|
جدلية القراءة وآليات الإثارة فى -ميس إيجيبت-
محمد فاضل عامر
الحوار المتمدن-العدد: 3781 - 2012 / 7 / 7 - 15:05
المحور:
الادب والفن
جدلية القراءة وآليات الإثارة فى "ميس إيجيبت"
بدأت "سهير المصادفة" مسيرتها الروائية برواية "لهو الأبالسة"2003 ، والتى نالت شهرة واسعة وجوائز عديدة ، وأتت روايتها "ميس إيجيبت" الصادرة عن دار "الدار"2008 ..لتؤكد بها موهبتها وقدرتها الروائية ، وتميزها فى صناعة فن الرواية . أجمع كل من أعرفهم ـــ ممن قرأوا الرواية ـــ على أنهم لم يستطيعوا تركها حتى الانتهاء من قراءتها ، فهى تستحوز على قارئها ، وتقدم شجنا انفعاليا وإثارة بالغين ، ولم أختلف عن هؤلاء . ألح علىّ هذا الأمر للنظر فيه ، فنحن نكاد نكون فقدنا الصلة ــ فى قدر كبير من الروايات ـــ بعناصر تمثل أسسا ودعائم ومقومات لهذا الفن ، ومنها عنصر الإثارة / التشويق . والإثارة / التشويق ، الروائية لا تأتى إلا من خلال الحدث.. والحدث لا يتركب ويتعقد إلا من خلال تعدد الشخصيات واختلاف المواقف... ولأن الحدث قد اختفى مع اختفاء تعدد الشخصيات. وظهرت الكتابة عن الذات من منظور أفق ضيق لا يرقى لأن يكون إجتماعياً فقد نسى أمر ما يسمى بالإثارة / التشويق ، ودخل هذا العنصر البنائى حيز العناصر التى لا حاجة لنا إليها فى بناء رواياتنا الحديثة ، بل أصبحت الكلمة (الإثارة / التشويق ) من المضحكات . سأحاول فى هذه القراءة الكشف عن آليات الإثارة / التشويق ، التى اعتمدت عليها الرواية .
*عنوان وإهداء "ميس إيجيبت"..هكذا تكون أولى المواجهات التى تقدمها الرواية ..كلمتان باللغة الإنجليزية مكتوبتان بحروف عربية ، عنوانا لرواية باللغة العربية ، مطلوب من القارئ أن يترجم ..وبمجرد أن يترجم القارئ فإنه يدخل حلبة اللعب فاعلا مفعولا به . هذه هى الآلية الأساسية ، التى اعتمدت عليها الرواية من أولها حتى آخرها فى صناعة الإثارة / التشويق .. وكما نرى فهى قائمة على استخدام التناقض والتضاد ، على مستوى البناء ، وعلى مستوى العلاقة بالقارئ .
"إلى لؤى مرة ثانية" ..إنه الإهداء الذى يضع القارئ أمام إهداء أول ، لا يعرفه من لم يقرأه ، وأمام هذا الإهداء البسيط لغوياً ...والذى هو ثان ..يتكون السؤال : لماذا؟ ثم سرعان ما يكتشف القارئ أن الأمر لا يعنيه ، فيتركه مرتبكا بين السؤال مرة أخرى ،عن السبب ، وترك الإجابة للمرة الثانية عن سؤال لا يعنيه .
*اثنا عشر فصلاً ومداخل
السارد فى الرواية سارد واحد عليم ، يقدم لنا الرواية فى اثنى عشر فصلا ...كل فصل مسبوق بجملة موقعة باسم الشخص الذى سيكون الحديث عنه ومن خلاله .. وهذه الجمل جميعها لم ترد فى المتن . نحن إذن أمام رواة متعددين ، الرواة الذين يكتبون ويتحدثون فى المداخل ، والراوى العليم الواحد ، قد يبدو أن فى الأمر خطأ بنائياً ، لكن لأن الرواية على قدر عال من التعقيد واللعب الفنيين ، فإننا مدعوون لأمعان النظر والتأمل . يتكون المدخل من جملة وتوقيع باسم قائلها ، وهى على هذا الأساس تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، موقعة على غير ترتيب باسم "تاج العريان"، و"عبد الرحمن الكاشف" ، و"عارف تاج" . المداخل الموقعة باسم "تاج العريان" ، ترتبط بالملك والحكم ، وهى بترتيب ورودها : (الملك كليل العينين .. له أذن واحدة وأنف يشم ما ترشحه له الكلاب .) الفصل الأول . (يدا الملك مصطبغتان بدم الحقيقة وقامته المهيبة بلا ظل وقلبه يهيم وحيدا فى عراء الليل.) الفصل الثالث . (يلتحف الملك بأغنيات صدئة ويتكئ على عصا يرعى فيها السوس ، ويهيل السواد من حالق على ما يحكم من خرائب .) الفصل السابع . (قدر الملك أن يتحول تدريجيا إلى حوت أبيض ليس له أعداء على الإطلاق حيث تخافه كل الحيوانات البحرية حتى الحيتان القاتلة الأخرى .) الفصل التاسع . أما المداخل الموقعة باسم "عبد الحمن الكاشف"، فهى ترتبط بالأمة والحضارة والقضايا الفكرية ، ووردت كالتالى : (منذ القرن الثانى عشرونحن نجأر ..أغيثونا نحن هنا عالقون .) الفصل الثانى . (ونحن نتدثر بوهم امتلاك اليقين ونحاول الصعود إلى ما لسنا ندرى .) الفصل الخامس . نلاحظ هنا أن الجملة مبتدأ دون خبر ، وقد أغلقت الجملة بالنقطة . (كلما اعتلت مجموعة من البشر ذروة الدرج تحاول القضاء على من يحاولون الصعود خلفها حتى لا يزاحموها فوق القمة أو يزعجوها من القاع .) الفصل الثامن . (تريد الحضارة ..أية حضارة تصديق أن مسيرة الإنسانية مجرد سهم منطلق فى الزمن ..فقط حتى تطمئن روحها .) الفصل الحادى عشر . أما المداخل الموقعة باسم "عارف تاج" ، فهى نصائح شخصية وجودية ، وهى بترتيب ورودها : (امنح نفسك لصاحب حلم كبير فى محبتك وجرب أن يبتلعك تماما . فحتى لو قذفك مجرد جثة فحسبك أنك رأيت ما لا عين رأت . ) الفصل الرابع . (افتح عينيك على اتساعهما ، وكما يليق بحالم عظيم حاول أن تقبض على شقفة من وهج الحقيقة .) الفصل السادس . (ولأنك منذور للنور .. طوح بكل ما تعرف عن الظلام بعيدا واطرق أحجارا جديدة واخمش شرارتك وامض .) الفصل العاشر . (الكتابة مقبرة الحقيقة التى يخشى الملك الاقتراب منها . ) الفصل الثانى عشر . نلاحظ هنا أن المدخل الأخير قد تشابه وتشابك ارتباطا مع المداخل الموقعة باسم "تاج العريان" ، فقد ارتبط هذا بالتطور الدرامى للشخصيتين الأب "تاج العريان" .. والابن "عارف تاج" . الأب ضابط البوليس ، الذى يريد أن يعرف من قتل "نفرت جاد" ، الفتاة الفاتنة ، والابن الذى عشق روح القتيلة / شبحها ..وهو الذى كشف السر / انكشف له السر / كُشف له السر ، عبر رحلة بحث شاقة ومضنية ..فكان من الطبيعى أن يتحدث بلسان أبيه بعد أن أصبحت عينه قادرة على رؤية ما لا يرى ، مثل أبيه ..وبعد أن أصبح قادرا على الاتصال بما يُظن أننا منقطعون عنه حتما . إذن نحن أمام مجال حر ، تتقدم فيه ثلاثة أشخاص أساسيين ، مختارين من قبل الكاتبة ليكونوا العماد الأساس للرواية ..وكأننا أمام حالة توحد بين الشخصيات والكاتبة ..فتقدم الشخصيات الفصول محلقة فى عوالمها الروحية والفكرية ، وتقدم الكاتبة / الراوى العليم الشخصيات ..إنها دائرة من الاتصال / الانفصال ، لا تعرف أولها من آخرها ولا سطحها من عمقها ..لتكون فى كل الأحوال متسائلاً منفعلاً جداً ، على يقين تارة وشاكاً تارات أخرى .
*المفردة والكلام / النص تفتح الكاتبة الفصل الأول بهذا المشهد : (تأملها طويلا وهو يمص قرص استحلاب لاحتقان الزور ..تقترب من الثامنة عشرة من عمرها ، خمرية اللون ، بلا شك كانت تتورد عند أية لمسة أو نظرة أو ارتفاع طفيف فى درجة حرارة الجو فلا ينام بسببها عدد لا بأس به من الرجال ، عارية تماماً إلا من زغبها . كيف ثبت السافل بهذا الإحكام مكواة شعر ساخنة بيد خضراء فحبس ثديها الأيمن ....) يصف الراوى / الراوية بعين "تاج العريان" ضابط البوليس منظر "نفرت جاد" وهى مقتولة فى كوافير أمها .. ما أريد الإشارة إليه هنا .. ما ورد من وصف القاتل "بالسافل"، فهو وصف يرد مزدوج المصدر ، فهو رأى "تاج العريان" ورأى الراوى / الراوية أيضاً . نحن أمام موقف أخلاقى ثابت وصلب ، منذ البداية وقبل أن نعرف شيئاً عن القاتل ودوافع القتل .. وبناءً على أن الراوى قد حكم قبل أن تبدأ الحكاية ـــ بالنسبة للقارئ ـــ فهو بلا شك على صواب لأنه صانع الحكاية .