|
الدولة والدين عند سبينوزا
المصطفى الشادلي
الحوار المتمدن-العدد: 3797 - 2012 / 7 / 23 - 09:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ا
يعتبر سبينوزا من أكبر المدافعين عن " عدم المزج بين الدين والدولة " بوصفها الضامنة لحرية الفكر والعقيدة، وهو ما نلفيه في العنوان الثاني لرسالة في اللاهوت والسياسة الذي يعتبر فيه سبينوزا أن الحرية لا تشكل تهديدا على سلامة الدولة. وتتمثل في حرية تأويل النص الديني حيث ليس لأحد الحق دون غيره في احتكار فعل التأويل؛ أي أن العمل الذي قام به سبينوزا موجه أساسا نحو كل سلطة كهنوتية. ويتجلى دفاعه عن حرية الفكر والعقيدة في إعماله تأويلا جديدا للكتاب المقدس لا يخرج ولا يشذ عن الانطولوجيا كما توضحت معالمها في الجزء الأول من كتاب "الإتيقا"؛ لذلك كان دفاعه عن الديمقراطية من منطلق البحث عن النظام الذي يوفر ضمانة كبرى للحرية، وهو ما يفسره عمله المتمثل في الدفاع عن " العلمانية " ونقد النظام الثيوقراطي. الفصل الأول: التأويل الديني للكتاب تعتبر كل قراءة تنظر إلى فلسفة سبينوزا على أنها جزءا من فلسفة ديكارت، أو مجرد تمثيل لها دون أن تتوقف عند هذه اللحظة المهمة والفارقة في تاريخ الفلسفة الحديثة، تبقى قراءة سطحية ومجحفة. ولعل الوقوف عند الثورة التي أحدثتها الإتيقا تقيم الدليل على هذا القول وتثبت أن سبينوزا في جوهره لم يكن ديكارتيا بل ثورة على فسلفة ديكارت. لكننا لا نسقط في التزيد إذ قلنا إنها عقلانية مدفوعة إلى حدودها القصوى، وهو المجال الديني الذي لم يتجرأ ديكارت على إعمال منهجه العقلي (الشك) فيه؛ بل ذهب إلى جعل الحقائق الدينية من اليقينيات القائمة بذاتها التي لا يعادلها يقين شيء آخر ، بعيدة عن الاستدلال والبرهنة. لأنه ينطلق من الإيمان قبل التفكير وهو ما يجعل عقلانية سبينوزا أكثر جرأة في طرح المسألة اللاهوتية للاستبصار العقلي دون أي مركب نقص أو خوف، إيمانا منه أن لا شيء يعلو على سلطة العقل، وهو ما يطبقه على النصوص الدينية التي يُخضعها للنقد التاريخي، الذي نجم من سيادة العقل في العصر الحديث، حيث ابتعد عن التأويلات التقليدية معملا النقد العلمي الذي ينظر إلى النصوص باعتبارها ظواهر طبيعية خاضعة لقوانين ثابتة يمكن كشفها ومعرفتها، بوسمها تعبيرا عن الوحي الإلهي الذي بلغه الأنبياء، من منطلق وحدة الله والطبيعة، حيث تصبح كل القوانين الإلهية هي عينها قوانين الطبيعة. ولأن عقلانية سبينوزا مدفوعة إلى حدودها القصوى فإنها ترفض أن تؤمن بالنصوص دون فحصها ودراستها علميا. غير أننا لا نستطيع فهم نقد سبينوزا لنصوص الأسفار دون الإحالة إلى نظرية الجوهر، حيث يعتبرها قائما بذاتها، مثلما أن الطبيعة لا تدرس إلا من خلال قوانينها الداخلية، فيستبعد التيولوجيا التقليدية التي تنتج تأويلات دوغمائية، تستند إلى رواية الكنيسة أو التراث المسيحي مثلما يرفض التفسير القائم على الخرافة الذي لا يستند على العقل