|
قصة قصيرة
ماجد عاطف
الحوار المتمدن-العدد: 1110 - 2005 / 2 / 15 - 11:23
المحور:
الادب والفن
الفيل يا ملك! أفلت زمام المرأة المنهكة وأخذت تصيح بصوت غاضب: - اليوم الرابع على المعبر.. اتّقوا الله.. لم يعد لدي فلوس لتأخذوها، ولا أستطيع شراء أكل. مرضت يا ناس، حرام عليكم: اتّقوا الله فينا.. لوهلة دبّ الصمت في القاعة المكتظة وتوقّفت حركة الجمهور، ثم تعالى اللغط المؤيّد أو متعاظم الاحتجاج فأخذت الأجساد تتوثّب كموجة متمرّدة قبل أن تهدأ. لو أن شخصاً آخر غير المرأة الكبيرة المنهكة صرخ لكان هناك أثر سلبي، عناصر أجهزة أمن تأتي وتطوّق القاعة وتحاول ضبطها من الداخل بسلسة من البشر والأسلحة والعصي لرد المنتظرين منذ أيام، المنهكين، إلى انتظارهم اللا نهائي. طأطأ موظّف الجوازات رأسه خلف الزجاج وأغلق بإصبعه الميكرفون ونظر أسفل قدميه. لم يكن لديه في نهاية الأمر ما يقوله لامرأة في عمر أمّه لم تعد تحتمل أكثر. لو كان منع العبور حقيقياً، على الجميع، لهان الأمر.. في أقل من نصف ساعة ينتظر ابن ذوات أو متأنّقة، وفجأة يمرّ متبختراً من الباب الموصد أمام الكثيرين الذين باتوا لليلتهم الثالثة أو الرابعة أو الخامسة على الأرض القذرة حيث عناقيد الذباب يلتحفون السماء، أو تحت الأشجار. في الحقيقة كان منظر النائمين على الرصيف وفي الساحة مأساوياً كأنّه نكبة أو نكسة جديدتان: مخيّم آخر وأجساد قارفها البؤس. هذه امرأة تحتضن على الأرض طفلها. ثمّة رجل يحاول ستر ابنته في نومها العاري. عائلة انتهك المشهد القسري خصوصية إنسانيتها. حين تسمع الرد المغضِب: VIP، تقرير مرضي.. دفعت مبلغاً كبيراً بالدولار.. لها قريب ضابط يعمل في المعبر، تنسى أنّه معبر شكلي حيث لا صلاحية فعلية. تعلم أنّه محاولة لتنظيم الأمور لكنها محاولة في حيّز العبء الإضافي غير المبرر، وتتمنى عندها لو تزول كل هذه الشكليات الإضافية لتختصر الأمر، ولترَ عندئذ الجوهر ولو كان مؤلماً: لا سلطة فعلية ولا نظام. وهناك معبران بعد، أكثر تشديداً بما لا يقاس، لكنهما أقل معاناة بما لا يقاس أيضاً. لن تنام ليلتك على الأقل. تعرف دورك وتعرف متى تصل إليه أو يصل إليك ولن تقاتل على ما يتسرّب من ناظرك لأن عدوّك أو الغريب –يا للسخرية- يساوي بين العابرين.. لن تؤذيك مناظر القذارة ومكارهها الصحّية، ولن تبحث طويلاً عن حقيبتك المداسة أو المنتهكة أو الضائعة، وستجد الماء عند حاجة شربه نظيفاً. ماج الصفّ الأول والثاني حين لاح لهما أن ثمة حركة لعبور الناس لكنها كانت حركة خاطئة وسرعان ما عاد كل شيء إلى ازدحامه وتراصّه. استأذنت من رجل جالس أرضاً يسند ظهره إلى جدار أن أجلس بجواره بعد أن أنهكني الوقوف، فأفسح لي مبتسماً. مددت ساقي وسرعان ما سحل جسدي على البلاط وغفوت قليلاً واستيقظت بعد دقائق على صوت احتجاج فردي آخر. مِلت على الرجل وقلت أننا لو نتظاهر جماعة لربما أجبرنا القائمين على المعبر على تعجيل المرور. هزّ رأسه متفهماً لكنه لم يقل شيئاً. كان ساهماً يعبث بذقنه وفجأة توهّجت ملامحه وقال: - تحدّثني أم أحدّثك؟ ابتسمت للسؤال العجيب وطلبت أن يحدّثني. ** ** "كان هنالك ملك ظالم من فرط ظلمه اقتنى فيلاً وأطلقه وأمّر ألا يتعرّض له أحد. وكان الفيل يجتاح المدينة وأسواقها ويدوس الناس وحاجياتهم. ويفرّ الناس من أمامه ولكنهم لا يسلمون. وذات يوم اجتاح السوق وقتل الكثيرين، فاجتمع الناس في المسجد يتذمّرون ويتشاورون فيما ينبغي عليهم فعله. كان إمام المسجد يصغي إليهم صامتاً لا ينبس بشيء. اقترح أحدهم أن يشكّلوا وفداً ويذهبوا متظلّمين إلى الملك. واختار الناس رجال وفدهم وطلبوا من إمام المسجد أن يذهب على رأسهم. وذهبوا إلى الملك وانتظروا طويلاً حتى سمح لهم بالدخول. فلما صاروا في حضرته تراجعوا إلى الخلف واحداً تلو الأخر وبقي الإمام في الأمام. سأل الملك: - ها قد دخلتم، ما الأمر؟ وانتظر الإمام أن يتكلّم أحد الموفدين لكنهم صمتوا جميعاً. وظنّ أنّهم لا يجدون بدءاً للكلام فابتدأه لهم: - الفيل يا ملك.. - ما به الفيل؟ واستدار إلى الوفد ليواصل أحدهم بعد أن فتح لهم الطريق، لكنهم اخفضوا رؤوسهم خائفين ولم يظهر أن أحدهم يريد التكلّم. فصاح ثانية بتضرّع: - الفيل يا ملك! وغضب الملك: - ما به الفيل؟ ونظر الإمام إلى وفده الجبان فوجدهم يهزّون رؤوسهم له. أدرك أنهم جبناء سرعان ما سيتخلّون عنه إن حاق به غضب الملك، فاستدار وقال: - الفيل يا ملك.. يبحث عن أنثى!" وضحكت طويلاً من حكايته. ** ** تعالى الاحتجاج واللغط الغاضب في القاعة ثانية وتدافعت الجموع نحو الباب المؤدّي للحافلات حتى كسرته. لكن الحافلات امتنعت عن فتح أبوابها وتحميل أحد، وطلبت شرطة المعبر التعزيزات. أتوا بالعشرات مدججين بالأسلحة وأجسادهم الضخمة وسرعان ما سيطروا على الجموع باستثناء شاب كان في المقدّمة تلقى لطّمة ورد على صاحبها فانهالوا عليه بالضرب ثم اقتادوه على مرأى من الجميع دون أن يتدخّل أحد. التفتُ إلى الرجل الذي أعجبتني رفقته وقلت له بأسى: - الفيل يا ملك.. ربت على كتفي وقال: - لا تحزن.. حين يحين الأوان لا يصبر أحد على الملك.. أو فيله. 10 شباط 2005 [email protected]
#ماجد_عاطف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأفعى
المزيد.....
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|