تشريح ثورة

عائشة خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3768 - 2012 / 6 / 24 - 12:01
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    

كتب المؤرخ الأمريكي كرين برايتن كتابه الرائد "تشريح ثورة" في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، وأصدره عام ١٩٥٨، ثم نقحه وزوده ونشره عام ١٩٦٥ من خلال دار فِينْتجْ للنشر، والتي مازالت تصدر منه طبعات متوالية. درس برايتن الثورات الفرنسية (القرن الثامن عشر) والأمريكية (القرن الثامن عشر) والبلشفية (أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين) ولاحظ التشابهات بينها مما دعاه إلى تحديد مراحل لتلك الثورات في مجملها قد لا تشكل بدقة مراحل كل منها، ولكنها في مجملها تشكل ما أسماه بتشريح ثورة، وتلك المراحل هي:

المرحلة الأولى: تتسم بالتدهور الاقتصادي، وغضب الطبقة الوسطى على السلطة الحاكمة وانفصالها عنها فكريًا. حيث تجد الطبقة الوسطى أن مصالحها غير محققة مع السلطة الحالية وتسعى للانفصال عنها فكريًا انفصالا يصل إلى حد الانحياز ضدها ومن ثَم معارضتها، مما يضعف السلطة القائمة التي عادة ما تعتمد على انحياز الطبقة الوسطى لها واشتراكهما في التوجه الرأسمالي.

المرحلة الثانية :وفيها تضغط الطبقة الوسطى باتجاه مطالب تحقق طموحاتها وآمالها، بينما تفشل السلطة الحاكمة في تحقيق تلك المطالب فيزداد الخلاف بين الطبقتين. فتقوم الثورة التي ينضم إليها أطياف الشعب المختلفة فيتكون خليط ثائر من مهمشين، ومغامرين، وثوريين، ومثاليين، وانتهازين، ودمويين، وقادة، وغيرهم. ومع ازدياد الاحتجاجات والمحتجين ضدها، تحاول السلطة الحاكمة قمعها، ولكنها دائما ما تستخدم "القليل من العنف، ومتأخرًا جدًا" أو حسب التعبير الإنجليزي الدارج (too late, too late) وبذا تنجح الثورة بالإطاحة بالطبقة الحاكمة، حيث تفشل السلطة الحاكمة في إحكام قبضتها على الحكم، فتتخلى عنه، أو تجبر على ذلك بالقوة.

المرحلة الثالثة: قيام حكومة ضعيفة غير مجدية وغير مهنية تعجز عن التخلي عن الأنماط القديمة في الإدارة، مما يؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي بما يضر بمصالح قطاعات واسعة وعريضة من الشعب. وينقسم الثوار بين أنفسهم، ويزداد التوتر بين المعتدلين والراديكاليين. وحين يسمح مناخ الحرية بالمعارضة، يستخدمه الراديكاليون لنشر أفكارهم الراديكالية بحيث ينجحون في النهاية في الاستيلاء على السلطة وذلك نظرًا لتنظيمهم وانضباطهم، وبذا تبدأ المرحلة التالية.

المرحلة الرابعة: يُدفع المعتدلون خارج السلطة، التي يستولي عليها الراديكاليون، وتبدأ مرحلة الحرب الأهلية، أو حرب خارجية، وتتركز السلطة في يد مجلس حاكم يقوده رجل قوي. يتزامن مع تصاعد المد الديني المتشدد. حيث يكون القادة متشددين ومتحمسين ويسعون إلى التخلص من العيوب المجتمعية مثل الكسل، والقمار، والشرب؛ ويقومون بخطوات - بتغيير مسميات الأماكن والشوارع - لتعكس وجهة نظرهم المثالية. وتتميز هذه المرحلة بالعنف أو بالرعب الذي تسيل فيه الكثير من الدماء، وتزهق فيه العديد من الأرواح، ويأتي الرعب من خطر الانهزام في الحرب (سواء كانت أهلية أم خارجية) ومن حماس القادة وغياب الخبرة لديهم في إدارة جهاز الدولة الضخم والمعقد، ومن مثالية معتقداتهم. ولكن مع مرور الوقت يبدأ المد الراديكالي في الانحصار إيذانًا بالمرحلة الخامسة.

ففي المرحلة الأخيرة تعود الأمور ببطء إلى أوقات أكثر سلمًا وأكثر هدوءًا، وذلك لأن بعض الفصال "الثورية" والتي استفادت من المرحلة السابقة ليصبحوا أثرياء حرب على سبيل المثال، يخشون من زملاء الكفاح "الأنقياء" الذين لم يتلوثوا فيحاولون إزاحتهم وينجحون. فيحكم طاغية يعيد إنتاج النظام القديم فيقمع الراديكاليين، ويعفو عن المعتدلين، وتبدأ مرحلة من الحُمة الوطنية مصحوبة بخطاب ديني أقل تشددًا من المفروض في المرحلة السابقة.

وربما كان هذا الكتاب أهم ما يمكن الرجوع إليه لتفسير حالات ثورات الربيع العربي والتي انقلبت إلى مسارات غير واضحة المعالم بالنسبة للعامة. ويمكننا أن نقرأ ونفسر على ضوئه ما وصل إليه مسار الثورة المصرية على سبيل المثال. فنحن بحاجة إلى قراءة هادئة ومتأنية لمجمل الصورة بعد أن أغرقتنا أدوات التواصل الاجتماعي في كم هائل من التفاصيل تسجل كل شاردة وواردة وتمنعنا من رؤية الصورة بكاملها.

#عائشة_خليل (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات