|
حوار عن قاسم وتموز
عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 3787 - 2012 / 7 / 13 - 08:41
المحور:
مقابلات و حوارات
الدكتور عقيل الناصري في حوار لجريدة البينة الجديدة في الذكرى الرابعة والخمسين لثورة 14/تموز/1958لمجيدة أن قيام ثورة 14/ تموز /1958 لم يكن حدثا آنيا على الإطلاق ، بل كان في الحقيقة نتيجة تراكم كمي هائل من التناقضات بين الحاكمين والمحكومين عبر أربعة عقود من الزمن امتدت منذ الاحتلال البريطاني للعراق أبان الحرب العالمية الأولى حتى قيام ثورة 14/ تموز /1958. ان الزعيم عبد الكريم قاسم رغم كل أخطائه ، يبقى شامخا كقائد وطني ، معاد للاستعمار ، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع ، وحرر المرأة ، وساواها بالرجل ، وحطم حلف بغداد ، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الامبريالية ، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس، أمينا على ثروات الشعب، ولم يسع أبدا إلى أي مكاسب مادية له أو لعائلته، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة من دون تغيير. و للحديث حول ثورة /14 /تموز /58 بقيادة الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم و حول أوجه التشابه والاختلاف بين حقبتي ثورة 14/تموز/ 1958 (الجمهورية الأولى) والتغيير ألسياسيي في 9/ نيسان /2003 في جمهورية العراق،التقت جريدة البينة الجديدة الدكتور عقيل الناصري وكان لنا معه هذا الحديث . حاوره: نوري صبيح ** كيف تلعب العوامل والقوى السياسية المحلية والعربية والدولية الظروف الزمانية المختلفة بتحديد مسار التغيرات الجذرية السياسية والاقتصادية الاجتماعية في العراق ؟ *** يوضح الرصد التاريخي لصيرورات ظاهرة تشكيل الدول الوطنية في العالم الثالث.. ذلك الدور الكبير للعامل الدولي في تحقيق مسارات هذه التشكل وخاصة منذ خروج النظام الرأسمالي من محيطه الداخلي والنظر إلى مسألة الاعتماد على هذه البلدان بغية إشباع متطلبات التطور الصناعي للمواد الأولية وإعادة تصديرها لهذه الدول .. واستمرت هذه الصيرورة لغاية الحرب العالمية الثانية حيث تبدل شكل استغلالها ونسبية قدرة تحكمها.. وازداد هذا التبدل بعد الحرب العالمية الثانية.. حيث نمى النقيض النوعي للظاهرة الاستعمارية بفعل حركة التحرر الوطني التي اكتسحت العالم الثالث. وفي ظل تصاعد الأزمة الاقتصادية في البلدان الرأسمالية من جهة والتطور المتصاعد للثورة التقنية والاتصالات من جهة ثانية.. مما أعاد إنتاج ظاهرة تبعية بلدان العالم الثالث إلى المراكز الرأسمالية بصورة مكثفة وعميقة وبدرجة كبيرة جدا.. وبالتالي انتقلت إلى جملة من المجالات ليس السياسية حسب ، بل الاقتصادية والمالية والثقافية والفكرية وغيرها من مناحي الحياة المادية. وعليه اعتقد أن القرارات الأرأسية في تقرير مصير منطقة الشرق الأوسط (لأسباب خاصة فيها بما فيها العراق) .. تُتَخذ في خارج المنطقة وبالتحديد في المراكز الرأسمالية الكبرى. ويمكن تعميم هذه الحالة بالنسبة لأغلب مناطق العالم الثالث. هذه الظاهرة رُصدت في العراق المعاصر منذ بدء تأسيس الدولة العراقية المعاصرة.. وهذا ما توضحه تاريخية الدولة