في شيء. و ينطلق نقد سبينوزا، بداءة، من أن الكتاب المقدس كلام الله الذي يستهدف تعليم الناس السعادة الحقيقية، غير أن تفسيرات الناس ابتعدت عن الجوهر الحقيقي للدين، لذلك فإن النقد التاريخي لأسفار الكتاب يستهدف إظهار هذا الكنه الحقيقي وليس الشبيه لإلجام كل من ينظر إليه على أنه علم أو فلسفة، وعدم قبول ما لا يكون واضحا؛ أي علامة على صحته، وهو ما يصرح به سبينوزا في بداية الكتاب، حيث يقول: " عزمت بجدية وبدون ادعاء، على أن أعيد من جديد، بحرية فكرية، فحص الكتاب المقدس، وألا أثبت أو أقبل شيئا من تعاليمه لم استخلصه منه بوضوح تام، وعلى أساس هذه القاعدة كونت طريقة لتفسير الكتب المقدسة " ، وهو منهج " لا يختلف عن ذاك المعتمد في تفسير الطبيعة، بل يتفق معها كليا " ، الذي يعتبر الطبيعة جوهرا قائما بذاته لا يعتمد في وجوده إلا على ذاته، ولا يخضع إلا لقوانينه الداخلية التي يمكن معرفتها بالعقل، مثلما يستنتج كل شيء من الكتاب المقدس، يُفهم فقط من خلال قوانينه الداخلية في استقلالية تامة عن أي شيء لا ينتمي إلى النص . يطلق على المنهج المتبع في دراسة الكتاب المقدس بإسم " النقد التاريخي" الذي يرتكز في عمله على فحص اللغة لفهم معاني الأسفار، مما يوجب العودة إلى اللغة العبرية للوقوف عند المعنى الموجود في كل سفر، وهو ما يضع صعوبة أمام الناقد متمثلة في ضرورة الإلمام بهذا اللغة وبقواعدها، لأن في اللغة العبرية هناك الكثير من الكلمات التي تحمل في ذاتها العديد من المعاني المختلفة والمتناقضة . ويرتكز، ثانيا، " النقد التاريخي " على تصنيف الاصحاحات حسب موضوعها، والتمييز بين الواضحة والغامضة منها . وأخيرا ضرورة العودة إلى السياق التاريخي الذي كتبت فيه الأسفار، وحياة مؤلفيها، وفكر المؤلف، والمرسل إليه، حتى يصير بمكن المفسر أن يقف عند أي تحريف قد لحق سفرا من الأسفار، مثلما تساعدنا هذه الإمكانية في التحرر من الأفكار والأحكام المسبقة التي نحمل، أو تفسير جاهز لسفر من الأسفار. لقد أدى تطبيق العقل متمثلا في النقد التاريخي لنصوص الأسفار إلى استنتاج مجموعة من الخلاصات التي تتحرر من الأحكام اللاهوتية السائدة، والتي تحولت بفعل الكنيسة إلى عقائد، ولعل أبرزها أن الأسفار الخمسة لم يكتبها موسى كما كان معروفا؛ بل شخص عاش بعد موسى بزمن طويل استهدف كتابة التاريخ القديم لليهود، بينما موسى لم يكتب غير " سفر توراة الله " و" سفر العهد الجديد " و" سفر النشيد " و" سفر الرب " و" سفر العهد "، وهي الأسفار المتضمنة في " سفر العهد الأول ". لا يستند، إذن، " النقد التاريخي " للأسفار إلا على الكتاب وحده، ولا يرجع إلى الكنيسة والبيعة أو تفسيرات الباباوات والحاخامات، التي لا صلة لها بالعقل، لأن سبينوزا لا يريد غير إثبات " أن لكل فرد الحرية المطلقة في أمور الدين" ، حيث ليس لأحد أن ينصب نفسه وصيا على الكتاب، أو يجعل لنفسه سلطة التفسير تمنع الآخرين من حرية تفسير