أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن الجنابي - عالم الاهوار















المزيد.....



عالم الاهوار


حسن الجنابي

الحوار المتمدن-العدد: 257 - 2002 / 9 / 25 - 03:17
المحور: الادب والفن
    


(من كتاب العودة الى الاهوار تأليف كافن يانغ ترجمة حسن الجنابي)

-"هذا الهور"

صاح حفّاظ من مؤخرة الطرادة. اتكأ على مجذافه وضغط على كتفي كأني به يقول:

-"هذا هو عالمنا، أتفهم، انك الآن بين أيدينا !".

كان ثسيجر  يعبئ بندقيته بالبارود أثناء ذلك فرفع رأسه قائلا:

-" نعم هذا هو الهور".

كان النسيم خفيفا ومنعشا. غيماتُ بيض طرية تتحرك عبر السماء الزرقاء. كان يوما شتويا جميلا في الاهوار وواحدا من الأيام التي لايمكن إحصاؤها التي عشتها في الاهوار في السنوات اللاحقة. الفرق هو انه كان يومي الأول. منذ لحظات ارتفع خلفنا سياج عال من القصب فصلنا عن اخر مظهر من مظاهر العالم الخارجي، بما فيها مضيف الشيخ فالح وصوت السيد صروط الهادر بالترحيب. مجدفونا الأربعة، بعد أن اطمأنوا لمحيطهم، بدأوا بالثرثرة مع بعضهم باسترخاء. مجاديفهم تغطس وترتفع بفتور اكثر، تتبعها القطرات السائلة التي ترن وهي تتساقط ثانية في الماء.

مجدفو الزورق هؤلاء هم معدان نموذجيون: حفّاظ، وعجرم، وحسن، وياسين. ولو كنت متمكنا من الرسم الآن، فأظن أني قادر على الإمساك بأشكالهم بالضبط بعد مرور عشرين عاما. لقد دونت انذاك بإختصار بعض الملاحظات عن مظهرهم:

عجرم : محدب الوجه، نحيفه- عظام الصدغين والوجنتين بارزة- ذو فم واسع وبشرة صافية. يدان كبيرتان ذوات عظام ناتئة. شعر خفيف. لاشوارب. تجاعيد جانبية معقوفة بزوايا على فمه، اخذة بالتعمق. ليس جميلا، لكنه ذو قلب طيب. لايتذمر. يبتسم بسهولة وبصدق.

حسن بن محيسن: وجه مربع وأنف مستقيم قصير. عينان غائصتان متباعدتان، بحاجبين اسودين. أسنان مرصوفة ناصعة البياض. سيماء وقورة. ابتسامة خجولة. بطيء الكلام. عنيد.

ياسين: وجه منغولي واضح. عظام الخدين بارزة. عينان مائلتان الى الاعلى. شفتان حساستان مقوستان. بشرة اكثر دكنة، شعر اسود، كثيف الشعر على المرفقين والرجلين. شاربان صغيران. صوت عميق ورنان بشكل مدهش طالما يصدح عاليا. قوي جدا وبدين.

حفّاظ: حيوي، فم ممتلئ وأنف طويل منحرف باتجاهه. شعر بني، وعينان عسليتان واسعتان وزائغتان. أسنان جميلة ولسان دائم الحركة بينها. يشبه اله روماني، اسمر ومرح.

كانوا شبابا، ممتعين، يقظين، ومرحين حد السفاهة. مليئين بالطاقة المكبوتة برباطة جأش طبيعية، واحساس ابن العشيرة بما هو مقبول. كانوا فقراءا -اقل فقرا من آبائهم وأجدادهم أثناء العهد التركي، ولكن أكثر فقرا مما هم عليه اليوم. لم يملكوا أكثر من دشاديشهم ( من القطن أو الخيش الرديء)، وأغطية الرأس ( الكفيات) والعكل(1) ، والاحزمة والخناجر التي يتقلدونها دائما. رغم ذلك، فالمظهر كان مهما لديهم. فعندما نقترب من قرية، بعد هرج ومرج وغناء وتعب و مخاطر الترحال ليوم كامل، يتركون مجاديفهم، ويغرفون ماءا لغسل ايديهم ووجوههم، ينزلون اكمامهم، ويعدلون كفياتهم وعكلهم بعناية، ويمعنون النظر بمرآة صغيرة مدورة للتأكد من أن مظهرهم على أحسن مايرام. احيانا يقحم احدهم مشطا بيدي ويشير الى شعري المهمل - وهي اشارة لطيفة الى انه لو كان احدنا رثا، فسيخجلنا جميعا. وإذا ما صادف أن مكان مبيتنا متواضعا، فإنهم يهبون اوتوماتيكيا، مثل الاولاد المؤدبين في اوروبا وامريكا، لمساعدة مضيفنا المحتاج، في إعداد المائدة أو القهوة.

