أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - انمار رحمة الله - اللعنة















المزيد.....

اللعنة


انمار رحمة الله

الحوار المتمدن-العدد: 3751 - 2012 / 6 / 7 - 17:21
المحور: الادب والفن
    


لم يصدق الجالسُ في غرفته وحيداً، أن الوقت مرَّ من أمامه من دون أن يفعل شيئاً أو أن يحرّكَ ساكناً. حين لم يتبقَ إلا ليلة واحدة تفصل بينه وبين الموت، ذلك المخلوق الداكن المخيف، الذي تهابه الكائنات، وتكره لقاءه الأرواح. تساءل وهو يحكُّ خدَه برفق عن شيئين يلحّان عليه، الأول موعد هام يتكرر عليه كل ليلة نسي تماماً ملامحه، مع من..؟ وأين..؟ ولماذا..؟ والثاني نسيانه لإسم المرأة التي دخلت إلى غرفته، ووضعت أمامه طبق طعامه البسيط، حاول مناداتها باسمها، ولكن لسانه تخاذل كما تخاذل من قبل عدة أشهر حين أراد أن ينادي على رجل مرَّ من أمام دكانه في السوق الكبير(أنا اعرفه جيداً .. إنه صديق قديم) ،ولما يئس من استحضار اسمه جلس متحيّراً في سبب نسيانه، ثم عاد إلى حياته اليومية غير مكترث، مادامت الدنيا تعطيه كولد مدلل، وما دام الدكان ينثر على رأسه النقود بلا حساب أو مشقة، مع انه يعيش كالمحتاج مع كل الثروة الكبيرة المختفية في بواطنه وسره. لكن تحيّره زاد هذه المرة وصار مقلقاً لما نسيّ أي الورقتين النقديتين عليه أن يرجعها إلى متبضّع ريفي. وقف طويلاً ينظر إلى العملتين اللتين بدتا متشابهتين في نظره، مما دفعه لسؤال المتبضع : ماذا أُرجِعُ لك..؟.
لم يزرْ طبيباً في حياته؛ مبرراً أن النقود لا يجب إحراقها في تنّور الأطباء، ولم يساعد فقيراً في يوم لاعتقاده أن الفقراء لهم ربٌّ يعطيهم. قليلُ الأكل لا يحب التبذير، من البيت إلى الدكان يروح ويرجع مشْياً حتى لو كان الجو ساخناً كالجمر أو بارداً كالثلج. الشيئان الوحيدان اللذان عكـّرا مزاجه/أرهقاه /أتعباه، ألمٌ و التواءات يتربصان به كل حين، ونسيانه للحاجات والأسماء والذكريات التي عاشها، حين بدأ يتسلَّل الأخير إلى غرفة ذاكرته كاللص في الليل الحالك، ولم يدع له صغيرة من ذكرياته إلا وسرقها، تاركاً الكبيرات إلى موعد آخر ومناسبة أفضل.النهر الذي تمدَّد على شريطه الرملي الناعم سنينَ عديدة، نسي أسمه أيضاً، وحين أراد استذكاره في مجلس كبير.. صمت، لأنه خشي ضحكات الأصحاب والجلّاس، حتى أنه نسي أسم صديق له، سرقه النهر ذات صيف، حين كانوا صبية يسبحون، وعبثاً حاول استحضار اسمه /لقبه /أو حتى ملامحه التي بدأت تذوب من على جدار ذاكرته المتآكل، كما تذوب الأصباغ الرديئة. المصيبة الأشد أنه يذكر دفعة واحدة حين لا يريد التذكر وينسى حين يكون محتاجاً للذاكرة، فيظل يبحث عن التّذكار كما يبحث المدمن عن شيء يُخْرِس صراخ إدمانه.
أخيراً اقتنع بوجوب الذهاب إلى الطبيب الذائع الصيت، التقط أفضل الملابس عنده وكأنه سيشارك في حفل زفاف، فرَّشَ أسنانه المصفرّة، واقفل الباب خلفه متجهاً صوب الشارع المؤدّي إلى عيادة الطبيب. بعد إنهاء الطبيب لفحوصاته اخبره أن المزيد ينتظره وستنتهي الفحوصات كاملة بعد أسبوع (دكتور...عندي سؤال أخير) هكذا نبس مخاطباً الطبيب كما يُخاطبُ المتسوّل المارّة، فرد عليه الطبيب(نعم ماهو...؟). فعاجله العجوز ذو الشعر الأشيب(يداهمني النسيان بشكل غريب ولا اعرف لماذا..؟!). رفع الطبيب رأسه ناحية وجه المراجع النحيل، وطلب منه التوجه إلى طبيب آخر كتب اسمه على ورقة صغيرة ألقاها أمامه ببرود .
مرّ الأسبوع حاملاً كساعي البريد رسائل تنذر بالمفاجآت والأخبار، لم يصدّقْ وهو يطالع الطبيبَ يقرأ عليه علّته كما يقرأ الحاكم حكمَ الإعدام على المتهم. (أنت مصاب بمرض خبيث ... ومؤكد لنا علمياً وفاتك بعد شهر .. أو شهر وعدة أيام .. الله يكون بعونك ... تجبّر بالله).