والنظام السياسي منذ عام 1921. حيث لعبت بريطانيا الدور الأهم والأكبر في التأثير والتحكم بهذه الدولة وسلطتها السياسية وتوجهاتها العامة. نعم أعي أن العوامل الداخلية لكل ظاهرة اجتماعية أو طبيعية هي لها الدور الأرأس في التأثير على مساراتها.. لكن في بعض الأحيان تلعب العوامل الخارجية دوراً موازيا وربما أكبر من العوامل الداخلية.. وهذا ما رصدته في ظاهرة الدولة العراقية التي تشكلت بقرارات سلطة الاحتلال الأول وتحكمت في توجهاتها الرئيسية وفي خلق الطبقات والفئات الاجتماعية التي تتناغم مع ماهيات خطها الاستراتيجي.. فتدخلت في هذه المسارات أحيانا بصورة فظة مباشرة.. وأخرى مستترة وثالثة تهيأت ظروف الانقلاب على المسارات المؤثرة على مصالحها ورؤيتها المستقبلية. وهذا ما أتضح في تشجيعها على الانقلاب على سلطة انقلاب 1936، وتدخلها المباشر في كبح مسارات حركة مايس التحررية عام 1941، وفي تهيأت ظروف الانقلاب الأمريكي/ البريطاني عام 1963 ضد سلطة ثورة 14 تموز التحررية، كذلك في تهيئة الظروف إلى الانقلاب الدولي عام 1968، وأخيرا وليس آخر في التهيئة والمشاركة في الاحتلال الثالث عام 2003. كما ساهمت الدول الإقليمية بدور أقل في التأثير على مسارات الظاهرة العراقية.. وخاصة في زمن الجمهورية الأولى ( 14 تموز 1958-9 شباط 1963) حيث رصد إن كل دول الجوار دون استثناء قد تدخلت في مسارات الظاهرة العراقية بهذه الدرجة او تلك، بصورة مباشرة أو غير مباشرة .. عربية كانت أم غير ذلك. وهذا ما أتضح بصورة جلية في الوقت الحاضر .. إذ أن بعض الخلافات التي تتشابك في ارض العراق بين قادتها المحوريين.. هي انعكاس لتضارب مصالح دول الجوار والمراكز العالمية. بمعنى آخر تراجع فعل العامل الداخلي للظاهرة العراقية لحساب العامل الخارجي . وما الاحتلال الثالث إلا دليلا على ذلك. المهم هو هل ليس رصد الظاهر حسب .. بل ما هي إمكانيات التغلب على الحد من تأثير العامل الخارجي (الإقليمي والدولي)؟ ومدى استعداد القوى الاجتماعية العراقية وممثليها السياسيين من فهم هذه الصيرورة والحد من تأثيراتها. ** هل يمكن استعادة دور وانجازات الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم في ظروف العراق الجديدة بعد التغيير السياسي في 9/4/2003؟ *** في البدء علينا التركيز على ماهية السؤال والربط بين فعل التغيير الذي قاده قاسم (وبعض من زملاءه من الضباط الأحرار) وبالتعاون المعنوي مع جبهة الاتحاد الوطني وخاصةً مع الحزبين الوطني الديمقراطي والشيوعي العراقي.. حيث قام قاسم بإبلاغهما بموعد الثورة .. وقبيل ذلك في استشارتهما ببعض القضايا السياسية والاقتصادية ، كما طرحته بالتفصيل في كتابي ( عبد الكريم قاسم- من ماهيات السيرة – 14 تموز الثورة الثرية).. وبين المنجز الاجتصادي / السياسي/ الفكري، الذي ترتب على هذا التغيير العضوي والجذري في تاريخية الدولة والسلطة في العراق والذي ارتبط باسم الزعيم قاسم .. حيث دخل العراق في تاريخ جديد ذات مضمون أكثر انسجاما مع الواقع المادي للمجتمع العراقي. في الوقت نفسه أكتسب هذا التغيير التاريخي /الجذري ذاته من هذا المنجز بالذات والذي ارتبط بالطبقة الاجتماعية ( حاملة فكرة