جنيّو الاهوار هؤلاء، وهم في قعر السلم الاجتماعي، يأخذون عادة ،في مضيف شيخ ما، مكانا متواضعا في المجلس، لكن بكبرياء لاتقل عن كبرياء أبناء الشيوخ أنفسهم. في مثل تلك الاوقات فكرت: هل يمكن ان يكون هؤلاء حقيقة سليلي اؤلئك اللصوص اصحاب الشعور المشعثة الذين اخافوا ديلا فايل فغير مكان معسكراته لتجنبهم؟ لربما -بل من المؤكد. وهم احفاد الصقور العنيفة لأفواج الجند الانجليزية والهندية، الرجال والنساء الذين قهقهوا بفرح غامر حين رسمهم مستر فريزر عام 1834؛ اؤلئك العصيون على الترويض الذين نهبوا القوافل الغنية لليونانيين القدامى، والفرس، والاتراك. هؤلاء الصبية فخورون بنسبهم وعشائرهم - وبالرغم من كونهم موضع سخرية عراقيي المدن- فهم فخورون بكونهم معدان.

إنه لشيء غريب -لم يسمع به من قبل في الحقيقة- بالنسبة لغرباء من امثالنا، ان يقضوا مددا طوال في قلب الاهوار، ويعيشون كما يفعل المعدان. لم يفعل ذلك احد من قبل. لهذا فليس مستغربا عندما رأى سكان الاهوار ثسيجر للمرة الاولى، القوا عليه نظرة متفحصة طويلة قبل ان يقتنعوا بأنه شخص غير مؤذ. وحالما اقتنعوا به، وكما فعلوا لاحقا معي، غمروه بحب صادق.

توانينا بين طرقات القصب في ذلك اليوم؛ ثم انطلقنا عبر الديمة، وهي أكبر بحيرات المنطقة. شاهدنا عدة زوارق تطفو قريبة من بعضها وسط البحيرة، ومجموعة من الاولاد شبه عراة أو عراة، غاطسين بالماء حتى نصفهم ومنشغلين بما يشبه شباك كبيرة لصيد السمك. قال عجرم:

- "هؤلاء نسميهم بربرة وهم يقضون حياتهم بصيد السمك وبيعه. يستعملون الشباك التي لانستعملها نحن مطلقا. هل نشتري سمكا؟".

-       "ولماذا لاتستعملون الشباك؟ إن ذلك أسهل"

- "نحن نستعمل الفالات لصيد السمك وليس الشباك " أجاب حسن.

-       " نعم، لكن لماذا؟ "

 -"لاندري، اننا نفعل ذلك فقط. هل نشتري سمكا؟ "

في الحقيقة إن صيد السمك بالشباك محرما لدى رجال القبائل في تلك الايام، مثله مثل التجارة. ببساطة، انها أشياء " لايفعلونها". لذا، فالمعدان يصيدون السمك ، وببراعة، بفالة خيزران طويلة، رأسها له خمسة أطراف معدنية مستدقة. يستعملون، كذلك، طعما يشّرب بمادة مخدرة(2) يشل قدرة السمك على الحركة، فيطفو على سطح الماء مخدرا، ويقومون من ثم بإلتقاطه بسهولة.