لم يكن له ولد يحمله من باب العيادة يتكئ على ذراعه، ولم يكن له صديق يواسيه في أعظم محنة تصيب الإنسان. لم يجد في تلك اللحظة غير أن الطبيب انتصب واقفاً، وتقدم نحوه مطبطباً على كتفه النحيل المتعب، واضعاً في كفِّه بعض العبارات المواسية كما توضع النقود في كفِّ أي مستعطٍ رخيص. حاول الوقوف والانتصاب على قدميه الراعشتين، ناضل من أجل استجماع فتات شجاعته ووقاحةٍ ونزقٍ قديم. حاول ولكن عبثاً يحاول في مواجهة هذا الإعصار الذي عنوانه الحتف. خرج من العيادة كما يخرج اللاعب الخاسر من صالة القمار، متجهاً إلى منزله، فلفتت انتباهه لافتة الطبيب الآخر، الذي أبلغه أنه مصاب بـ (الزهايمر) وانه على وشك أن يفقد من ذاكرته نصفها أو ربعها، وإذا كان ذا فألٍ سيٍّء، فإنه سيفقدها كلها. يالهذه النكبات التي تتوالى على الإنسان، هذا المخلوق اللدُنُ الضعيف. فقدان للذاكرة ومرض فتّاك .. اي والله.. فأل سيّء) قال جملته هذه معزّياً نفسه التي باتت مهتاجة ومتحيّرة .
الدكان المقفل شاهدٌ على انعدام العمل والإستمرار، والمنزل الصامت شاهد آخر على انتظار عاصفة ترعد بالقدر. نسي كم لديه من نقود، ونسي أسماء أهله وأقاربه، نسي اسم المدينة التي يسكنها منذ ثمانين عاماً، ونسي أين يقع الشارع الفلاني والسوق الفلاني والعطار الفلاني والحلاق الفلاني. نسي أسماء الألوان وأسماء الطيور والحيوانات، نسي أسماء الخضروات وأسعارهن وطعمهن، نسي أسماء الرؤساء الذين حكموه منذ سنين، حين هتف بأسمائهم مراراً وصفق ولعلع خوفاً وطمعاً. نسي اسم زوجته ... زوجته التي وضعت أمامه للتوّ طبق طعامه البسيط، وخرجت تندب حظها وقدرها حزينة متألمة.
نسي حتى اسمه ،هذا الصديق الوفي الذي التصق به طوال فترة عمره، نسي تاريخه الطويل وذكرياته الماضية وألف حكاية وحادثة وقصة. نسي كل شيء إلا الموت ... الموت الزاحفُ نحوه كأفعى سوداء كبيرة، اقترب إليه ليبلعه غير آبه لكبره أو صغره ومكانته وعقله وجهله، فالبشر في عين الموت متساوون على طاولة الوليمة المقدسة. يلفت انتباهه الشباك المفتوح، وصورة الريح التي ترسمها الستارة الخفيفة المتحركة، وضوء خافت للقمر يدخل بلا استئذان كأي عصفور يملؤه الفضول. الجو يميل إلى البرد، قشعريرته تثبت هذا. شفتاه ترتعشان/يداه النحيلتان لا تقويان على إعانته في أن يرفع جثته التي تزن كيس طحين. هناك شيء يخطف على عينيه من بعيد،يقترب منه على مهل، (من..؟من هناك..؟) يخاطبه بهلع وذهول، الموت لا يتكلم، إنه يسرق بحزم سَكيْن. رؤساء العصابات واللصوص والذئاب لا يتكلمون، السيف الذي يذبح الشعراء والأزهار والربيع لا يتكلم. اللون الأسود الذي تتشح به النسوة والفاتحة والتراب لا يتكلم. ياله من منجل كبير يحصد الرؤوس ..! ياله من سفر طويل تزدحم في محطّاته حقائبُ الأعمال الصغيرة والكبيرة..!
ذاكرة فارغة نظيفة ورجل نحيل شاحب وحيد، كلّ ما تبقى في تلك الغرفة القديمة الدَّبِقة صيفاً، العسيمة شتاءً. ثوان وينتهي آخر مشهد في مسرحية استمرت ثمانين عاماً، ثوانٍ وينقضُّ الوحش على فريسته معربداً مستلذا بها وبدمها السائل الدافق.
حدّق بشغف وهو ينظر إلى الساعة وقد تعرف على الوقت، إنها الساعة (....) لقد حان وقت موعده المتكرّر حين يخرج إلى المقهى ليلاقي صديقه(....) فيلعبان الطاولي، في شارع (.....)، الجو بارد فنحن في شهر (.....)، وعليه أن يلبس معطفه الذي أتى به من دولة (.....) في أخر سفرة له. نادى على زوجته: فلانة...فلانة..) دخلت عليه زوجته مدهوشة فاستعجلها هاتفاً، (أحضري المعطف)، تركت الغرفة وخرجت تصفق بيديها عجباً. نهض على مهل وارتدى معطفه الذي أتت به الزوجة بعد برهة وخرج يضرب الأرض بقدمه، ناسياً وراءه ضيفاً ثقيلاً، كان من المتَّفق أن يغادر معه قبل دقائق معدودة.



#انمار_رحمة_الله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاعتراف الاخير
- مالم يتنبأ به -رختر-
- العُراة
- لست منهم
- أين وطني ..؟
- هل صادفْتِ رجلاً مثلي...؟
- العائد
- نوافذ
- انا لم اخن الله
- اوراق متناثرة
- الأجهزة الأمنية...خدمة...حماية...تآلف
- قصص خطيرة جدا
- بين الفصيح والشعبي__نبي صامت وساحر ناطق
- شاعر في الثلاثين
- الوطن الحوت_القصيدة الفائزة بالمركز الثاني_المهرجان الادبي ا ...
- ليلة ٌ ضاعَ فيها الرغيف /قصة قصيرة
- هذا ماحدث في المقبرة
- الوصايا العشر
- ثلاث قصص قصيرة جدا(همْ....هنَّ)
- هلوسة


المزيد.....




- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...
- أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد ...
- الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين ...
- -لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - انمار رحمة الله - اللعنة