التغيير والمنطلقة من علمانيتها ونظرتها العلمية) والتي تسنمت السلطة منذ ذلك الوقت وتحديدا الطبقة الوسطى بفئاتها المتعددة التي رسمت ومن ثم قادت إدارة الدولة خلال النصف الثاني من القرن العشرين رغم التحجيم الذي أصابها منذ اغتصاب صدام حسين السلطة ومن ثم تدميرها المبرمج ماديا ومعنويا منذ منتصف الثمانينيات للوقت الحاضر، رغم النمو النسبي لهذه الطبقة أو على الأقل بعض من فئاتها، ما بعد التغيير والتشوه الحاصل في بنيتها وتعمق قلق مواقفها الفكرية وتخبطها في إدارة السلطة الحالية. وتأسيساً على ذلك أرى إن إمكانية استعادة الدور لهذه الطبقة سيكون صعبا، وربما بعملية قيصرية ستحقق بعضا من التطور، نتيجة لغياب الأساس المادي لنموها وتبلورها.. والكامن في البنية الاجتصادية وماهية الأنماط الاقتصادية وقدرتها على التناغم مع متطلبات التطور.. وعليه فإني أرى أن هذا الأمر مرتبط بصعود الفئات التقدمية من ذات الطبقة الوسطى بحيث تتميز في برنامجيتها ؛ وفي أفق نظرتها ؛ وماهية مكوناتها الفكرية. لقد دشنت ثورة 14 تموز سياقا تاريخيا يختلف جذريا عما سبقه من النواحي التي تبنتها سواءً في ماهية القوى المحركة لها ( الانتلجنسيا العسكرية والفئات التقدمية للطبقة الوسطى) وكذلك في الأفق التاريخي لمشروعها التحرري ومفرداته والقوى الاجتماعية المستهدفة منه وهي الطبقات الفقيرة والكادحة. وعليه ورغم التشابه النسبي في ماهية القوى المحركة للتغيير ، وتحققه ومفردات المشروع التاريخي وأفقه بين تموز والوقت الحاضر.. لكن هذه الأخيرة متعارضة، إن لم يكن متناقضة في بعض المفاصل: فقوى التغيير كانت عراقية بحتة في تموز 1958 ، عكست الماهية الاجتماعية للمجتمع العراقي والمتمثلة في كونها أحزابا علمانية من برجوازية وطنية وشيوعية وقومية وكان الجيش يمثل ذراعها الضارب.. في حين أن التغيير كان بفعل عامل خارجي لكن القوى التي سيطرت على السلطة وتسيطر الآن، وربما لفترة قادمة ملموسة، تمثل غلبة للأحزاب الإسلامية ( ذات المذاهب المختلفة ، المتباينة في درجة التغيير المستهدف والمنطلق من الإسلام السياسي) وقوى السوق ( البازار) والطفيلية الكومبرادورية التي تم أعادت إنتاجها منذ عقد ثمانينيات القرن المنصرم بعد أن أصابها الوهن بعد 14 تموز، أما ذراعها الضارب فيتمثل بالمليشيات ( العلنية والمستترة) والتجمعات ذات الأفق الضيق ( من مذهبية ومناطقية وقبلية وعائلية وأثنية)، وفي قدرتها على تغيب الوعي الاجتماعي من خلال تبني ماهيات الأسطورة التاريخية وتغيب العقل والعلم من مشروعها ، إن وجد لديها بالأساس. إن تضارب وتعدد القوى الاجتماعية الحاكمة وتنافر وتضاد أفقها التاريخي , سيحتم عدم أمكانية أعادة إنتاج ما بدأت به ثورة 14 تموز.. والتي تعتبر ، كما أرى، نقلة نوعية وضعت العراق على سكة الحداثة وأدخلته في تاريخ جديد.. بل أستطيع القول، بقوة المعرفة، أنها أنجزت العديد من المستلزمات المادية الأراسية لتطور الوعي الاجتماعي وتجلياته الفكرية والسياسية والفلسفية والجمالية بل وحتى الدينية. ولهذا استحقت أن تكون ثورة ومعلماً أرأسيا في تاريخ العراق المعاصر. كما إن الزعامة السياسية التي قادت ثورة تموز والمتمثلة في قاسم