لعلها ليست مصادفة ان تمتد الشعارات مثلثة الاطراف في الزمان والمكان بدءا بالثالوث المقدس وربما قبله وصولا الى الثواليث الخالدة لانقلابات العالم الثالث وليس انتهاء بثالوث (العرق.. الجنس.. الطبقة) الشائع اليوم لدى آخر التيارات الفكرية ما بعد الحداثية وما بعد الكولونيالية والنسوية... الخ. ولعلها ليست مصادفة ايضا ان يكون الدافع الشخصي وراء تناول هذا الثالوث الأخير والموقع العلائقي الذي يحتل فيه مفهوم الطبقة ثلاثة كتب تعرّضت له فيما تعرضت بشيء من الاستفاضة والروح السجالية التي تقف خلفها منظورات تتباعد أو تتقارب الى هذا الحد أو ذاك. وهذه الكتب هي لثلاثة من أعلام المفكرين والنقاد في أيامنا.
فأولها هو «ما بعد الحداثة أو المنطق الثقافي للرأسمالية في مراحلها الأخيرة» لفريدريك جيمسون الناقد الماركسي وما بعد الحداثي الشهير. وثانيها هو «موقع الثقافة» لهومي بابا الاستاذ الجامعي والمفكر الذي يشكل قطبا من الاقطاب الكبار في مدرسة ما بعد الكولونيالية. أما الثالث فهو «أوهام ما بعد الحداثة» للناقد الماركسي الانجليزي اللامع تيري ايجلتون. وهي كتب تنم بصورة واضحة أو خفية عن تفاعل فيما بينها سواء بالاتفاق والمصادقة أم بالرد على هذا الأمر أو ذاك.
ولا حاجة للقول ان هذا ليس بالمقام المناسب للعرض المفصّل لهذه الكتب بكل ما جاءت به، أو حتى لاستكشاف رؤية كل منها للثالوث آنف الذكر، وإنما قصارى الجهد هنا هو محاولة بسط ما ارتسم في الذهن من صورة لهذه القضية بأبعادها المختلفة وملابساتها الخلافية مما أسهمت في بنائه هذه الكتب الثلاثة وغيرها.
ربما كان أهم ما أسهمت به التيارات الفكرية والسياسية الجديدة (ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية، الحركة النسوية، حركة التصويب السياسي الامريكية وغيرها) هو انها كانت صوت أولئك المذلين والمهانين من النساء والاقوام والشعوب المعذبة والمضطهدة، وانها عبّرت عن اعتلائهم منصة الفعل ومجيئهم الى التعبير،
حيث طرحت قضايا التمييز الجنسي والاثني على جدول أعمال السياسة بصورة سوف يصعب معها كثيرا شطبها من قبل ان تُحلّ. وهو أمر يرى البعض انه يغفر لهذه التيارات ما تقدم وما تأخر من اخطائها، خاصة انه يأتي بمثابة نقد جذري لتلك الديناصورات الماركسية ممن أهملوا هذه المناطق وتخيلوا ان ثمة قوة واحدة وحيدة للتغيير الاجتماعي هي الطبقة العاملة (وربما حزبها أو أمينه العام) التي تتكفل ثورتها بصورة آلية بحل جميع ما يعتري البنية الاجتماعية من ضروب البلاء والمشاكل سواء كانت قومية أو جنسية أو سواها.
والحق ان مقولة «الطبقة الاجتماعية» ترد في أدبيات هذه التيارات الجديدة بوصفها عنصرا في الثالوث الذي يضمها الى جانب العرق والجنس، وهو ورود غالبا ما يتم دون اجراء ما ينبغي من ضروب التمييز بين هذه الجماعات الثلاث، الأمر الذي يدفع الى تبين منطق معين يقف خلف مثل هذه الصياغة ويمكن اختصاره بما يلي: 1ـ العرقية أمر سييء، وكذا التمييز بين الجنسين ومثلهما ذلك الشيء الذي يدعى بالطبقة.
