اجتماع ميتا فيزيقا الرموز الثقافية" ويقول لنا صراحة أن هذا العلم" يختلف كل الاختلاف عن التصور الوضعي" لأن " العلوم الاجتماعية الوضعية تستنفر من دراسة الملامح الميتافيزيقية للرموز الثقافية أو غيرها من الظواهر المشابهة" (ص53) ويبدو أن الدكتور الذوادي لا يكتفي " بالملامح الميتافيزيقية للرموز الثقافية" بل بغيرها من الظواهر المشابهة" وقد يقترح علينا علما آخر ربما لدراسة ميتافيزيقا أخرى.
إن نقد الوضعية من منظور علم الاجتماع أمر مقبول، بل وواجب على علم الاجتماع العربي. لكن ثمة ضروبا من النقد: هنالك نقد من أرضية علمية ونقد من خارج العلم. كما أن ثمة نقدا من اليسار وآخر من اليمين فى السياسة.
إن النقد الذي يوجهه الدكتور الذوادي للوضعية هو نقد جوهر الوضعية العلمي وليس " أخطاءها العلمية". فإذا كان النقد يريد هدم فكرة التحليل الاجتماعي للظواهر الاجتماعية ويعوضه بالتحليل الميتا- اجتماعي، عبر كائنات ميتافيزيقية – لا محسوسة- عجيبة وغريبة فإن ذلك النقد يتحول إلى هدم للبحث العلمي تحت غطاء نقد الوضعية.
هنالك فكرة معروفة تقول أن" العلوم بطبيعتها وضعية" لأنها تفسر الاجتماعي بالاجتماعي داخل الوسط الطبيعي الاجتماعي لا غير. أي أنها تفسر الظاهرة الاجتماعية بأسباب اجتماعية آخذة بعين الاعتبار حياة الإنسان ضمن محيط مادي طبيعي ( تربة- مناخ- غطاء نباتي..). وإذا وصل الدكتور الذوادي في نقده للوضعية إلى نقد هذا الأساس، فليعذرنا اذن سنتحول جميعا إلى مدافعين عن الوضعية؛ إلى " محاميي الشيطان".
بعبارات أخرى، إذا كان الدكتور الذوادي لا يدعونا إلى نقد التصور الوضعي عن " الفيزياء الاجتماعية" الشديد في شيئيته من أجل اكتشاف الأبعاد الذاتية في السلوك البشري الفردي والجماعي، بل من أجل البحث عما هو " خفي" (وليس ذاتيا)، عما هو ما ورائي وليس ما هو حسي – عملي، فإننا سنرفض نداءه لأنه لا ينقد الوضعية من منظور علمي بل من منظور ميتا – اجتماعي غير علمي. إن تجاوز الوضعية أمر ضروري من أجل " تأصيل" علم الاجتماع التاريخي في الوطن العربي وليس من أجل إنشاء " براديغم" يتأسس على أن كائنات " ما ورائية" " لا محسوسة"، "خفية" " عجيبة وغريبة"و "أزلية" هي " العامل الحاسم" في تحديد سلوك الأفراد والجماعات إلى درجة " صنع المعجزات".
يقدّم الدكتور الذوادي العوامل التي شجعته " على المضي قدما في هذا البحث" كما يلي:
أولا: دراسة الجوانب الميتافيزيقية للرموز الثقافية تعدّ " بحثا علميا أساسيا" يساعد حسب رأيه "على إرساء أطر فكرية ذات مصداقية" (ص53) لأنه " يحاول أن يكشف عن جوهر الأشياء"(ص53) " وبما أن الرموز الثقافية "هي" جوهر الإنسان" حسب الدكتور فإن " الكشف عن طبيعتها وخفاياها هو إذن، أمر ذو أولوية"(ص53).
إن " العلم الجديد" الذي يقدمه لنا الدكتور يمكن أن يكون أي شيء آخر إلا علما للاجتماع. فالعلوم الاجتماعية لا تبحث في " الجواهر" و " الخفايا" و الكائنات " الميتافيزيقية"، " اللامحسوسة " و " الخالدة"، بل في العلاقات الاجتماعية التاريخية في علاقتها بالممارسة البشرية الاجتماعية.
إن " الجواهر الخالدة " العابرة للتاريخ تصلح أن تكون مبحثا تصوفيا أو فكريا تأمليا خاصا، وهذا من حق الدكتور طبعا، لكن رجاء، اتركوا علم الاجتماع بعيدا عن كل هذا، وخاصة علم الاجتماع العربي فهو مازال بعد في طور الطفولة، دعوه يكتشف العالم ويطور حواسه.
قد يكون هذا " الباراديغم الجديد " جوهرة تكشف خبايا " الجواهر" البشرية، ولكن هذا ليس بعلم عموما، ولا بعلم اجتماع تحديدا.
ثانيا: العامل الثاني الذي دفع بالدكتور إلى المضي في هذا البحث هو " مشروعية قوية لتبني المنظور الثقافي الإسلامي العربي كبديل عن المنظور الوضعي التقليدي"(ص58).
وما يبرر به الدكتور هذه المشروعية القوية هو دعوة علماء الاجتماع الغربيين أنفسهم إلى " تغيير ثلاثة أمور أساسية في صلب علم الاجتماع كعلم"(ص54). فما هي هذه الأمور الثلاثة ؟
1- الدعوة إلى " مشروعية التنوع في المناهج العلمية"(ص54).
2- الدعوة إلى " تبني واستعمال مجموعة الأطر النظرية دون أن تتضرر من ذلك الرؤية المركزية لهذا العلم"(ص54).
3- الدعوة إلى " طرح طرق جديدة للقيام بالعمل العلمي "(ص54). يبدو أن مشروع الدكتور الذوادي طموح جدا، فلنتابعه نقطة نقطة، وسنتأكد أنه يرفض هذه الدعوات الثلاث جملة وتفصيلا، بينما على علم الاجتماع العربي أن يقبلها فعلا.
أولا: حول الدعوة إلى التنوع في المناهج: كل عربي مهتم بالعلوم الإنسانية يعرف أن مناهجها متعددة فعلا، وإذا اقتصرنا على علم الاجتماع يمكن ذكر ما يسمى المناهج الكمية والنوعية التي تنقسم إلى تيارات داخلها والتي تعتمد تقنيات بحث مختلفة كالملاحظة والاستمارة والإحصاء والوصف المونوغرافي والمقابلة وتحليل المضمون...
ماذا يقول الدكتور الذوادي في هذه المسألة؟
يقر الدكتور أولا بأن " المنهجية التي يستعملها عالم الاجتماع ينبغي أن تكون متبنية لمبدأ السببية في تفسير الظواهر الاجتماعية.وهو مبدأ ثابت لكل العلوم الحديثة"(ص54).
