كاظم الحياني
الحوار المتمدن-العدد: 3748 - 2012 / 6 / 4 - 02:17
المحور:
الادب والفن
استيقظت ايتو1 على صباح بديع ليس كصبيحة أي يوم مضى ،فلق تفجر من كومة أيام لا يمكن إحصائها تراكمت على مدى عقود أو سنين وربما قرون .
الوقت في هذه المدينة ليس عدوا لها بل إنهم لا يجدوا قطعة صغيرة أو كبيرة منه لالتقاط الأنفاس ناهيك عن أيام الراحة أو النزهة أو الخروج إلى الحقول أو المروج فهذا شيء لم يمر بحياتهم كثيرا أو يألفوه في يومهم إذ أنهم كانوا في عناءٍ معنٍّ .
فما أن يأتي الصباح وتبدأ خيوطه تدب إلى المدينة حتى يهرع كل إلى عمله وما أن يحل المساء ويوشك قرص الشمس على الاختفاء خلف الأفق إلا والجميع يفيضون إلى بيوتهم وما هي إلا ساعة أو أكثر قليلا إلا والكل يتهالكون في فراشهم ،والأصوات همدت هذه البيوت التي تفوح منها رائحة الفقر والبؤس والكدح والقساوة وابعد ما تمت إلى الرفاه أو الراحة بصلة ولو واهية ولكنهم عوضوا هذا الشقاء أن ملئوا بيوتهم بحرارة القلب المحب وضمير يرفل بالراحة وفكر صائب على مر العصور هذا هو حال سكان مدينة ايتو.
مدينة تضج بحركة دؤوبة في مختلف النواحي الزراعية منها أو استخراج المعادن وخاصة مادة (القار) الذي لا يمكن الاستغناء عنه من قبل الجميع ، ولا يخلوا بيت منه إطلاقا لأنه يدخل في كل أعمالهم وصناعتهم . إضافة إلى انه يسوق إلى مدن أخرى ويلاحظ القادم إلى المدينة أعمدة الدخان تتصاعد من أكثر من مكان ,وعشرات (الكور) التي يعمل فيها عدد غفير من العاملين لصهر (القار) وتنقيته كي يصبح صالح للاستعمال وأفواج أخرى تعكف على استخراج وجمع كميات كبيرة منه لأجل شحنها إلى مدن أخرى هي في حاجه ملحة إليه . ولعب النقل النهري دورا خطيرا في هذه المهمة . كذلك وجود عشرات الأتاتين (الكلاسات ومفرده كلاسة) التي تصنع (النورة) من أحجار الكلس المنتشرة في تخوم المدينة هذا العمل الشاق يحسن القيام به رجال تمرسوا منذ الصغر وأتقنوا هذا الفن تندلع النار وتستعر والرجال يوفرون ديمومة اشتعالها دون انقطاع يصلون النهار بالليل ويستمر هذا العمل المضني بضعة أيام حتى تنضج ليصبح المنتوج جاهز للاستعمال يا له من عمل يتوفر عليه قوة التحمل والجلد .
ومن النشاطات التي تقوم عليها المدينة ميناءها الذي يعج بحركة لا تنقطع ليلا ولا نهارا . سفن تأتي وأخرى تقلع . زد على ذلك وجود حوض لبناء السفن اشتهرت به المدينة فتلاحظ عمال بناء السفن عاكفون في عمل متواصل لانجاز مهمتهم بكل دقة وتفانٍ .
ومن جانب أخر تشاهد قوافل تدخل بوابات المدينة وأخرى تخرج وعير تأتي محملة بأصناف البضائع. مدينة اقتصادية وصناعية مهمة وحلقة وصل بين الممالك شرقا و غربا .
كل شيء في ذلك الصباح بدا فرحا, الوجوه تسربلت بالغبطة ,والطيور تشدو في مناقيدها2, الكل يقفز قفزة الانتصار. الجمادات تفور من وهج فرح تسرب بسعادة عارمة لف أرجاء المدينة حتى المدنف استعاد بعضا من قوته على وقع ذلك الفرح الذي جعل السكان في حيوية وخفة هزت كيانه .
الدروب والسور تبسموا
والنهر الثائر تهادى معلنا هدنة
الشجر يطلق ترانيم جميلة
الأعشاب ترتعش راقصة
النباتات تميد بأعذب الألحان
وطيور في وكناتها لم تنقطع عن التغريد
دثت الأمطار صبيحة ذلك اليوم وكأنها تغسل فتاة ليلة عرسها وتؤذن بافتتاح حفل كبير .
