|
ذكريات اللاذقية 11: الجَوى
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3753 - 2012 / 6 / 9 - 11:48
المحور:
الادب والفن
" يا ناس عجيب، سحر الجفون أخذ مني قلبي " هذه الكلمات، هيَ من دور رائع لصالح عبد الحي، كنتُ أستمع إليه في مُبتدأ سهرَتي مع القلم والورقة؛ كلمات، ما تفتأ في ذاكرتي، بله ما تني ولا مَراء في ذاكرة الملايين، المُنهَبلة بها مثلي سواء بسواء، وعلى الرغم من توالي العهود والحقب. إذ ذاك دَعوتُ الذكرى، المؤرقة عينيّ قلبي، أن تعيدَ لي صورة " ساحرة الجفون "؛ أن تعيدَها لي بكل بهائها وكمالها وعذوبتها، وكما لو أنّ ثلاثة عقود ونيّف من الأعوام قد استعيدتْ بدَورها من عَدَم الماضي. إنها صورة، آبدَة، شافهَها قلبي من ركام العُمْر البائد، الآفل. وعلى السَجيّة نفسها، كان على سِحْر الجفون أن ينتزع مني القلب؛ أن ينتزعني مني؛ بما أنني مَوْسومٌ باسمِهِ. على مدارج الذاكرة؛ في ذلك الملحق ذي الشرفة الواسعة للغاية، والتي وُجدَت كما لو أنها غايَة لنفسها؛ ثمّة، إذن، ستعبُرُ بَرْزخاً يضمّ صورة وتخطيطاً. إلى رَسمٍ آخر في حجرَة الايجار، مُرَقش بالطبشور الملوّن، يَطلّ على سريركَ من الحائط المُقابل. بابُ الحجرَة، المُترّس على أسرار عشقك، يُفضي بخطوكَ خلل المَمرّ المؤدي للشرفة. هذه الشرفة، أحسَبُها ما وَنتْ في حفظِ رَسمِكَ، المَنقوش بالمادة نفسها، على الحائط القائم من جهة نافذة المَطبخ. وأيضاً تخطيطكَ لكلمة " وداعاً "، التي كتبتها بالفحم الأسود على طرَف الشرفة، المُواجه لشرفة الحبيبة، في آخر يوم أجيز لكَ أن تقضيه هنا. في مُلحق البناء، المُقابل، كانت هيَ من فاجأتْ قيلولتك، الرَخيّة، بجلوسها هناك مع جارتها. هذه الأخيرة، المُضيفة، سَبَق وتندّرَتْ في لقاء مع صديقها، الرقيب المجند، بمن دَعَته " صديقكَ المَهووس بالرّسم والقراءة "؛ وأنه كان يتوغلُ في جوف ليلة الأمس سَعياً لتخطيط صورَةٍ ما. ولكن، هوَ ذا عصرُ اليوم التالي، عليه كان أن يَفضحَ سرَّ الرّسم ذاك، ما دامتْ صاحبَة الرّسم، البهيّة المُشرقة، ستعاينهُ بنفسهاعن بُعدٍ مُناسب. هوَ ذا مُلحقٌ يُقابلُ مُلحقاً؛ شرفة ٌ تطلّ على شرفةٍ؛ حبيبة ترى صورتها في رَسْمِ حبيبٍ. *** قرابَة عشرة أمتار، حَسْب، تفصل شرفتنا عن شرفة المُلحق المُتركن بإزاء بنايتنا. بيْدَ أن عينيّ، في واقع الحال، كانتا قد وقعتا على صاحبة " الجفون الساحرة " ثمّة، عَبْرَ نافذة غرفتها، المُترائية بجلاء من نافذة حجرَة جاري " بوز الكلب ". كنتُ وهذا الصديقُ، إذن، نتبادلُ ورقَ " الكونكان "، حينما لحظتُ أنّ عينه، ذاتَ الحَوَل الخفيف، قد حادتْ عن اللعبِ إلى التمعن بجهة النافذة تلك. عندئذٍ، وما