لكن بعد ذلك يقول: " لكن البحث ينبغي ألا يقتصر على تلك العوامل الكمية التي شدّد عليها العلم الوضعي بل يجب أن يطمح البحث عن علل الظواهر الاجتماعية إلى التعرف على الأسباب الكيفية التي لم يهتم العلم الوضعي باستعمالها"(ص55).
يقترف الدكتور في هذا الاستطراد خطأ معرفيا غريبا وذلك بخلطه بين استعمال مناهج كمية أو كيفية من ناحية وبين التحليل السببي بواسطة مقولات الكمّ والكيف من ناحية ثانية. وتدّل آخر جملة على هذا الأمر بكل وضوح فهو عندما يذكر الوضعية يقول: " الأسباب الكيفية التي لم يهتم العلم الوضعي باستعمالها".
إن العلم يا دكتور "لا يستعمل" الأسباب، لا " الكيفية" ولا " الكمية"، إنه يبحث عنها، بواسطة استعمال مناهج كيفية أ وكمية.
إن العلم الوضعي يا دكتور لم يستعمل مناهج كيفية، لكن ذلك لا يعني أنه لم " يستعمل" أسبابا كيفية.
إن الوضعية، عندما تحلل ظاهرة في علم الاجتماع تلح على ضرورة وضع فرضيات علمية، وكل فرضية هي بالضرورة علاقة بين متغيرتين والمتغيرة (variable) قد تكون "كيفا"، لكنه كيف قابل" للتكميم" ( القياس الكمي ) « Quantification » .
إن العلاقة بين المتغيرات في الدراسات الوضعية هي إما علاقة بين "ظواهر كيفيات" اجتماعية أو علاقة بين " كميات" من ظاهرة وكميات من ظاهرة ثانية...
لو أخذنا مثالا على هذا: الأصل الاجتماعي و الطلاق. الأصل الاجتماعي هو "كيف"، قابل للتكميم وفق مستوى الدخل مثلا، والطلاق هو" كيف" قابل للتكميم وفق نسب إحصائية.ولو رجعنا إلى دوركهايم بالتحديد و أخذنا مثال "الانتحار" عنده لوجدناه يحلله بعوامل الدين ( يهود ،كاثوليك و بروتستانت) و العائلة(زواج ،عزوبة ،ترمل،إنجاب) و السياسة (أمم جديدة او قديمة ،حروب،أزمات انتخابية أو سياسية)و اقتصادية (مراحل الرفاه أو الأزمة الاقتصادية)...
إن الدكتور الذوادي يخلط بين المناهج والأسباب، ويبدو أنه إما يرفض الوضعية بناء على سوء فهم أو يرفض كل شيء لأنه يريد أن يقترح الأهم و: " الأهم يتمثل في استعمال منهجية قادرة فعلا على بناء صرح متين للعلوم" (ص54).
و بما أنه يعتقد أن الصرح الحالي ليس متينا، " فالأهم" هو القيام ببحث " علمي أساسي" جديد له طابع " تأسيسي". إن جري الدكتور الذوادي وراء " الأسباب الكيفية" مشكوك في أمره لأنه يعني بذلك أسبابا "خفية و " ماورائية" و " لا محسوسة".
وأسباب الدكتور " الكيفية الخفية" هذه، غير قابلة للتكميم لأنها غير محسوسة وغير مادية. إنه يقدم لنا نظرية جديدة، " ميتافيزيقية" في العلاقة بين الكمّ والكيف، بحيث لا يعني الكيف عنده سوى " الميتافيزيقا "، أي " الجواهر اللامحسوسة"، غير القابلة للقيس.
أما الظواهر الكمية فهي " عارض مادي" يترك أمره للوضعية. ما هو بديل الدكتور منهجيا لدراسة " الجواهر"؟ إنه لا يقدم إجابة منهجية واضحة .
ثانيا: حول الدعوة إلى تنوع الأطر النظرية دون الإضرار " بالرؤية المركزية للعلم":
كل عربي مهتم بالعلوم الإنسانية يعرف أن " أطرا نظرية " عديدة توجد داخل علم الاجتماع. من البراديغم الوضعي والجدلي وبراديغم الفعل الاجتماعي… بمختلف التوجهات الجزئية لعلماء الاجتماع. فماذا يقول الدكتور عن هذه النقطة؟
" فمنظورنا الثقافي الإسلامي العربي في هذه الدراسة يتماشى مع مبدأ الدعوة إلى تعددية الأطر النظرية داخل صلب علم الاجتماع"(ص54)
يبدو أن الدكتور، مرة أخرى، لا يفهم ما ينقله عن الغربيين إن الدعوة إلى القبول بتنوع البراديغمات تنبع من مصدرين أساسيين على الأقل؛ الأول: طبيعة البحث العلمي " الديمقراطية" التي تقبل التنوع والاختلاف بحكم أن " العلمي هو ما يقبل الدحض" كما يقال، على عكس الأنساق الدينية مثلا.
الثاني: الوعي الجديد بظاهرة " التعقيد"، التي تفرض التعامل الايجابي مع كل البراديغمات من أجل التطور بعلم الاجتماع دون التنكر لتراثه الغني. أما الدكتور الذوادي فيبدو أنه فهم هذه الدعوة للقبول بالتنوع على أنها دعوة لإضافة براديغم آخر، مهما كان " نوعه".
إن الدكتور الذوادي في رأينا معاد للدعوة إلى التنوع البراديغمي للأسباب التالية.
أ/ سبق ورأينا كيف كتب الدكتور أن تحليل " الرموز الثقافية يجب أن يتم داخل " صلب منظور الثقافة الإسلامية العربية، التي هي الإطار الفكري الرئيسي والشرعي الذي ينبغي تأصيل علم الاجتماع العربي فيه"(ص52).
وهذا يدل، أنه لو قبل بتعدد البراديغمات و تنوعها بالنسبة للعلماء الغربيين، فإنه بالنسبة الى علماء الاجتماع العرب، يأمر ( ينبغي) بتأصيل علم الاجتماع عندهم وفق إطار فكري " رئيسي وشرعي" واحد.
ب/ سبق أن رأينا أيضا أن الدكتور لا يعتقد فعليا في " التعقيد" وبالتالي لن يقبل فعليا بتعدد البراديغمات. إن القبول بالتعدد مشروط بقبول " تنوع الأسباب والعوامل المؤثرة في الظاهرة الاجتماعية" ولكن، بما أن الدكتور يحلل " بالجوهر" العابر للتاريخ، وبالطبيعة البشرية بل وبالتعالي الماورائي اللامحسوس الذي يتوهم أنه نابع من "إبستمولوجيا القرآن"، أي من النص الإلهي. فكيف سيقبل بهذا التعدد، خاصة بالنسبة إلى علماء الاجتماع العرب المسلمين؟
نرجع الآن إلى عبارة " الرؤية المركزية لهذا العلم" ونرى هل أن " الرؤية المعرفية" التي يقترحها علينا الدكتور تضرّ بهذه " الرؤية المركزية" أم لا.