لبست المدينة حلة بهية, واستعدت بكامل طاقتها وقدراتها لاستقبال هذا الحدث الجلل .
الأهالي كانوا يعلمون من سيأتي إليهم عن قرب من كثرة ما شاع من أحاديث وكلام كثير وقصص وحكايات عن هذه الشخصية الخطيرة . ولهذا كان صيتها قد سبق قدومها لأنها أشهر من القمر. فكانوا في اشد الشوق واللهفة , ونفوسهم قد تاقت إلى هذا القادم , والتطلع إلى رؤيته .
قبل ذلك الصباح الموعود كان الأهالي قد أضاءوا الليل بمشاعل من السرو, ونشروا العطور والزينة في كل أرجاء المدينة . صباح سبوح3 تسلل إلى بيوت وطرقات المدينة وملأها بفرح عظيم .
هلموا وتدانوا الملكة عندكم .
سيدة بلاط أشور بينكم .
بهذا الصوت الذي دوى في أرجاء المدينة وملا الفضاء وتخلل عبر الأثير إلى كل ركن من أركان المدينة وتنادى الجميع الملكة في (ايتو). أحقا جاءت إلينا ولبت الدعوة ؟
تجمعت الحشود تنتظر سحر من جاء , هذا يطاول نفسه بنفسه , وذا يحاول الارتقاء , ونسوة يحملن الصغار على الأكتاف , وصغير يتوسل بان يرفع إلى الأعلى . الكل منبهر يبحث عن الأوصاف , وأخر يبحث عن فتحة لعينيه مواربة بين الجموع . تدافع وعيون محملقة مترقبة , وأرجل تغوص في الرمل بمنتهى السعادة .
عند ضفة النهر تجمعوا.
رجالا ونساء وأطفالا حشروا.
عظماء ووجهاء وكهنة احتشدوا.
مدوا أعناقهم وتدافعوا بالأيدي والمناكب.
عسى أن يحظوا بنظرة عن قرب لهذا الآتي إليهم . كل العيون ترنو , ولسان حالهم تقرأه على الوجوه.
ما أسعدنا ما أروعنا
الملكة سميراميس4 عندنا
فالتحفظ الآلهة ملكتنا
دام عزك ومجدك وجمالك
إلاهنا داكان5 يحرسك
انطلق الصوت من المعبد تدانوا تدانوا إلى الشاطئ .
أسرعوا أسرعوا بريق الكهرمان حل بينكم .
عند الميناء كان نزلها بعربة ملكية وطئت الشاطئ مع حاشيتها الذين أحاطوا بها . بدت وهي مرتدية ثوبا طويلا من الصوف الأبيض والأسود بخيوط لماعة , وبأصباغ زاهية الألوان , وذا حاشية مزركشة مع عباءة تغطي رأسها وهي تحمل في إحدى يديها إناء بينما ترفع اليد الأخرى إلى جبينها دلالة على انشراحها وسروها في هذه الزيارة .
نزل بعض الرجال بلباسهم الأحمر, وهم يحرسون الملكة بأسلحتهم فيما مجموعه من النسوة يحملن الأردية الملكية , وأخريات يحملن صناديق صغيرة فيها حلل الملكة من ذهب وفضة وأحجار كريمة تتزين بها في مثل هذه المناسبات .
في الميناء احتشد المستقبلون يتقدمهم :
الخزانو6 ، وكبار الكهنة المسؤولين عن الطقوس , ورامكو7, وباشيشو8, والشاتامو9، والناديتوم10 ، والقيبو11 , ومجموعة النارو12, وكذلك انسي13 , وكبار المتعلمين , ودبشا14 – وكنكرا15 , وادميا16 , وأدا أدبا17 . وكان أول مكان زارته الملكة المعبد ورافقاها كبار المسؤولين وكبير الكهنة .