الكتاب وفهمه بطريقته الخاصة، أو تدعي جماعة أو فرد أنها المالكة للحقيقة والوصية عليها والبقية في ضلال. غير أن هناك صعوبات توجد أمام النقد التاريخي تمنع من تكوين فكرة شاملة عن الكتاب المقدس وخصوصا الأشياء غير القابلة للإدراك. لكن الفكرة الوحيدة التي لا يشك سبينوزا في تحريفها وهي حقيقة الدين؛ أي تعاليمه الأخلاقية التي لا تستعصي على أحد ولا تحتاج إلى برهنات أو استدلالات؛ بل يمكن للنور الفطري المشترك بين الناس أن يتوصل إليها، ويكتشف كلام الله الذي هو القانون الإلهي الذي تلخص في " حب الله فوق كل شيء وحب الجار كما يحب المرء نفسه " ، بوصفه جوهر الدين، الذي لا يحتوي على نظريات فلسفية أو حقائق علمية، لأن الأنبياء لم يكونوا فلاسفة ولا علماء يشرحون ويفسرون الطبيعة؛ بل هم مجرد أشخاص مالكين لقدرة على التخيل وأفكار بسيطة عبارة عن تعاليم خلقية بسيطة موجهة إلى الناس، تعلمهم أن الإيمان ما هو إلا طاعة الله وحب الجار. نستطيع أن نقول إن هدف النقد الذي أعمله سبينوزا هو استخلاص حقيقة الدين، فهو يعتبر أن الكنه الشبيه للدين: هو أنه مجموعة من التأملات والحقائق الفلسفية والعلمية التي تفسر الوجود، بينما الكنه الحقيقي للدين: هو أنه مجرد دعوة للتقوى وطاعة الله، بوصفها حب الله والإحسان إلى الغير، كقاعدة يجب أن توجه عمل الإنسان في حياته. وعلى هذا الأساس فإن معرفتنا بالله ليست بالضرورة معرفة " عقلية " " صحيحة " " منطقية "؛ بل إن " المعرفة الحقة " هي التي تستنج العدل والإحسان من الله، فليس خطأ أو كفرا أن يعرف الله تعريفا مخالفا لما هو عليه أو يجعله قديما أو حديثا، يعلم علما كليا أو جزئيا، صفاته عينها ذاته، فهي ليست بالضرورة، ولا تفيد شيئا؛ وإنما المؤمن الحقيقي هو الذي لا يهمه غير طاعة الله المتمثلة في العدالة والإحسان. ليست المعرفة، إذن، غاية في حد ذاتها؛ بل من أجل معرفة أن الله "عادل " و" رحيم " كمبدأ يوجه سلوكنا في حياتنا. وهي المعرفة التي تكون ممكنة بالنسبة للجميع على اختلاف أفهامهم ودرجات وطرائق إدراكاهم. إن الكتاب المقدس لا يطالب الناس إلا بالايمان بالله، وتبجيله وطاعته، والتي تستقيم بحب الغير والإحسان إليه، لأن المؤمن الحقيقي ليس الذي يكثر من ممارسة الطقوس بل الذي يحترم الآخرين ويقبل باختلافهم، ويبتعد عن التعصب لآرائه ومعتقداته، مما يضمن استمرارية السلم داخل المجتمع وامكانية التعايش؛ وهي التي تحقق سعادته، بوصف أن الخير الأسمى الذي يسعى إليه الإنسان، والذي جعله ينتقل من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع، هو العيش مع الآخرين في سلم وود. فخلاصه الحقيقي موجود في الإيمان بوصفه النواة الحقيقية للدين الكوني القائم على طاعة الله وحب الغير؛ بمعنى أن الايمان عند سبينوزا يجب أن يترجم إلى أفعال حتى لا يكون ميتا بل حيا وفعالا يساهم في استمرار الدولة والحفاظ على السلم. إن سبينوزا يربط الدين بالحياة العملية، فلا