يقول الدكتور: " إن منظورنا يبقى وفيا في موضوع بحثه إلى صميم علم الاجتماع" (ص54). الغريب في الأمر أن " صميم علم الاجتماع" هو على ما يبدو " دراسات علماء الاجتماع " "(ص54) وليس منهج هذا العلم و موضوعه، والغريب أكثر أن الدكتور الذوادي يعترف عند التعرض لهذه النقطة، بأمر كان قد تغافل عنه فيما مضى.
يقول: " فهذا الجزء من الدراسة يرّكز تحليله على منظومة الرموز الثقافية التي كانت دائما ذات أولوية في دراسات علماء الاجتماع والانثربولوجيا على الخصوص" (ص54) ويبدو أنه نسي ما كتبه سابقا حول " الصمت الطويل لعلم الاجتماع المعاصر" حول هذه الظواهر. كيف يقدم لنا الدكتور منظوره المعرفي وموضوع علمه الجديد " علم اجتماع ميتا فيزيقا الرموز الثقافية"؟
يقول: " ومما يزيد في ولاء هذه الدراسة إلى علم الاجتماع والانثروبولوجيا، هي محاولتها القيام بإضافة علمية جديدة في فهم منظومة الرموز الثقافية، وذلك بتركيزها على دراسة الجانب الآخر للرموز الثقافية والمتمثل في ميتا فيزيقيا الرموز الثقافية"(ص54).
إذن، الدكتور الذوادي يضيف إلى " موضوع علم الاجتماع والانتربولوجيا" و منهجها عنصرا جديدا لم ينتبه إليه أحد وهو " الجانب الآخر" أو " ميتا فيزيقيا الرموز الثقافية".
بعد ذلك يضيف: " ومقارنة بمنظور علم الاجتماع الغربي، فإن منظورنا في هذه الدراسة يمكن أن يندرج في ما سماه عالم الاجتماع الأمريكي رندل C.Randall بعلم الاجتماع غير الجلي الذي يكشف عن العمليات الخفية وراء ما هو جلي، إنه علم يبرهن أن المسائل الجلية ليست هي بالضرورة أهم المسائل" (ص55).
إذن، الموضوع الأساسي لسوسيولوجياه الميتافيزيقية هو " الجانب الآخر" و " غير الجلي" للثقافة.
ولكن، هل " غير الجلي" هذا اجتماعي – تاريخي أم لا؟ هل هذا "الجانب الآخر" قابل للملاحظة العلمية الدقيقة والاختبار والقياس ووضع فرضيات والتأكد من صحتها أو خطئها أم لا؟
إذا كان الجانب " الخفي" هذا يدخل ضمن ضرب من " الكائنات اللامحسوسة" وهو مصدر " للمعجزات"، فكيف سنتعامل معه بمناهج علمية دقيقة. ألن يتطلب ذلك إعمال نوع من " الحدس" أو " التأمل المجرد" لا غير؟ ألا يطلب منا الدكتور الذوادي مجرد الإيمان بما يقوله مثلما يفعل الرسل والمتصوفة والدراويش؟ إذا كان الأمر هكذا، فلماذا نسمي هذا بحثا في علم الاجتماع؟
إن علم الاجتماع هو بحث في " الاجتماع الإنساني"، أي في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والمجموعات والجماعات والمجتمعات. إنه ليس بحثا في علاقة الإنسان بالله أو " بنفخة الروح الأولى أو في علاقاته " بعالم اللامحسوسات". هذه العلاقات بإمكان الدكتور الذوادي بحثها في أبحاث فكرية دينية أو غيرها ولكن ليس في علم الاجتماع البشري.
ثم ما حكاية الدكتور مع " علم الاجتماع غير الجلي" هذه؟ إن كل علم يا دكتور، لا يكون علما إلا إذا قام بإجلاء العلاقات الحقيقية التي تربط بين الأشياء على عكس المظاهر التي قد تحجب تلك العلاقات.
إن الدعوات العلمية المنهجية الشهيرة ولكن الوضعية المتمثلة في ضرورة تجاوز " الحس المشترك" و " الحكم القيمي" أو الدعوات – الماركسية إلى تجاوز الايديولوجيا، أو دعوة فرويد لكشف "اللاوعي" وغيرها من الدعوات، هي في الواقع إدراك قديم من العلوم، أن مهمتها تكمن في تجاوز ماهو " جلي" حسي و ظاهر...إلى فهم " الخفي" و "الجوهري". لكن، قيمة التحولات الجديدة في العقل العلمي، هي بالذات الدعوة إلى تنسيب التناقض بين الجوهر و الظاهرة، بين المضمون والشكل، بين الموضوعي والذاتي. وهذا جزء من " التعقيد" الذي يتوهم الدكتور أنه يؤمن به.
أما إذا كان" الخفي" عند الدكتور غير اجتماعي، ما ورائيا، لا محسوسا، عندها، عليه أن يتثبت من كونه لم يضرّ بما سمّاه " الرؤية المركزية للعلم" الاجتماعي.
ثالثا: حول الدعوة إلى طرح طرق جديدة للقيام بالبحث العلمي:
يقول الدكتور أن علم الاجتماع يتميز " ابستمولوجيا بالخلق والابتكار، الأمر الذي يجعله مؤهلا ليكون طلائعيا في طرح طرق جديدة للقيام بالعمل العلمي"(ص54). ثم، في آخر هذه الأطروحة – الفقرة يقول:" إن استعمالنا للمنظور الثقافي الإسلامي العربي ذي الابستملوجيا الميتافيزيقية للرموز الثقافية هو ضرب جديد من الأطر الفكرية للقيام بالبحث العلمي والكشف عمّا وراء ما هو واضح وجلي في ميدان العلوم الاجتماعية. فمجهودنا في هذه الدراسة يحدد طريقة جديدة في بلورة العمل العلمي في ما خفي عن أنظار معظم علماء الاجتماع المعاصرين. وهو ما يضفي على علم الاجتماع لمسة الابتكار التي تسمح له كعلم أن يكون طلائعيا في قدرته على تحديد طريقة جديدة للقيام بالبحث العلمي" (ص55).
اشتكى الدكتور الذوادي في بداية النداء الذي قدمه إلى العرب المسلمين من بؤس المؤسسة الأكاديمية والعقلية العلمية الموروثتين عن التنظيم الوضعي للعلوم وبالتالي من " أزمة علم الاجتماع".
أما الآن، فهو يكيل لعلم الاجتماع أوفى مديح. فعلم الاجتماع " يتميز إبستمولوجيا بالخلق والابتكار" وهو مؤهل " ليكون طلائعيا".
كان على الدكتور ان يحلل لنا قليلا لماذا يعتبر علم الاجتماع يتميز ( عن غيره من العلوم الإنسانية والاجتماعية وعن الفلسفة وعن العلوم الصحيحة) " إبستمولوجيا بالابتكار والخلق". إن هذا " التميز" قد يكون وهميا، أو على الأقل مبالغا فيه. إن أغلب النماذج التحليلية التي استعملها علماء الاجتماع والانثربولوجيا، أخذوها عن علوم أخرى مثل العلوم الصحيحة أو البيولوجيا أو اللسانيات أو السيبرنتيكا أو غيرها.