سارت الملكة إلى المعبد وهي تقود شاة وجدي كما جرت العادة في مثل هذه الزيارات ,وقوبلت بالترحاب الحار من الأهالي , ورافقها في الدخول إلى المعبد رئيس الكهنة الذي كان يرتدي جلباب الاحتفال ويردد قدموا النذور وأوقدوا الشموع لإلاهنا المبجل . انتهت الطقوس وخرجت الملكة إلى الساحة أمام المعبد وقد برق ثغرها , وهنا وقف الكاهن المعظم وقال بصوت جهير:
حيوا الملكة يا أهل ايتو
واهتفوا بأعلى أصواتكم أهلا أهلا سميراميس
غنوا وهللوا مرحب مرحب يا ملكتنا
اخضرت الشطآن وأزهرت الأغصان
وزقزقت الطيور فرحة بقدومك
ثم صمت برهة وقال: سأنبك الخبر يا صاحبة السمو
أسمعتي ما قاله عنك البروق
وما أباح النجم عند الفجر أو حين الشروق
يا أهل المدينة جاءكم الذهب جاءتكم الفضة جاءكم العقيق
إلى ايتو ستأتي سيدة الأرض جميعا
فوق ماء النهر طافية أو ربما تسعى في الطريق
ها أنت جئت طافية في مركب أو باخرة
فنثرنا الزهر في طرقات الحاضرة
مرحبا بك ماشية أو سطح مركب عائمة
المياه قدمت نجعها بمسرة
فغسلت كل شيء بزخات هميمة18
ورطبت ما في المدينة
خرج الكل إليك فرحا
هذا يحي جذلا وذا يصفق باسما
أبواب المدينة والبيوت استهلت فرحة
ولم تبقى كوة غير مشرعة
لأجل أن يدخل سنا محيا الملكة
مياه الأرض وماء السماء اجتمعت حتى تحيي الملكة
هذه على غير عادتها انبثقت ورسمت نافورة
وتلك همت وغنت صوت قيثارة
واستطرد الكاهن الأعظم بالكلام وهو يستحث الجموع بإشارة من يده
هيا إلى الشاطئ إلى المعبر إلى المرفأ
حيوا بإجلال ابنة الآلهة
ولوحوا بأغصان الكروم وسعفات النخيل
اظهروا بأبهى حلة مشيا أو ظهر خيل تركبون
صغارا أو كبارا, نساء أو كهول
ها نحن أتممنا زينة المدينة وعطرناها بالبخور
ما أسعدك يا ايتو وأنت تصبحين على بريق الكهرمان
اقرعوا الطبول وغنوا بناي أو مزمور
على رمل الشاطئ سيجري الاحتفال وهذا ماحصل
ما أسعدك أيها الرمل الخامد سيكون فوق حباتك الاحتفال
هذا الرمل الذي يفرش الشاطئ منذ ألاف السنين وألان كل حبة رمل صارت لؤلؤة فلا رمض19 ولا صرد20 هنا .
وأفاض الكاهن بكلام كثير تضمن التعظيم والتبجيل إلى أن قال : وهو يشير بيده
فإلى الشاطئ إلى الميناء والمعبر
هيا إلى من تبهج المنظر
إلى الجبروت والقوة
إلى المحيا الموشى بافتتان
إلى لقاء سيدة بلاط أشور
وختم كلامه : ها نحن بعد ناي وطول هجر نراك .
وبعد أن أنهى الكاهن كلامه , وأدت الملكة الطقوس المعهودة وقدمت القرابين المطلوبة , وزعت الهدايا على كهنة المعبد من عاج منحوت بأشكال مختلفة وأساور وقلائد ومجوهرات وأحجار كريمة بعدها دخلت بيت- رمكي21 , وغسلت جسمها بالصودا من الحوض المشرق.
بعدها سارت الجموع الغفيرة إلى مكان الاحتفال. حيث أعدت وليمة ضخمة حضرها اغلب سكان المدينة والموظفون الحكوميون وممثلو الحكام فأكلوا وشربوا . ثم بعد أن أنهى الجميع الأكل واكتمل وقوفهم نهضت الملكة من مجلسها وأدارت نظراتها إلى الحشد الذي تجمع بابتسامة رضا وانشراح معبرة عن بهجتها لما لمسته من حسن استقبال وشغف بلقائها قل نظيره.
طلت بوجهها الملكي الفاتن وبسواد شعرها ولون بشرتها البيضاء وعينين جميلتين وطلعة وضيئة طويلة القامة , وضخمة الهامة , ورحبت الشدق , وبعيدة الصوت . وقفت على الرمل الوثير خطت خطوة إلى الأمام واندفعت بكلام الشكر والحنان فقالت : وصلني اللوح والرقيم منكم فقطعت المسافات وعبرت النهر دون توان .
يا شعب ايتو الطيب.
