|
(8-8) من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر
عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 3749 - 2012 / 6 / 5 - 14:26
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر القسم الثاني: المرحلة التموزية / القاسمية: (الجمهورية الأولى 14 تموز 1958- 9شباط 1963)
لقد وعى الزعيم قاسم خطورة الصراع بين القوى السياسية على مسيرة الثورة وخاصةً بين اليسار الشيوعي والتيار القومي، لذا أراد كبحه بالسبل السياسية، وليس تعميقه كما يترائ لدى البعض، وهذا أيضاً ما تنبه إليه بطاطو نفسه بصورة متأخرة، عندما قال: [... فقد كان يمثل النزاع الأكثر خطورة بكثير والأكثر واقعية... ولقد كان هذا النزاع حقيقة مركزية في التاريخ العربي المعاصر، كما كان مأساوياً حقاً، وحاسماً إلى حد كبير. وخلف هذا النزاع وراءه عراقاً يحمل ندباً لا تمحى وعراقاً منقسماً بحدة وبعمق على نفسه كما لم يحصل أبدا ًفي الذاكرة الأخيرة... وأكثر من هذا، فإن هذا النزاع عمل بوضوح إلى جانب المصالح التي عارضها الطرفان، إذ إنه سهٌَل كثيراً مهمة الدبلوماسية الامبريالية البريطانية التي خشيت انعكاس مضامين أمة عربية موحدة على المصالح النفطية... ] . لقد واجه الزعيم قاسم جبالاً هائلة ومتحركة (زمانياً ومكانياً) من المعضلات الحياتية المعاشة التي تهم قطاعات واسعة من الناس، والتي من الواجب إيجاد حلول لها، ضمن ظرف الصراع الاجتماعي/السياسي، والشامل في الوقت نفسه لأغلب المكونات الاجتماعية والتي زادها عمقاً غياب المنهج والبرنامج الواضح لديه حينها والذي أتسم بالتجريبية في حينها، شأنه شان أغلب قادة ثورات العالم الثالث، مما أبعده نسبياً عن نبضية الواقع وتلمس المستقبل. ان حرارة التغيير الذي قاده وعمق الاجراءات التي أجراها، المتناغمة مع مطاليب الكم الواسع من الفئات الفقيرة والكادحة والفئات الوسطى، والتسابق مع الزمن للخروج من الاشكاليات المطروحة ضمن رؤيته (الشعبوية)، كانت عوامل دفعت بالأكاديمي حنا طاطو للاستنتاج أعلاه، والذي أقر، في الوقت ذاته، بأن الزعيم قاسم: [لم يكن باستطاعته أن يفعل غير ذلك]. أما بصدد الشق الثاني من استنتاج بطاطو والمتعلق بعدم سماح الزعيم قاسم للقوتين بالاتفاق، فهو لا يصمد أمام الوقائع التاريخية. في الوقت ذاته إن امراً كهذا مرهون بالاساس بالاطراف السياسية نفسها ومدى وعيها وقدرتها على فهم حراك الواقع في الاتفاق على أسس مشتركة مقبولة ضمن قواعد لعبة متفق عليها، أكثر من ارتباطه بشخصية الزعيم قاسم، رغم أهمية ذلك . لم تستطع عملياً قوى جبهة الاتحاد الوطني استئناف نشاطها الجبهوي بعد الثورة ولم تتفق على توحيد نشاطها وخطابها السياسيين، المتوائمان مع الظروف الجديدة. فكيف نطلب من قاسم القيام بذلك الدور الوسيط، في الوقت الذي انشقت فيه القيادة العسكرية للضباط الاحرار، وكذلك القوى السياسية منذ الايام الأولى للثورة، وأُعيد تشكل الاصطفافات منذ أن طرح مستقبل العراق بين خيارين لا ثالث لهما، أولوية عراقية العراق (الاتحاد