2ـ بعض البشر يعانون الاضطهاد بسبب جنسهم، وبعضهم بسبب عرقهم، وبعضهم الآخر بسبب الطبقة التي ينتمون اليها.
3ـ ما تشترك به هذه الجماعات الاجتماعية الثلاث هو واقعة ان انسانيتها الكاملة تنكر عليها في الشروط الراهنة، حيث يكتفى بمعاملتها تبعا للتجريد والاختزال الذي تنطوي عليه كل مقولة من هذه المقولات الثلاث.
ويبدو هذا المنطق في الظاهر وعلى السطح منطقا بسيطا ومقنعا بل بديهيا، غير ان امعان النظر في الأمر كفيل بأن يدفع المرء الى مزيد من الأسئلة والشكوك.
فهل من الصحيح، أولا ان الطبقة أمر سييء؟ أليس في هذا القول نوع من الرؤية الاخلاقية التي لا تكترث بالتاريخ وتصل بالتعميم الى درجة يأباها حتى الحس السليم؟ هل كانت البرجوازية سيئة حين دكّت بكل شجاعة عروش الاستبداد وأورثتنا ميراثا وضّاء من الحرية والعدالة وحقوق الانسان وثقافة فائقة الجلال، وذلك حتى لو كانت هذه الأيام أمرا سيئا على العموم؟ أم ترانا هنا أمام ضرب من الرؤية النزقة التي تحول الفكر وعلم الاجتماع، خاصة الى حكم سريع وقاصر يرى في الطبقة أمرا مزعجا بعيدا عن اللطافة شأنها شأن الملح الزائد أو التدخين، على حد تعبير ايجلتون الساخر.
وهل من الصحيح، ثانيا ان هنالك صفات معينة يبديها بعض الافراد فلا تلبث ان تفضي الى تصنيفهم في طبقة مما يؤدي تاليا الى اضطهادهم؟ ام ان الأمر يتمثل، على العكس، في ان الانتماء الى طبقة اجتماعية هو بالضبط ان تكون مضطهَدا أو مضطهِدا؟ فالطبقة بهذا المعنى الأخير هي مقولة اجتماعية تماما وبالكامل، بخلاف كون المرء امرأة أو كونه يحمل لونا معينا،
فهذان الأمران الأخيران، اللذان ينبغي ألا يخلط بينهما وبين كون المرء انثويا أو هنديا أحمر، هما مسألة تتعلق بالجسد لا بالثقافة التي ينتمي اليها الشخص. وبعبارة اخرى، فإن الصياغة السابقة تساوي بين اضطهاد بعض البشر لكونهم نساء أو من عرق معين واضطهاد بعضهم الآخر لكونهم من طبقة معينة،
الأمر الذي ينطوي على نوع من الخداع أو الضلال، إذ يغفل ما هو خاص ومميز بشأن تلك الاشكال من الاضطهاد التي تتحرك في الفضاء الفاصل أو الواصل بين الطبيعة والثقافة. فاضطهاد النساء هو مسألة تمييز بين الجنسين، أي انه بناء اجتماعي بكل ما للكلمة من معنى، غير ان النساء يُضْطَهَدْن بوضعهن نساء، الأمر الذي ينطوي على نوع من الجسد يصادف ان يمتلكه المرء. أما ان يكون الواحد برجوازيا أو عاملا، بالمقابل، فهو مسألة لا علاقة لها بالبيولوجيا مطلقا. وربما أمكن لنا ان نتصور في الماضي
وربما في المستقبل مجتمعا ليس فيه برجوازية أو بروليتاريا، مع ان من الصعب ان نتصور مثل هذا المجتمع دون نساء وصينيين. ومن ثم فإن العلاقة التي لا تنفصم بين بعض الطبقات (كالطبقة الوسطى الصناعية والعمال مثلا) هي علاقة لا توجد بين الاجناس أو الاعراق. بمعنى ان ما من مجتمع يمكن ان يشتمل على البرجوازية دون ان يشتمل على العمال،
في حين ان المقولات الجنسية والاثنية ليست متبادلة التكوين على هذا النحو الكامل والكلي. فالذكوري والانثوي، شأن الصيني والامريكي من أصل اسباني، مقولتان تتبادلان التحديد دون شك، غير ان أحدا لا يصطبغ جلده بلون معين لأن جلد سواه قد اصطبغ بلون آخر، أو يكون ذكرا لأن آخر هو امرأة، على النحو الذي يكون فيه بعض البشر فلاحين فقراء لأن سواهم أسياد يملكون الأرض.