ليبارك ادد22 وداكان أرضكم
ويمنحكم القوة والخصب والنماء
فأن أرضكم لا يمكن أن تعدوها الغلة الوفيرة
انا سمو- رمات ابنة الآلهة
سميت من البعض شميرام
وأطلق علي آخرون سميراميس
وانتم سميتموني بريق الكهرمان
أتضرع إلى الآلهة أن يظل أرضكم خيرا وبركة ويجعل من الماء الأزلي هذا (وأشارت بيدها إلى نهر الفرات) دائم الجريان تمخره السفن والمراكب يحرسها داكان
انتم أطيب من عاشرت
وبأناملكم صنعتم أشياء بديعة
وعملكم في بناء السفن امهر من عرفت
أناشدكم أن لا تجعلوا شعلة الميناء تخبو
ولا تتلاشى عند المعبر الحركة
ابنوا سفنا تجري مع التيار أو ضده
بمجداف أو شراع
وأنت أيتها المياه الجارية الدائمة استمري بحمل السفن
واغسلي الأرض حين تغضبين
ورطبي الحقول بقطرات الندى
فأنت حكاية لا تنتهي .
وصمتت قليلا
ونادت الملكة الخزانو وطلبت منه قائلة
احضر لي لوحا طينيا
فاحضر لها ما طلبت
بدأت الملكة بالرقش على اللوح بقصبة
وبعد قليل أنجزت ما رقشت .
ثم التفتت إلى يمينها وتكلمت كلاما فهموه تمام فهمه : قام الخزانوا من مجلسه ونادى احد مساعديه أدعو هنا كبار عمال السفن فاحضروا أمام الملكة نحن تحت أمرك يا صاحبة السمو .
أهلا أهلا بكم , انظروا إلى هذا اللوح .
فحدقوا بدقة وأمعنوا النظر فيه ثم تداولوا فيما بينهم ,ونطق قائدهم : انه رقش لهيكل سفينة يا صاحبة السمو أحسنت إنكم أصحاب نظرة صائبة , ثم جلسوا أمام الملكة واقبلوا عليها بسمعهم وراحت تبين لهم وهي تشير إلى اللوح وتعلق وتعطي أوامرها إلى العمال ورئيسهم :
أنا بنفسي سأشرف على بناء هذا الرقش23
من لحظة تحضير الأخشاب إلى أن تمخر الماء
وليبارك داكان عملكم ثم أكملت إرشاداتها :
وقفت على خشب الغرب والتوت والصفصاف الذي تستعملون , انه واهن لا يجدي في العمارة فلتستعدوا للبناء .
هيئوا أخشابا قوية تقهر الأمواج
وتقف في وجه الريح الزاجرة والعاصفة الهوجاء
دعموا صدر السفينة وليكن مرتفعا
سمروا الأخشاب بالحديد ومثل بيت اجعلوها والى غرف قسموها .
وضعوا الصاري قويا قادرا على حمل الشراع .
فانا احلم بسفينة تحمل مائة كور24
وحاذروا من غضب الآلهة اداد25 إذا نزل
فان لفح الريح ووكز البرق لا يقاوم
وتذكروا أن عاصفة تهب ورعد يدمدم
لهذا ضعوا المجداف القوي ليوجه الدفه
بعدها صبوا القار في أعلى وأسفل بانتظام
احرصوا أن يلج الضياء من سقف السفينة
واحرصوا أن لا ينفذ الماء إلى ارض السفينة
فإذا ما السماء غضبت وانهمر المطر
واستمر بالنزول عندها دنا حولكم الخطر
جهزوها بحبال ومرادي قوية وأوتاد ماء26
وضعوا ما يكفي من الطعام والمؤن
فالشعب ينتظر السلامة للمراكب والسفن
اعملوا بعناية ومهارة على انجاز العمل
فقد أصبحتم عندي أحلى أمل
ليقد السفينة ملاح ماهر وربان حاذق
وتذكروا هذه سفينة للوقيعة لا مركب صيد
فتوقوا السير في العتمة
وكونوا مثل طير الليل27 في الظلمة
ثم أنهت كلامها حينها قال رئيس العمال: فلتطمئني يا صاحبة السمو نحن مثل الخيل اعلم بفرسانها .
احرثوا وازرعوا الحقول حبا ولا تتركوا الأرض مواتا فانا لم أكن يوما في حالة ارتخاء .
فلا تتكاسلوا عن العمل لكي تزيد الغلة .
وتفيض عندكم الخيرات
ليخرج الراعي بالمعزة والحمل .
وُيصبِح الفلاح حقله بالفأس والمعول .