الفيدرالي)، أم أولوية عروبة العراق (الوحدة الفورية). وهو الأمر الذي انعكس بصورة عمودية في الشارع السياسي وأثار عديداً من الإشكاليات الكامنة في رحم المجتمع والوعي الاجتماعي، والذي نجم عنه كثرة المحاولات الانقلابية وسيادة ثقافة العنف. [... فكيف يتوقع أحد من قاسم النجاح في هذه المهمة والعراق في شبه حالة من الحرب الأهلية في ظل الصراعات الداخلية التي فجرتها الاحزاب والضباط...] والقوى الخارجية، وخاصة الرأسمالية منها، إذ [... كان الزعيم يحاول الفصل بين الاطراف المتحاربة، كما كان فوق الصراعات الحزبية وحاول جاهداً منع أي طرف من أن يفرض عقيدته على بقية الاطراف العراقية. وها نحن اليوم نرى عواقب فرض عقيدة حزب البعث على كل الشعب العراقي. لكن الزعيم أصبح (دكتاتوراً ودموياً ومجرماً) في عين كل من لم يلتزم جانبه الحزبي الضيق...] 3. في الوقت نفسه تشير الدلائل التاريخية إلى أن الزعيم قاسم حاول القيام بالمصالحة مع كافة القوى السياسية، وحسب استطلاعاتنا، تمت بأكثر من مناسبة، أورد خصومه اثنان منها وهما: - الطلب من حزب البعث التقدم في طلب الاجازة الرسمية لممارسة نشاطه العلني بعد صدور قانون الاحزاب والجمعيات الجديد عام 1960. لكن البعث رفض ذلك لأنه كان يرفع علنياً شعار اسقاط السلطة من جهة، ومن جهة ثانية لأن حظه في العمل العلني سيكون انتقاصاً من تجربته مع الوحدة السورية - المصرية التي منعته من ممارسة نشاطه العلني، مما يفقده مصداقيته المفقودة جماهيرياً. إذ كيف يُمنع من العمل في دولة الوحدة في حين يمارسه في العراق (الدولة الاقليمية) المراد اسقاط نظامها؟ ولا يغيب عنا كيف ساند حزب البعث في سورية انقلاب عبد الكريم النحلاوي الذي أطاح بدولة الوحدة، وكان صلاح الدين البيطار أول من أصدر بيان تأييد الانقلاب! (4 لكنه في الوقت ذاته كان يرفع شعار الوحدة الفورية في صراعه مع عبد الكريم قاسم؟ - يقول طالب شبيب: [جاءني الاستاذ صديق شنشل وسيطاً وقال: اقترحوا لنا ثلاثة وزراء بعثيين وسيعينهم عبد الكريم قاسم فوراً، ورجاني أن أخبر قيادة الحزب، أن الاقتراح صادرعن قاسم مباشرةً. فأجبناه: يا أستاذ صديق ان هذا الاقتراح لم يحصل إلا تحت ضغط إضراب الطلبة المحرج، ثم إن بياناتنا وصحافتنا الحزبية السرية تدعو بشكل متواصل إلى إسقاط حكومة قاسم، فكيف تطلب أن ندخل الوزارة ونحن على أبواب ثورة... فقد حكمنا على نظام قاسم بالانتهاء] 5. كما أن هنلك محاولة ثالثة أوردها إسماعيل العارف حول سعي الزعيم قاسم لـ: [تأليف وزارة ائتلافية من الاحزاب التي كانت الجبهة الوطنية (المقصود جبهة الاتحاد الوطني - الناصري) تتألف منها، لكي تقوم باجراء الانتخابات وتشرف على تشريع الدستور الدائم. فوافق على ذلك وتقرر أن يفاتح الحزب الوطني الديمقراطي وحزب البعث العربي الاشتراكي وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي. فبدأ بمواجهة رئيس الحزب الوطني الديمقراطي السيد كامل الجادرجي لاستطلاع رأيه. وفي خريف سنة 1961 استدعاه إلى وزارة الدفاع وجرت بينما