أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - محمود جلبوط - من ذاكرة معتقل سابق 18














المزيد.....

من ذاكرة معتقل سابق 18


محمود جلبوط

الحوار المتمدن-العدد: 1107 - 2005 / 2 / 12 - 11:45
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


عندما تفتح عينيك على ضجيج دائم في نفس اللحظة من فجر كل يوم.ضجيج محبب إلى قلبك. شغب مئات من عصافير الدوري اللاجئة إلى نوافذ مهاجع السجن المرتفعة, هربا من الأمكنة المكتظة بالبشر الأقوياء. فهي تعلم بالتجربة أن قاطني السجن بشر مسالمون, بعيدون عن الأذى, السبب بسيط قد يعتبره من لم يعش في السجن, مزحة أو طرفة لكنها الحقيقة التي لمستها خلال خمسة عشر عاما عند الغالبي العظمى من السجناء, هي تقديسهم لكل أنواع الحياة البشرية , شغفهم وتوقهم إلى كل ما هو طبيعي و حي ومتحرك. رغم أن حبي لذلك الضجيج الذي يشعرني أن قوانين الحياة أقوى من قرارات الحكومات والمسؤولين. إن قوى الحياة وناموسها يتغلب لفطرة نمائه و استمراره على كل محاولات تعطيل هذا النماء وهذا الأستمرار.
تمتد يدي إلى شعري المشعث لأحك فروة رأسي من أثر خدر النوم, أنظر عبر الشباك المعدني الناعم الموضوع فوق نوافذ المهجع الضيقة الناعمة والمرتفعة حتى لا تكاد تلامس السقف, حرصا من إدارة السجن على فصل السجناء عن بعضهم..أبحث عن السبك عن تلك الكائنات الطائرة الصغيرة, كان هذا يخرجني من السكون والتكرار ولو لدقائق معدودة.. حتى العصافير المسالمة لا أستطيع رؤيتها كما هي كلما نظرتها أتصور وكأنها قطعت إلى مربعات شبكية صغيرة. أبحث عن ضوء الفجر, غصة في حلقي, لأني حرمت من ممارسة طقسي الذي اعتدته في حياتي العادية, عادة كنت أمارسها بين فترة وأخرى, التأمل الطويل والصامت لمغيب الشمس و لشروقها وابتسامها اليومي, أمارسها لعدة أيام متتالية فأشعر بخدر لذيذ ناعم يتسلل من أطرافي ويمتد إلى قلبي المضطرب بالمتعة و رأسي السادر في سكينة تجمع ما بين روعة مشاهد الخلق و خيالات تولدها اللحظة, فتصفو نفسي و أستعيد توازني.
كانت هذه أول مرة أرى فيها الفجر بعد أربعة أشهر وعدة أيام, لم أتمالك فيها نفسي,فبكيت بحرقة وسعادة, شعرت بأمواج الغبطة والفرح تجتاح كياني , كنت أحدق بالفجر وقشعريرة تهز جسدي لفرط جماله, حدثته, ناجيته, فقالت له عيناي سأراك...سأراك مرة أخرى, قد يحتار البعض في ذلك و سيعتبرها البعض الآخر مبالغة في الحساسية و أنا أقول ببساطة, إنها شفافية المحبة للحياة التي تطفو في روح و وجدان السجين, تصعيد للفطرة الإنسانية, والإبتعاد عن كل ما يلحق الأذى بكرامة الناس وحيواتهم, وحيوات الكائنات الحية وكل ألوان الحياة الأخرى , حتى أن زميلا سجينا كان يعترض على قتل الفئران رغم الأضرار التي كانت تلحقها بنا, وآخر وضع خطة نفذها بدأب ومثابرة عجيبتين لتحويل متر من الإسمنت في باحة التنفس في سجن القلعة إلى حديقة غناء, بعد أن عمل على نكشها بمسمار صغير, وضع تربة من فضلات الأطعمة وأقنع المساجين الآخرين المسموحة زيارتهم بتسريب بعض بذور الورد فزرعها, ونجح بمشروعه بعد جهد أشهر من العمل المتواصل, وأصبح اسم هذا المتر الإسمنتي بستان يوسف( اسم الرفيق الذي بذل هذا الجهد) آخرون سموه حلم يوسف أما يوسف فأسماه بستان الحرية والأمل, وبتنا نشعر كلما خرجنا إلى باحة التنفس كأننا في حديقة غناء من أجمل حدائق العالم.
رغم مرور عدة سنوات على الإعتقال,كنت كل صباح, حتى لو بدأ هذا الصباح الثانية عشر ظهرا, أغمض عيني وألقي تحية الصباح على صغيرتي التي لم أرها مذ كان عمرها سبعة أسابيع, أقبل وجنتيها, جبينها, يديها,قدميها, وأداعبها, ومن ثم أقبل خد زوجتي..كثيرا من الأحيان كنت أحاول الإستيقاظ باكرا في نفس الموعد الذي أعلم أنها بدأت حركة الحياة في بيتي لأتخيل ما الذي يفعلونه في تلك اللحظات كل من زوجتي وطفلتي, مارست هذا الطقس في السجن عدة سنوات, ذلك لأننا حرمنا من زيارة الأهل لثلاث سنوات متتالية في بداية الإعتقال, كنا نهدد دائما بقطعها فلا يتمكن أهلنا من رؤيتنا إلا بعد طول عناء وتعب وكانت الزيارة سوى مرتين أو ثلاث في السنة ولمدة ثلاثين دقيقة في أحسن الظروف. خلال الخمس سنوات الأولى كانت الزيارة تتم في غرفة يعزل فيها السجين عن أهله بحاجز شبكي معدني ويفصل بين السجين والزوار وجود عنصرالأمن ولا يسمح لنا بملامسة أهلنا أو زوجاتنا ولا حتى أطفالنا, ثم بعد انتقالنا إلى سجن عدراالمدني وإلحاقنا بمجموعات أخرى من السجناء, أصبحت الزيارة جماعية وظل محظورا علينا ملامسة الأهل أو تقبيل أطفالنا, كنا نضطر أحيانا من أجل أطفالنا وإرضاءا لهم تحت ضغط جيشان العاطفة في أيام الأعياد نرغم أنفسنا على الطلب من مدير السجن السماح لنا بتقبيل أطفالنا فتتم الموافقة أحيانا وأحيانا ترفض الأمر الذي يجرح كبريائنا ويشعرنا بالمهانة والذل أمام السجان, لذا كان يفضل معظم الآباء عدم تكرارالسؤال, وكان هناك العشرات الذين لم يلمسوا أولادهم طيلة فترة السجن.