أن رفعتُ رأسي لألقي نظرة عابرَة، مُماثلة، حتى لبثتُ مُلتخاً نوعاً: رأيت عندئذٍ صبيّةٍ في أوان ربيع مُراهقتها، ذات تقاسيم مُتناسقة وأطرافٍ مُدَملجة. " هذه الفتاة، عصيّة على الترويض.. "، ابتدأ صاحبنا في التجديف. ثمّ أضافَ موَضّحاً: " الملازمُ ذاك، المُجند، الذي حلّ في حجرَة المرأة الحمويّة، لوّحَ لها أكثر من مرة بأصبع البنصر؛ علامة على خاتم الخطبة. ولكن، عبثاً " " دَعَنا من هذا وتلك، على السّواء "، قلتُ له بَضجر مُعَقّباً. غير أن المُجدّف، لم يَرعو. فإنه عادَ ليقول وكأنما يُخاطبُ ذاته، هذه المرّة: " ما هذا الحظ، السيء..؟ ". فسألته، وعيني على اللعب: " أوراقك ممتازة، فلِمَ الشكوى؟ ". عند ذلك، ضربَ بيده على الورق مُتأففاً: " ولكن، رحماك، أنا أشكو من قلة حظي وحيلتي. فماذا كان جرى للعالم، لو أني حظيتُ بدلاً عن هذا الجارة، الباردة، بجارة أخرى، مَمحونة، مثل تلك المرأة التي لا تشبع من الجماع "، قالها وهوَ يُشير برأسه إلى ناحية البناء الآخر، حيث يشتعلُ دائماً ضوءٌ أحمرَ في نافذة إحدى حجرات النوم. وكنتُ على علم، بطبيعة الحال، بمَقصَد كلامِهِ. وها هوَ يتناهضُ بهمّة، لكي يتوجّه إلى السطح: ثمّة، سيكون عليه قضاءَ شطرٍ من الليل، طويلٍ أو قصير، في التلصص على الغرفة نفسها؛ التي دأبَ على امتداح أفانين الباه، المُعتملة فيها. شريكي في الحجرة، الرقيب المجند " زين "، لم يكُ ليتحمّلَ أياً من ذينك المُجندَيْن، المُستأجرَيْن لدينا في الملحق. وبالتالي، فإنّ غياب هذا في غياهب سجن الشرطة العسكرية، لأكثر من اسبوعين، عليه كان أن يَجعلَ " بوز الكلب " على صلةٍ بي، وَطيدة. " سيف "، زميله في الغرفة كما وفي الخدمة، كان يَقضي جلّ وقته عند مواطنه " عوض "؛ الذي يقيم بالإيجار مع أسرته في الحيّ البائس، المَنعوت باسم اللاجئين الفلسطينيين. على أنّ عدداً آخر من المُجندين، كانوا يَشغلون حجرات الدور الثاني من البناء ذاته، ممن دأب بعضهم على التواجد عندنا، وخصوصاً على الشرفة. في ظهيرة أحد الأيام الشتوية تلك، وكنتُ عائداً للتوّ من المُعسكر، إذا بشخصٍ يَقتحمُ عليّ الحجرة بلا استئذان، ليتوجه رأساً نحوَ النافذة المُطلة على الجهة الخلفية: " آآآه، يُسْريّة.. يسرية "، قالها بنبرَة عرب البادية، ثمّ استطردَ وهوَ ما يني يطلّ برأسه نحوَ شقة مالك البناء التي تقع تحتنا مباشرة ً: " إنها مُعتادة على تبديل ملابسها ثمة، في حجرة نومها و... ". ولكنني، بطبيعة حالي وخلقي، لم أدعه يُكمل هذا الهراء. فصرخت فيه وأنا أكشه من الغرفة بدفعة من يدي: " ما هذا، يا بهيمة؟.. هل تعتقدُ أنك داخل على زريبة؟ ". لبثَ يتطلّع فيّ لحظة، ثمّ انفرَج فمه عن ابتسامة متذللة: " الله يسامحك، يا أخ. هذه، كانت حجرتي من قبل. وكم أنني نادمٌ لتركي لها "، خاطبني بتودّد وما عتمَ أن ولّى من المكان بنفس السرعة التي قدِمَ فيها. *** " يسرية " هذه، المَوْسومة على لسان ذلك المجند، كنتُ قد رأيتها في مساء ذات اليوم، الشاهد على حلولي هنا. إذ ذاك، كنتُ على الشرفة مع المُجندَيْن، الآخرَيْن، نتبادلُ الحديثَ في أمْرِ احتجاز " زين " من لدن الشرطة العسكرية، وقد ضاعف الجوّ المُدلهمُّ بالسّحاب من غشاوة عين العَتمة. ثمّ ما عَتمْتُ أن تركتهما، عائداً إلى حجرتي لشأنٍ ما. حال دخولي الغرفة، المُظلِمَة إلا من بَصيص النور في الرّدهة، شئتُ المُراوحة قليلاً بإزاء النافذة تلك؛ والتي عرفتُ لاحقاً أنها تطلّ على حجرة نوم بنات المالك. فما أن ألقيتُ نظرَة خاطفة، عابرَة، إلى الخارج، حتى تعثرَتْ بمَشهدٍ غريب: خلل زجاج نافذة غرفة النوم، تبدّى لعينيّ ما خيّل إليهما أنه شخصٌ ما، ملمومٌ كله بملاءةٍ بيضاء، ناصعة. في الوَهلة نفسها، التي راودتني فيها فكرة أنّ هذا هوَ جسم فتاة، إذا بالظن يُضحي يقيناً؛ وإذا بالغطاء يُرفع بحركة حاسمة، مُباغتة: صبيّة، تبدو بمقتبل عُمْر المُراهقة، كانت اللحظة تشكّ في عينيّ لحظُها السّديدَ، المُرَيّشَ من مُقلتيْها السود. دقيقة ٌ، أو نحْوها، بقيَ كلانا على تواطيءِ النظرة ذاتها، ليُخرجنا منها ظهورٌ آدميّ آخر؛ في نافذة حجرة جيراني، هذه المرّة. " ولكن، لِمَ أنتَ مُصرّ على الإنكار؟.. "، قال لي " بوز الكلب " وهوَ يَحثني على الإفضاء بما عايَنته عيني، هناك في حجرتي. ثمّ استطردَ الأخرق، مُستفهماً من جديد " لا بدّ أنها يسرية؛ صاحبة الشعر الأسوَد. لا..؟ وإذن، هيَ أمينة؛ الشقراء؟ ". بيْدَ أنني تذرّعتُ بالسكوت، فيما بصري ما يفتأ معلّقاً بأوراق اللعب. ينبغي التنويه بأنّ زميلنا هذا، ربيبَ هتك أستار المحارم، ما كان من شيمته التلصص على الملابس الداخلية للفتيات، ولا حتى على عريهنّ الرَخِص، المَبذول. إن كونه متزوجاً، ربما يُفسر لهاثه خلف مناظر المُضاجعة، السرّية. على ذلك، فإنه حينما كان يُشدّد على الاستجواب بخصوص فتاة النافذة، فمن باب الفضول لا أكثر. من جهتي، فإنّ فكري ما لبثَ أن ذَهَلَ عن التسلية، في انشغالِهِ بما جدّ ثمّة في حجرة البنات: " يسرية "، وقبيْلَ ذلك الظهور، الدّخيل، كانت قد أبدَتْ حَرَكة ً تشي، ظاهراً، بتململها من نظرتي المليّة، المُثبتة في هيئتها. عندئذٍ، رَفعَتْ ذراعها العاري لكي تطويه خلف رأسها؛ لكي تؤرّث جذوة الخمر في إبطها ونحرها ونهدها. بالمُقابل، فإنني للحقّ أخِذتُ على غرّة بمنظر الفتاة، المُغري، وليسَ إعجاباً بها، خالصاً. فهيَ، وإن تكن ذات ملامح لطيفة وبشرة رائقة، إلا