|
شوارع المدينة
هناء شرف الدين
الحوار المتمدن-العدد: 3758 - 2012 / 6 / 14 - 18:01
المحور:
الادب والفن
شوارع المدينة أسير في الشوارع يلقيني الشارع في الآخر، أسير في أصفة مبلطة لا أسمع عليها وقعا لأقدامي. كنت أشعر بأنني أطير و لا تقع قدمي على البلاط تقذفني الشوارع غير هدا، كأن هم كبير في قلبي يضللني. ألقاني شارعا في أحضان السوق. تزاحمت فيه الناس و تكاثرت فيه الضوضاء، سرت متصفحة الوجوه و كأني أبحث عن تعابير قد ضاعت فيها فلا أرى صفحات بلا تعابير و بلا مشاعر، كانت وجوه صامتة كالصخر لا علامات بادية عليها من فرح أو حزن، إنها جافة كرمال الصحراء. الجفاف يغزو حلقي، يخنقني، لساني كقطعة خشب ثقيلة. لقد تحجرت شفتاي فما عدت أقدر على فتحها، الأصوات تتزاحم متعالية تقرع سمعي فلا أفهم منها شيء غير ضجيج حاد يصم الآذان. حاولت أن أسرع للخروج من هذا الجمع الكبير، كنت أشعر كأني وسط كيس من البلاستيك قد تم ضغطه، يكاد الاختناق و الإرهاق أن يوقعا بي وسط الجموع. دست على ألامي و إرهاقي و أسرعت ألتمس الشارع الذي يفضي بي خارج السوق. و ما إن وجدت نفسي وحدي بين المباني تحيطني بكآبتها، نظرت إلى جموع الناس تسرع في اتجاه السوق، قلت في نفسي كلهم يبحثون عن الضياع بعد أن سكنتهم وحشة الوحدة. فسارعوا للالتحام بالآخرين لسماع أصواتهم و الاستئناس بالوجوه الشاحبة. سرت في الشوارع مستغربة أحوال الناس و خوفهم من الصمت و الهدوء، سرت ملتفتة يمنة و يسرة كأني أبحث عن وجه أعرفه قد رسم على جدار أو علق في واجهة بلورية ليجلب الأنظار، فما كنت أجد شيء غير الفراغ و جدران منازل عتيقة قد بدا عليها الشحوب و الشيخوخة رغم ارتفاعها الشاهق و أنهجها الضيقة التي تشعرك بالاختناق و أنت تعبرها. كم كانت سعادتي كبيرة عندما ألقاني الشارع إلى رصيف على الشاطئ، وجدت أقدامي تحملني بخفة أكبر و نفسي تنشرح أكثر و يعود الريق إلى حلقي كما تعود الأمطار إلى الأرض العطشى، كدت أصرخ من الفرح لولا خجلي من بعض الوجوه المتناثرة في الطريق، اقتربت إلى حافة الرصيف المرتفع ووضعت يدي على السور الحديدي لكي أرتكز عليه و أرتفع قليلا لألمح البحر و أمواجه المغرية بكل الأشياء ׃ بالسباحة بين لججها، بالانفراد بالسباحة في أفكاري الغامضة. أسعدني كثيرا رؤية البحر من هذا المكان المرتفع و لقد رفعت نظري إلى الأفق حيث تتعانق السماء مع البحر في عناق أبدي، كم حلمت أن أصل إلى تلك النقطة، يا نوارس البحر أهدني أجنحتك كي أصل إليها، يا علاجيم البحر و يا مالك الحزين احملوني بينكم لبلوغها. بينما كنت سابحة في أفكاري غارقة في أحلامي و أماني إذ بصوت يقتلعني من صمتي و رحيلي في أفكاري كما تقتلع شجرة الورد لنقلها إلى حوض أخر أفضل أم أسوا فهي لا تعلم. "ماذا تفعلين يا سيدتي أتنوين الانتحار." فطفت على وجهي ابتسامة ساخرة أو مستغربة من هذا السؤال. "هل يوجد في وقفتي هذه أمر يدل على الضيق بهاته الحياة." كلا فاني أعبدها و أعشقها مع أنها تقسو عليا أحيانا و لكني أحبها و أعيشها كما هي. فقال " لكن وقفتك في هذا المكان و نضرك الى الأفق و الموج المتعالي جعلاني أتصور أنك تفكرين في عمق المكان و كم يتطلب من المقاومة للموج. فقلت ضاحكة ׃" ما أوسع خيالك يا سيدي" فأجاب "ربما، لكن يبدو من ملامحك أنك لست من المدينة." فأجبته "نعم، إنني فتاة ريفية" فقال "رأيت ذلك في وجهك، صفاءه و هدوءه، عينيك تدل على أنك زهرة برية نمت في الغابة و حافظت على رحيقها و جمالها بعيدا عن تلوث المدينة و ضجيجها." فقلت بكل هدوء "ماذا يا سيدي أتتغزل بي دون أن تعرفني، فماذا لو عرفت أني سيئة الطباع و ما إن أشعر بالخطر من حولي حتى أتحول الى نمرة شرسة." فقال "و لكني لست سبعا أجول لاصطياد الطرائد بين الأحراش و الأودية، فاني أخاف من ذكر الغابة و وحوشها." فقلت " إذن فاعلم يا سيدي أنني زهرة برية نمت في أحراش الغابة، تفتحت على جمالها و رويت من أرضها و إنني أصبح حية تسعى بين أقدام البشر، فبنعومة ملمسي يتحسسني الناس ظنا منهم أني لفافة حرير، و ببرودتي أجمد الدماء في عروقهم فلا يستطيعون إتيان أي حركة." فقال "ما أجمل تشبيه نفسك بهذا الحيوان المخيف مع أني أرى عكس ذلك و لكن ما رأيك آنستي أن نصبح أصدقاء" فقاطعته قائلة "ما أهون الصداقة لديك، تبنى في الشوارع" فقال "ولكن ألا تدرين بأن المصادفة تبني صداقات أحيانا تكون متينة إن كانت بصدق." فقلت له "حسنا، سأسجل عنوانك و سأبدأ أنا بمراسلتك" فابتسم و قال "يسعدني ذلك كثيرا، إنني في انتظار رسالتك على أحر من الجمر، أتمنى أن تدوم صداقتنا بكل ود." فتصافحنا و افترقنا كل في اتجاه و بعد مرور ردحا من الزمن كاتبته برسالة عنوانها "الزهرة البرية" إلا أنني لم أستلم أي رد و لم أرسل رسالة ثانية بالرغم من أنه ضل صديقي إلى الأبد و إن لم نتبادل الرسائل. إمضاء: الزهرة البرّيّة
#هناء_شرف_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خواطر قصيرة
-
امل
-
مناجاة
-
لحظة ميلاد
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|