كما أن أغلب التصورات الابستمولوجية لعلم الاجتماع أخذت إما عن الفلاسفة أو عن علماء الطبيعة.
كما أن خيرة علماء الاجتماع في العالم، قدموا إلى علم الاجتماع من اختصاصات أخرى كالاقتصاد أو الفلسفة أو التاريخ و لم يفصلوه عنها اطلاقا . فلماذا كل هذه " المركزية السوسيولوجية" ؟ وماذا يقصد الدكتور بأن علم الاجتماع " طلائعي"، هل عدنا إلى الوضعية البدائية عند سان سيمون وكونت اللذين أرادا تقديم علم الاجتماع كعلم لكل العلوم الإنسانية والاجتماعية؟ ألا يجب علينا التواضع قليلا يا دكتور، خاصة في الوطن العربي؟
أم أنك تريد أن تلهب مشاعرنا " الحرفية" حتى تقول لنا فيما بعد أنك أنت الدليل الواضح على قدرة علم الاجتماع العربي على " الخلق والابتكار" وأنك أنت طليعتنا في السعي إلى " تأصيل علم الاجتماع العربي" في " ثقافته الإسلامية- العربية"، وأنك تأتينا بأحدث " إبداع وابتكار" بواسطة " بحث علمي أساسي" يؤسس" براديغما جديدا" ؟
مهلا يا دكتور، نحن لسنا أفضل حالا من غيرنا ولا طليعة ولاهم يحزنون. إن حالتنا من حال زملائنا في كل العلوم الصحيحة والاجتماعية والإنسانية ولسنا بحاجة إلى هذا التفاخر الطاووسي بعلمنا حتى نتقدم به، مثلما لسنا بحاجة لجلد ذات مازوشي.
إن " بحثك العلمي الأساسي" و"براديغمك" يدلان على أننا لسنا فقط في بداية السلم، بل أيضا في شبه قطيعة، حتى مع أول آبائنا، عبد الرحمان بن خلدون، ومع روّادنا المؤسسين الثلاثة ماركس و دوركهايم و فيبر.
10: حول الانسجام المزعوم مع علم الاجتماع النقدي
في البداية يعترف الدكتور الذوادي بأمرين مهمين بخصوص " منظوره الثقافي الإسلامي العربي". - الأول هو محاولة الجمع بين علم الاجتماع والفلسفة والدين. - الثاني تناقض منظوره مع " العلم الوضعي التقليدي" (ص55)
بعد ذلك يدّعي أن صياغته الجديدة " يقبلها ويرحب بها التوجه الجديد في صلب علم الاجتماع" (ص55) ويعطي مثالا على ذلك؛ " علم الاجتماع النقدي ".
إن في هذه المقدمة جملة من المغالطات وتراجعا مهماّ عن " العقل السوسيولوجي". أولا: إن محاولة الجمع بين علم الاجتماع والفلسفة والدين هي محاولة خطيرة جدا على علم الاجتماع إذا مسّت بـ"الرؤية المركزية لهذا العلم" كما يقول الدكتور نفسه.
إن الانفتاح على الفلسفة أو على الدين أو على أي ميدان فكري آخر ليست مرفوضة من حيث المبدأ، بالعكس هي مطلوبة جدا، لكن بشرط أن يكون ذلك الانفتاح علميا، أما إذا أدى الجمع بين علم الاجتماع والفلسفة والدين إلى ذوبان العلم في واحد من الطرفين الآخرين، فذلك سيؤدي إلى استئصال علم الاجتماع عوض تأصيله.
ثانيا: يقول الدكتور أن " العلم الوضعي التقليدي" يرفض الجمع بين عدة رؤى معرفية، مثلا بين الفلسفة والدين وعلم الاجتماع.
إن هذا الادعاء مغالطة كبرى، وبالتحديد عندما يتعلق الأمر بالعلم الوضعي " التقليدي". إن كل الدراسات السوسيولوجية المعرفية التي تناولت فكر كل من سان سيمون و أوغست كونت وحتى دوركهايم، آباء الوضعية " التقليدية"، أكدت ارتباط العلم بالدين و بالفلسفة عندهم. ولذلك اعتبر الكثيرون أن " الوضعية التقليدية" كانت فلسفة اجتماعية أكثر منها علما اجتماعيا، وأدى بها ذلك إلى الدعوة لخلق " دين جديد" ( س سيمون و كونت ) والدفاع عن الدين لتحقيق التماسك ( دوركهايم).
إن " الوضعية التقليدية" كانت تمزج الفلسفة بالعلم الاجتماعي وبالدين على طريقتها الخاصة. ويخطىء الدكتور الذوادي إذا تصور أنه عندما يمزج هذه العناصر الثلاث يفلت من " الوضعية التقليدية" تحديدا.
ثالثا: يدّعي الدكتور أن صياغته يقبل بها التوجه الجديد في صلب علم الاجتماع وهذه مغالطة أخرى.
إن التوجه الجديد في علم الاجتماع خاصة منذ اشتداد أزمة الوجودية و الماركسية في أوربا والوظيفية في العالم الانجلوسكسوني، هو الدعوة إلى نقد كل المحاولات الجديدة لتحويل علم الاجتماع إلى " فلسفة اجتماعية" أو إلى " دين جديد" ويمكن أن نذكر في هذا الإطار مساهمة كل من رايت ميلز في الولايات المتحدة وآلان توران و بيار بورديو و إدغار موران في فرنسا، وغيرهم كثير
إن محاولة الدكتور تمرير فكرته من خلال إيجاد مشروعية تستمد من " توجه جديد" عالمي الانتشار هي " محاولة فاشلة".
رابعا: يدعى الدكتور أن علم اجتماع بيار بورديو يدعم توجهه، وهذه مفارقة " غريبة وعجيبة" في علم الاجتماع. إن المعروف عن بيار بورديو محاولته استيعاب ماركس و دوركهايم و فيبر في نسق واحد جديد يسمى عادة " البنيوية التوليدية" التي من بين أعلامها الآخرين لوسيان غولدمان و جان بياجي وآخرون.
إن بيار بورديو و الدكتور الذوادي يقعان على "طرفي نقيض"، أولا لأن بورديو يعتبر الحقل الاقتصادي " حقل الحقول" بينما الدكتور يعتبر " الجانب الرموزي" جوهر الإنسان. بيار بورديو يتهم بأنه شديد الحتمية القريبة من الدوركهايمية بينما دكتورنا يميز الإنسان " بالحرية والقدرة على الاختيار".
بيار بوديو يدرس الثقافة كظاهرة اجتماعية محضة، رمزيتها اجتماعية صرفة وليست أبدا " رموزية ميتافيزيقية" مستمدة من " نفخة الروح الأولى".