مناقشة مطولة... وكانت حصيلتها تردد رئيس الحزب الوطني الديمقراطي في قبول المشاركة في حكومة ائتلافية. وقد وصفها لي عبد الكريم قاسم في اليوم التالي قائلاً: ((كانت المقابلة فاشلة إذ تلكأ رئيس الحزب الوطني الديقراطي عن المشاركة في حكومة ائتلافية قائلاً: ان تصفيق الناس لي وإلتفافهم حولي لا يتماشى مع النظام الديمقراطي وان الخلافات بين الاحزاب التي نجمت عن الاحداث السابقة دقت اسفيناً بينها من الصعب تجاوزه وكان من رأيه أن يستمر الحكم العسكري إلى أن تنتهي فترة الانتقال. وعلق عبدالكريم قاسم على ذلك قائلاً لي أن رأي الأحزاب الأخرى سوف لن يختلف عن رأي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي)) فأقلع عن التداول مع الأحزاب الاخرى...] (6). ويشير إسماعيل العارف أيضاً إلى واقعة ذات دلالة حول الموضوع ذاته فيقول: [وعلى أثر توقيف المقدم الركن صالح مهدي عماش اتصل بي الزعيم عبد الكريم قاسم صباح يوم 4 شباط (فبراير) بوزارة المعارف، وقال بحالة عصبية، ((قلت لك عدة مرات أن صالح مهدي عماش، الذي تدافع عنه دائماً سوف يقتلك ويقتلني، لقد ألقيت القبض عليه لأنه يتآمر للقيام بانقلاب ضدنا)).. كان صالح مهدي عماش يزورني في بيتي في فترات متقطعة، فزارني خلال الاسبوع الأخير من كانون الأول (ديسمبر) 1962، وخلال تناولنا المرطبات كنت أناقشه في بعض الأمور السياسية العامة فقلت له: صالح إنكم تتهيأون للقيام بحركة ضد الحكومة، وانني أعرض عليك أمراً أرجو أن تبلغه إلى جماعتك. ان القيام بأي حركة سوف يؤدي إلى خسائر فادحة بالارواح، الوضع استقر وعبد الكريم قاسم مستعد أن يتعاون مع جميع القوى المعارضة، لإقامة حكم دستوري، وأنني أضمن حريتكم في العمل السياسي ويمكن إجراء بعض التغيرات بدون اللجوء إلى مجازفة تهدد كيان البلد. فسكت صالح ولم يجب. وقد أخبرني بعد ذلك أنه عرض ما قلته له على جماعته فلم يوافقوا] (7). - ويشير العضو المرشح آنذاك للمكتب السياسي في الحزب الشيوعي العراقي، باقر إبراهيم الموسوي، في رسالةٍ منه إليَّ، حول هذ الموضوع وموقف الزعيم قاسم من الصراعات الحزبية، بالقول: [إيمان عبد الكريم قاسم بضرورة الحد من تطرف الاحزاب والمنظمات العقائدية وتعصبهاضد بعضها، ولجوئه إلى نوع من الموازنة بينها ومحاولة شمل الجميع برعايته. وبخلاف ذلك، لو سمح بإطلاق العنان للتطرف والعصبيات الحزبية، لشهد العراق مجازر مبكرة أوسع نطاقاً وأشد أذى مما حدث بما لا يقاس. ولو رأت تلك الاحزاب والمنظمات، نزعته المعتدلة، تجاه الصراعات الحزبية، وأفادت منها، لأمكن تجنب الكثير من المآسي أو تحجيمها، خاصةً لو استطاعت الاحزاب الوطنية، التغلب على تعصبها، ولو أستطاعت العودة إلى الطريق المضمون، باحياء جبهة الاتحاد الوطني مجدداً] (8). - اعتاد الزعيم قاسم أن يلتقي بكثير ممن شاركوا في المحاولات الانقلابية السابقة، حينما يعفو عنهم ويطلق سراحهم. وفي إحداها خاطب كل من: عبد الكريم فرحان وصبحي عبد الحميد وصالح مهدي عماش بالقول: [نحن أخوان وخدمنا في الجيش وتعاونا على تحطيم الملكية في سبيل خدمة هذا البلد، لكن قسماً من الاخوان أخذوا يتآمرون وسببوا شق الصفوف والفرقة بين الاخوان... دعونا نتعاون ونشتغل لخدمة بلدنا... على كل حال نريد أن نصفي القلوب ونفتح صفحة جديدة...] (9). ترى هل حقاً أن عقلية كهذه لم تكن ترغب في رأب الصدع بين القوى المتحاربة؟ أم أنها كانت مكتسية بالطوباوية الثورية التي لم تستطع رؤية الواقع المادي بكل تناقضاته الطبيعية والمصطنعة؟!. لكنه مع ذلك حاول أكثر من مرة مع أغلب القوى السياسية والاجتماعية ضمن أهداف تشمل مساحة الوطن، لكن النظرات الضيقة غير المستوعبة للوحدة المتنوعة لواقع العراق حالت دون بلوغ المستهدف. وهكذا تفرض الحقائق التاريخية نفسها، لأنها تدخل الوعي التاريخي بقوة حضورها الفعلي، الواسع والشامل والذي لا يمكن بعثرته والتمويه عليه. وهذا ما كان مع الزعيم قاسم. الذي يوصف وضعه السياسي العالم السيسيولوجي علي الوردي بالقول: [يجدر بيّ... أن أُشير إلى موقف الزعيم عبد الكريم قاسم في هذه المرحلة الاجتماعية المهمة من تاريخنا، فلقد أعلن الرجل غير مرة أنه فوق الميول والاتجاهات، واعتقد أنه صادق فيما قال. ولكن مع ذلك لا أستطيع أن أعد موقفه هذا خالياَ من الدقة والحراجة. انه ليس قائد حزب، إنما هو قائد بلد تتصارع فيه الاحزاب، وهو إذن معرض للحيرة أكثر من تعرض أي قائد حزبي لها. وكلما تأملت في حراجة موقفه هذا، شعرت بالثقل الهائل الموضوع على عاتقه، ساعده الله. إنه لا يستطيع تجاهل أهمية الحماس الشعبي في تأييد الثورة التي تكاثر عليها الاعداء، وهو لا يستطيع أن يجاري هذا الحماس إلى الدرجة التي اندفع بها المتعصبون المتحمسون، بين يديه من جهة بلد يحتاج إلى استقرار، وبين يديه من الجهة الأخرى ثورة تحتاج إلى تأييد. ولابد للرجل من أن ينظر إلى هذه الجهة تارة وفي تلك الجهة تارة أخرى. اني أشعر بالعجز في وصف سياسيي صف واحد من الطلاب حيث يشتد الجدل بينهم، فكيف بالرجل وهو يقود ثورة كبرى كثورة 14 تموز وفي مجتمع كالمجتمع العراقي. ومهما كان الحال فاننا يجب أن نحني رؤوسنا اعترافاً بما وهب الرجل من مهارة في قيادة سفينة البلد بين هاتيك الامواج المتلاطمة] (10). إن نظرة موضوعية علمية إلى تلك المرحلة وعقدها السياسية الصعبة والمتشابكة، تجبرنا على ضرورة دراستها واستنباط الدروس والعبر للاستفادة منها في المرحلتين الحالية والمستقبلية. ومن أهم هذه الدروس: 1 - ضرورة نبذ العنف بين القوى السياسية كوسيلة بلوغ للحكم. لأن الاحتراب السياسي السابق، والذي عبرت عن مكنوناته المحاولات الانقلابية، كممارسة وفكر، قد آلت إلى فقدان واحدة من أهم وأصدق التجارب في العالم الثالث عامة ومنطقتنا العربية بخاصةً. كما أدت إلى تهديم مقومات الهوية الوطنية وأوصلتنا إلى ما نحن فيه من تشرذم. إن هذه الخطوة يجب أن يرافقها شيوع فكرة التسامح والعفو والرحمة وسيادة القانون والابتعاد عن الثأرية. لكن ورغم تلمس أكثر القوى السياسية الفعالة لمدى التدمير الذي ألحقه العنف وثقافته وممارسته، فإن