إنطلق فجأة صوت أحدهم صادحا بالغناء في السماء اللانهائية:

 "بشرتك رقيقة

           بيضاء كبياض القطن

   عيناك واسعتان كعيني غزال

   اسنانك مشرقة كالنجوم

   كيف لك ان تعرفي بأني اتعذب من الحب

   كما يتعذب مقاتل اصيب بالرصاص" (3)

استغل حفّاظ الفرصة للتمخط، ثنى راحة يده ومد إصبعه الصغير، كأنه يحمل كوب شاي، وضغط منخريه بعناية، مستعملا الإبهام والسبابة، أطلق شخيرا عاليا. غطس بعدها يده بالماء لغسلها، وواصل التجديف.

تعلق صدى الأغنية في الهواء. لكن مرافقينا لم يكونوا بمزاج رومانسي، فصاح به عجرم:

 " كيف لا تعرف انك هناك؟ الجميع سيعرف من هذا الصاروخ الذي أطلقته قبل قليل!"

 تعال هنا، وسأعطيك رفسة في عجيزتك تعذبك فعلا " نادى ياسين.

بعد توقف مؤقت جاء صوت خجول من بين القصب:

هيا، اذهبوا من هنا"

في نهاية اليوم وصلنا إلى آل مغيفط، قرية صحين الصغيرة. كانت تقع عميقا في الاهوار. وصحين هو الاخ الاكبر لحفّاظ، يكبره على الاقل بسبعة عشر أو ثمانية عشر عاما، وهو رئيس الفريكات بالوراثة "كليط" في تلك البقاع. كان قصيرا وقويا، هادئا وواعيا. رجل طيب، لربما سيقول عنه كاتب من القرن التاسع عشر " إنه انسان منضبط ". عندما رأيته يضحك على عتبة بيته-الجزيرة، كان ذلك أول مشهد لرجل بقي صديقي الى اليوم. كان سعيدا بالطبع، لرؤية حفاظ مرة اخرى. وكان سعيدا ايضا في كل مرة يغادر حفاظ البيت، كما يفعل بإستمرار ليرافقني في رحلاتي حول الاهوار لاسابيع، او ليجيء إلى البصرة. اذا كان حفاظ سعيدا، فصحين كان راضيا. وكلانا يعرف أن حفاظ يحب الترحال.

كان حفاظ مجدفا بارعا، وسيم الشكل، مرحاً ومسؤولاً، ينسجم جيدا مع الاخرين - وهذه قضية مهمة. عندما نعود إلى دار صحين، يشعراني هو وحفاظ  كأني عائد إلى بيتي. كان دار صحين متواضعا، القرية كلها متواضعة -قرية اهوارية نموذجية. تدخل الدار من فتحة تبدو كأنها شق في جدار القصب - لاشيء يشبه المدخل المقوس لمضيف الشيخ فالح. تمسح الاقدام الحافية في حصيرة الاسل والبردي الملقاة على القاع. هناك ستارة من القصب ترتفع إلى منتصف علو الجدار باتجاه النهاية البعيدة، لتفصل جهة النساء والمطبخ؛ حيث يتسرب الدخان ويتعلق كأنه الضباب، في تقوس السقف. أكياس رز وحبوب، مجاذيف وفالات، وسادات ممزقة، مطارح تنضح ما بداخلها، وصندوق خشبي عتيق قاتم بمفاصل مكسرة. هذه، فضلا عن الدجاج والقطط التي تتقافز بيننا، وصندوق خشبي صغير اخر، هي كل الأشياء المرئية في البيت.

حالما نصل، يلتقط حفاظ أكواب شاي، وهي أكواب خاصة ضيقة من الوسط لايتجاوز ارتفاعها الانجين، ويضعها على طبق معدني رديء. يغطس غلاية شاي سوداء قديمة في الماء، من على الدكة المخصصة للجواميس، غير آبه بالسخام المتراكم على سطحها، ويضعها في نار من القصب والمطّال (4)، يكون صحين قد أوقدها أثناء ذلك في منتصف الدار. يكسر قطعا صغيرة من السكر، من قالب صلد كبير، ويسقط واحدة في كل كوب. يسكب الماء المغلي فوق الشاي في القوري، ثم يضعه في النار كي يجهز إلى أن يقتنع بدرجة إعداده، فيسكبه في الأكواب. في بيت شيخ ما، تقدم ملاعق صغيرة مع الشاي، ولكن عند صحين، عليك الاستعانة بشظية قصب تكسرها من الحصير الذي تجلس عليه لتحريك الشاي. يستبدل الشاي أحيانا بقطع من الليمون المجفف فيصنع منه شرابا لذيذا. في الأوقات الحارة والرطبة قد تقدم أقداح شربت طويلة، تبدو شهية وباردة، لكنها دافئة بالطبع، بسبب انعدام وجود الثلج.