بياربوديو يركز من خلال مصطلح " السيماء- الهابيتوس" على أهمية التربية والتنشئة و" إعادة الإنتاج" بينما الدكتور يعتبر أن " الرموز الثقافية" رصيدها في " النفخة الإلهية".
يمكن أن نواصل المقارنة أكثر من هذا، لكن نتوقف قليلا ونتابع الدكتور الذوادي في تحاليله.
يخطىء الدكتور في تعريب مصطلح « Sociologie réflexive » عند بورديو ويعربه بــ" علم الاجتماع النقدي" ولو أن الدكتور الذوادي تصفح أي كتاب معرّب لبورديو (و قليلة هي كتبه المعربة، لكنها موجودة)، لعرف أن الجميع ، تقريبا، متفقون على عبارة " علم الاجتماع الانعكاسي". و لو أن الدكتور فتح أي معجم لغوي فرنسي فسيعرف أن عبارة " علم الاجتماع النقدي" يقابلها Sociologie critique. أما لفظ Réflexion في الفرنسية فله معنيان: انعكاس أو تفكير ومن يعرف قصد بيار بورديو من عبارة Réflexion يرجح تعريبها ب"انعكاسي" أو بعبارة" قريبة منها ولكن في كل الأحوال ليس بعبارة: نقدي. كل هذا لا ينفي عن بورديو كونه نقديا، إن علمه الاجتماعي نقدي بالطبع ولكن عبارة Réflexive أمر آخر.
نترك مسألة التعريب هذه، وهي مسألة ثانوية، وربما لوى الدكتور عنق كلمة Réflexion باتجاه مصطلح "نقدي" ليقول لنا أنه ينقد المجتمع وعلم الاجتماع، ونذهب إلى ما هو أهم:
يقول الدكتور: " فمشروع بورديو الفكري المعرفي يتمثل في ما أطلق عليه بعلم الاجتماع النقدي. فهذا الأخير لا يحترم كثيرا الحدود التي وقعت إقامتها بين التخصصات المعرفية. ومن ثم فعلم الاجتماع النقدي يدعو إلى ابتكار واستنباط طرق جديدة تفي بفهم وتفسير الظاهرة الاجتماعية بكثير من المصداقية"(ص56).
علم الاجتماع النقدي لا يحترم كثيرا الحدود بين التخصصات المعرفية، هذا صحيح، ولكن بشرطين: أولا: أن تكون تلك التخصصات معرفية، علمية وليس دينية مثلا، فحتى الفلسفة، يعتبر بورديو ( وهو فيلسوف بالأساس تحول إلى علم الاجتماع) أن عليها الاقتراب من علم الاجتماع، وهي بدأت تفعل ذلك، بعد سارتر خاصة، وأمثلة فوكو و دولوز وغيرهم دليل على ذلك. وكأنه يتبنى فكرة ماركس عن " نهاية الفلسفة" بوصفها تأملا، وتحولها إلى " تعميم للمعارف العلمية". وثانيا: أن يدفع ذلك إلى تطوير علم الاجتماع وليس إلى تعويضه بتخصص ميتا- اجتماعي. لذلك، إذا كان علم الاجتماع النقدي " يدعو إلى ابتكار واستنباط طرق جديدة تفي بفهم وتفسير الظاهرة الاجتماعية بكثير من المصداقية " فهذا لا يعني أن تكون تلك الطرق غير سوسيولوجية.
إن علم الاجتماع النقدي، الذي يعتقد الدكتور انه يضفي شرعية على " سوسيولوجياه الميتافيزيقية"، ينقد المجتمع في نفس الوقت الذي يحلله فيه. والبعد النقدي في " علم الاجتماع النقدي" على طريقة بورديو عادة ما ارتبط بتيارات اليسار المختلفة، التي تنقد الدين في معرض نقدها للرأسمالية. فهل يقبل الدكتور الذوادي بهذا يا ترى؟
يتناسى الدكتور هذه النقطة ويركز فقط على ما يعتقد أنه يخدم مشروعه الفكري ويذكر لنا بعض ميزات علم الاجتماع النقدي مثل: - تحدي التقسيمات " الحالية وأنماط التفكير السائدة في العلوم الاجتماعية". - الدعوة إلى تبني مناهج متعددة - اعتماد مبدأ الشمولية أو "الظاهرة الاجتماعية الكلية" - معارضة الفصل بين النظرية والمنهج الميداني
لقد ناقشنا سابقا النقطتين الأولى والثانية ولن نعود إليهما، لكن لا بد من إلقاء نظرة على النقطتين الثالثة والرابعة ولو بسرعة.
من ناحية أولى: يوهمنا الدكتور أنه يوافق على ما يسمى التحليل الشمولي " للظاهرة الاجتماعية الكلية"، ولكن يتعمد عدم تذكير القارىء أن هذا المفهوم قديم في علم الاجتماع. فلقد اقترب منه ماركس نفسه متأثرا بفكرة "الكلي العياني " عند هيغل ولكن بصيغة خاصة نسبيا وقد قام بذلك خاصة كل من مارسيل موس و جورج غورفيتش و فعل بورديو نفس الشيء.
ثم إن مفهوم " الظاهرة الاجتماعية الكلية" لا يعني بالضرورة الموافقة على منهج " تركيبي" أو " تعقيدي".
المعروف أن ماركس تحدث مثلا عن " التشكيلة الاجتماعية- الاقتصادية" للتحليل ضمن المجتمع في كليته، لكن ذلك لم يمنعه من تقسيم تلك الظاهرة الاجتماعية الكلية " إلى بنيتين طابقين"، بناء تحتي وآخر فوقي، ومن اعتبار البناء التحتي عاملا محددا، في آخر التحليل ،في كل مراحل التاريخ . ومع انه حاول تحليل الظواهر في ترابطها الجدلي فانه اعتبر من الممكن تحليل الاقتصاد مكتفيا بذاته بصورة أحادية نسبيا.
إن ولع الدكتور الذوادي أيضا ب" الظاهرة الاجتماعية الكلية" لن يجعلنا ننسى أنه يعتبر " الروح الرموزية" جوهرا للظاهرة الإنسانية. إذن، مفهوم المقاربة الشمولية للمجتمع يختلف من عالم اجتماع إلى آخر وقد لا يعني عند البعض " قطعا ابستمولوجيا" مع " النيوتنية" كما يريد الدكتور.