حجم العبر المستنبطة لا تزال ضئيلة وغير مؤثرة في هذه القوى، ناهيك عن تلمس آثارها السلبية في المستقبل المنظور؛ في الوقت ذاته يجب على هذه الأحزاب نبذ فكرة العنف السياسي والاستيلاء على السلطة بالانقلابية العسكرية، وأول خطوات ذلك وهو الأهم حل مكاتبها العسكرية وتنظيماتها المسلحة، خاصةً بعد سقوط النظام الحالي، وتوقيع ميثاق شرف بين كتل المعارضة الوطنية والتيارات الحزبية على عدم أستخدام العنف المسلح بين أطرافها ونبذ التكفير مع الآراء المخالفة.. انها خطوتنا الأساسية نحو المجتمع المدني المنشود، وهو في نفس الوقت أعادة الماهية المغيبة عن ثورة 14 تموز. 2 - أوضحت التجربة التاريخية المنصرمة عدم قدرة طرف سياسي واحد على الانفراد بالسلطة، مهما كان وأيا يكون، وبغض النظر عن مبرراته الفكرية ووحدانية تمثيله لهذه الطبقة أو تلك الاثنية أو ذاك الاتجاه السياسي أو/و الديني. إن حكم الحزب الواحد سيعبد الطريق لا محال نحو الاستبداد وما يستنبط منه كوسائل للحكم وعلاقات متبادلة، في مجتمع معقد في تركيبته وغني بتكويناته الاثنية والدينية والاجتماعية. كما تفرض المرحلة الحالية وظروفها شيوع الفكرة الوطنية والانتماء إليها أكثر من المواقف الطبقية، اللامتبلورة، والمصالح الضيقة التي لا تستوعب الأشمل والأوسع. ان تحقيق نظام حكم يستند إلى شرعية دستورية ويرسي سلطة القانون والفصل بين السلطات ويعضد مرتكزات المجتمع المدني ويستهدف القضاء على التخلف بكل أشكاله وأبعاده بدون تمييز، هي مهمة كل القوى الاجتماعية الحية وليس مهمة حزب واحد أو طبقة معينة؛ 3 - إن ظروف البلد السياسية ذات الصوت الواحد، وما مرت عليه من ويلات وحروب، كسبب وماهية، وتعدد أنماطه الاقتصادية وبالتناظر طبقاته الاجتماعية غير المتبلورة، وعدم نضج الوعي الاجتماعي العام وتجلياته، كلها عوامل موضوعية تفرض صياغة برامج وطنية عامة، تتواءم وطبيعة الظروف وروح العصر وتحترم الخيارات القومية والجمعية والفردية وحقوقها الطبيعية والمكتسبة، بغية بلوغ المجتمع المدني المتحضر، الذي أرست أسسه المادية ثورة 14 تموز، حيث امتلاك ناصية المستقبل الواجب ولوجها. 4 - لعب تفشي الولاءات الحزبية في المؤسسة العسكرية دوراً كبيراً في تهيئة المناخ للانقلابات العسكرية وعرقلة صيرورة بناء الحياة الدستورية وابتعادهاعن مهمتها الأرأسية. وعليه تقتضي الضرورة الملحة إبعاد هذه المؤسسة عن التناحرات والصراعات الحزبية والولاءات الدنيا وعدم تدخلها، وخاصةً قياداتها العليا، في نشاطات مؤسسات المجتمع المدني. كما يجب وقوف المؤسسة العسكرية في الوقت نفسه فوق الاعتبارات الحزبية ومصالحها الضيقة. ان فكرة الزعيم قاسم الداعية إلى إبقاء الجيش (فوق الميول والاتجاهات)، قد زكتها الحياة والتجربة التاريخية لعراق القرن العشرين ويجب تبنيها وتطبيقها عمليا من قبل كل القوى السياسية التي اعترف كثير منها بصحتها العملية، لكونها تمثل أحد أسس ترسيخ المجتمع المدني المرغوب بلوغه؛ لكن ونظراً للإرث التاريخي لدورالضباط العسكريين في تأسيس