أما ثالثا، فإن البقاء عند مستوى اشتراك هذه الجماعات الثلاث بانكار انسانيتها الكاملة عليها هو بمثابة اقتصار على اطلاق حكم اخلاقي محض واصرار على عدم تجاوزه بما يقتضيه العلم والواقع. والحق ان هذه التيارات الجديدة التي تنتقد السرويات الكبرى (وعلى رأسها التنوير والماركسية) تقتصر كثيرا عما أتت به حركة التنوير الماركسية. فبصرف النظر عن موافقتنا هذه الأخيرة أو عدمها، فإن اهتمام الماركسية بالعمال لم يبق عند هذا المستوى الأخلاقي، فما يجعل العمال قوة كامنة للديمقراطية الاشتراكية، تبعا للمنطق الماركسي، ليس كونهم يعانون كثيرا.
ولو كان الأمر متعلقا بالمعاناة والبؤس لكان ثمة مرشحون كثر لاحتلال هذا الموقع السياسي (كالمتشردين والفلاحين الفقراء والسجناء والمتقاعدين والطلاب والفقراء...) وما تدقق فيه الماركسية أبعد من المعاناة والبؤس، هو توضّع الجماعة الاجتماعية ضمن نظام الانتاج. فهذه الجماعات البائسة ليست متوضعة مثل العمال ضمن هذا النظام وليست منظمة من خلاله ومتكاملة معه مثلهم بحيث يكون بمقدورها ان تسيره على نحو تعاوني.
ومن ثم فإن المسألة ليست مسألة نزاع حول أية جماعة مضطهدة هي التي ينبغي رفعها الى أعلى عليين، ذلك ألا خيار في هذا الأمر اذا كنا نؤمن بأن أحدا لا يستطيع ان يحرر أحدا آخر. فضرورة ان يقوم ضحايا القوة الظالمة بتحرير أنفسهم من هذه القوة هي مسألة مبدأ ديمقراطي. وطبيعي ان هذا يعني في ميدان الانتاج المادي أولئك المتضررين بصورة مباشرة من القوة الظالمة القائمة هناك. وطبيعي ايضا ان ما يستتبعه هذا المبدأ هو ان النساء، وليس العمال، هن قوى التغيير السياسي حيث يتعلق الأمر بالبطريركية.
والحق ألا مجال لانكار المنظور الذي يميز تناول الماركسية لمفهوم الطبقة بالقياس الى هذه التيارات الجديدة. فماركس لم يكتشف الطبقة الاجتماعية بالطبع وذلك لأنها كانت موجودة قبل ان يولد بقرون كثيرة. وتمثل أطروحة ماركس الأهم بأن ولادة الطبقات الاجتماعية ونموها وموتها فضلا عن الصراعات فيما بينها هي أمور مرتبطة بأساليب الانتاج المادي التاريخية. والماركسية بهذا المعنى هي نظرية في الدور الذي يلعبه الصراع بين الطبقات الاجتماعية في سيرورة واسعة من التغير التاريخي.
127 ﺩﺩﻋ ﺔﻔﺎﻘﺛﻠﺍ ﻥﺎﻴﺑ