في الصيف أيضا هناك نعمة إلهية أخرى للتخلص من حرارة الجو: السباحة.  كما ترفع الحصيرة الجانبية للبيت قليلا للسماح للنسيم بالدخول؛ ولكن غالبا ما لا تكون هناك أية نسمة، فتجلس وتدع العرق يتسرب اسفل الصدر والظهر، وتعمل جهدك لتنفس الهواء الذي يشبه بخارا متصاعدا من حمام حار. وبينما أنت تسخن هكذا، يهاجمك الذباب والبعوض من الاعلى، ويزحف عليك  البرغوث والحشرات الأخرى من الأسفل. آنذاك، إن كنت قادرا على البقاء ليوم اخر، فذلك يعني انك أحببت الاهوار حقيقة.

من حسن الحظ أن مياه الاهوار تبقى منعشة وعميقة. لربما ينصحك الاطباء ضد البلهارزيا، وهو مرض يفقس في القواقع التي تنمو في المياه الراكدة. لكن حرارة الجو  تنسيك البلهارزيا أحيانا. عرب الاهوار كلهم يجيدون السباحة كالضفادع، ومنذ سن مبكرة. فتراهم يخلعون الدشاديش البالية ويتقافزون إلى الماء كأنه جزء حقيقي من تكوينهم. عندما رأيتهم تذكرت قصص الحرب العالمية الأولى عن عرب الاهوار، وكيفية انهم تعرّوا ودهنوا أجسادهم بالزيت لمنع الإمساك بهم، قبل أن يتسللوا في دجلة لمهاجمة قطار البضائع التابع للجيش البريطاني تحت عيون حراسه المجندين الهنود. تذكرت كذلك وصف معالي جورج كبل، في العام 1824، لرجل مجدف كان يصلح ان يكون " أنموذجا رائعا لهرقل ".

وفيات الأطفال بين المعدان عالية في تلك الأيام. الأقوياء فقط يمكنهم البقاء على قيد الحياة. لهذا، فرجال عشيرة الفريكات، وبالرغم من نحافتهم، فهم أقوياء جدا. وكيف لايكونوا كذلك؟. ان كل يوم من حياتهم عبارة عن عمل شاق في التجديف أو الغطس خلف الجواميس او السمك أو البط؛ أو قضاء الساعات باستعمال المناجل في قطع الحشيش أو الاسل والبردي للعلف أو للبناء أو البيع. لست متأكدا من أنني قابلت رجالا بهذه القوة بأصابعهم ومعاصمهم. واعتقد أن بإمكانهم أن يقطعوا بها رقبة رجل بلمح البصر. أيديهم واسعة، مسامية وقوية، والغريب فهي غالبا ما تكون ملساء،  وداكنة بلون الدبس بسبب حروق الشمس. أذرعهم وأجسادهم مختلفة الهزال، لكن البشرة ناعمة بشكل غريب. الرحالة الأوائل استعملوا كلمة " أشعث " لوصف رجل الاهوار وكأنه مغطى بالشعر تماما كالقردة. على العكس، فأجساد رجال الاهوار ملساء بشكل جلي، ماعدا الساعدين والساقين. اقدامهم ضخمة، عريضة بشكل غير اعتيادي، وسميكة كأقدام البدو، لكنها ذات شقوق عميقة من الاحتكاك المستمر بمتن المشحوف، والجروح اليومية التي يسببها القصب والاسل ذو النهايات الحادة كأنها الحراب. كانت قصات شعرهم قصيرة أيضا كما هي الان. اغلبهم ينمون الشوارب آنذاك كما هم اليوم والبعض ، مثل صحين، يميل لتنمية لحية قصيرة. لقد ولّت أيام الجدائل. الشعر الأشقر مألوف في الاهوار، كما يمكن رؤية عيون خضراء وزرقاء فاقعة بين العيون السود والبنفسجية.