والفئات التقدمية من الطبقة الوسطى التي رافقت المسيرة .. تمثل نقطة تحول كبير في هذه الماهية من حيث غائية السلطة المنطلقة من ثلاثة عوامل ( الهوية الوطنية ، العدالة الاجتماعية والنظام الجمهوري) حيث مثل العراق ( ككيان اجتماعي / جيو سياسي محورا مركزيا في سياسته وهذه الانطلاقة لم تكن خيارا رغبوياً قدر كونها مستنبطة من وعي قاسم لتاريخية الطبيعة التعددية للمكون الاجتماعي/ الاثني للواقع العراقي). كما كان قاسم يتمتع بنزاهة اليد واللسان والزهد في الحكم والنظرة المتساوية لكل المكونات الاجتماعية بدون تمييز، وزرع القيم الحضارية في المجتمع القبلي ومحاولاته لتحرير المرآة من براثن المجتمع الذكوري، واستنبات فكرة التسامح في المجتمع الثأري، وعدم استعماله الأساليب الغوغائية لردم الهوة السحيقة بين حقائق الواقع والأماني المراد تحقيقها . كما لم يلعب قاسم وفئته الاجتماعية التي يمثلها وتلك المساندة لبرامجه، على خيبة الأمل الكاذب ، بل حاول تحقيق ما أمكن تحقيقه حسب المتاح والممكن. هذه المفردات وغيرها قد أعجزت عن التماثل وإياها كل الحكومات التي جاءت من بعده بما فيها التي حكمت بعد التغيير عام 2003. كما أن القاعدة الاجتماعية التي استهدفها المشروع ألقاسمي تمحورت حول الطبقات الاجتماعية الفقيرة المنتجة من فلاحين وعمال وحرفيين والفئات ذات الدخول المنخفضة وغيرهم وقد مثلوا هؤلاء العصب المركزي في سياسة وتفكير قاسم ، ومثلوا الكم الأوسع من قاعدته الاجتماعية، بمعنى آخر حكم لهؤلاء ولم يحكم بهم. وبالمقارنة مع الوقت الحالي مَثَلَ الهامشيون والبروليتاريا الرثة الثقل الكبير في مشروع الأحزاب الحاكمة أو على الأدق الأكثر سطوة في السلطة، كما مثل البازار والعناصر الطفيلية خارج عملية الإنتاج المادي الاجتماعي.. وكل هذه العناصر تمثل القاعدة الاجتماعية للحكم الحالي المستندة إلى المؤسسة الدينية والعشائرية. وتأسيسا على ذلك نتوصل إلى نتيجة مفادها أن هناك بون شاسع بين القدرة على إعادة إنتاج مفردات المشروع التموزي/ ألقاسمي، في مثل هذه الظروف، وفي تلك الفترة الزمنية القياسية، حيث أنجز العديد من متطلبات القاعدة المادية للتطور والحداثة. ** ما هي عيوب التأسيس الديمقراطي بين مرحلتي التغيير في 14/تموز/1958 و9/4/2003؟ *** لو انطلقنا من تحليل البنية الاجتماعية واستندنا إلى ما ذكرناه في السؤال السابق .. لتوصلنا إلى قناعات متباينة بين التجربتين .. طالما كليهما لم يستكمل ذاته ولم يحدد ملامحه الأراسية.. إذ أن ثورة تموز لم تستطع إنجاز كل ما كانت تستهدف الوصول إليه ، إذ أجبرتها ظروف الصراع والتطاحن السياسي/ الفكري الداخلية والخارجية ( الإقليمية والدولية) إلى عرقلة أفق صيروراتها وتاريخيتها مما أدت إلى تكالب القوى المتضررة منها على تغيبها القسري وإخراجها من مسرح الحياة. إنها كانت بصدد بناء المقومات الدستورية والأسس المادية والمعنوية كي تنقل ذاتها الجوهرية إلى مرحلة أعلى رقياً من حيث الشكل والمضمون.. إلا أن هذا الاستكلاب للمتضررين من مختلف القوى الاجتماعية ، ومن القوى الإقليمية والدولية قد أعاق مرحلة الانتقال نحو التأسيس وتداول السلطة سلميا بين مختلف الأحزاب السياسية.. إذ كان المفروض نشر مسودة الدستور الدائم في يوم 24 آذار (عيد الحرية- الخروج من حلف بغداد) عام 1963، لتتم مناقشته ومن ثم تأليف حكومة وطنية تأخذ على عاتقها الإشراف على الانتخابات في مطلع تموز ومن ثم افتتاح البرلمان الجمهوري يوم 14 تموز من ذات العام. وقد استكمل قاسم بعض من أجزاء هذه الصيرورة ذات الأبعاد المتعددة وتم قطعها ( إن لم نقل ذبحها) في الانقلاب الأمريكي – البريطاني يوم 8 شباط من ذات العام. وعليه فإن التجربة البرلمانية لم تستكمل ذاتها.. لكن المحتوى الاجتصادي السياسي للمهام التي أخذت الثورة على عاتقها تنفيذها كانت تصب بعمق بعيد جدا في الماهية الحقيقة للديمقراطية .. التي انطلقت بالأساس من الجماهير الشعبية ذات المصلحة الحقيقية في هذا التغيير الجذري. لا نغالي إن قلنا أن المضمون المادي للحراك الاجتصادي قد دنا إلى حد بعيد من ماهيات الديمقراطية الاجتماعية.. رغم كون شكليات الظاهرة الديمقراطية لم تستكمل ذاتها.. وفي الوقت نفسه كان هناك حراك اجتماسياسي / ثقافي أنصب على توسيع دائرة الحوافز للتخلص من مسببات التخلف العام وربط أجزاء السوق الوطنية وخاصة بين الريف والمدينة. كما أن هذا التذبذب والتضاد بين شكل ومضمون عملية التأسيس الديمقراطي .. في ظروف المرحلة الانتقالية للبلدان غير المتبلور توجهها الاقتصادي يعتمد على الطبيعة الطبقية للسلطة والمتمثلة بالطبقة الوسطى، والناجم عن تعددية فئاتها ونظرتهم الفلسفية إلى الواقع وتباينه النسبي مما سيؤثر على معجل الارتقاء التطوري وتذبذبه.. هذه الميزة ملازمة لماهيات هذه السلطة وأفقها المتتوئم ودرجة تطور القوى المنتجة المتناظرة . ومن المعروف أن كل عملية تأسيس تتطلب مرحلة زمنية انتقالية والتي بدورها تتوقف على جملة من العوامل منها ما يتعلق بماهية ومضمون التأسيس ذاته ومدى سعة شموله ومدى سعة المرحلة الانتقالية ذاتها .. والماهية الطبقية التي تأخذ على عاتقها التحقيق المادي لفكرة التأسيس. ومدى المقاومة المادية والمعنوية من قبل القوى المتضررة من عملية التأسيس الديمقراطي ونظام الحكم الجديد. كما يلعب الموروث السياسي والسيسيولوجي الثقافي دورا في كبح معوقات التأسيس أو الإسراع فيه بخطى أوسع. وهذا الأخير له الدور الأهم في تحقيق هذه الصيرورة أو لجمها. ومع كل ذلك فلقد تميزت المرحلتان بجملة من السمات المشتركة والمنطلقة من ماهية المرحلة الانتقالية التي يمر بها المجتمع العراقي ذات الأنماط الاقتصادية المتعددة وبالتالي عدم تبلور توجهه اللاحق ومن ثم عدم تبلور طبقات الاجتماعية. كما اختلفت التجربتان في الكثير من الماهيات السياسية والدستورية ومن مكونات النظام السياسي، وطبيعية القوى الطبقية.. والمنطلق الفكري / الفلسفي.. فمثلا لو أخذنا الدستور المؤقت الأول لعام 1958 لرأينا انه ذات أبعاد واضحة تعبر في جوهرها عن أفكار الطبقة الوسطى المتزامنة مع تلك المرحلة والمهام الاجتصادية المطروحة والملحة آنذاك. في حين أن الدستور الحالي هو خليط غير منسجم هورمونياً لتوافقات قوى اجتماعية متناقضة في مصالحها وتوجهاتها وفي أفق تصورها لعراق المستقبل . والأهم من كل ذلك أن الدستور آنذاك كان ،رغم طبيعته الانتقالية ، أكثر وضوحاً وأقل تناقضا ويعبر نسبيا عن المبادئ الكلية للمفهوم الديمقراطي .. فلا محاصصة ولا قوانين متناقضة مع الماهية المتلائمة مع روح العصر، ولا خاضع للنظرات الجزئية عكس قدرتها على الانطلاق من التأسيس المادي للهوية الوطنية الموحدة.. بغية استكمال تأسيس للدولة المدنية بمنحاها العلماني. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا.. هل أن مرحلة الانتقال كانت طويلة نسبياً بالنسبة لثورة 14 تموز ؟ الإجابة هنا تعتمد على الرؤية الموضوعية لماهية الصراع السياسي . ** كيف تفسر حصول الأحزاب والتيارات الدينية على أغلبية المقاعد البرلمانية لدورتين انتخابيتين بعد أن ظنت قوى التيار الديمقراطي واليساري بأنهم سيحصدون ما زرعوا؟ *** علينا أن ننظر إلى هذا السؤال من زاويتين أراسيتين هما: -الماهية الداخلية لنظرة السلطة القمعية السابقة إلى التيار الديمقراطي عامةً واليساري خصوصاً، والحركة الشيوعية على وجه الخصوص وتغيب تاريخية نضاله. -الغياب القسري للتيار الديمقراطي عن الساحة السياسية . فمن الناحية التاريخية تعرض التيار الديمقراطي (اليساري منه على وجه الخصوص) إلى تنكيل ومطاردة امتدت عقود من الزمن.. كما غُيبت هذه القوى وتاريخية نضالها.. وفي الوقت نفسه مارست السلطات الحاكمة سياسة قمعية ضد هذا التيار منذ تأسيس الدولة المركزية عام 1921 ، باستثناء فترات بالغة في القُصْر، حتى أمست قوى الأمن الداخلي مدرية ككلاب الصيد تطارد هذه القوى ليس من الناحية المادية بل وحتى المعنوية والفكرية وتحاول اجتثاثهم من الوجود والتأثير الاجتماعيين.. كما أن موت الطبقة الوسطى منذ اغتصاب السلطة من قبل المتريفين وزعامتهم القبلية منذ مطلع الثمانينيات وتعمقت منذ الحصار الاقتصادي.. قد أدى ضمنياً إلى عدم انتشار الفكر الديمقراطي خاصة بعد انتشار سيادة ثقافة الظلام وما رافقها من تريف للحياة والعقول ولمناحي الحياة الاجتماعية خاصة بعد أن تم إحياء المؤسسات القديمة من قبائلية وعشائرية والعودة إلى التماثل مع الماضي البعيد رغم اختلاف الظروف الزمانية وبما تحمل من مهام تتوائم وروح العصر. لقد مارست السلطات القمعية ضد هذا التيار أنواع شتى من الاضطهاد وخاصة على قوى اليسار وصلت إلى هجرت آلاف الكوادر من حملة الأفكار الديمقراطية واليسارية وتفكك تأثيرها الداخلي على الجماهير التي تمثل القاعدة الاجتماعية لها، وما رافقها من غياب فكري لهم مما فسح المجال للقوى الأخرى ذات الولاءات الضيقة من دينية وطائفية وأثنية ومناطقية .. نتيجة غياب الدولة الموحدة سواءً بشكلها غير المؤثر أو في نسق تنظيم واجباتها المركزية.. هذا الواقع المقترن بما أطلق عليه (الحملة الإيمانية) قد ساهم في إعطاء الروح لتلك المؤسسات الاجتماعية التي عفا عنها الزمن . كما نجم عن هذه الظروف خلق وعيا اجتماعيا مزيفا.. ساهم في انتشاره سيادة الرؤى الغيبية وانتشار الأمية والجهل وغياب المنطق ومن ثم الحملة التي قام بها الإسلام السياسي إزاء هذا التيار. لكن المنطق التاريخي والتحليل العلمي لسنن تطور المجتمعات وقوانينها ستحتم ، ليس بصورة قدرية بل بالتأثير العضوي للقوى الحية، على بروز هذا التيار بما يحمل من قيم ومعايير وأفكار