الدولة العراقية ومساهمتهم في إدارتها، سواءً في العهد الملكي أو الجمهوري، واستحالة ترجمة الفكرة عملياً في المدى القريب، لذا يمكن إجراء نوع من المساومة تسمح للعسكريين بممارسة نوع من التأثير في مسألتين هما: قضايا الدفاع الوطني وما يرتبط بها من المسائل الخارجية، مقابل امتناعهم عن الاستيلاء على السلطة بقوة سلاحهم؛ وحصر مهمتهم في الدفاع عن سيادة الدولة من الاعتداءات الخارجية فحسب. 5 - لعب العامل الخارجي دوراً كبيراً في وأد ثورة 14 تموز وكبح صيرورتها ومن ثم القضاء عليها بشكل دموي. وهذا ما بينته تاريخية الممارسة السياسية في عراق تموز/ قاسم. لقد تصاعد دور هذا العامل في الوقت الحاضر نتيجة العوامل الموضوعية والذاتية للحكم الحالي ومغامراته الحربية الداخلية والخارجية، وكما تستنبط بالأساس من دور العامل الخارجي في إعادة صياغة الجغرافية السياسية للعراق الحالي بعد الحرب العالمية الأولى. ولأجل ضمان عدم تفتيت الصيرورة السياسية لعراق المستقبل، لابد من أخذ هذا العامل بنظر الاعتبار دون المساس بالثوابت الوطنية للعراق المستقل، في حق اختيار الطريق القادم وصيغ الحكم وارتباطاته الداخلية (الفدرالية) وعلاقاته الخارجية القائمة على المصالح المتبادلة؛ 6 - هذه الدروس وغيرها مما يمكن استنباطها، ينبغي تعميمها. والخطوة الأولى تبدأ بضرورة قيام كل التيارات السياسية الفاعلة آنذاك بمراجعة نقدية لتاريخية ممارساتها السابقة وتحالفاتها السياسية وبرامجها اللاعملية وإلى مدى مساهماتها في وأد التجربة الثورية وإيقاف مسيرتها، التي مهدت السبيل للقوى المتخلفة والمتريفة للاستيلاء على السلطة وإعادة العراق إلى ما قبل الحضارة الحديثة. هذا النقد يجب أن يكون شجاعاً وموضوعياً وضمن، ليس الرؤية الحزبوية الذاتوية الضيقة، بل في نطاق الوطنية العامة والواقع الجيو - سياسي للعراق وامتدادها القومي ومكوناته الاجتماعية. كما ينبغي أن تتحلى هذه التيارات بالعلمية والمنطقية في عملية النقد. بغية تحديد الخطل من المواقف والممارسات لأجل تجاوزها وبالنتيجة المساهمة الواعية لبناء العراق القادم. وفي الختام يجب التأكيد على ما هو إضافة نوعية لاحدى الفصائل من التيار القومي والتي أقرت أن: [حقائق سياسية أساسية لن يمل المرء من تكرارها، ملخصها أن هناك خطيئة كبرى قد ارتكبت على أرض العراق في فترة معينة، من قوى سياسية يفترض فيها أنها تملك الوعي الوطني والقومي والإخلاص وحسن التقدير، مع القدرة على قراءة الواقع وتحليله واستشراف المستقبل. وبالتالي، علينا أن ندرك - ولو كنا متأخرين كثيراً - أننا مشينا جميعاً إلى الفخ الذي أعده لنا أعداؤنا بعد أن أغرقنا أنفسنا في الدم الوطني والقومي منذ أواخر الخمسينيات في القرن العشرين وحتى اليوم. ولقد كان الجذر هو ذلك الهوس السياسي والعاطفة الطائشة والعداء المجنون الذي تبادلته القوى السياسية المختلفة، وخاصةً المعسكرين القومي والشيوعي، فكانت محصلة ذلك كله أن تحطمت قوانا كلنا وأوصلنا أنفسنا إلى الهزائم المتبادلة لينتصر أعداؤنا فتحقق لهم الكثير مما أرادوا] (11). انتهى والجزء الذي يليه.. سنلاحقه بحثاً هو: قراءة موضوعية في أهم المحاولات الانقلابية في مرحلة تموز / قاسم:
