نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1105 - 2005 / 2 / 10 - 11:32
المحور:
الادب والفن
إلى ليلى أنطون
لأن الشوكولاتة لا تذبل
في الساعة الواحدة و النصف ظهراً من شتاء سنة 1988 حدقت السيدة ليلى أنطون في لوحة لإحدى تلميذاتها في الفصل و رأت بيتاً مصنوعا من الحلوى و تزين سطحه حبات الكريز. في الساعة الثالثة و الربع من عصر نفس اليوم و بينما كانت السيدة ليلى أنطون تعود من المدرسة فكرت كيف انها كانت تحلم قديماً بالسكنى في بيت من الشوكولاتة و تمنت لو يحصل هذا الآن, و هذا بالرغم من أنها لم تحب مذاق الشوكولاتة أبداً. في الثامنة مساء من نفس اليوم كانت السيدة ليلى أنطون مدرس اول العلوم في مدرسة سراي القبة الابتدائية قد انتقلت بكاملها إلى مدينة جديدة عليها تماماً. كانت المعجزة قد تحققت ببساطة. اكتشفت السيدة ليلى أنها في مدينة الشوكولاتة العصية.
السيدة ليلى أنطون تقترب من الخمسين عاماً. تحولت قطاعات كبيرة من شعرها إلى البياض, كانت أرملة, مات زوجها بالسرطان و ترك لها ابنين أكبرهما في الخامسة و العشرين من عمره و الثاني في الثامنة عشر.. كانت امرأة هادئة.. تحسب الأمور جيدا قبل أن تقدم عليها.. لم تتعود ان تحلم يوماً أحلاماً غريبة.. تعلمت أن تحلم فقط بما هو ممكن.. و كانت تدرس لتلميذاتها ان العالم لا تتحقق فيه إلا الأشياء المفرطة (أو المتطرفة) في واقعيتها.. و ما دون ذلك لا يتحقق.. و لذلك كان متوقعا أن تندهش السيدة ليلى أنطون في أول يوم تنتقل فيه إلى مدينة كل شوارعها و بيوتها و محطات البنزين بها و عرباتها مصنوعة من الشوكولاتة الخام و الشوكولاتة المخلوطة باللبن و المخلوطة بالمكسرات و تلك المزدانة بسائر انواع الفواكه المجففة و الطازجة..
لم تفهم السيدة ليلى لأول وهلة كل هذه الكتل السوداء في كل مكان.. لم تفهم كيف تحول بها الزمان و المكان لتصل إلى هنا, في عمق ما يمكن أن تتخيله على أنه لوحة لتلميذة لها. وعندما بدأت تشم رائحة الكاكاو في الجو كله تعجبت و لكنها لم تتعجب اكثر من اللازم.. و لأن العالم لا تحدث فيه إلا الأشياء المفرطة في واقعيتها فلابد أن انتقال المرء إلى مدينة من الشوكولاتة هو امر مفرط في واقعيته. هكذا تسير الحياة.