جزءا من ذاكرتنا الجمعية تلك الكلمات السابقة, ذاكرتنا نحن خريجي أقبية الجلاد كل مساجين سورية نحن كل اللذين عانينا من ظلمه, لكننا لسنا نحن اللذين كتبناها و لست أنا, إنها فقرة من شهادة المواطن 61 شهادة كانت منثورة بين أوراق الشهيد رضا حداد ميراثه لنا, كتبها عندما كان يصارع الموت الذي وهبه إياه الجلاد مكافأة على المشاعر التي كان يحملها نحو الوطن والناس, أي ناس, وزوجته وأطفاله, فالجلاد لا يريد للبلد هكذا مشاعر بل يريد اللا أحاسيس واللا مشاعر تربط بين الناس أي ناس.



#محمود_جلبوط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة نثرية ... حب
- من ذاكرة معتقل سابق 17
- محاولة حب
- خاطرة
- من ذاكرة معتقل سابق 16
- رأي في الإنتخابات العراقية
- ردا على مقال الرفيق أبو خليل
- من ذاكرة معتقل سابق 15
- من ذاكرة معتقل سابق 14
- من ذاكرة معتقل سابق 13
- من ذاكرة معتقل سابق 12
- من ذاكرة معتقل سابق 11
- 10من ذاكرة معتقل سابق
- من ذاكرة معتقل سابق 9
- الفرق بين فن الكتابة وفن الحكي والكلام
- إهداء مذاكرات المعتقل السابق
- توضيح وإقرار إلى أجهزة المخابرات السورية
- العمليات الفدائية الفلسطينية الأخيرة
- من ذاكرة معتقل سابق 8
- ديموقراطية ناقصة ..ولكن


المزيد.....




- القيادي في حماس خليل الحية: لماذا يجب علينا إعادة الأسرى في ...
- شاهد.. حصيلة قتلى موظفي الإغاثة بعام 2024 وأغلبهم بغزة
- السفير عمرو حلمي يكتب: المحكمة الجنائية الدولية وتحديات اعتق ...
- -بحوادث متفرقة-.. الداخلية السعودية تعلن اعتقال 7 أشخاص من 4 ...
- فنلندا تعيد استقبال اللاجئين لعام 2025 بعد اتهامات بالتمييز ...
- عشرات آلاف اليمنيين يتظاهرون تنديدا بالعدوان على غزة ولبنان ...
- أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت.. تباين غربي وترحيب عربي
- سويسرا وسلوفينيا تعلنان التزامهما بقرار المحكمة الجنائية الد ...
- ألمانيا.. سندرس بعناية مذكرتي الجنائية الدولية حول اعتقال نت ...
- الأمم المتحدة.. 2024 الأكثر دموية للعاملين في مجال الإغاثة


المزيد.....

- ١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران / جعفر الشمري
- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - محمود جلبوط - من ذاكرة معتقل سابق 18