الهوامش والملاحظات: - بطاطو، الجزء الثالث، ص 177، مصدر سابق. ويؤكد ذات المؤلف وكذلك د. خلدون حسن النقيب، على أن هذا الصراع: [المتفجر لقوى اليسار العربي بين القوميين الجدد (العقائدين) والشيوعيين في العام 1959، هذا الانشقاق الذي يلعب، منذ هذا التاريخ، دوراً كبيراً في القضاء على التيار اليساري الجذري في السياسة العربية] الدولة التسلطية، ص 132، مصدر سابق. وبالتالي كانت دعوة الزعيم قاسم لوقف هذا الاحتراب الذي جرى في الساحة العراقية في محلها. لكن عدم الانصياع للعقل وضرورات المستقبل والصراع من أجل المصالح الفئوية الضيقة من قبل الاحزاب السياسية ساهم في إضاعة الثورة وضياع الاحزاب السياسية ذات المنحى الجذري المتقارب في اهدافه العامة مع ثورة 14 تموز، مما فسح المجال لأعداء ومناهضي التيارين في استغلال الظرف للقضاء عليهما ولفترة نعيشها الآن ولاحقاً. 2 - لقد تاثر بهذا الاستنتاج الكثير من الكتاب بما فيهم د. ياسين سعد محمد البكري في كتابه ، بنية المجتمع العراقي _ جدلية السلطة والتنوع، العهد الجمهوري الأول1958-1963 انموذجاً، ص.192 وما بعدها، دار المرتضى مصر، بغداد 2011، التي يردد فيها ذات فكرة بطاطو عندما يقول : "... أسهمت الصراعات بين الأحزاب، التي غذى جزؤاً منها عبد الكريم قاسم بنفسه في تعزيز مركزه وقوته إزاءها ... وهكذا ساهمت جميع القوى السياسية لفرض دكتاتوريته...". ص. 201. لكن الدكتور الفاضل لم يبين ا]ن وكيف ساهم قاسم في ذلك. من جهة ويبدو أن هذا الاستنتاج كما يدل عليه النص، أنه جاء عن وعي بالنسبة لقاسم.. وليس من منطق موقفه في عدم محاباة أي طرف من الأطراف، من جهة ثانية.. كما يريد الكاتب أن يوحي لنا أن قاسم وإدارته للصراع الاجتما سياسي كانت تنطلق من هذا الوعي دون أن يشير إلى ان هذه السياسية هي محصلة نسبية وغير مباشرة لذات الصراع بين القوى السياسية، من جهة ثالثة.. أما تأكيده هنا كما لو أراد أن يقول أن نظام قاسم كان دكتاتورياً.. دون ايضاح ماهية النظام وعلائم وسمات هذه الدكتاتورية. في الوقت نفسه وفي ص. 200، ينفي الدكتور الفاضل ، دون إثبات وسند تاريخي ، أن قاسم لم يكن من مؤسسي تنظيم الضباط الأحرار.. وينطلق ليس من بدايات تشكل هذه الظاهرة ، قدر من نهاياتها. في الوقت الذي يوضح العديد من هؤلاء الأخيرين .. ان قاسم كان من أول المشاركين في هذه التنظيمات منذ عام 1948. ولم ينتخب رئيساً للتنظيم نظرا لقِدمه فحسب ، بل لعوامل عديدة ضمنها القدم.. ليراجع ما كتبه الضابط القومي النزعة والمناهض لقاسم خليل إبراهيم حسين الزوبعي في موسوعته عن هذا الموضوع . وقد سبق وأن فصلت وحللت ظاهرة الضباط الأحرار في كتابي، من ماهيات السيرة- عبد الكريم قاسم 1914-1958، وهو الكتاب الأول من السيرة، بافستناد إلى العشرات من المصادر العلمية غير المتفقة مع قاسم في منطلقاته السياسية.