معنى له إذا لم يعلمنا الخضوع إلى قوانين الدولة واحترامها، وقبول الآخر واحترام حريته الفكرية والعقدية. والحال أن كل فرد يتمرد على قوانين الدولة المشروعة ويعرض حرية وحياة الأفراد للخطر يعتبر فاسقا وكافرا، حيث طاعة الله وحب الغير هي العقيدة الصحيحة، ولأن "الإيمان يتطلب عقائد تحث على التقوى وقادرة على توجيه معتنقيها إلى الطاعة، أكثر مما يتطلب عقائد صحيحة" . إنه من الضروري أن يبرهن الفرد على إيمانه بالله عبر احترام الآخرين، مثلما يجب أن يظهر – كما في الإتيقا – في التعاون بين الناس وفي حياة السلم والود، وهي الحياة الحقيقية التي تسعى الاتيقا إلى تعليمها. لقد حول سبينوزا الدين إلى " أخلاق ذاتية " لا تحتاج إلى طقوس أو ممارسات؛ بل تقوم على التزام فردي بطاعة قوانين الدولة واحترام الآخر لكي يكون السلم والنظام هو أساس المجتمع؛ وذلك لأن سبينوزا إنما كان يفكر في إحداث ثورة تنقلنا نحو مجتمع السلم والحرية دون عنف أو فوضى، لذلك أعاد بناء تصور جديد للدين من أجل أن يساهم في بناء مجتمع السلم. فالمؤمن الحقيقي ليس هو الذي يملك عقائد دينية صحيحة؛ بل الذي يملك ما يؤدي بالضرورة إلى طاعة الله التي لا معنى لها إذا لم تكن مجسدة في احترام الآخرين وفي طاعة الدولة، وهو ما كان غائبا في حالة الطبيعة، كحالة كراهية وحقد متبادل، بوسمها سابقة على الدين وعلى الأخلاق، لم يكن يخضع الفرد فيها لغير انفعالاته، لكن عندما سيملك معرفة عن الله سيصير بمكنه التعايش مع الآخرين حينما يعرف أن الله " عادل " و" رحيم " بشكل مطلق، ويمثل نموذجا " للحياة الحقة ". ولأن الله محايث لأحواله فإن فهم الإنسان هو جزء من " الفهم المطلق "، حيث يحل الله في الانسان، ويحل حبه في قلب الفرد، وتصير طاعته تجسيدا لهذا الحضور، التي لا معنى لها إذا لم تكن إحسانا إلى الآخرين واحتراما لقوانين الدولة. نستنج أن " النقد التاريخي " الذي أعمله سبينوزا توصل إلى أن الدين ليس فلسفة ولا علما يحمل تفسيرا للكون؛ بل هو مجرد أخلاق تقوم على مبدأ واحد هو: " يوجد كائن سام يحب العدالة والاحسان، يلزم الكل بطاعته، وبممارسة العدالة والاحسان اتجاه القريب" . وعلى هذا الأساس يستنتج سبينوزا عقائد- مبادئ الدين الكوني الذي يدعو إليه، وهي : أنه يوجد إله رحيم، يحب العدل والإحسان، محايث لمخلوقاته، ويجب طاعته عبر ممارسة العدالة والإحسان مجسدة في حب الآخرين مثل حب الله. فالعقيدة الصحيحة ليست هي المعرفة الصحيحة بل الفعل الأخلاقي المتمثل في التقوى، وهو خلاص الأفراد كسبيل لتحقيق الحياة الحقيقية التي تتجلى في " حب الله الخالد، أو في حب الله للناس " . نستطيع أن نقول إن الهدف من التفصيل في الجوهر الحقيقي للدين هو: التمييز بين مجال الإيمان ( الدين ) والعقل ( الفلسفة ). لأنه إذا كانت الفلسفة تسعى إلى الوصول إلى الحقيقة فإن الدين لا يعلمنا غير الطاعة كشرط لخلاص المؤمن ، وهو ما يعني أن الدين ليس من العلم