تصب في نهاية المطاف على خدمة الإنسان بحد ذاته كغاية مطلقة ومنطلق لنشاطه الدنيوي.. مهما طال الزمن . خاصة إذا استوعب هذا التيار إشكاليته الخاصة بلملمة الذات الجمعية والمعرفية والعلمية وتجميع ذاته الموحدة بشكل أكثر مرونة وطرح البدائل المتغيرة بتغيير الأحوال. لنا من بدايات التأسيس للتيار الديمقراطي وتوجهاته الاجتماعية وخطابه السياسي الأقرب إلى واقع العراق الحالي وتوازناته الاجتماعية والمنطلق من الماهيات الموضوعية للطريق القويم للبلد .. كوحدة اجتماعية تعددية ضمن النطاق الفيدرالي. إن قوانين التطور ومنطق التاريخ تتعارض وتتنافر مع السائد الذي هو وليد الرؤية السكونية الماضوية.. كما أن هذه القوانين لها منطقها الداخلي الذي سيفرض نفسه من خلال الحركة الدءوبة للتعمق في فهم الضرورة الاجتماعية والتكيف معها ومن ثم النضال من أجل تحقيقها وبث النزوع نحو إدراك هذه الضرورة ومعرفة أوجهها ومن ثم تبنيها في النضال السياسي والاقتصادي والفكري من خلال القوى الاجتماعية العضوية الحية. في الوقت نفسه هناك العديد من العوامل التي لعبت دورا غير قليلا في التأثير على خيار الناخب .. وخاصة المناخ السياسي المتسم بالطائفية المقيتة؛ ورأس المال السياسي. ** كيف يمكن تفكيك الأزمة السياسية الحالية بين الكيانات السياسية القابضة على السلطة في ظل دستور مختلف عليه وسلطة تشريعية معطلة وعدم وجود رجالات دولة واطر قانونية سليمة تحكم العملية السياسية ؟ *** أعتقد أن تعارض بل وتناقض الرؤى والمصالح بين المكونات الاجتماعية المتعددة في العراق ، تمثل السبب الأرأس لما آل إليه الوضع السياسي.. نحن في مرحلة إعادة تقنين أو إنتاج للعقد الاجتماعي المبرم بين الدولة الحالية والمجتمع.. وهي السبب الرئيسي لما نحن عليه.. لقد تأسست الدولة العراقية في 1921 .. وكان ينتاب عقدها الاجتماعي جملة من النواقص لم تعكس مصالح الجماعات المتعددة والمختلفة.. ولذا حدثت على طوال القرن المنصرم صراعات وانتفاضات بين السلطة وبعض القوى الاجتماعية ، تتسع أو تتقلص حسب ماهية الطبيعة الطبقية للسلطة ودرجة قربها من تحقيق المصالح لهذه الجماعات المنتفضة. فصراع هذه القوى ، مجتمعة أو متنافرة، بعد 14 تموز، هي غيرها في المرحلة الملكية.. وفي ظل الحكومات القومانية في زمن الجمهورية الثانية ( 9 شباط 1963- نيسان 2003) كان الحراك الاجتماعي السياسي الاحتجاجي هو غير ذلك في المراحل السابقة له والمراحل الحالية. من حيث المضمون والمكان والتوجه العام. إن تعددية وتضارب هذه المصالح وقدرة كل طرف على الحصول على قدر المستطاع والممكن من المصالح وتثبيتها دستورياً.. هي السبب ( ولكن ليس الوحيد) وراء هذا الصراع وتثبيت الحقوق.. الذي بلغ في بعض مفاصله حدا عنفياً هدد بنسف الدولة وتفتيتها. ولنأخذ من عبثية الصراع في زمن الجمهورية الأولى( المرحلة التموزية/ القاسمية) مثالا لما آل الوضع عليه حيث فقدنا بوصلة التوجه وقتلنا ذاتنا السياسية في نهاية المطاف. إن عملية الخروج من هذا الوضع يتطلب مقومات معنوية ومادية.. تتمثل بالبعد الذاتي لكل مقوم اجتماعي ونظرته الفلسفية وقدرته على الانطلاق ليس من مصالحه حسب .. وإنما من الاعتراف بالحق