|
رجال في الشمس... عندما يصبح الظل طريقا للاحتراق...!
حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)
الحوار المتمدن-العدد: 3783 - 2012 / 7 / 9 - 00:08
المحور:
الادب والفن
لكل تغريبة راوية؛ يحكي للتاريخ ولمن سيأتون قصصا وحكايات، وآلاما وأحلاما، و... أشخاصا. وإذا كان علينا أن نسمي للتغريبة الفلسطينية راوية، لكان الراحل الرائع غسان كنفاني. لقد صاغ غسان كنفاني مرارة النكبة والتهجير والتغريبة بصورة جعلته خطرا على الأمن القومي للكيان الصهيوني، فما كان أمام الصهاينة حل إلا ممارسة ما سماه الكاتب الأمريكي الراحل جورج برنارد شو "أقسى أنواع الرقابة"، وهو الاغتيال..! ففي مثل هذا اليوم الثامن من يوليو في عام 1972، انفجرت قنبلة في سيارته في منطقة الحازمية قرب العاصمة اللبنانية بيروت لتنتهي حياة كنفاني عند سن السادسة والثلاثين، دون أن يتوقف إبداعه عن التألق ولو للحظة طيلة هذه السنوات في الأدب الفلسطيني. كتب كنفاني العديد من الأعمال التي وثق فيها في إطار روائي التغريبة الفلسطينية فكتب رواية "عائد إلى يافا" يصور فيها ما يتذكره من معاناة الهجرة من يافا بعد احتلال الصهاينة لها إلى عكا، التي سرعان من سقطت في يدهم أيضا، قبل أن يتوالى سقوط المدن الفلسطينية. كذلك كتب في عام 1963 رواية "رجال في الشمس" — محور موضوعنا هذا — ليوضح معاناة اللاجئ الفلسطيني الهارب، وضياعه ثم انتقل إلى رواية "ما تبقى لكم" والتي تضمنت إشارات إلى أن الفلسطيني قد أدرك قضيته ووعاها وبدأ يرسم طريق الخروج من أزمته والعودة إلى وطنه، وهو الطريق الذي يبدأ بالبندقية وينتهي في فلسطين.
التشظي... يمكن القول إن الفلسطيني تفجر إلى شظايا؛ لا كما تفجر كنفاني نفسه ليرسم بدمه علامة على طريق التحرر الفلسطيني، ولكنهم تفجروا إلى شظايا مزقت قضيتهم واخترقت جسدها؛ حتى كادت القضية أن تصفى من الأساس. تبدو الأسرة موضوعا محوريا في الرواية، فأبو مروان يترك أسرته لكي يتزوج امرأة فقدت ساقها في القتال، وتحتاج إلى من يرعاها. يبيع أبو مروان أسرته كلها ويتركها للابن الأكبر، ويتجه للمرأة لا لكي يحميها من عوادي الدهر، ولكنه يطمح في السكن في بيت "له سقف من الأسمنت" بدلا من بيوت الشتات ذات الأسقف الطينية. كأن كنفاني هنا يشير إلى العراء الذي أمسى الفلسطيني فيه جراء الحرب والتفسخ الذي أصاب المجتمع الفلسطيني، فنراه يبحث عن "المأوى"... مجرد "المأوى" لا السكن هو ما صار الفلسطيني يسعى إليه. لكن.... هل دفعه الصهيوني لذلك؟! كنفاني يشير بإصبع الاتهام إلى الفلسطيني نفسه، فأبو مروان ترك أسرته بعدما شعر أن الابن الأكبر يستطيع تحمل أعباء الأسرة، لكن حساباته لم تكن على القدر الكافي من الدقة. لماذا؟؟! لأن الابن الأكبر بمجرد أن جرى المال في يده في الكويت، نسي الأسرة، وكرر الفعلة نفسها، وأرسل خطابا إلى مروان يطلب فيه الاعتناء بالأسرة. لم يبدأ شتات أسرة مروان من لحظة خروجها من أرضها، ولكنه بدأ من لحظة تخلي الوالد عن الأسرة... عندها بدأ شتات مروان الحقيقي حيث انطلق في رحلة البحث عن المال واستعادة الأخ المفقود... مهمة مزدوجة عسيرة على الرجال، فما بالنا بصبي في السابعة عشرة من عمره؟؟!! تلتقي المصائر...! ويلتقي الفلسطينيون في الشتات... أبو قيس... الرجل الهرم الذي لا يزال يحلم بالنخلات التي تركها في منزله بفلسطين التي صارت إسرائيل ثم وجدت فجأة من يصر أنها فلسطين مرة أخرى، قبل أن يختلف الفلسطينيون حول منهم ويحولون السلاح لصدور بعضهم البعض...! أبو قيس لديه طفل وهو قيس، وزوجته حامل في الطفل الثاني... الرزق قليل، والمستضيف أعطاهم في بداية لجوئهم عنده حجرة مجانا، ولكن بعد فترة عاد وطلب منهم اقتسامها مع آخرين، فكان الحل ستارا يعزل بين الأسرتين. هل في هذا الستار رمز للتشظي والانقسام بين الفلسطينيين في الشتات حتى ولو كان شتاتهم حجرة واحدة؟؟!! يأتي سعد... أحد الفلسطينيين الذين هربوا إلى الكويت، ويخبر أبو قيس أن الكويت بحر المال الوفير... لا يرضى أبو قيس في البداية ولكنه — تحت إلحاح الحاجة — يوافق. لكن السؤال هو قبل أن يوافق أبو قيس على الرحيل للكويت طلبا للمال، ماذا كان يفعل لاستعادة نخلاته الثلاث؟؟! لا شيء سوى الذكرى والتحسر...! أما أسعد فقصته بسيطة...! سمع أن في الكويت المال، فرغب في الذهاب ولكنه لم يكن لديه ما يكفي لدفع نفقات السفر. قام عمه بمنحه المبلغ المطلوب وزيادة أيضا، ولكنه قال لأسعد وهو يمنحه المبلغ إنه يعطيه المال وهو يعلم أن احتمالات الفشل في الكويت تساوي فرص النجاح... فلماذا يقرضه إذن...؟! حتى ينزل القبر وهو مطمئن لأن ابنته في حماية رجل..!! عملية ابتزاز صريحة، لكن أسعد المتلهف على السفر يوافق على الزواج من ابنة عمه التي لا يحمل إزاءها أية مشاعر. إذن، أيمثل أسعد نموذجا للفلسطيني الذي ضاع في الشتات، فتشتت مشاعره وباع نفسه نظير حلم؟! كل الطرق تؤدي إلى العراق. لا مهرب ولا مفر من المرور عبر الصحراء في جنوب العراق إلى شمال الكويت. ولا مفر من اللجوء إلى المهربين. لم يخرج الفلسطينيون بما يثبت شخصياتهم، بل صار إيواء الفلسطيني اللاجئ في الأردن جريمة يعاقب عليها مرتكبها بحكم القانون، وصار تهريب الأفراد من الأردن إلى العراق عبر طريق "الإتش فور" الصحراوي القاتل عملا معروفا، وصار إلقاء السائقين للاجئين في الطريق بدعوى أنهم وصلوا العراق فعلا معتادا؛ حتى إن الفلسطينيين ابتكروا لأنفسهم طرقا لعبور هذا الطريق دون مساعدة، بعد أن يخدعهم السائقون ويلقون بهم...!! تلتقي المصائر في بغداد، ويلتقي مروان وأسعد وأبو قيس عند أبو الخيزران...! فلسطيني من سعداء الحظ الذين عملوا مع أحد الأثرياء الكويتيين سائقا... فلسطيني ممن يقدم سببا للإقلاع عن ممارسة عادة الوطنية...! فلسطيني فقد رجولته أثناء دفاعه عن وطنه؛ فضاعت رجولته، وكذلك ضاع الوطن... فما نفع المقاومة إذن؟!! يخبرهم أبو الخيزران أنه سيخبئهم في خزان مياه حتى يعبروا الحدود من العراق إلى الكويت لكنه يحذرهم من أن الجو داخل الخزان سيكون قاتلا من فرط الحرارة وصهد الشمس المنبعث داخل الخزان المعدني المغلق، لكنهم لن يدخلوا فيه إلا لمدة لا تزيد عن الدقائق الست قبل نقاط التفتيش التي يعبرها أبو الخيزران دون تفتيش لسمعته وسمعة الحاج رضا. ست دقائق فقط... هكذا قال لهم أبو الخيزران... وطيلة الرحلة معلقون على الخزان في الخارج في حرارة الشمس اللاهبة.. إلا أنه في أحد النقاط يتعطل بسبب حوار خليع مع ضباط النقطة... ويموت المتسللون من فرط الحرارة داخل الخزان...! تسع دقائق إضافية قتلتهم من فرط الحرارة...! يتساءل أبو الخيزران — بعد أن أخرج الجثث وألقاها في مكب للنفايات بعيدا عن النقطة وأخذ الأموال والمتعلقات الثمينة منها — في نفسه عن السبب في عدم صراخهم ولا استغاثتهم قبل الموت؟؟!! هل كان الفرار إلى عالم المال أعز عليهم من حياتهم؟؟!! وبدورنا نتساءل: لماذا لم يصرخوا؟! لماذا تحملوا الألم في سبيل المال ولم يتحملوه في سبيل الوطن؟؟!! رفضوا البقاء في الشمس فقتلهم الظل...! راح الشباب ممثلا في أسعد، وراح المستقبل ممثلا في مروان، ومات أبو قيس الماضي بكل استسلامه ويأسه...! ما الحل؟!! لا يزال الفلسطينيون يعيشون في الشتات... رغم أنهم عادوا إلى بعض من أراضيهم، ولكنهم لا يزالون في الشتات... الفتحاوي في غزة يعيش الشتات في ظل حكم حماس، والحمساوي في الضفة يعيش الرعب والموت في ظل حكم فتح... والكل ميت في ظل الاحتلال... مات كنفاني... كتب "ما تبقى لكم" مبشرا بالمقاومة ولكن "الرجال" لا يزالون في الشمس... يبحثون عن أي شيء وكل شيء... عدا طريق الوطن....!!
#حسين_محمود_التلاوي (هاشتاغ)
Hussein_Mahmoud_Talawy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أصناف العقل الإنساني (2 )
-
أصناف العقل الإنساني (1)
-
المسألة القومية لدى التيارات الفكرية المختلفة... نظرة رصدية
-
نوبل للآداب.. أم لأشياء أخرى؟؟!
-
25 يناير... هل هو ثورة؟!!
-
صفية مختار في «وسال على فمها الشيكولاتة» عندما تسيل الأفكار
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|