أن جمالها كان من غير النوع الذي ترغبه ذائقتي، المُتطلّبة. بضعة من أيام أخر، عليها كان أن تمضي قبلَ أن ألتقي بمَن تباري الحُوْر في الحُسْن الأخاذ، الجدير بالخلود. عيني، التي حقّ للمفاجأة أن تشدّها إلى النافذة، لتتسَمّر دقيقة ثمّة؛ هذه العين، جاز لها الجمودُ لساعةٍ على الشرفة، في مَوقفٍ آخر. " هيَ "؛ كان ما يزالُ ضميراً، مُنفصلاً، يَفصلني عن مَعرفة اسم تلك الجارَة، الصبيّة، التي تراءتْ لي قبلاً عَبْرَ نافذة حجرَة جارَيْنا، المُجندَيْن. هيَ نفسها، ستجعلني في ليلةٍ تاليَة أنكبّ حتى مُنبلج الفجر، هناك على طرَف الشرفة. مُبتدأ الأمر، تمثلَ في ظهوري ثمّة وبيدي كتاب مُقرر التاريخ، تحضيراً لامتحان الدورة الأولى في جامعة دمشق. ساعة تقريباً، كانت تفصلنا عن مُنتصف الليل؛ ساعة، جعلني ظهورُ الفتاة ألتزمُ كصَنَمٍ بلا حَوْل في ركن الشرفة، المُحاذي لشرفة شقة أسرتها. أثناء ذلك، كان القلمُ في يدي يخط على إحدى صفحات الكتاب، البيضاء، ما شاءَ لهُ هوى الشقراء. على غرّة، وفي غمرَة حَرَجي وعَجْزي، أتتني فكرة خرقاء: أن أنتزعَ الصفحة من مَوْضعها، لكي أقذف بها إلى تلك الناحيَة، الحبيبَة. فما أن انطفأ ضوءُ مصباح الشرفة الكهربائيّ، الخافت الإنارة أصلاً، حتى كانت ورقتي، المَطويّة بعنايَة حولَ القلم، قد طارَتْ نحوَ هَدَفها. لثلاث ليال، كانت الأوراق تتساقط عبثاً فوق تلك الشرفة، العصيّة. حتى جاءت الليلة الرابعة، الأشبه بليلة القدْر. إذ ذاك، وما أن عدّتُ إلى الشرفة، بُعيْدَ رَمي ورقتي الأكثر جدّة، حتى خفق القلب بجَزع مُتماهٍ بالفرَح: الورقة نفسها، هيَ ذي، مُرتدّة على أعقابها؛ مُتهالكة على أرض الشرفة. تناولتها بلمح عماء البَصَر، ثمّ اتجهتُ نحوَ حجرتي. ثمّة، ما أن فتحتُ طيّات الرسالة، حتى رأيتُ اسماً يُرقش أسفلها: " مهتاب ". [email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذكريات اللاذقية 10: الجائحَة
-
ذكريات اللاذقية 9: المَسْغبة
-
ذكريات اللاذقية 8: الجَماعة
-
ذكريات اللاذقية 7: المُسخَرون
-
ذكريات اللاذقية 6: بهاليل وأبالسة
-
ذكريات اللاذقية 5: مَراتب وحجّاب
-
ذكريات اللاذقية 4: الطريقُ الخَطِر
-
ذكريات اللاذقية 3: مدير الندوة
-
أوديب على أبواب دمشق
-
حكاية كتاب 3: التجربة
-
حكاية كتاب 2: الرّحلة
-
حكاية كتاب: الاكتشاف
-
طيورُ الظلام: اسلامٌ مُسيّس وفساد سلطويّ
-
فيلمُ الغموض والغرابة
-
أسمَهان 2012؛ لحنٌ لم يَتمّ
-
الفعلُ الشعبيّ في فيلم رَيا وسُكينة
-
المطبخ التركي
-
مُريدو المَسجد
-
ذكريات اللاذقية 2: جبل الأكراد
-
أدونيس؛ مفرد بصيغة الطائفة
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|