|
أجساد سورية العميقة وأرواح سورية الظاهرة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3760 - 2012 / 6 / 16 - 08:52
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
طوال أكثر من جيل كان للسوري فم يأكل وليس له فم يحكي، على ما يقول مثل شعبي سوري عن مثال الكنّة الصالحة في عين حماتها. وفي "مملكة الصمت" السورية كان المواطن الصالح كنة النظام، يأكل ويسكت، فإن نطق قال كلاما مكرورا، خاويا من المعنى والحس الشخصي. مثاله هو معلم المدرسة في قرية "الماشي"، على نحو ما صوره المرحوم عمر أميرالاي في فيلم "طوفان في دولة البعث". المعلم مجرد محل سلبي للكلام الصحيح الذي ينتجه النظام، ويعممه عبر "الحزب" و"المنظمات الشعبية" ووسائل الإعلام على "الإخوة المواطنين". هذا الكلام الواحد يلغي شخصية متكلمه، يحجُبه ويحجِّبه. الكلام الواحد لم يجرد السوريين من أرواحهم الخاصة، بل جردهم أولا من أجسادهم الكثيرة المختلفة. "الروح" شخصية الجسد، والسوري المتوسط كان كائنا بلا روح لأنه بلا جسد شخصي. لا وجه له، أو هو بوجه مقلوب، مندار إلى الداخل إن جاز التعبير، كأنما يتوارى داخل نفسه. عيناه منكسرتان، لا ضوء فيهما، ولا تنظران إلى الغير مباشرة. صوته خافت، لا مثلوم الحد. جسده ككل منكمش على نفسه، كأنما يريد إشغال أقل حيز ممكن من المكان. وهو منسحب من مساحات الآخرين، أي كل ما هو خارج النطاق الخصوصي. الثورة أطاحت بصمت المملكة وهتكت حجابها. ما ظهر من وراء حجاب الكلام الواحد هو الأجساد الكثيرة. أجساد الرجال بخاصة لأن حجابهم سياسي. أما أجساد النساء فحجابها ديني أكثر، وظهورها لذلك أقل. لكنها شقت دربها مع ذلك إلى فضاء عام، صار محررا أكثر بفضل هذه الاختراقات الجسورة. لم يسبق أن خرجت نساء إلى الفضاء السوري العام، وشاركن في اعتراض عام عالي الخطورة، أكثر مما خلال الثورة السورية. في الفضاءات المحررة، تتجمع الأجساد وتعلو الأصوات وتنفلت الانفعالات من قيودها. في الوقت نفسه يجري تدنيس المقدسات السياسية للنظام بابتهاج احتفالي. هذه رمزت على الدوام لمصادرة أجساد السوريين وترويضها. لذلك يقترن استرجاع الأجساد بتحطيم أوثان النظام، الصور والتماثيل، وهي "فزاعات" من حيث الوظيفة، تدل على الحضور والرقابة الكليتين للنظام. وحيث لا توجد أيقونات النظام لتحطّم، توجه اللعنات لأسماء أربابه. الثورة نهاية دولة ونهاية دينها أيضا. ثائرين اليوم، يستخدم السوريون أجسادهم بوفرة في المظاهرات، يطلقون الأصوات الهاتفة أو المهللة العالية، وأيديهم تتحرك متباعدة عن الأجساد، معبرة عن العزم أو ساعية للتشابك مع أيد أخرى، وكأنما تريد إشغال أوسع مساحة ممكنة من المكان. الوجوه جسورة والعيون الشجاعة المستقيمة النظرات. ينتهكون حظر الكلام، وحظر التجمع، وحظر الانفعال الجمعي في الفضاء العام. ويحصل لبعضهم أن ينتهكوا احتكار النظام للسلاح أيضا، فيكسرون احتكاره للعضلات وللعنف الجسدي. هذا ما لا يكف عن القيام به طوال 14 شهرا السكان غير المرئيين لسورية العميقة أو المحجوبة. ومن سورية العميقة هذه سقط ألوف الضحايا وعشرات ألوف المعتقلين الآن وعشرات ألوف من تعرضوا مرة ومرات للاعتقال والتعذيب والسجن. وهذا الجمهور هو الذي اكتشفه العالم، واكتشفه السويون قبل غيرهم، وصاروا يعرفون أسماء مدنه وبلداته وأحيائه وقراه. وهو بالطبع الذي كان أُسدل على وجهه حجاب سياسي سميك، نسجه النظام بأجهزته الأمنية والحزبية والبيروقراطية، ومعه حجاب ثقافي لا يقل سماكة، تبرع به وكلاء النظام الإيديولوجيون، أو المثقفون العضويون لكتلته التاريخية. والواقع أن توظيف الجسد هو العلامة الفارقة الكبرى لهذا النمط "الشعبي" من المشاركة في الثورة والانفعال بها. ثمة نمط آخر لا جسدي، يميز عموم المشتغلين بالشؤون العامة السياسية والثقافية. يتعلق الأمر هنا بمثقفين ومتعلمين من الشرائح الدنيا والوسطى من الطبقة الوسطى، بكتاب وفنانين وناشطين سياسيين، يجدون في الكتابة في الصحف أو في المواقع الاجتماعية أو في الظهور في وسائل الإعلام، مجالات للتعبير. وقد أمن الإعلام الجديد ووسائل الاتصال الجديدة