يسرع القارئ لمعرفة القاتل وأسباب القتل ، وليقف إلى جوار الراوى / الراوية ليكاتفه بالرأى الآخر ، الموافق أو المختلف . إنها كلمة واحدة وصفية فجرت المشهد الافتتاحى ، لتفرض نفسها على باقى الرواية .. فالقارئ مع كل مشهد يرص فى ذاكرته / المحكمة الأسباب والقرائن للحكم ، أو يحاول أن يترك أمر الحُكم برمته ليتقدم هادئا فى رؤية ما يحدث ..إلا أن كلمة "السافل" سقطت ــ منذ البداية ـــ بقوة ، سقوط حجر فى الماء تتكون على إثره الدوائر . ومع انتهاء الرواية بمعرفة القاتل ودوافعه ، ومعرفة كل شئ يخص أشخاص الرواية .. تتلخص الرواية فى : إنه فعلا شخص سافل ذلك الذى قتل "نفرت جاد" "الجميلة" " ، ولتنغلق الرواية إلى كلمة واحدة مركزية سرية دافعة ، وكلام كثير شارح ومفسر .. ولتصبح الرواية جريمة وحكماً . وهو ما يفتح العنونة لدى القارئ مرة أخرى ، ليقترح أنه من الممكن أن تسمى الرواية بأسماء أخرى كثيرة .. ذات دلالة مختلفة تحتملها الرواية وتحملها .. بالتوازى مع العنوان الموضوع "ميس إيجيبت" . *المتضادات وجهاً لوجه حكم" السرد" قانون واحد ، وهو الجمع بين النقائض .. ليسعى النقيض إلى نقيضه .. ولتسعى الرواية بالأحداث إلى غير المتوقع والمأمول ..فمنذ المشهد الأول والذى جمع كماً كبيرا من المتناقضات : ضابط وجريمة ، قتيلة جميلة ، تُرى وتُوصف فى حالى الموت والحياة ، وصفاً ملتبساً يزيد المشهد تركيباً وعنفاً وتشويقاً .. قاتل لا نعرفه ولا نعرف سبب ارتكابه الجريمة وحكماً عليه . "العريان الكبير" والد "تاج العريان" رجل عسكرى من رجال الثورة ، ثورة يوليو ..ينتظر الموت ولا يموت .. هو ثابت فى سريره طوال الرواية يغرغر ولا يموت إلى الدرجة التى دفعت المحيطين به إلى الظن بأنه لن يموت أبداً . هذا الرجل الذى لا يريد أن يموت يستعيد حياته كاملة عبر هلوسات ورؤى ، ويتعرض لمواجهات عنيفة ومعذبة من طبيب العائلة الدكتور "عبد الرحمن الكاشف" ، الذى ظل طوال الرواية يعطيه الدواء أمام العائلة ، وعندما ينفرد به يواجهه برذائله / رذائل الثورة ويحاكمه . يستنجد" العريان الكبير" بابنه ، والابن يندهش من موقف الدكتور الكاشف ..استنجاد العريان بابنه فعل مشحون بتناقضات أظن أنها واضحة ، كما أننا أمام تضاد فى سلوك الكاشف ، لا تستطيع أن تحكم بأنه تناقض فى شخصيته فتحكم عليه .. ولا تستطيع أن ترضى عن سلوكه السادى . "العريان الكبير الذى حاز الحياة .. يقع فى غرام خادمته .. التى تأبى أن تمنحه نفسها ، وتأبى أن يتزوجها ..لكنها ترضى منه بالإعزاز .. إنها علاقة عجيبة ، لم نعرف لماذا لم ترض له ، ولماذا لم ترض به ..لتظل حدثا غفلاً قابلاً للتأويل ومولداً لانفعالات شتى متناقضة .
*موقف ثابت رغم أن طرق السرد غير المحايدة ، والتى تبنتها الرواية .. جعلت القارئ مضطراً دائماً للحكم على سلوك الشخصيات ..والشخصيات معقدة ومتناقضة ..والمواقف مركبة.. بما يصعب عملية الحكم .. فلا حكماً تحكم ، ولا قراءة وادعة تقرأ .. والقارئ دائماًفى دوامة انفعالات متناقضة ومرهقة ..وممتعة ..إلا أنها كسرت ذلك الخط فى حالة واحدة / نقيض ..موقف الرواية منها ثابت منذ البداية ، يزداد رسوخاً كلما تقدمت الأحداث وهى المواقف من التيارات الإظلامية .. التى تعيث فى الأرض إفساداً ..والتى تمثل القبح فى أعلى تجلياته .. وتنتهى الرواية إلى الكشف التام عن هذا الإظلام وتقبض عليه .
*وهكذا تكون مسألة الإثارة / التشويق ، مسألة صعبة وليست بسيطة ولذا لم تكن هذه القراءة إلا عرضاً لعنصر واحد من عناصر الإثارة / التشويق التى اعتمدتها الرواية ، والرواية محتشدة بعناصر إثارة / تشويق أخرى ، لا تقل تعقيداً وتركيباً عن هذا العنصر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *كاتب وناقد من مصر
#محمد_فاضل_عامر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|