والفلسفة في شيء. لكن الدين لا معنى له إذا لم يكن يعلمنا احترام الجار ( الآخر )، واحترام حريته والقبول برأيه بدون تعصب أو تشدد عقدي. لقد بحث سبينوزا، إذن، عن مجتمع ديمقراطي قائم على الود والسلم دون خسائر، لذلك فسر الدين على أنه " أخلاق " تعلمنا التسامح واحترام الاختلاف والقبول به، ونبذ كل صنوف الكراهية والحقد والتعصب للرأي التي يولدها احتكار الحقيقة والإيمان بأنها مقدسة ، ورفض كل تعدد في التأويل والإبقاء على القراءة الواحدة للنص الديني. غير أن هذه " الحرية الدينية " لن تكون مضمونة إلا داخل " الدولة العلمانية " وهو ما يفسر نقده " للدولة الدينية ". الفصل الثاني: في نقد الدولة الدينية يثوي وراء النقد التاريخي لنصوص الكتاب المقدس دفاع رصين عن الحرية كشرط رئيس لتأسيس الديمقراطية بوصفها نظاما "علمانيا" قائما على الفصل بين مجال الدين ومجال السياسة، بوسمه مجالا يستمد مشروعيته من نظام العقل، ونقد لنموذج " الدولة الثيوقراطية " كما هو شأن "دولة العبرانيين " مع " موسى"، كتدعيم تاريخي لفكرته حول نقل " الحق الطبيعي " نحو سلطة تمثل " الأغلبية ". ويتجلى هذا في أن اليهود بقيامهم ب " عقد " مع الله يفوضون له حقهم تتولد عنه سلطة تملك " حق السيادة " لكنها ليست من طبيعة " السيادة السياسية " كما هو الشأو بالنسبة "للدولة المدنية " لأنها " غير مشخصة " وليست " بالزمانية "؛ بل هي نتيجة ميثاق عقده الشعب اليهودي مع الله ، والتي أفضت إلى فكرة " الاصطفاء الإلهي " عندما دخل اليهود تحت الحكم الإلهي، والذي فرض عليهم خضوعا مطلقا لهذا الحكم. والحال أن سبينوزا يرفضه مؤكدا على أن "الحكم الإلهي " ليس خاصا بشعب أو أمة؛ بل هو حقيقة خالدة صالحة لكل الناس. ويؤرخ سبينوزا للمراحل التي مرت بها " دولة العبرانيين " حيث نجد هناك ثلاث فترات: تمثلت الأولى في تأسيس الدولة بعد الميثاق المعقود مع الله، حيث استقبل موسى الأمر الإلهي وألقى شريعته على اليهود كما هي في " سفر العهد "، لكن حين أصبح موسى يملك ثلاث سلطات متجسدة في : " قائد الحرب " و" النبوة " و" كاهن " انتقلت " الدولة العبرية " نحو " ملكية " في جوهرها " ثيوقراطية ". ويطلق سبينوزا على الفترة الثانية من عمر هذه الدولة: " مرحلة القضاة "، التي تلت الدخول إلى " الأرض الموعودة "، حيث ستنقسم الدولة إلى " قبائل " محكومة من طرف " رؤساء حرب " ومجتمعة تحت رئاسة " اللاويين "، وهي – عند سبينوزا – أقرب إلى الديمقراطية، لأن " قائد القبيلة " لا يفسر القوانين لشرعنة فعله، ويحترم مواطنيه، ويراقب من طرف " رؤساء القبائل " الأخرى، مثلما تتجلى هذه " الديمقراطية " في المساواة بين العبرانيين الخاضعين لذات القانون الذي ينظم حياتهم. ثم تلتها فترة " الملوك "، باعتبارها شكلا مختلفا " للثيوقراطية " عن " ثيوقراطية موسى "، إذ ستشهد هذه الفترة اصطداما بين " الملوك " و" اللاويين " الذي أدى إلى سقوط الدولة نتيجة هذه " الازدواجية في السلطة " ؛ أي الصراع بين السلطة الدينية ( اللاويين ) والسلطة المدنية ( الملوك والقضاة ) نتج عنه خراب داخلي، وهو ما نبه إليه سبينوزا في مسألة " الحق السياسي للدولة " حينما اعتبر أن السلطة حق مخول للدولة وحدها ولا يحق لأحد تقاسمه مع طرف آخر غيرها، وهو ما وقعت فيه " دولة العبرانيين " حيث تنازع اللاويون السلطة مع القضاة والملوك. لقد انتهت " الدولة العبرية " إلى الخراب، وإلى الانهيار حينما حاول " الأحبار " السيطرة على السلطة، والتدخل في تدبير شؤون الدولة، وتفسير القوانين وصياغة القرارات، لأنه: " من الخطورة، بالنسبة للدين والدولة، أن يمنح للقائمين بالعبادة حق التقرير أو التدخل في شؤون الدولة " ، حيث إن مجال اشتغالهم هو ما تلعق بشؤون الإيمان في حين أن ما ارتبط بالشأن الزماني فليس من حقهم في شيء بل هو " حق " مفوض إلى " السلطة المدنية "، التي تستمد مشروعيتها من الدفاع عن الحرية بوصفها " حقا طبيعيا "، ومن بينها حرية تفسير النص الديني وفهمه بالطريقة التي تناسب الفرد مع ضرورة ألا تكون هذه الحرية سببا لقيام الفوضى؛ بل إن التمسك بحق احتكار تفسير أسفار الكتاب المقدس هو الذي سيؤدي إلى التعصب الديني والتشدد والكراهية، الذي يهدد النظام الاجتماعي، لذلك فإن من الحقوق التي تمنح للدولة حق " تدبير الشأن الديني " ، وهو ما يعبر عنه سبينوزا بقوله: " عندما قلت سابقا، أن مالكي السلطة لهم الحق، كله، وحدهم في التنظيم، والحق كله مرهون بقرارهم، لم أعن فقط الحق المدني، ولكن أيضا الحق الذي يُلزمهم بتفسير الدين والدفاع عنه " . غير أن الذي يمتنع عن التجاهل ههنا هو أن هذا " الحق " لا يؤدي إلى أن تفرض الدولة على المواطنين تفسيرا معينا، وتصادر حقهم في فهم النص الديني بطريقتهم؛ بل إن حقها لا يمتد نحو السيطرة على الأذهان والأفهام، بل ضمان الاختلاف الديني ومحاربة كل ضروب التعصب والتشدد الديني، التي يولدها النظر إلى آراء الآخرين وإلى اختلافهم في فهم وتفسير الكتاب المقدس على أنها جرائم يستحق صاحبها القتل . إن الخوف من التفرقة، وبالتالي انهيار السلم الداخلي، التي قد تؤدي إليها الحرية الدينية ( أو الحرية الفكرية ) هي التي حملت سبينوزا على جعل تدبير الشأن الديني حقا من حقوق الدولة الناجمة من التعاقد، بحيث تضمن لكل فرد حق ممارسة العبادة ( التقوى )، واختيار ما يلائم رغبته في الخلاص دون أن يفرض عليه طرف ما طقوسا أو شعائر معينة، أو يلزمه بقبول تفسير ما للكتاب على أنه التفسير الصحيح الذي يجب أن يأخذ به. ولأن سبينوزا يفكر في المجتمع الديمقراطي، والضمانات التي تمكن من استمراره فإن الدين مدعو إلى أن يكون عاملا مساعدا في بنائه واستمراره. ويتجلى هذا الأمر في اختزال الدين في " أخلاق " تعلمنا أن خلاص الفرد لن يكون إلا بممارسة التقوى، بوصفها طاعة لله وإحسانا للجار ( المختلف )، والتي تساهم في الحفاظ على سلم الدولة، و تنصرف إلى