|
لا مكانَ لك
إيمار محمد سلوم
(Imar Salloum)
الحوار المتمدن-العدد: 3775 - 2012 / 7 / 1 - 11:29
المحور:
الادب والفن
صوت العصافير والحياة وصوت القذائف، خليط لا بد له من أن يجعل الإنسان هشاً جداً وسريعَ الكسر. صدى القذائفِ يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ صوتَ الشرشف الذي يُنفَض على الشرفة المجاورة لبيتنا، إلا أن المدى كان شرشف هذا الموت. إنكسارٌ في السكونِ الذي يضج بالحياة، لا تعلم كم قتيلاً سقط إثرَ ذلكَ الإنفجار، لكنك تدركُ أن أحداً ما قد انتهى، أو فقدَ أحدَ أطرافِهِ، أو فقدَ أحداً ما. هناك فقدانٌ عميقٌ لكلِّ شيء، فقدانٌ للإنسانيةِ ذاتِها. تخيل أنك في منطقة حرب. لا تعرفُ متى ستموتُ، متى ستفقِدُ، إلى متى ستحيا.
يهدأُ المدى، يتوقفُ عن تقيوءِ الموتِ، لحظاتٌ هي تلك التي تستطيعً أن تشعرَ خلالها أنه قادم. تصيرُ مشلولاً، عديمَ الإحساسِ، عيناك لوهلةٍ مثبتتانِ على السماءِ تبحثان عن كذبةٍ أخرى غير الله. لخطواته هديرٌ لا يسمعه إلا من ماتَ فعلاً؛ أولئك الذين يتوهمون الموتَ، يرتدونه لأجلِ البكاءِ، لكي يرى الآخرون أنهم مشغولون حقاً بقضيةٍ كبيرةٍ اسمها الموت. من يموت حقاً يعرفُ كيف يعيشُ ويستطيعُ أن يرى الموت وأن يبكي ليس لأجل البكاء وإنما لأن الدمعةَ ليست ملكاً له، لأنَّ النفسَ التي تُزهقُ هنا أو هناك، تُزهقُ مجاناً ولأجل لا شيء. لأنه يعلمُ أن الذين يُمحَونَ من دفترِ الحياةِ لم يكونوا موجودين فيه أصلاً، وإنما تمت إضافتهم لاحقاً، لأنهم باتوا مجهولي الوجودِ، لا موتى ولا أحياء. من هم؟ لا أحدَ يعرفُ. لكن، كل ما يمكن معرفته أنهم الآن ينتمون فعلياً إلى شيءٍ خاصٍّ بهم وحدهم، ينتمون تماهياً مطلقاً معه، إنهم الآن قتلى.
حين يموتُ الجنديُّ النظاميُّ أو الجنديُّ المنشقُّ أو ذلك المسلحُ، الجهاديُّ أو المتمردُ أو ذاك الذي يعتقد أنه يدافعُ عن بيتهِ وأرضهِ وما إلى هناك من كلامٍ يقالُ أصلاً لأجلِ الكلامِ فقط. حين يموتُ أحدٌ ما، مهما كانت صفتَهُ، أترانا نستطيعُ أن ننظرَ إلى أمرٍ في غايةِ الأهمية هنا: أن أحداً ما كان حياً وقد مات. نفسٌ بشريةٌ زُهِقت؛ حياةٌ اختفت فجأةً من الحياة. أترانا الآنَ أقلّ حساسية بكثيرٍ مما كنا عليه أصلاً. أيلزمُ فعلاً لكي أحزنَ على موتِ أيّ شيءٍ أن يكونَ مثلي، أن يكونَ لي، أن يكونَ مألوفاً. ربما اليوم لا نرى المشكلةَ الحقيقيةَ هنا في هذه البلاد وفي كلِّ مكانٍ آخرَ على الأرض. قدسيةُ الحياةِ أصلاً لم تكن مقدسة، ولكن كان هناك إحساسٌ بوجودها. اليومَ لم يبقَ قدسية. اليومَ أحزنُ على الشهيدِ أياً كان وأياً كنتُ، لأنني بالأساسِ أخافُ على نفسي وأهلي من مصيرٍ مشابهٍ، قد يقومُ به ذاك الآخرُ الذي يهددني. في هذه الحمّى الوطنية، ترى الأوطانَ تذوي وتُذرى وتُمحى، باسمِ الوطن. أيُّ وطنٍ هذا؟ يمكنُ للسياسي أن يكذبَ ويقولَ هذا وطني، يمكنُ للصِّ أن يقولَ هذا وطني، يمكنُ للمتخمين فقط أن يقولوا هذا وطننا، أما أنت يا من تُدفع رعبوناً للأوطانِ القادمة عن أيِّ وطنٍ تتحدث. هل تصدقُ فعلاً أن لك وطن. وطنُك الخوفُ والذعرُ والموت. لعلك لا تريدُ أن ترى ذلك، لأن هذا فعلاً مخيف. ولكن يتحتمُ أخيراً، عندما تواجهُ الموتَ عارياً، عندما تدفعُ الحسابَ لشيءٍ لم تملكه أصلاً، يتحتمُ أن ينطرحَ السؤالُ، من قبلك أو من قبل الموتِ ذاته. ومتأكدٌ أنا، أنك لن تجيب. لأن في الرؤيا تنتفي الإجابة، أنك سترى وتعيش الجوابَ، سترى أنك لم تكن أكثرَ من عملةٍ تُصكُّ وتُدفعُ للتجارِ الجددِ، للدماءِ الجديدةِ للقهرِ، للوجوهِ الجديدةِ للعدم. إيّاك أن تصدقَ أن لك وطن، القبرُ لك فقط، وستكون محظوظاً لأن هناك من يكترثُ أصلاً بدفنك.
الوطنُ وهمٌ، كما الحريةُ والعدالةُ والديمقراطيةُ والله، كلُّ شيءٍ وهمٌ لسببٍ بسيطٍ، لأنك لست لاعب، وإنما أنت بيدق. هذا هو الفرقُ الوحيدُ بين الحقيقةِ والوهم. الحقيقةُ أن تلعبَ أنت، والوهمُ أن يُلعَب بك. الحقيقة أن المتنازعين مستعدون لإفناءِ كل شيء، الوهم أنك تصدق أنهم يدافعون عنك وعن الوطن. الحقيقة أنك مشروعُ قتيلٍ، الوهمُ أنك مشروعُ وطن. الحقيقة أنك لاشيء، الوهم أن تصدقَ أنك شيءٌ ما. هل رأيت فعلاً وحقاً أنك لا تلعبُ مع الموت، وإنما الموتُ الآن يلعبُ بك، لا لشيء إلا ليمرَ الوقتُ بلا ملل. وهل من ثورةٍ عبر التاريخِ كانت مملةً للموت. لا، الثوراتُ دائماً عرباتٌ وقودُها أنت وقادتُها هم ومداها بعيدٌ عنك جداً، لا مكانَ لك فيه.
#إيمار_محمد_سلوم (هاشتاغ)
Imar_Salloum#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تكن من الباقين...
-
هادس
-
هكذا علمتني العصافيرُ كيفَ أكونُ من أنا!!!
-
بِرْسَاتِن أو ما يدعونه -الوطن-!...
-
إني أراكم تقتلوننا غداً...
-
بقايا خوفٍ... بقايا أمل...
-
نثرات
-
محبتي ليست للبيع
المزيد.....
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
-
مدينة حلب تنفض ركام الحرب عن تراثها العريق
-
الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في ا
...
-
-الحريفة 2: الريمونتادا-.. فيلم يعبر عن الجيل -زد- ولا عزاء
...
-
لماذا يعد -رامايانا- أكثر أفلام بوليود انتظارا؟
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|