من ناحية ثانية: عندما يتحدث الدكتور عن معارضة بورديو للفصل بين النظرية والمنهج الميداني، يوجه التحليل في اتجاه واحد فقط. في اتجاه رفض " النزعة المنهجياتية" أو " المنهجية السلبية" (Méthodologisme) التي تعبد المناهج والتقنيات وتنسى النظرية. لكن الدكتور الذوادي لم يذكرنا أن بورديو يوجه نقده أيضا (مثلما فعل ش رايت ميلز ـ م26) لعبادة النظرية على حساب المنهج و التجربة، لأن ذلك يؤدي إلى تحويل علم الاجتماع إلى " فلسفة اجتماعية تأملية ". ( م27 ، ص131-134)
يغض الدكتور الطرف عن هذا " الانحراف النظري" لأنه يحس أنه يرتكبه، إذ كيف له أن يحدد لنا المناهج العلمية التي تثبت من خلالها أن " الرموز الثقافية" هي من " نفخة الله الأولى"؟
وأية مناهج وتقنيات علمية ميدانية يمكنه أن ينصحنا بها لدراسة كائنات " لا محسوسة" و " ما ورائية"؟
إنه لم يذكر لنا في مقاله هذا أية توجيهات منهجية محددة. لعله يتصرف معنا مثل شيوخ المتصوفة، ينتظر أن " ننضج "مثله ليبوح لنا بمصادر علمه، أو لنكشف بأنفسنا من خلال تأمل ميتافيزيقي " الجوهر" و " الروح" الذين لا يعرف سرهما الآن إلا هو.
في خاتمة الفقرة – الأطروحة العاشرة، ينسب الدكتور نفسه إلى التيار النقدي ويقول: " ومما تقدم، يمكن القول إن منظورنا الثقافي الإسلامي العربي في هذه الدراسة يندرج في فلسفة رؤية علم الاجتماع النقدي، فنحن ننتقد بشدة علم الاجتماع الغربي المعاصر الذي يكاد يهمل بالكامل المعالم الميتافيزيقية للرموز الثقافية " (ص56).
بعد ذلك يواصل الحديث عن أزمة " علم الاجتماع الغربي" ودعوة فالرشياين إلى حلها ويقول أن: " علماء الاجتماع في الوطن العربي هم بحق مؤهلون كثيرا للاستجابة إلى هذه الدعوة الملحة ووضعها موضع التنفيذ في الفكر السوسيولوجي العربي للقرن الواحد والعشرين" (ص57).
يقول علماء الاجتماع النقديين في الغرب، لا بد من نقد المجتمع الغربي وعلم الاجتماع الغربي.
يقول عالم الاجتماع "المسلم العربي" أيضا:" لا بد من نقد المجتمع الغربي وعلم الاجتماع الغربي".
يا دكتور، لماذا لا تنقد المجتمع" الإسلامي- العربي" والفكر العربي بكل حقوله مثلما يفعل النقديون الغربيون؟
يقول الدكتور: " رؤية الثقافة الإسلامية العربية سبّاقة في هذا المضمار: توحيد كل المعارف والعلوم وبالتالي فعلم الاجتماع العربي القائم على قوة الابستمولوجيا التوحيدية المطلقة للثقافة الإسلامية العربية مؤهل بحق أن يكون منيعا كل المناعة من الأزمة الابستمولوجية التي يعيشها علم الاجتماع الغربي، وبقية أصناف المعارف والعلوم اليوم" (ص57).
هكذا إذن، نحن منيعون كل المناعة بفضل "قوة الابستمولوجيا التوحيدية المطلقة" التي ثبت أنها قوة انطولوجية توحيدية مطلقة. طيب وماذا عن نقدك السابق للمؤسسة والعقلية الأكاديميتين، من يا ترى المتسبب فيهما؟
من خلال منطق الدكتور، سيكون علماء الاجتماع العرب الماركسيون والدوركهايميون والفيبريون وغيرهم سبب الأزمة لأنهم في تبعية لعلم الاجتماع الغربي، كذلك علماء الاجتماع العرب المسيحيون لأنهم ليسوا مسلمين وتوحيدهم " غير مطلق" بسبب إيمانهم بثالوث " الأب والابن والروح القدس" ، وكذلك اليهود والإحيائيون من المواطنين العرب. فمن سيقوم بتأصيل علم الاجتماع العربي إذن؟
11: حول "الأمة العربية وعصبيتها الثقافية":
يقدم لنا الدكتور في هذا القسم الأخير ما يمكن أن نطلق عليه " سوسيولوجيا الأمة والمسألة القومية". ويحفل هذا الجزء أيضا بفتوحات نظرية وسياسية عظيمة سنحاول تتبعها تدريجيا من خلال بعض المحاور.
أولا: في تعريف الأمة، يقول الدكتور: " الأمة العربية هي في المقام الأول حصيلة لتلك الرموز الثقافية التي تتجاوز عوامل القرب الجغرافي والتبادل الاقتصادي والتحالف العسكري بين الأقطار العربية"(ص57)
ثم يضيف " فمعطى الوحدة العربية الثقافية بين الشعوب العربية هو إذن أمر سابق لعوامل الوحدة الجغرافية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ومتغيرات الزمان والمكان"(ص59).
إذن، الرموز الثقافية، في المقام الأول، تكوّن الأمة قبل أي توحد جغرافي أو اقتصادي أو عسكري أو سياسي و بمعزل عن متغيرات الزمان والمكان.
إذن الوحدة العربية الثقافية تمت خارج ( بما أنها سابقة) الوحدة الجغرافية والاقتصادية والسياسية وخارج الزمان والمكان.
إنها " وحدة خالدة"، قديمة مثل قدم الكائنات الماورائية على ما يبدو. إننا أمة تكونت قبل التاريخ ( الزمان) وقبل الجغرافيا ( المكان). لقد تكونا كأمة لحظة " نفخة الروح الأولى" على ما يبدو. يبدو أن الله نفخ فينا "روحا رموزية "عربية منذ وجودنا في الملأ الأعلى.
ثانيا: بماذا تتميز الأمة؟ بالعصبية الثقافية. و ماهي هذه العصبية؟ يقول الدكتور:" الشعور والتضامن العربيان والإسلاميان العضويان عند العامة والخاصة في مجتمعات الوطن العربي يعودان، في نظرنا إلى ما يمكن أن نطلق عليه بالتعبير الخلدوني بالعصبية الثقافية" (ص57). ثم يضيف: " إن ما نعنيه بـ"العصبية الثقافية" هو أن اشتراك الأفراد والجماعات والمجتمعات في رموز ثقافية متجانسة ومتشابهة يدفعهم إلى التقارب والتضامن بعضهم مع بعض بطريقة تلقائية يغلب عليها الحماس العاطفي في المساندة والدفاع عن الذين يشتركون معهم في تلك الرموز الثقافية" (ص58)
ولكن، هل لكل الرموز الثقافية نفس الوزن في هذه العصبية؟
يجيب الدكتور:" يأتي في طليعتها الدين الإسلامي واللغة العربية وثقافتاهما" (ص58) ولكن، لماذا لم يقل الدكتور أن اللغة وحدها، تأتي في الطليعة حتى يبرر مصطلح " الأمة العربية" من ناحية ويبقى وفيا لتحليله النظري السابق الذي يقول بأن اللغة هي: " أهم رمز ثقافي يملكه بنو البشر" (ص46)
ولماذا لم يقل أن الدين وحده، يأتي في الطليعة، حتى يبرر لنا استعماله لعبارة " الثقافة الإسلامية العربية" وليس " العربية الإسلامية" المعهودة عند الجميع، وحتى يبقى وفيا لتحليله الذي يقول: " نفضل استعمال عبارة" الثقافة الإسلامية العربية" بدل الثقافة العربية الإسلامية: لأهمية ثقل دور الإسلام في التأثير في جوهر ومعالم ظهور الثقافة في الوطن العربي" (ص61- الهامش الأول).