سماء المدينة فوقها كانت من الشوكولاتة أيضاً.. و ستفتح مرة السيدة ليلى كفيها لتستقبل قطرات من المطر الشوكولاتي.. و ستضحك و هي ترى كرات الشوكولاتة الجامدة تنهمر عليها بدلاً من الثلوج.. و ستمضي لتكون تشكيلات فنية بهذه الشوكولاتة الوفيرة
ثم ستمر سنوات كثيرة
***
ما الذي يمكن أن تأكله امرأة تقترب من الستين في مدينة مصنوعة من الشوكولاتة عاشت فيها لما يقرب من عشر سنوات, بخلاف الشوكولاتة طبعاً؟
لم تحب السيدة ليلى أنطون أبداً مذاق الشوكولاتة.. أحبت رائحتها فقط و منظرها.. أمكنها في طفولتها بخلاف جميع قريناتها أن تميز مواطن المرارة التي في مذاق الشوكولاتة. و عندما انتقلت إلى داخل مدينة مصنوعة من الشوكولاتة كلها عافت تذوق الجدران أو لحسها كما يفعل أي شخص يجد نفسه في مدينة الشوكولاتة.. كان في حقيبة يدها ساندوتش جبنة بيضاء اعدته لكي تتناوله في اليوم التالي. نستطيع القول انها عاشت طيلة عشر سنوات على هذا الساندوتش, قسمته إلى قطع دقيقة للغاية و مضت كل يوم تلوك قطعة, و لأنها كانت تعتقد أنها ستقيم في مدينة الشوكولاتة هذه لعشر سنوات فقط فقد قسمت الساندوتش إلى 3652 قطعة. في داخلها كان يتضح الفارق بين الجبنة البيضاء التي تأكل كل يوم ذرّة منها و بين الشوكولاتة السوداء التي تغمر حياتها و إن كانت تعافها كما تعاف كل شيء أدركت مرارته على خلاف قريناتها. و عندما كانت تتناول القطعة رقم 3652 من الساندوتش كانت تعرف أنها بذلك تقضى على آخر أثر للبياض داخل المدينة و أنها بيديها كانت تكرس نفسها, من الآن فصاعداً, لسواد الشوكولاتة فقط, و عندما كانت تتناول القطعة رقم 3652 من الساندوتش سألت نفسها و ماذا سأفعل إن ظللت هنا في هذه المدينة التي لا أول لها من آخر, أي ماذا سآكل؟ هذا ما كان يعني السيدة ليلى أنطون, لأنها لم تكن تعتني إلا بالأمور المتطرفة (أو المفرطة) في واقعيتها. و هذه كان أول مرة تسأل نفسها فيها هذا السؤال. و هو لم يكن سؤالاً تافها أبدا, لأن العشر سنوات انقضت و ظلت ليلى أنطون في مدينة الشوكولاتة.
***
غير أن الموضوع لم يكن هكذا على أية حال
ففي أعمق أعماق نفس السيدة ليلى أنطون كانت تشتهي الشوكولاتة لدرجة الرعب الشاذ... كانت اعماقها تذوب كالشمع من الشبق إذ ترى الشوكولاتة حولها في كل مكان
و كانت تتوق لأن تمد يدها لتقطف كل الشوكولاتة من حولها.. كانت رائحة الكاكاو تهيج باطنها.. و تمنت لو تنقض على الشوكولاتة حولها و ظلت تأكل تأكل حتى تنفجر معدتها
و دمعت عيناها كثيراً و هي لا تقاوم
و جزت على أسنانها صامدة إلى آخر لحظة
كان داخلها ينصهر.. يتضائل و يتحول إلى فتات و يكاد يصرخ من احتياجه
و في آخر لحظة كانت تذكر نفسها بأن لا.. أنا لا احب الشوكولاتة.. الشوكولاتة ذات مذاق مر و أنا لا أحبها.. أنا اكره الشوكولاتة.. أنا اكره الشوكولاتة.. و كانت تقتنع إلى حين
لأنها لم تعي أبدا بما يمور في داخلها.. في داخلها الذي كان ينسحق تحت وطأة الشوق إلى الكاكاو و الشوكولا التي تدغدغ خلاياها
لم تع بهذا المعلمة المخضرمة.. و لو وعته لما اعترفت به.. لإن هناك أشياء لا نعترف بها حتى تحدث الطامة الكبرى..
***
الآن ليلى أنطون لا تأكل.. و لأنها صار لها خمس سنوات لم تأكل شيئاً مطلقاً فقد كانت تشعر بجوع ما.. بل و قد فقدت في هذه السنوات الخمس سبع كيلوجرامات من جسمها.. و رغم شعورها بالجوع لم تقرب الشوكولاتة.. ظل هذا ما يشبه العهد المقدس بينها و بين ذاتها
غير انه ما كان لها ان تصمد حتى النهاية
و هي رفضت حتى الاعتراف بأنها جائعة, كانت تجلس طول الوقت في زاوية لا تتعدي متراً و نصف في مدينة تبلغ مساحتها مائتي كيلومتر مربع. كانت تجلس كالمحبوسة مرتكنة على سور بيت من الشوكولاتة و مادة ساقيها أمامها على الرصيف الذي من الشوكولاتة و تمضي تتأمل الشوكولاتة حولها بروية السنوات الخمس و الستين التي صارت لها.. و تضحك من نفسها و تتألم قليلا بسبب الجوع (و إن كانت لا تعي أنه بسبب الجوع).. و أحياناً كانت تلقي بنفسها في نهر الشوكولاتة القابض على المدينة. كانت تستلقى على ظهرها و تترك الشوكولاتة تطوف بها إلى أي مكان بينما نظرها موجه للسماء الشوكولاتية هي أيضاً
غير أن هذه المرة كانت تختلف
دغدغت الشوكولاتة جسدها.. شعرت بها دبابيس تخزها برفق و تثيرها.. مع الوقت تفاقم هذا الشعور.. انتبهت إلى أنها تقبض بكفها على الشوكولاتة في جوع لا مثيل له.. انتبهت إلى انها اطلقت آهة خافتة من الجوع و الرغبة.. انتبهت إلى أنها ظلت جائعة لخمس عشر عاماً.. انتبهت إلى أنها تتمنى لو احتوت الشوكولاتة بداخلها.. كل الشوكولاتة.. و عندما وصلت إلى الضفة الأخرى من النهر و نزلت بساقيها على الأرض نطقت كلمة واحدة. قالت بهدوء و وقار حزين: انا جائعة.
***
انحنت السيدة ليلى على الأرض. أمسكت بحفنة من الطمي و الذي كان من الشوكولاتة, و مضت تمصها.
قالت هاهو الطمي لذيذ و ليس مراً كما كنت أتوقع. أمسكت بحفنة أخرى و مضت تأكل منها.. سارت في الطريق.. الآن فقط تضخم الجوع بداخلها ليكتسح كل شيء في طريقه.. لم تعرف في البداية كيف تتعامل مع هذا الجوع الذي نما بداخلها.. ارتبكت .. لم تعرف أن مزيداً من أكل الشوكولاتة سيروضه.... قالت ثانية: أنا جائعة. و لم تكن هذه هي الوسيلة المناسبة لكي تطفئ جوعها.
مع الوقت تتعلم ليلى أنطون. مع الوقت تأكل أكثر و تجهد لتعويض الكيلوجرامات السبع التي فقدتها من جسمها.. و تنكب على النهر تشرب المزيد من الشوكولاتة المتدفقة.. لا تقوم إلا بعد أن تكون قد امتلأت.. و كان هذا وهماً لا أكثر
لأن مزيداً من الشوكولاتة كان يدفع بها باتجاه مزيد من الشوكولاتة.. صارت تأكل بلا رادع.. على الدوام.. في صحوها و نومها و في سيرها و رقادها.. لا تتوقف عن الأكل.. كانت تأكل و تدمع من الجوع أو من حرارة دمائها المستثارة.. تنقض على الأرض تنهش منها ما تستطيع نهشه من الشوكولاتة الطيبة.. من الشوكولاتة التي هي كالطمي أصل الحياة.. كان كل وجهها, الذي كان ذات يوم وجهاً خريفياً و نقياً لمربية فضلى ذات شعر رمادي و بعض التجاعيد, متسخاً في معظمه بالشوكولاتة و لم تكن الشوكولاتة تنزاح من على وجهها.. بل كانت تتكوم طبقات فوق بعضها.. و كانت أنهار الشوكولاتة تسيل على رقبتها و تلوث كل روحها و جسدها الحميم
لم تشبع أبداً.. احتوت شوارع كاملة في بطنها.. و قضمت سيارات و أكشاك و أعمدة إنارة.. لهثت كثيراً و هي تأكل.. لهثت لأن الشكولاتة ظلت عصية عليها.. ظل حجم ما تقدمه لها الشوكولاتة من شبع أقل بكثير مما تأكله منها. كانت تجاهد لتصل إلى لحظة شبع حقيقية
و يبدو أن هذا لم يكن مقدراً.. لذا كانت السيدة ليلى أنطون تعوي و هي تأكل
و يتردد صدى عويلها في الليل في كافة أرجاء المدينة الصامتة دوماً.. كانت تعوي ككلبة أو كروح هائمة.. و عندما اتجه بصرها نحو السماء في أمل ردت عليها السماء بحنو.. مما يعني أنها كانت سائرة في الطريق الصحيح..