في الصيف، ومع نباح الكلاب ونعيب وثغاء الحيوانات، يسارع فتيان القرية بقذف أجسادهم النحيفة العارية إلى الماء، فيتطاير الرذاذ من ضربات أذرعهم وسيقانهم التي لوحتها الشمس. تحل إذ ذاك أوقات مهرجانية ضاجة بالزعيق والضحك فتستثار الجواميس وتنغمس بخوارها بإفراط. الكلاب تتهستر وتقفز هي الأخرى إلى الماء. النساء والصبايا، المتأنقات بملابس براقة ذات ألوان قرمزية خضراء وزرقاء، يقهقهن ويتظاهرن بالحياء؛ وهن يتطلعن من الابواب على هذا العري الجذل كأنهن لم يشاهدنه من قبل.

تنتصب القرية في بقعة قطع منها القصب. لكنها  لم تزل مسيجة عن قرب بجدران منه. فلو قررت عشيرتك، مثلا وعلى حين غرة، مهاجمة القرية بفريق بارع من المجدفين ، فقد يمكنكم اقتحام البيت الأول قبل ان يكون هناك وقت لسكانه للرد بإطلاق النار. لكن من الممكن أيضا  ان الريح قد نقلت بعض الأصوات الخافتة فأوصلت إشارة تحذير لهم قبل وصولكم.

الأولاد الصغار أنفسهم يتنقلون بثقة بين البيوت على عوارض خشبية مصنعة محليا، أو بزوارق صغيرة تدعى الجلابية. يمكنك رؤية الجواميس وهي قابعة تمضغ على أبواب البيوت؛ تحرك قرونها الثقيلة لتفادي أسراب الذباب المثابرة. الطيور الداجنة جاثمة على السطوح القصبية المحنية، طيور الرفراف المرقطة تحوم بحثا عن فرائسها ثم تنقض كالحجر الى الماء لاصطيادها. تسمع كورس الضفادع، وتشم رائحة نيران المساء اللذيذة، والعبق الغني الذي يسيل له اللعاب: قهوة تحت الاعداد. تربط الزورق وتثب على اليابسة. تخلع حذاءك وتنزلق خلل المدخل الضيق للكوخ. تأخذ مكانا مقابلا لأحد الجدارين العريضين، فيحييك الجالسون الواحد بعد الأخر: " الله بالخير "، وعليك ان ترد التحية بالمثل لكل واحد منهم.

رجل يعد القهوة -المرأة مشغولة بإعداد الطعام خلف الحاجز- وأنت تسمع الحوار، وصوت ارتطام القدور، وبكاء الأطفال. يجلس الرجل القرفصاء بجوار النار، في الوسط قريبا من الباب. يشعل النار بحزمة من العشب الجاف بقداحة سجائر اولا، ويكوّم صفائح المطّال الرقيقة، المصنوعة من روث الجاموس، حول القصب المحترق. يضيف أحيانا قطرة أو قطرتين من الكيروسين للمساعدة على الاحتراق. يضع مقلاة صغيرة على النار ويرمي فيها قبضة من البن ويبدأ بتحريكها وتقليب حبوب البن حتى الشواء. يفرغ الحبوب في هاون معدني ويطحنها بمدق نحاسي. تسكب القهوة من وعائها الخاص خلال فتحة طويلة مقوسة تشبه منقارا. في ديار البومغيفط الفقيرة، من المتوقع ان تجد وعاءا صغيرا واحدا من هذا النوع. أما في مضيف شيخ ما لربما كانت هناك دزينة منها، تتراوح أحجامها من وعاء مهيب وضخم بارتفاع ثلاثة اقدام، يسمى كمكم، إلى أوعية اصغر حجما بارتفاع تسعة إنجات تسمى الدلال.