من نصدق يا دكتور، العربي فيك أم المسلم؟
كيف يقول باحث يقدم " باراديغما" جديدا، بعد " بحث علمي أساسي" ويريد " تأصيل علم الاجتماع العربي"، مرة أن اللغة هي أهم رمز ثقافي يملكه بنو البشر، ثم يقول بعد ذلك إنه بالنسبة إلى العرب الأمر مختلف لأن " الإسلام هو الأهم". إما أن نظريتك خاطئة أو أن العرب ليسوا بشرا أو أنهم فوق البشر لأنهم تمتعوا وحدهم " بنفخة الروح الأولى".
ثالثا: ما الفرق بين العصبية الثقافية وعصبية صلة الرحم؟ يجيب الدكتور:" ومما يميز " العصبية الثقافية" عن عصبية صلة الرحم هو أن الأولى أرحب صدرا وإنسانية بكثير من الثانية، من حيث قدرتها على استيعاب عدد هائل من ملايين البشر قد يصل إلى ضمّ البشرية جمعاء من كل الأجناس والمجموعات العرقية والعشائر والقبائل" (ص58).
ويعلق على تعريف العصبية عند ابن خلدون قائلا:" فالعصبية كسلوك تضامني مع أهل صلة الرحم هي في التصور الخلدوني، ظاهرة ذات جذور بيولوجية مورثاتية" (ص57). إذن، " يلتقي" الدكتور مع ابن خلدون في استعمال مفهوم العصبية، ويختلف معه في استعماله "العصبية الثقافية" أساسا، عوض "عصبية صلة الرحم". لكن، ماذا يقصد الدكتور عندما يقول أن العصبية عند ابن خلدون " ذات جذور بيولوجية مورثاتية"، هل كانت هنالك بيولوجيا وعلم جينات في عصر ابن خلدون حتى نقول بأن له نظرة بيولوجية مورثاتية؟ أليس من الأجدر الحديث عن نظرة دموية ـ قرابية.
نترك هذا الإسقاط جانبا ونرى ما هو أهم: عندما قدّم ابن خلدون نظريته عن العصبية القبلية لم يقدمها فقط على أنها " أهم أسس التضامن والوحدة" (ص57)، بل كذلك، أهم أسس الصراع على السلطة، بين العصبيات، داخل نفس المجتمع، فماذا عن" العصبية الثقافية" عندك يا دكتور؟ هل ذكرت كلمة واحدة في مقالك هذا عن صراع داخلي ثقافي ضمن المجتمع " الإسلامي العربي" أو " العربي الإسلامي"؟
إذا كنت تقيّم ابن خلدون بأنه " بيولوجي مورثاتي" ألست صاحب نظرية عضوية بامتياز متأخرة حتى عن الوظيفية المطلقة؟ كل حديثك عن " العصبية الثقافية" يدور حول"الشعور بالوحدة" و"التضامن" و"التقارب" و"التجانس" و"التشابه" و"الحماس العاطفي" و"المساندة "و"الدفاع "و"الثبات" و"القوة" و"المتانة" و"التواصل عبر الزمن الذي قد يصل إلى درجة الخلود". ( وكل هذه العبارات موجودة في الصفحات 57-58). فعلى الأقل، ابن خلدون تحدث عن ميكرو- عصبية داخلها تضامن، ولكن بين هذه العصبيات القرابية الصغرى صراع وتحالف يخلق تحولات عبر التاريخ، حتى ولو كانت" دائرية تكرارية".
أما تعميمك لمفهوم العصبية ( بعد تنقيحه)، على المجتمع الكلّي، بل على " المجتمعات العربية" (ص57) بل على " البشرية جمعاء" (ص58) وحديثك عن قدرة هذه العصبية التي تشبه " عصا سحرية"(ص58) فهو تراجع حتى عن مكتسبات علم الاجتماع العربي التي ورثها عن النظرية الخلدونية.
إنه رجوع إلى مفهوم الأمة الديني الذي يبدو أنه سجين هنتنغتون واليمين المسيحي والصهيوني من ناحية و الأصولية العروبية و الإسلامية من ناحية أخرى مع الأسف. وأين علم الاجتماع من كل هذا؟ لو قرأنا تعريف الأمة ، على سبيل الذكر ، في "معجم علم الاجتماع" لبودون و الشرقاوي …لوجدنا أنها مرتبطة دائما بعرض تاريخي حول ماض وحاضر و مستقبل و أن حاضرها هو شبكة من العلاقات والمصالح الموجهة للداخل باعتبارها "طريقة في الاجتماع "و للخارج ،في علاقة بالأمم الأخرى ، و هي ذات أبعاد اقتصادية و سياسية وعسكرية و ثقافية …( م9، ص161) بل وأين الواقع البسيط من كل هذا؟ هل يعقل أن ينسى الدكتور سويسرا، أو أية دولة ديمقراطية متعددة القوميات، مثل كندا التي يعرفها جيدا، حتى يقول مثلا: " قد أثبتت ملاحظات أصحاب الرأي في العلوم الاجتماعية أن اشتراك الأفراد والجماعات والشعوب في لغة وعقيدة وثقافة واحدة يقوّي بينها عرى التواصل والتقارب والتضامن أكثر من غيره من العوامل الأخرى"(ص58-59) فهل عرى التواصل بين السويسريين أضعف من تواصلنا نحن العرب مع بعضنا البعض فعلا؟
وهل يعقل أن عالم اجتماع عربيا، باحثا في شؤون الأمة العربية، عند مقارنته وضع الوحدة العربية بالإتحاد الأوروبي، يترك الوقائع ويعاندها، ويفضل ما يوجد في ذهنه حول " العصبية الثقافية" إلى درجة اعتبار " احترام التنوع اللغوي والديني في دستور الاتحاد الأوروبي" (ص59) وكأنه عامل سلبي، مقارنة بالعصبية اللغوية والدينية عند العرب المسلمين.
وهل يعقل، عندما يتحدث الدكتور عن الاتحاد الأوروبي، أن ينسى الوجود النسبي لـ" وحدة الدين" و لا يذكر إلا عناصر التوحيد " الاقتصادي والسياسي والقانوني" فيه (ص59) أم أنه يعرف ذلك، ولا يعجبه أن توجد في أوروبا في نفس الوقت وحدة دينية مسيحية وكذلك " احترام للتنوع الديني" سواء بين المذاهب المسيحية أو تجاه الأديان أو المعتقدات الأخرى ، نظريا على الأقل .