ازرعوا شعيرا وسمسما وكروما
كلوا مما تجود به أرضكم ومعاولكم
ولا تقفوا على أبواب المعبد طالبين رغيف خبز
أفضل الجوع على الأكل من المعبد
ربوا وارعوا الأغنام ولا أريد أن أرى يوما أن قطيع الأغنام لا يمر من بوابة المدينة صباحا .
وانتم أيها الحرفيون احتاج إلى أيديكم الماهرة التي تبني هذه السفن .
وبعد كلماتها هذه حيت الجموع المحتشدة ثم أمرت بتوزيع سلال الخبز والحلوى وقلال الزيت والعسل والنبيذ كما ونحرت عددا من العجول .
كما وزعت المؤونة والملابس ثم قالت : أمرت أشور مانكار كور28 أن يوزع المزيد على السكان , كما وقررت إعفاءكم من الضريبة للمحاصيل والميناء والمعبر لمدة خمس سنوات , وتبلغ حاكم مدينتكم بهذا الأمر . عندها علت أصوات الجموع تشكر الملكة وتدعوا لها بالمجد والرفعة .
بعد هذا علا وجهها حزن بان في طيات كلماتها جالت عيناها في وجوه المحتشدين ، ونظرات ملؤها ثقة وكبرياء واطمئنان وقوة في هذه الأثناء قطع صوت طفل خرج من المقصورة الملكية حديث امه .
انه (ادد ـ نيراري الثالث) ولي عهد بلاط أشور ، وحين اعتلى العرش كان عمره خمس سنوات وحكم اسما وكانت أمه الوصية عليه ، وبعدما اكتمل نضجه اظهر قدرة فائقة وكفاءة عالية لما امتاز به من بعد النظر وما بان عليه من قوة الشخصية , وخلفه في الحكم أربعة ملوك كلهم إخوته .
كان (اددـ نيراري الثالث) الابن المحبب إلى قلب الأم الملكة انه طفل جميل أغيد لين الأطراف29 اصطحبته أمه معها وكانت تبدي حرصا شديدا عليه فكانت كأم الخشف والرشاء30 عليه .
فيما كان الطفل يندفع نحو أمه كانت إحدى الحاضنات تتبعه وتحاول حمله , لكن الأم عاجلتها بإشارة إليها بالابتعاد عنه , ثم انحنت الملكة عليه وحملته وودعت الجموع الحاضرة ودخلت مقصورتها .
لقد اختارت الملكة سميراميس (ايتو ) لتقضي فيها أياما تبتعد عن هموم ودسائس الحكم ومتاعبه ثم إن هذه الزيارة جاءت بعد أن توفي زوجها (شمسي ـ ادد )31 وهذا ما حصل .
قامت الملكة بجولة في أرجاء المدينة وكانت أينما تذهب تلقى الترحاب وأكاليل الزهور تطوق جيدها من قبل السكان الذين اظهروا الود لها . إذ أنهم امتازوا بطيبة القلب .
كان الميناء من أكثر الأماكن التي تركت في نفس الملكة قدرا كبيرا من الاستحسان ، فشاهدت الحركة التي لا تنقطع , وثورة النشاط والحيوية , فهذا مما استدعى أن يترك في روعها أثرا واضحا وجعلها تنجذب إليه وتشغف بهذا العمل لحبها له وحاجتها إليه وبغضها الشديد للكسل .
وقبل ان تغادر المدينة بيوم واحد اتخذت من ربوة قريبة من الشاطئ مجلسا لها وراحت ترسل نظراتها وتسرح بفكرها محملقة في الميناء بمنتهى الإعجاب والسرور .
وفي اليوم التالي تجمع السكان واحتشدوا قرب الشاطئ ثانية لوداع الملكة . كل يبتغي منفذا ولو صغيرا لعينيه ليطل منه على الملكة بنظرة وداع أخيرة , قبل أن تغادر المدينة , وما إن علت الشمس قليلا وأصبح الوقت ضحى خرجت الملكة وهي تمسك بيد ابنها , وبان على وجهها أسا تراكم من سنين وبدت ذابلة . عبر عن ذلك صوتها المتهجد والصمت الذي كان يقطع كلامها بين الفينة والفينة . لم تكن إطلالتها كما جرى في لقائها الأول مع الأهالي . قد يكون منشأ هذا تعبيرا عن حزنها لفراق هذه المدينة التي شغفت بها وبالغت في إكرامها حدا تجاوز المعهود وبشكل منقطع النظير , وقد يكون غير ذلك . إن سكان المدينة لم يفعلوا هذا مع سميراميس فقط بل إنهم يفعلون هذا مع كل ضيف نزل عليهم , ويتسابق الأهالي في القرى لأي شخص كان يعرفوه أم لا صغيرا أو كبيرا وضيعا أو وزيرا , فما بالك بملكة تأتي إليهم !
