علي عبد الكريم حسون
الحوار المتمدن-العدد: 3758 - 2012 / 6 / 14 - 15:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كتابات عن الناصرية
في خريف العام 1963 , تركت مدينتي الناصرية هربا من وحوش الحرس القومي , وجاء قبولي في الجامعة فرصة للأستقرار ببغداد .... في المحاضرة الأولى , وكان يلقيها رئيس القسم علينا بمادة جغرافية العراق , أعجبت بطريقة إستدراجه لنا بسؤال بسيط عن اللواء / المحافظة , التي أتينا منها ... عندما يبادر أحد الطلبة بذكر ديالى التي أتى منها , يبدأ الدكتور بسرد رائع لجغرافيتها وأهم معالمها وبم تمتاز : زراعة , صناعة , آثار . فكان ذلك أطلس سمعي شنفّ آذاننا . ويسترسل على الكوت والبصرة والموصل والرمادي . وعندما وصل السؤال لي , وذكرت الناصرية , متوقعا أن يتحدث الدكتور عنها جغرافيا , إذا به يسألني بإستفزاز واضح : هل صحيح أنكم تدّعون بأن أصلكم من أسلاف السومريين ؟؟ لم تكن لي فرصة لأبداء رأي واضح , فأنا من شريحة العراقيين الذين إن فاجأهم سؤال إستفزازي هجومي , يحاولون إسترجاع أنفاسهم أولا للحديث ثانيا . عندها لم ينتظر مني الجواب , بل بادر بطرح السؤال الكيدي الآخر : وهل لازلتم تأكلون السمك ( الجايف ) المعفن الذي تسمونه ( المسموطة ) ؟؟
كان ذلك أول حدث يجابهه إبن الثامنة عشر عاما , والقادم من مدينة تسبح بدم شهدائها وقصص أبنائها الذين دفنوا أحياء في تل اللحم والخميسية وقرب الحامية . وصرخات الآخرين في موقف الخيالة , ماثلة أمامه .
في داخلي , وبفضل الشيوعية التي تبينتها فكرا وتنظيما , تعاملت مع تحامل الدكتور , الآتي من بلاد العام سام , بإطروحة دكتوراه عن برتقالهم / برتقال كاليفورنيا / وليس عن برتقال البحر المتوسط أو برتقال (بهرز) الحبيبة ... ربما شمّ مني رائحة فهد وفكره , ربما عرف بحسه الطبقي ووعيه المتزمت , إنني من طينة ( غالي زويد ) المدافع الأمين عن ( المصاليخ ) , وأن دم بن مدينتي ( سيد وليد ) لم يجف بعد , وإن إبنا مهاجرا منها لبغداد , قد فقد أثره من دون جثة , كانوا يدعونه ( إبراهيم دوبارة ) .
قدمت لي هذه الحادثة أعلاه عذرا وفرصة سانحة لأتحدث عن تأريخ مدينتي , التي مضى على تشييدها آنذاك مايقرب المائة عام , هي ورديفتها ( الرمادي ) وأنها لم تكن نسيا منسيا قبل ذلك , بل كانت موطنا لعشائر أسفل الفرات , وهو يشق طريقه إلى ( الطار ) ومن ثم إلى هور الحمار , ليلتقي مع دجلته في ( كرمة علي ) بعد أن هجر قرنته .