3- د. علاء الدين الظاهر، التاريخ كما لقنه القصخون، مصدر سابق، ص 11. 4- يحجب الدكتورعزيز الحاج الحقيقة عندما يذكر أن الزعيم قاسم قد عمل على [حرمان حزب البعث والكتل القومية الأخرى] من العمل الحزبي العلني وفقاً لقانون الاحزاب. ثم يتدارك الموضوع تبريرياً عندما يقول بأنها[لم تتقدم بطلبات إجازة، لأنها كانت مطاردة، كما أنها اعتبرت العملية كلها مناورة تضليل من السلطة] راجع: مع الاعوام - صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية في العراق بين1958 - 1967 الطبعة الثانية ص 6 بيروت 1994 المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ان هذه النظرة غير الموضوعية، كما يستدل من أقوال قادة حزب البعث وبياناته، مستوحات من ظرف د. الحاج للفترة 1969 - 1990 وتحمل وزر علاقاته الوظيفية وما ينجم عنها مع سلطة حزب البعث العراقي. علما بأن الطبعة 2 لذات الكتاب فيها شيء من الموضوعية مقارنةً بالطبعة 1. 5- د. علي كريم سعيد، مراجعات، مصدر سابق، ص 48. لقد تجنب طالب شبيب الحقيقة هنا، عندما ربط بصورة تعسفية بين مطلب عبد الكريم قاسم لتأليف حكومة ائتلافية وبين ضغط إضراب الطلبة. بدأ الزعيم قاسم في محاوراته مع القوى السياسية وكان أولها مع كامل الجادرجي، منذ تشرين ثاني 1961، حيث مهد لذلك بإطلاق سراح السجناء والمعتقلين السياسيين من كل القوى، في حين أن اضراب الطلبة بدأ في17 كانون أول 1962 في المدرسة الشرقية ليعمم على بقية المعاهد في 20/12/ 1962. راجع تقرير كامل الجادرجي المنشورة بعض اجزائه في الموسوعة، مصدر سابق، الجزء الخامس ص 460. كذلك يؤيد ما ذهبنا إليه ما أشار إليه الحزب الشيوعي العراقي ضمن بعض نشراته الحزبية، حول بدء إطلاق سراح المعتقلين والانفراج النسبي في الوضع السياسي الذي تنبأ عن احتمال تطورات إيجابية على صعيد السياسة الداخلية. راجع نص التقرير لدى د. عزيز الحاج في ط. الثانية من كتابه، مع الأعوام، في الملحق. المصدر السابق. 6- إسماعيل العارف، أسرار ثورة 14 تموز، مصدر سابق، ص 327. علما بأن الجادرجي، قد كتب ملخص لهذه المقابلة ووزعه بصورة محدودة على قادة الاحزاب وبعض الشخصيات المستقلة، أورد فيه وجهة نظره الذاتية حول شخصية الزعيم قاسم، والتي كانت تتسم بعدم الود، إن لم نقل العداء، رغم أن الزعيم سبق وأن اقترح على الجادرجي عندما كان في السجن في مطلع عام 1958، المشاركة بالسلطة القادمة؟ للمزيد راجع للمؤلف، الجادرجي وتموز/ جريدة الوفاق، العددان 120، 121، مصدر سا بق.
7- المصدر السابق، ص 412. 8- رسالة بتاريخ 2000/10/7. 9- مقتبس من (الموسوعة)، الجزء 2، ص 94
10- عالم الاجتماع د. علي الوردي. الأحلام بين العلم والعقيدة، ص 331، ط. الثانية، دار كوفان، لندن 1994
11- راجع حركة القوميين العرب: نشأتها وتطورها عبر وثائقها 1951 - 1968، الكتاب الأول 1951 - 1961، تحرير هاني الهندي وعبد الاله النصراوي، ص 245 مؤسسة الابحاث العربية، بيروت 2001.
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(7-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر
-
(6-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر القسم
...
-
(5-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر (الجمه
...
-
(4-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر
-
من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر (3-8)
-
من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر القسم الثان
...
-
من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر القسم الثا
...
-
رحيل آخر عمالقة رواد الفكر الديمقراطي في العراق المعاصر
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر(5-5)
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر(4-5)
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر(3-5)
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر (2-5)
-
من تاريخية الحركات الانقلابية في العراق المعاصر (1-5)
-
من أجل تاريخ موضوعي لتموز وعبد الكريم قاسم (2-2)*
-
من أجل تاريخ موضوعي لتموز وعبد الكريم قاسم (1-2)*
-
الحزب الشيوعي العراق من إعدام فهد حتى ثورة 14 تموز1958
-
هو والزعيم (4-4):
-
هو والزعيم ( 3- 4):
-
هو.. والزعيم (2-4)
-
هو.. والزعيم (1-4)
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|