حانوت القرية عبارة عن هيكل صغير من القصب يرتفع عليه علم ابيض مربوط بحزمة طافية من القصب. يمكنك العثور فيه على شاي، قهوة، بهارات، تبغ بعلب معدنية، بصل، أبر، خيار، تمر، لربما فتائل لمصابيح الضغط، أمشاط، مرايا، سكر في قوالب كبيرة، ملح وفلفل. إن لم تتوفر هذه البضائع في الحانوت فإن سكان القرية يتبضعونها من الاسواق خارج الاهوار خلال زياراتهم المتباعدة لها، أو من بائع متجول يجيء بين الحين والأخر إلى القرية بمشحوف صغير هو حانوته الطافي. أما حاجاتهم الأخرى فتجهز ذاتيا: القصب لبناء البيوت والحصران، اضافة لاستعماله كوقود او لصناعة الحبال والسلال؛ والاسل للعلف. اما الاغذية الرئيسية: الحليب واللبن من الجاموس؛ السمك من الهور، الرز والقمح من الفلاحين المحليين.

من غير الواقعي، حتى في الخمسينات، تصنيف المعدان بإعتبارهم مربو جواميس وصائدو سمك فقط لايتقنون اي عمل اخر. القبائل المجاورة لهم، قبيلة البومحمد، على سبيل المثال، كانوا يفلحون الارض اضافة الى تربية الجواميس. قبيلة الفريكات، وهم معدان بدون شك، يملكون بعض حقول الرز اضافة الى تربية الجواميس. ماعدا هاتين الفئتين، كان هناك من لايملك زرعا على الاطلاق بل عدة جواميس فقط: هؤلاء الناس البؤساء هم معدان ايضا.

جميع نساء الاهوار يرتدين الحلي، وغالبا من النوع الراقي المصنوع ببراعة. بعض الاسوارات والخلاخل والحلقات وزينة الرأس تصنع من الفضة، وقد برع بصنعها الصابئة او الصبّة، وهي ديانة اقرب شيء الى المانوية ( رغم انهم يسمون على نحو خاطيء مسيحيو يحي المعمدان). لقد كتب عنهم لايارد وصفا مشوقا خلال رحلته في العام 1840 قائلا:" قابلت صابئيا (او مندائيا) او مسيحيا من اتباع يحي المعمدان -طائفة قديمة. يتنقلون من مخيم الى اخر لصناعة او تصليح الحلي الذهبية والفضية التي ترتديها النساء. اناس مفيدون، يعاملون معاملة جيدة من قبل العرب، لكنهم مقموعون على نحو مخجل، من قبل السلطات التركية والفارسية، اما لآجبارهم لاعتناق الديانة المحمدية، او لابتزاز اموالهم". كانت الطائفة، في زمن لايارد، مقتصرة على ثلاثمائة او اربعمائة عائلة يتكلمون العربية، يكتبون المندائية او الآرامية، ويحتفظون بعقيدتهم. يعيشون في البصرة على جانبي شط العرب، وكذلك في القرنة والعمارة وسوق الشيوخ. يتميزون بالوسامة وتقليديا يطلقون لحى كبيرة. يمتنع المسلمون في تلك الايام عن مشاركتهم الاكل فضلا عن التزاوج معهم. في السنة الماضية سمعت ان شابا مسلما خطب فتاة صابئية في بغداد، وهما من طلبة جامعة بغداد.

لقد حصلت لنفسي على طرادة، بحجم طرادة ثسيغر، مرصعة بنفس العدد من المسامير الحديدية الكبيرة لتثبيت الجوانب -هذه المسامير هي التي تميز الطرادة عن أي مشحوف كبير. وقد اشتركت مع ثسيغر احيانا في التنقل. اصطحبت حسن ابن محيسن وعجرم وحفّاظ كمجدفين، واضفت لهم شابا من الفريكات يدعى جثير، لان ياسين غادر كي يتزوج. فيما شغّل ويلفرد تسيغر طاقما جديدا بضمنهم شابين مرحين واثقين من نفسيهما هما عمارة وسبيتي: الاول ذو مظهر كلاسيكي تماما، والثاني كبير العينين ممتلء البنية، ظريفا بشكل غير معقول - سومريا جديدا.