فهي على الدوام تنهض بأعباء الضيافة والاحترام.
خرجت بزينة جسمها وما توشح به صدرها من قلائد وجلست وقد ربطت على رأسها عصابة مرصعة وعلى عاتقها وضعت رداءاً موشى بخيوط من الذهب .
-أنا سميراميس الوصية على عرش أشور- . كلمات خرجت معبأة بالتحدي والعنفوان وبصوت يهدر كأصوات الأبطال في ساحات الوغى .
أليس هي من حافظ على ديمومة عرش أشور؟ وقادت بنفسها الجيوش لقمع الثورات والتمرد على الحكم ؟ الم تقطع المسافات دون وجل أو كلل ؟ كم وقفة مثل هذه وقفتها وهي تستعرض جيشها قبل المعركة وتحثهم على الصمود والاستبسال لدحر العدو؟ .
ربما فكرة القيادة والظفر في المعارك لا تزال تهيمن عليها فلم تستطع أن تخفي هذه الملامح أو تكبحها . إن كانت في حركتها أو كلامها ولكن الموقف هنا لا يعبر عن شيء مما يختلج في نفسها بل أن هذا الحشد يقف مسالما محبا مودعا وشتان بين الحرب والسلام .
وربما إنها لم تستطع أن تنسلخ عن عالم الحرب ومطاردة الأعداء وهي بهذا مقيدة بقيود فرضها الواقع الذي لم يمهلها الوقت الكافي للتفكير بنفسها والالتفات لشأنها مع ولدها مثل باقي النساء , ولكنها كانت امرأة استثنائية وفريدة زمانها غلفت حياتها بكثير من الأسرار فنسجت حولها الأساطير حدا عبر إلى عالم الخرافة , وقالوا في أمرها بالظن , وهاموا في شعاب الباطل .
نعود إلى لحظات الوداع في ساحة الاحتفال وقفت وهي تخاطب الجموع والى يمينها يقف ابنها (اددـ نيراري الثالث) .
تركت في الشجاعة سفرا حافلا لسلسة من المعارك والانتصارات تتغنى بها أشور .
وقهرت نفسي لأجل ولدي ليقهر الدنيا والأعداء من بعدي .
أحرقت نفسي بنفسي لأجل ولدي .
وكبحت شهيتي لكل ما يتحصل من الملذات .
فشيدت الحصون والبنايات .
وعمرت الجداول واعتنيت بالري والمزروعات وبالنخيل والجمال فازداد عدد الأشجار في البلاد .
وبنيت المسنات عند المدن بعد أن خضعت لسلطاني .
وببسالة جيشي اندحرت سوهو32 وسيطر الرعب على جميع الأعداء .
وسحقت اوراتو33 في ميدية وبيت خالوبي34 وبيت اديني35 .
بمساعدة الآلهة و بابل ومردوخ ـ بلاطو36 .
قضى زوجي (شمسي ـ ادد) على التمرد في البلاد .
إن رحيل زوجي وهذه الانجازات التي تحققت أغاضت الأعداء, وفتحت شهية الطامعين في بلاط أشور إلى تولي العرش تمسكت بوصية زوجي وحفضتها فكان الثمن باهضا .
حام الرجال حولي .
وأصبحت مضغة في أفواه القارضين
هذا شهوة يرمقني وذا طمعا يريدني
وآخرون حاولوا اصطيادي
واحد يعلن الصبابة
وأخر يظهر القوة والشجاعة
وأنا أمامهم برزت غول
جاهر بالعشق رجال وأعلنت المهادنة
أطماعهم تنوعت ،وأعمالهم تلونت
من طامع بالعرش والحكم
إلى لاهث مستسلم لنزوته
وثالث قد عدل
اغرموا جميعهم وتلهيت عنهم
أبدا لم تحن لي هامه
ونأيت عنهم بلباقة
وأخذت نفسي بالزماتة والمتانة
طاردوني وطردتهم
ورضيت أن أحيا مع ولدي بلا بعل
تجمدت أمامهم كقطعة ثلج
رغم ما مر نوء شديد
ورغم ما ركبوا من كل صعب وذلول
لكن بمعونة الآلهة جميعها ظفرت
أي الصفات اجتمعت ورسمت هذه الشخصية زوجة وأم ووصية ، وفوق هذا هي رعبوبة37 ومحاربة , ويبدو أن منصبها لم يكن يمنع من تتبيل من ينظرها من الرجال واستمرت سميراميس بالكلام :
لم يرحموني وكأنني بينهم فريسة .