تنفيذ أوامر الله ( العدل والإحسان )، حيث تلزم الأفراد بممارسة العدل والإحسان وباحترام الآخرين وطاعة قوانينها، لأن العدل لا يتحقق إلا من خلال القانون وداخل " دولة الحق " بوسمها الضامنة الوحيدة للعدالة. فتصير التقوى مرادفا للعدالة التي هي الشرط الوحيد لمشروعية الدولة واستمراريتها. نخلص إلى أن الدين عند سبينوزا ليس غير " عبادة داخلية " تتجلى في التقوى كممارسة وليس مجرد إيمان داخلي، يتوجه نحو القوانين بطاعتها ونحو احترام الآخرين الذين تتطابق سلوكاتهم مع المصلحة العامة للدولة، لأن " لا أحد يستطيع ممارسة بصدق التقوى، ولا الخضوع لله إذا لم يخضع لكل قرارات السلطة " ، بوصف أن الحياة الإتيقية: هي العيش مع الآخرين داخل " مجتمع السلم "، على اعتباره الخير الأسمى الذي تسعى الأفراد إلى تحقيقه. سعى سبينوزا إلى نقد " الدولة الثيوقراطية " من منطلق الدفاع عن الحرية؛ وخصوصا الحرية الدينية المتمثلة في حرية تأويل النص الديني، وحرية العبادة، باعتبارهما حقا تكفله " الدولة العلمانية " التي تقوم على تمييز بين " مجال روحي "، يقوم على التقوى بوصفها الدين الحقيقي، وبين " مجال زماني " يتأسس على التنظيم العقلاني لأهواء الأفراد من أجل تحقيق " مجتمع الود والسلم ". وهو نقد يتوجه، خصوصا، نحو نظرية " الحق الإلهي " التي سادت في " أوروبا الفيودالية " من مدخل حقيقة تاريخية تمثلت في نموذج " دولة العبرانيين ". ويجد هذا النقد مرجعيته في نظرية " الجوهر المحايث لأحواله " التي تذهب مذهب اعتبار أن " الله " لم يعد كائنا " متعاليا " و" مفارقا " للطبيعة؛ بل يوجد فيها، مثلما لم يعد يملك هذا الكائن " إرادة مطلقة " في الخلق؛ وإنما صارت ماهيته هي قدرته، حيث لا يتعالى عن الضرورة التي تحكم الطبيعة. ويفيد هذا التصور الجديد للوجود أن سبينوزا يسعى إلى تحرير السياسة من قبضة الدين والأخلاق لتصبح مشروعيتها مستمدة من نظامها الداخلي وليس من الله، حيث يضمن العقل هذه المشروعية. كما نلحظ نقد فكرة " الدولة الثيوقراطية " حاضرا في نقد الوهم الإنساني المتمثل في " العناية الإلهية "، إذ لم تعد الدولة تسير وفق هذه " العناية " بل في وجود تنظيم عقلاني للعلاقات بين الأفراد. لقد تعددت وجهات نقد سبينوزا لتحالف السياسة والدين بدءا من " الإتيقا " إلى " رسالة في اللاهوت والسياسة " حتى " رسالة في السلطة السياسية " على أساس واحد هو إبراز أن تدخل الدين في السياسة يؤدي إلى تدمير النظام السياسي وبالتالي الاجتماعي، مدعما هذه الفكرة بتاريخ " الدولة العبرية " التي انتهت إلى الانهيار نتيجة تدخل رجال الدين في الشأن السياسي. وعليه، فإن الدين ليس من السياسة في شيء. إن مجاله هو مجال الأخلاق بينما مجال السياسة هو مجال العقل. وببيانه لحدود كل من العقل والإيمان يكون سبينوزا قد حيّد آخر مبررات تحالف الديني والسياسي.
#المصطفى_الشادلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|