أم أنه أراد أن يقول لنا أن الأوروبيين لا يقدرون " رموزه الثقافية" وبالتالي يهتمون فقط بالوحدة غير الرموزية. أخيرا، كيف يقدم عالم اجتماع نظرية عن الأمة للعرب ويقصي منها العرب المسيحيين؟ وكيف يقدم عالم اجتماع نظرية عن الأمة العربية ولا يذكر تماما لا علاقاتنا بالأفارقة المسيحيين والإحيائيين ولا بالتركمان و لا الأرمن و لا الآشوريين السريان...
ألن تؤدي " العصبية الثقافية"، إضافة لمشاكلها النظرية، إلى تعصب قومي ـ لغوي و ديني يكاد يكون بدائيا؟ ألا تعبر اطروحات الدكتور عن أزمة في علم الاجتماع تهدد باستئصاله عوض «تأصيله"، إننا نعتقد ب" استحالة تأصيل" علم الاجتماع، ( كما يقول الدكتور محمد أركون باستحالة تأصيل الفكر الإسلامي عموما (م28) ، ليس فقط في الثقافة " الإسلامية العربية" بل في كل الثقافات الخصوصية المسيحية أو اليهودية أو غيرها، على الأقل بالمعنى الذي يعطيه الدكتور للتأصيل.
المصادر والمراجع و الملاحظات (حسب ترتيبها في النص)
1- الذوادي، محمود، نداء حول ضرورة تأصيل علم الاجتماع العربي في صلب فكر مرجعيته الثقافية، عالم الفكر، الكويت، المجلد 34 -1، يوليو- سبتمبر/2005، ص 33-63.
2- الذوادي، محمود، في أبجدية الرموز الثقافية، من أجل تفسير أدق للقضايا الهامة، الآداب، بيروت، المجلد 53، العدد 6-7 يوليو- تموز 2005/ ص 8-12.
3- روزنتال ،م و يودين ،ب، ( تحت إشراف)، الموسوعة الفلسفية، مادتا "ابستمولوجيا " و "انطولوجيا"، تعريب سمير كرم ، دار الطليعة- بيروت، الطبعة 6 ، 1987.
4- روشيه، غي، مدخل إلى علم الاجتماع، 1: الفعل الاجتماعي، تعريب مصطفى دندشلي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1983.
5- ARON, Raymond, les étapes de la pensée sociologique, II, CERES, Tunis 1994. (Chp ; les regles de la methode sociologique 1895, pp 448-461.).
6- باختين، ميخائيل، الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة محمد البكري ويمنى العيد، دار توبقال- المغرب، ط1، 1986، انظر: صص 27-37.
7- STALINE, Joseph ; A propos du marxisme en linguistique,
Dans ; MARX, ENGELS, LAFARGUE, STALINE ; Marxisme et
Linguistique, présentation de LOUIS JEAN CALVET, Payot,
Paris, 1977, pp; 145-196.
ـ هنالك ترجمة عربية لكتاب ستالين " الماركسية و المسألة اللغوية " عن دار دمشق سوريا و لبنان .
8- الموسوعة الفلسفية، مرجع سابق الذكر، ( مادة «اللغة") و ماركس- أنجلز، الايديولوجيا الألمانية، في: Marx-Engels, Etudes philosophiques, Ed sociales, Paris, 1974.
9- BOUDON, CHARKAOUI … (dir.), Dictionnaire de sociologie, Max weber, Larousse/ France loisirs, Paris, 1998.
10- فيبر، ماكس، الأخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية، الطبعة العربية، تعريب محمد علي مقلد، مراجعة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان / باريس/ ( دون تاريخ(.
11- فروند، جوليان، سوسيولوجيا ماكس فيبر، تعريب جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، ص ص؛ 45 ـ52.
12- السويدي، محمد، مفاهيم علم الاجتماع الثقافي ومصطلحاته، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر و الدار التونسية للنشر، ط1، 1991. * انظر كذلك، طاهر لبيب، سوسيولوجيا الثقافة، دار محمد علي الحامي، صفاقس ـ تونس، دون تاريخ.
13- ARON, Raymond, la philosophie critique de l’histoire, points/ Lib philosophique vrin, Paris, 1969.
14- عبد المولى، محمود : الإنسان والقردة والمخلوقات الغريبة بين الخرافة والعلم، الدار التونسية للنشر، 1989.
* هذا الكتاب هو العمل الوحيد الذي أصدره سوسيولوجي في تونس حول الموضوع حسب علمنا.
15- ابن خلدون، عبد الرحمان، المقدمة، دار الجيل، بيروت.
16- شبل، مالك، معجم الرموز الإسلامية، مادة " آدم"، تعريب أنطوان الهاشم، دار الجيل، بيروت.
17 ـ خياطة، نهاد، دراسة في التجربة الصوفية، دار المعرفة، دمشق، 1994. 18 ـ الحفني ،عبدا لمنعم ، معجم مصطلحات الصوفية ، دار المسيرة، بيروت، ط 2 ،1987
19- أنجلز، فريدريك، أنتي دوهزينغ، تعريب فؤاد أيوب، دار دمشق، الطبعة الخامسة، 1981- ص ص 116-129.
20- - MORIN, Edgar, pour entrer dans le 21 siècle, 1981, Seuil, points Paris,- 2004. 21 - MORIN,Edgar , la méthode, la nature de la nature, Seuil, points, 1977.
22- أمين، سمير، نقد روح العصر، تعريب فهمية شرف الدين، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 1998، ص ص 59-67.
23- TOURAINE, Alain, un nouveau paradigme, pour comprendre le Monde d’aujourd’hui, Fayard, Paris, 2005.
24- بودون، ريمون، موضع الفوضى، تعريب منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت: الطبعة الأولى، 1999..
25- أنجلز، فريدريك، دور العمل في تحول القرد إلى إنسان، ضمن" ديالكتيك الطبيعة"، تعريب توفيق سلوم، دار الفارابي، بيروت: 1988، صص 163-174.
26- MILLS, C. Wright, l’imagination sociologique, traduit de l’americain par pierre clinquart, maspero, Paris, 1967, Surtout chap : 2 et 3, pp : 27-78.
27- بورديو، بيير و قاكونت ،ج.د. ، أسئلة علم الاجتماع، في علم الاجتماع الانعكاسي، تعريب عبد الجليل الكور و مراجعة محمد بودودو، منشورات توبقال ، المغرب، الطبعة الأولى 1997.
28- أركون ، محمد، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ( نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي)، ترجمة و تعليق هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة02، 2002.(انظر خاصة الفصل الخامس؛ العلوم الاجتماعية أمام تحديات الظاهرة الإسلامية، ص ص؛ 295ـ352.).
#بيرم_ناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
المزيد.....
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|