جعلوا من حياتي قطعه يباب
وطوقوني بألوان العذاب
أحشائي نار تستعر وأضلاعي أمست جمرات
انشد الراحة والهدوء احتاج المسرات
وأنا التي لم ترهبني الغمرات
ولكن هيهات هيهات
صادروا كل جميل من حياتي
فكنت ابكي كل يوم
بلا دموع أو نحيب أو عويل
لكن من كان يسمع أمسى في ذهول
وحدها الأرض البعيدة والسهول
شاركتني الحزن في الليل الطويل
أما من كان في القصر فلا يسمع
بات يحلم بالمنال
لكنهم لم يلحظوا الأغنام والخيل وما في نينوى من كائنات
توترت وراحت في دوار
هذا يضرب الأرض بحافر
وذا جن من شيطان
وكلاب الحراسة بنباح مستمر
حينها أمسى القصر نارا حامية
فنزلت النوازل , وألمت الخطوب
وكثر اللمز , وشاع الهمز
فخرجت إلى السهول والبادية
مع الثور المتوحش والذئب المفترس
فكانت الغصة في الصدر
والوقر في الظهر
والحسرة في النفس
فأصبحت ألهو لهو الطفولة
ومع الشمس الساطعة
ومع النجوم اللامعة
ومع القمر المضيء
كانت سلوتي وعزائي
وأشاعوا من بعد كل ما فعلوا
ورموني بالسفاهة
فاحترقت وصرخت وتوجعت
وصمت وتأوهت كثيرا وصبرت
رغم عظيم ما احمل
في القصر أرى الآفات تنشط في دهاليزه وأروقته
السخط كنت أراه في وجوه الحاضرين
ولا غرابة هنا فهذا حال الناجحين
فعملي وانجازي كان إعياءا لهم
وحينما فشلوا وسقط ما في أيديهم من ذريعة
نسجوا حولي حكايات مكيدة
ظن البعض إنها حقيقية
فكنت لديهم جانية وأنا الضحية
فدسسوا ما استطاعوا من دسيسة
ورموا حبال خداعهم في طريقي وجعلوا حياتي جاحمة38
ذهب الواشون كل مذهب وفاحت نتانة المؤامرة
في كل ركن من قصر شمتيداد39 كانت إشاعة
ونشروا ما شاءوا من وشاية
وتسكعوا في أودية الغواية
فلم أجد لي ملتحدا40 إلا الصبر.
ولأجل مجد الملك تحملت لا للملك
ووقفت صلدة متجلدة
بوجه كل عدو كاشح41
ومنافق مرتاب
طلبوا لي العار فكان ما نظموا إكليل غار
يا شعب ايتو الطيبين:
لا تتوهموا أن الجمال ما بان على الوجه رسم
بل هو ما تجسد على الأرض بناء
وما دون على الرقيم إنشاء
إن إحسانكم غمرني بفرحة كبيرة
وما ان جاء ذكر الملكة لبابل حتى برز تاب ــ تسلي احد اعضاء مجلس الشيوخ والحكماء في المدينة . شيخ في السبعين من عمره او اقل ، ذو لحية بيضاء ووجه مشرب بالحمرة تغلب عليها السمرة . تركت ناران على جسده اثارا بانت في جلده ، وهج الشمس وما اصطلحت على جسمه وبانت امارتها عليه ، ونار الكور والاتاتين التي تقلب على العمل وافنى شبابه في هذه الاعمال الشاقة ، ترى هذان العاملان وقد تركا اثارهما على غشاء جلده ، وبالرغم من مرور السنين وتعاقبها وقساوة العمل الذي يقوم به الا انه لا يزال وافر النشاط قوي العضلات ، جهوري الصوت يرسل كلامه وكانه ُشواظ يخرج من فوهة ايقاد الاتون .
يا ملكتنا العظيمة يا من وهبتك الالهة الحكمة والقوة والجمال .