كانت قد لاحظت منذ شهرين شقاً كبيراً في الأرض.. هو ما أكلته خلال فترة لا تتجاوز عشرة أيام.. و لاحظت أن الشق يتسع و لاحظت أن بيتاً قد انهار لأنها قضمت أساسه كله.. و لاحظت انها لم تتوقف عن قضم حواف الشق في الأرض, لأنه كان اطيب مذاقاً من سائر المواضع في مدينتها, ثم لاحظت أن الشق التهم بداخله ثلاثة بيوت عندما طالها أو أنه تسبب في زلزال, كانت تسير و الجدران تنهار من تحتها و جبال الشوكولاتة التي كانت قد أكلت مساحات كبيرة من سفوحها تكتسح الأرض مهددة بإغراقها, كانت السيدة ليلى تسير فوق أرض لم تعد تتوقف عن التراقص, بفعل تصدعها. و برغم ذلك فهي لم تكن تسير إلا منحنية, كيما يتسنى لها أن تقضم أكبر كمية ممكنة من الصخور, واعية بأنها تقوض الأرض في الآن نفسه. عندما تفاقم هذا و انتشرت في كل مكان الشقوق الصغيرة و الكبيرة إشارة على التصدع الذي تعاني منه المدينة ايقنت أن ليس من أمل هنا على الأرض و اتجهت بناظرها للسماء في رجاء و أجابتها السماء أن نعم يا ابنتي, يا كلبتي الحبيبة, اقتربي.
و اقتربت
صعدت على جبل عال, عال جداً, مضت تأكل من أحجاره و هي تصعد, تمد يدها بقوة لتقبض على جزء ضخم منه و تلوكه بينما تبرق عيناها فرحة بالانتصار. و تنزلق عدة مرات بفعل تساقط صخور الجبل, و التي لم تحتمل امرأة تجرشها بأسنانها إلى هذا الحد حتى تكاد تبتلعها ابتلاعاً, و يهدد الجبل بأن ينهار كله بينما هي لم تصل إلى قمته بعد, و يأخذ الجبل في التصدع هو الآخر, و هي تصعد و لا تهتم. كانت واثقة بأنها ستصل إلى قمته.على القمة جلست. قالت سأجلس ريثما أستريح, بيد أنها لم تطق الجلوس طويلاً. قفزت و مدت يدها بسرعة خاطفة إلى السماء لتنهب قطعة منها, قطعة من الشوكولاتة, و لم تفلح لأن السماء أبعدت لحمها بسرعة عن تلك المتطفلة. قفزت مرددة بقسوة و برود وحشيين: أنا جائعة. غير أن السماء علت هي الأخرى. قفزت أكثر و نجحت في الظفر بقطعة صغيرة جداً من الشوكولاتة. أكلتها و برقت عيناها. هنا أدركت أن هذا الشيء لابد أن تحصل عليه و ستحصل عليه, مضت تقفز و تقفز و تمد يدها و تصرخ و تفوز أحياناً بقطعة صغيرة و أحياناً أخرى لا. و كانت الأرض تنهار من تحتها من جراء النحت المتواصل الذي قامت به لها على مدار سنوات سابقة, و كان الجبل ينخسف كذلك, و لكنها لم تتوان لحظة عن القفز. يبدو أن مصيرها لم يعد معلقاً بمصير الأرض التي تأخذ في الانهيار و لا بالسماء التي تأخذ في التواري و المراوغة
يبدو أن مصيرها لم يعد معلقاً الآن بشيء
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