مساحات ظهور معقولة للمعارضين الداخليين "العلمانيين" منذ مطلع القرن، أدرجت أكثريتهم عمليا في "سورية الظاهرة"، وإن كقسم مَسُود، ولم يعودوا فاعلي تغيير سياسي حقيقي بأي معنى. لكن ما أدرجهم فعليا في سورية الظاهرة هو "خفة الكائن التي لا تطاق"، وقد أصابتهم بفعل فقدان الأجساد خلال ربع القرن الأخير. بفعل الاعتقال المديد، والتقدم في العمر، وتدهور القدرة التعبوية لمنظماتها، كانت الأحزاب القديمة (ومن أوساطها كاتب هذه السطور) تمارس السياسة دون أجساد، أي في الواقع دون سياسة. والسنوات المنقضية من هذا القرن هي سنوات بحث الأرواح الهائمة عن أجساد شابة مناسبة، وهو بحث سجل إخفاقا ثابتا ومتكررا. السبب على الأرجح قدم الأرواح. وما يميز نمط الانفعال غير الجسدي في سورية الظاهرة أن انشغاله داخلي أكثر، ينشغل كثيرا جدا بمواجهة أشباه في سورية الظاهرة، ويكاد يشارك النظام في عدم رؤية سورية العميقة. طوال الحكم الأسدي، حجبت سورية العميقة عن المجال العام، وحجبت المعارضة عن سورية العميقة. المعارضة التي لم تعد ترى غير النظام، وغير شركائها في سورية الظاهرة، اقترن عجزها في مواجهة النظام على الدوام بتجاسر شديد على الشركاء المفترضين في المعارضة، يتفوق في صريح مقوله وفي شحنة نبراته غالبا على أقسى ما يقال عن النظام. وهذا الصراع الداخلي يجعل مشهد القسم المسود من سورية الظاهرة أقرب إلى مشهد حرب أهلية، بدون سلاح، لكنها بالغة الضراوة؛ أما مشهد سورية العميقة فهو مشهد ثورة ضد الأسياد، و"السيد الرئيس" بالاسم، تخاض بالأجساد العزلاء أو المسلحة. الفارق الحاسم أن من يورطون أجسادهم في الصراع يموتون. سقط منهم نحو 12 ألف خلال 14 شهرا. أما من يبقونه بعيدا فلا يموتون طبعا، ليس هناك شهداء من الأحزاب القديمة ولا من المثقفين القدامى والجدد. لكن يبدو أن هؤلاء الأحياء عاجزون عن بث الحياة في أي شيء. خروج المعارضين التقليديين من السياسة يشرح أن الثورة تفجرت في عالم غير عالمهم وبعيدا عنه، ويفسر أكثر أن أشد انفعالات هذه الأرواح الأثيرية موجهة ضد بعضها. الأجساد لها مصالح، وقد تتوصل إلى تفاهمات سياسية. الأرواح لها مبادئ، والمبادئ لا تتفاهم، ولا سياسة تجمعها. وبالفعل يبدو الصراع بين الأرواح تناحريا، وإن لم يكن مسلحا بفعل قلة الأجساد. التعارض بين الثورة والمعارضة التقليدية في سورية متأصل في التباعد بين سورية العميقة وسورية الظاهرة. سورية الأولى "مادية"، رغم أنها مكونة بصورة أساسية من مؤمنين ومتدينين، فيما سورية الثانية "مثالية"، مكونة من أرواح وأشباح تعيش يائسة ومعذبة في عوالمها الخاصة، محرومة بلا نهاية من الجسد. وبين السوريتين ما يشبه جدلية السيد والعبد. السوريون الماديون يعملون على تحرير أنفسهم بالمجازفة بالأجساد، فيما السوريون المثاليون يعجزون عن التحرر لأنهم بلا أجساد. بصراع جسدها مع جسد النظام تنتج سورية العميقة معاني وقيما، وتنمو في حناياها أرواح حرة، فيما تناور أرواح مثاليي سورية الظاهرة لسكنى أجساد غيرهم، دونما نجاح.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على مشارف الحرب السورية
-
من الأبوات إلى الأنوات... جيلان من السياسة والثقافة
-
نظام الأسد بلا... أسد!
-
صورة -الشوايا- وحال منطقة الجزيرة السورية
-
الثورة وإفلاس نماذج التحليل السائدة
-
أنا والتلفزيون والثورة
-
الثورة والسلاح: خطوط عريضة من القصة
-
التجديد لغليون وحال المعارضة السورية
-
في تمثيل الثورة السورية وواقعها (الثورة هي السياسة الصحيحة)
-
حوار في شأن الثورة والسلمية والعسكرة
-
عودة إلى النقاش حول الثورة والعسكرة
-
حوار عالماشي حول الثورة السورية
-
الثورة السورية بين النزاع الأهلي والصراع الجيوسياسي
-
الثورة والمعارضة في سورية... علاقة انفصام
-
عن الثورة والمستقبل والعلاقات بين السوريين/ حوار
-
ثورة في سورية، سورية في ثورة
-
عدالة الثورة لا تضمن عدالة الثائرين
-
النظام الطائفي ليس نظام طائفة
-
الإسلاميون السوريون... توجهات منفتحة وتناقض مقيم
-
الثورة كصناعة للأمل
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|