بابل عندنا عيش وعطاء
هكذا قال لنا الاسلاف عنها والجدود
بابل علم وفن وظلال
بابل خير وثروة
بابل منعة وجبروت وصرح
بابل زهو ونور ومرح
ايتو وبابل بينهم شريان حياة
طالما يجري الفرات
فحملنا القار والمغرة42 اليها والحجارة
وساهمنا بجهد وبِرّ في العمارة
فالحُمَر43 شاهد والبرج44
فلهذا حمورابي جاء ايتو شاكرا
وقبله سرجون جاء خاشعا
وهكذا من امد سومر واكد
الى عهد اشور
بابل تاريخ وحكاية مستمرة
واستحسنت الملكة كلامه هذا, ووجدت الطريق امامها ممهدا فقالت :
اني اطلب منكم حاجة:
أريد بعض الحرفيين الذين يعملون في بناء السفن أن يسيروا الى نينوى معي .
سأنشى مرسى لبناء السفن وابذل لهم ما يطلبون ويكونوا تحت رعايتي .
لبى قسم من الحرفيين الطلب .
ولما دنا الوداع أن الناس وزفرت نفوسهم وهنت أبصارهم بدموع اكتوت بها وجوههم وبللت ثيابهم .
تقدمت الملكة سميراميس وركبت سفينتها وهي تلوح بيديها وقد هَنَّا45 بصرها بدموع تناثرت فوق عارضيها كأنها قطرات طل46 وكانت قد لبست التاج والصولجان وحملت سيفها ونادت الملكة من على السفينة .
هكذا هو حال الدنيا إن يوم السرور قصير .
وداعا يا ايتو وداعا يا شعب ايتو .
وانطلق مركبها يسير في نهر الفرات وبقي الناس يحدقون إليها وأبصارهم شاخصة حتى غيبها البعد ثم انفض الجميع وهم واجمون .
الهوامش
1. ايتو : مدينة ( هيت) في الانبار- العراق حاليا
2. مناقيد :مناقير
3. سبوح : سريع
4. سميراميس : هي سمو- رمات الملكة الأشورية وزوج الملك شمسي ادد الخامس وهي سمير اميس في المصادر الكلاسيكية وشميرام بالصيغة الآرامية سمو- رمات: مركبة من كلمتين سمو : وتعني حمامة , ورمات : وتعني محبوبة فيكون معنى اسمها (محبوبة الحمام).
5. داكان : إحدى الإلهات التي كانت تعبد في ايتو
6. الخزانو : المحافظ (الرجل فوق المدينة)
7. رامكو : الكاهن المسؤول عن طقوس الغسل والتزييت
8. باشيشو : العراف
9. الشتامو : حارس المنطقة
10. الناديتوم : الكاهنة
11. القيبو : الكاتب ،الناظر
12. النارو : المنشد
13. انسي : القائد الذي يشرف على السكان للأعمال الزراعية
14. دبشار : معلم ،مدرس
15.كنكرا : معلم ،مدرس
16. اوميا : خبير في التعليم أو حجة
17. ادا ادبا : أبو بيت الرقيم
18. هميمة : مطر ضعيف
19. الرمض : شدة وقع الشمس على الرمل
20. الصرد: شدة البرد
21. بيت ـ رمكي: بيت التطهير
22. اددا: آلهة
23. الرقش : الرسم
24. الكور : وحدة لقياس كمية الحبوب والتمر و غير ذلك
25. اداد: آلهة الأعاصير
26. أوتاد الماء : مرساة السفينة
27. طير الليل :الخفاش
28. أشور مانكار كور : موظف أشوري مسؤول عن المؤن ونحو ذلك
29. أغيد لين الأطراف : الناعم المتثني
30. كأم الخشف و الرشاء : أي الضبي إذا قوى ومشى مع أمه
31. شمسي ادد : هو الملك الأشوري وزوج الملكة سميراميس حكم اثني عشر عاما (828/811ق.م)
32. سوهو : وتسمى سوخو قبيلة معادية لللاشورين
33. اوراتو : أعداء الأشوريين
34. بيت خالوبي :أعداء سميراميس
35. بيت اديني: أعداء سميراميس
36. مردوخ ـ بلاطو : حاكم بابل الذي ساعد شمسي ادد على القضاء على التمرد في بلا أشور
37. رعبوبة : البيضاء الحلوة الناعمة
38. جاحمة : أي شديدة الحر
39. قصر شمتيداد : قصر الحكم في نينوى
40. ملتحد : ملجا
41. عدو كاشح : العدو الباطن العداوة
42. المغرة :اوكسيد الحديديك المائي الطبيعي, وتكون صفراء او حمراء عادة . تستخدم في صبغ الصوف والكتان ونحو ذلك .
43. الحمر : القار
44. البرج : يعني برج بابل
45. هَنّا: بكى واليه حن .
46. طل : ندى
#كاظم_الحياني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