كانت هناك ايام للتطواف، وساعات قضاها ثسيجر في التطبيب. لم  يشاهد المعدان في تلك الايام طبيبا إلا في حالات نادرة. كان ثسيجر يعمل ما بوسعه، بمساعدة صندوق كبير للادوية، وبعض الحقن، وتدريب قليل، وصبر غير محدود. في كل قرية كنا نحاط، بل نغمر، بما يبدو انهم السكان المحليون جميعا؛ يتدافعون، يصرخون، يقحمون الأطفال والرضع نحو ثسيجر كلما ينحي وهو يدخل سقيفة في عتمة المساء وحرارته، أو على دكة الجواميس المشمسة، وهو ينش الذباب، يحقن ابر البنسيلين، يوزع الاسبرين ودواء الدزنتري والامساك والاكزيما والمطهرات والمراهم واللفافات الطبية للجروح الشنيعة التي سببتها الخنازير. أو يختن الاولاد، وينهر اولئك الذين يبالغون بالإلحاح.

هنا برع عمارة فهو يجلب ويوزع البلاستر والمقصات دون إعياء، وبكفاءة وحنو يحضر الماء الحار، وبعناية يحسب الحبوب وهي داخل العلب، ويراقب ضد السرقة. احيانا، وفي حمى العمليات الصغيرة، يرتفع صوت ثسيجر أعلى من الصخب البشري : "عمارة ... اين المعقم ياولد؟ اللعنة عليك ياأثول" ولكن لا تتخلف بعدها مشاعر غير ودية، لان عمارة كان يحب ثسيجر.

كان مرض الدزنتيري مألوفا في الاهوار انذاك. كذلك البلهارزيا، فهذه تنفذ طفيلياتها إلى مجرى الدم ومن ثم إلى الجسم كله وخاصة إلى منطقة الحوض، وتسبب خرابا والما شديدا. أتذكر آني شاهدت رجالا بجروح حارقة، تسبب فيها نوع من السفلس غير التناسلي يسمى  (البشل باللهجة العراقية)، ووجدت انه من المرعب مجرد النظر أليها، لكنها استجابت بأعجوبة لحقن البنسيلين فشفيت. كانت هناك أيضا أمراض الدود، وعدد هائل من التهابات العيون، والتدرن الرئوي، وجروح إطلاق رصاص، وشقوق بالقصب وأشياء مرعبة أخرى.

كذلك أنا ابتدأت  بأخذ الأدوية معي . لم يكن باستطاعتي القيام بما قام به ثسيجر، ولكن حتى الأشياء البسيطة تلك كانت موضع ترحيب، وصار بإمكاني أن أرد افضال الناس عن طريق معالجتهم إضافة إلى قتل الخنازير الحقيرة.

مرت الأيام مع ثسيجر، وانتهت زيارتي الأولى. بعد عدة أسابيع أعدت الكرّة ثانية لوحدي.

 

 

----------------------------------------------------

 -1 جمع عقال باللهجة المحلية.

2 - تسمى زهر باللهجة المحلية.

3- تكرم أحد الأصدقاء من سكان الاهوار بإعطائي بيت الابوذية التالي، والذي لا أشك أنه هو بالذات الذي نقله يانغ في كتابه.

ترف مثل الكطن خدك بياضه

عيونك جالخشف يلمع بياضه

من شوكك سكم لفني بياضه

جيلة بخافجي ومعنت بيّه

 

-         4  روث جواميس مصنوع على شكل أقراص مجففة تستعمل كوقود في المنطقة.

 

ويلفرد ثسيجر رحالة انكليزي من أشهر رحالة القرن العشرين، يعتبر مكتشف الاهوار واستاذ كافن يانغ. سكن في الأهوار العراقية مدة تقارب الثمان سنوات وكتب عنهم كتابه الشهير عرب الاهوار. يناهز عمره التسعين ولا يزال حي يرزق في أحد دور العجزة بلندن وقد منحته الملكة البريطانية لقب "سير". وهو أخر العمالقة الاحياء، بعد رحيل تور هايردل وكيفن يانغ، ممن ارتبطوا بالاهوار العراقية.



#حسن_الجنابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاستبداد والتنمية في العراق
- الطغاة وهوس السلطة - العراق نموذجا
- ملاحظات حول العمل الحزبي المعارض
- ألحرب ضد الارهاب تتحول الى عقيدة سياسية
- المواطن ومحيطه في الدولة المستبدة
- إشكالية المناخ والبيئةوالديمقراطية السياسية


المزيد.....




- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن الجنابي - عالم الاهوار