ولكن هل يستطيع من هو مصاب برهاب الشيوعية أن يستوعب , أن مدينة تحفها بساتين النخيل والرمان والمشمش , وتتصل بأربع محافظات أخرى , كانت في العشرينات من القرن الماضي , تحتضن أحزاب وطنية عراقية صرف هي : الحزب الوطني والحزب اللاديني وحلقة ماركسية هي واحدة من ثلاث فقط , بجوار حلقتي البصرة وبغداد . وأن معمل ثلج (داود سلمان يوسف ) كان يؤوي يوسف أخيه فيه . وأن ( بيونر فاسيلي ) الخياط القادم من أصقاع الشمال الروسي , كان يتجول بين فلاحي الناصرية , وأن محل الخياطة خاصته كان ينشر الفكر الأممي , الذي جعل قادة ثورة العشرين , يخاطبون به ثوار أكتوبر في روسيا .. . . هل يستطيع من كان يعمل لمؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر وتحت إشراف السي أي أي , أن يعرف معنى الزهو ببستان يدعى بستان زامل . وأن الأصوات التي غردت في الناصرية كحضيري أبو عزيز وداخل حسن وجبار ونيسة , تعلمت الشدو من بلابل البستان ... وأن شابا في دار المعلمين , له من الصنايع أكثر من سبع , وأن بخته ليس ( بالضايع ) , سيكون له شأوا في الغناء , وسيرتبط إسم المدينة به , يدعى حسين نعمة , رافضا أن يكون له أسما فنيا كحسني نعيم مثلا , قائلا : ( أنا بن سيد نعمة الكصاب وجدي سيد فريح وأمي نجية ) . وسيرد لاحقا على ( أرشد ياسين ) مرافق صدام بجرأة عندما طالبه وهو منتشي بزق الويسكي أمامه : ( عد إلى مدينتك مادمت تغني لها ) ردّ عليه : وأنت عد إليها .... بالتأكيد كان يريد القول عد إلى (عوجتك ) عد أيها المتريفّ فأنت حتى لست بريفي .. فأنت وسيدك لاتحمل من أخلاق الريف وطيبتهم شيء يذكر . وأن هناك في مدينة مجاورة لها لاتبعد الا كيلو مترات معدودة , تدعى سوق الشيوخ , خرج الى سوقها , صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 , شيوعيا يدعى ( طعمة مرداس ) وهو يذبح ديكا أحمر بعرف أحمر , فرحا بالثورة وهو الخارج لتوه من سجون سعيد قزاز وبهجت العطية , التي قلعت أظافره وما تبقى من شعيرات رأسه , ولم تترك له فرصة للزواج آنذاك .
إلى بغداد وجامعتها , جئت وثلة طيبة من أبناء المدينة , متعلمين من ثانويتها , العلوم جميعا ممتزجة بأفكار مدرسيها التقدميين المتنورين , الذين مزجوا بين فكرهم وممارستهم اليومية الحياتية , فجاءت كوكتيلا رائعا من المثل والتضحية والأيثار . فذهبت كلمة مدرس الرياضيات الكردي ( موسى خليل ) مثلا للصمود في أقبية حرس (عباس حمادي وغازي سيف ) وهو يصرخ ويصدح بها ... الحديد يلين , موسى خليل لايلين .
في ممرات كلية الآداب , شاهدنا إنهيار البعث الأول بعد تشرين 1963 , وخوار بقرتهم ( هناء العمري ) مذيعة البيان الأول لأنقلابهم الفاشي والمتزوجة من جلادهم علي صالح السعدي ومن ثم بصباح المدني . وهي تصرخ ( برفاقها ) معنفة إياهم لكي لايشمت الشيوعيين بهم . بعدها إستعاد الحزب قوته وبنى تنظيماته من جديد وخاض الأنتخابات الطلابية في 1965 وفاز فيها في معاقلهم الطلابية ألا وهي كلية الآداب . وأثناءها سنحت لي الفرصة أن أرى بلطجيهم المدعو صدام التكريتي , في مبنى كليتي التجارة والحقوق المقابلة لنا , بقامته الطويلة وبشرته الصفراء المزرقة لؤما وشراسة والمنتمية لعصابات العالم السفلي , متأبطا غدارته تحت سترته التي طواها على ذراعه . وفي كلية التربية كان ناظم كزار الطالب في معهد الهندسة يصول بسكينه ومسدسه على الطلبة التقدميين .
هناك جو من الحريات النسبية , ساد عهد عارف الثاني ( عبد الرحمن ) قياسا لعهد أخيه ( عبد السلام ) مع ملاحظة أن الهجمة الشرسة على الحزب الشيوعي , إستمرت . وملاحقة كوادره وإعتقالهم بقيت وتيرتها على ماهي عليه . وحتى إطلاق سراح وجبات من السجناء السياسيين والمنتهية محكومياتهم , زمن توزر ( صبحي عبد الحميد ) وزارة الداخلية , لم يكن بمنة من النظام , وإنما لتأثير الحملة العالمية والأممية ومطالبات الحزب بذلك . ولرغبة النظام العارفي بتبييض صفحته , وفي محاولة بائسة للأنفتاح على القوى الوطنية . وقد كانت متلازمة مع حملة إغتيالات سقط على أثرها المناضل الشهيد الدكتور عبد الرزاق مسلم الماجد أستاذ الفلسفة في جامعة البصرة . ودكتورفي جامعة الموصل من أهالي الشطرة .
# لي عودة للحديث عن : (( معلمون في الأهوار ))
#علي_عبد_الكريم_حسون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