المطلق لكل المكونات الاجتماعية وما تمثلها، بالمشاركة والمساهمة في تحقيق مصالحها وطمأنتها لمستقبلها كتكوين اجتماعي وأفق إدارتها لنفسها ضمن فكرة الوحدة والتعدد في الاختلاف. العنف والسلاح والالتجاء إلى المليشيات وسائل وسبل لا تحل من إشكاليات المشاركة العضوية في إدارة السلطة وبناء الدولة المدنية التعددية الفيدرالية.. لذا على كل السياسيين ، وليس الذين يتربعون على السلطة حسب، أن يتحاوروا ويتساجلوا وينطلقون من نيات حسنة متبادلة لرسم معايير وقواعد كيفية إدارة السلطة والتداول السلمي لها بين المكونات الاجتماعية كافة. ومن ثم النظر إلى هذه القواعد بمرونة عالية وخضوعها لإعادة النظر بين فترة وأخرى كي تتماشى مع جوهر البناء الديمقراطي. متخذين من فكرة البناء للدولة المدنية منطلقا. التخندق لا يفيد في حل الأزمات، كذلك الاعتقاد بالتمثيل المطلق لكل كيان هو الآخر سيرسم سورا صينيا أمام التفاعل المتبادل بين هذه المكونات ويعبد الطرق إما إلى الدكتاتورية ذات الصبغة البونوبارتية أو إلى التفتت وتكوين الكيانات الهزيلة ( ميكرو دولة). كما يلعب ذات الدور الهدام الانطلاق من نظرة فلسفية واحدة( دينية أو سياسية أو فكرية) تنفي تعددية الرؤى وتغلق منافذ التطلع إلى ما في غابة الحياة من مكونات متعايشة.. طالما نحن في مرحلة الانتقال الاجتماعي وتعددية للأنماط الاقتصادية. بمعنى آخر علينا الانطلاق من الواقع المادي الملموس بتعدديته والاختلاف في أبعاده التي تصل حد التناقض.. لذا على كل القوى السياسية تحقيق التنازلات المتبادلة والتأسيس للقاسم المشترك والرقي بالفرد العراقي ضمن معادلة ( العلم – العقل – الطبيعة) وغائية كل ذلك هو الإنسان.
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(8-8) من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر
-
(7-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر
-
(6-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر القسم
...
-
(5-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر (الجمه
...
-
(4-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر
-
من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر (3-8)
-
من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر القسم الثان
...
-
من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر القسم الثا
...
-
رحيل آخر عمالقة رواد الفكر الديمقراطي في العراق المعاصر
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر(5-5)
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر(4-5)
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر(3-5)
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر (2-5)
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر (1-5)
-
من أجل تاريخ موضوعي لتموز وعبد الكريم قاسم (2-2)*
-
من أجل تاريخ موضوعي لتموز وعبد الكريم قاسم (1-2)*
-
الحزب الشيوعي العراق من إعدام فهد حتى ثورة 14 تموز1958
-
هو والزعيم (4-4):
-
هو والزعيم ( 3- 4):
-
هو.. والزعيم (2-4)
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|