أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي حرب - ازمة العقلانية بين الكنيسة والعلمانية: قضية المطران حداد مثالاً















المزيد.....


ازمة العقلانية بين الكنيسة والعلمانية: قضية المطران حداد مثالاً


علي حرب

الحوار المتمدن-العدد: 255 - 2002 / 9 / 23 - 00:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


 
الأحد 22 سبتمبر 2002 05:12
 

 
منذ حادثة الاعتداء على المطران غريغوار حداد، والرغبة تحدوني الى التعليق والكتابة. وبالطبع تأخرت الآن. ولكن لكل شيء ثمنه. فبعد ان هدأت القضية التي الهبت المشاعر وحرّكت العقول، قد تكون الكتابة اقل تشنجا وانغلاقا، او اكثر تفهما وتعقلا، كما يؤمل ويُنتظر.

 
الحياة والفرائض

 
1- ابدأ تعليقي بهذه الحكاية: بعد موت احد مشاهير التصوف في بغداد العباسية، رآه احد اصدقائه في المنام، فسأله: كيف عاملك ربك؟ فقال: لما مثلت بين يدي ربي سألني: اتعلم لماذا غفرتُ لك ذنوبك؟ اجاب المتصوف اجابات عدة لتفسير الامر، فقال مرة لعملي الصالح، واخرى لأنني عبدتك يا الهي باخلاص، وثالثة لأنني اقمت الصلاة وآتيت الزكاة، ورابعة لأنني سافرت لطلب العلم وهجرت بيتي لكي ازهد واتنسك. غير انه كان كلما ذكر سببا قال له ربه: ليس لهذا السبب عفوت عنك! ولما اعياه الجواب سأل ربه عن السبب الحقيقي، فقال له: اتذكر عندما كنت تتجول في شوارع بغداد، في يوم من ايام الشتاء، ثم شاهدت هراً يكاد يموت من البرد القارس، فرفقت به وغطيته بردائك الصوفي؟ اجاب المتصوف العابد: اجل يا مولاي انني اذكر ذلك اليوم. فقال له ربه لأنك رفقت بهذا الحيوان الصغير، سوف ارحمك وادخلك جنة الفردوس.

 
الفرع يحجب الاصل

 
هذه الحكاية، التي لا ارويها بحرفيتها، اتأولها بالقول: الحياة هي اهم واولى من العقائد والشرائع أو من الاحكام والفرائض، لأن هذه كلها مسوّغها ان تُستخدم من اجل حراسة الحياة وصونها، او من اجل نموها وازدهارها ولو كانت حياة هرة او نملة او زهرة.
نسخ البداية
2- مثل هذا المنحى في تأويل الدين ليس هو السائد، ولم يكن سائدا في يوم من الايام، لأن الدين تجلى في الأكثر والأغلب كنسق مغلق من التعاليم والأحكام، او كنظام صارم من القواعد والطقوس، لمصادرة العقول او لتطويع النفوس والابدان.
وفي الحالة القصوى يشتغل النمط الديني كمصنع عقائدي لانتاج الكره والبغضاء او العداء والاقصاء على ما هو مآل العلاقات بين الديانات التوحيدية، او بين المذاهب داخل كل ديانة. وهذا هو على العموم، الحال والمآل، لدى كل منظومة فكرية مغلقة وصارمة يشتغل اهلها بعقل ضدّي او يدّعون امتلاك اليقين الابدي، اكانت دينية ام فلسفية.
3- على انه ايا يكن المنحى والنمط او النهج، فالعلاقة مع الاصول تمارس بالاجمال، على سبيل الزخرفة والاحالة او النسخ والتبديل، او الصرف والتحويل، بحيث ان الفرع يحجب الاصل، الذي قد يكون هو نفسه فرعا او تأويلا لأصل آخر، لكي يقوم مقامه او يعمل على محوه، فيما هو يدعي الانتساب اليه او المماهاة معه. وتلك هي خدع الكلام ومراوغات الخطاب.
فكيف ونحن اليوم في عصر المشهد والشاشة، وذلك حيث الناطقون باسم الآلهة والأوَل والاسلاف لا يعملون الا على حَجْبهم بصورهم واصواتهم وحركاتهم! انه المعنى الذين نَدينُ به أو له لكي نقوم بنسخه او انتهاكه.

 
سجن الحياة

 
من هنا الوهم الكبير لدى اتباع الديانات والادلوجات من حيث وعيهم لهوياتهم: وَهْم المسيحي بأنه على نهج عيسى، والمسلم بأنه على صراط محمد. وبالطبع هذا وهم الماركسي الذي يعتقد بأنه يتماهى في فكره مع نظرية ماركس، كما هو وهم العقلاني الذي يعتقد بأنه يمثّل او يتطابق مع فلسفة الانوار، من غير نسخ او تحويل.
فشتان ما بين البدايات والنهايات، او ما بين النصوص والتأويلات. وما كان في مبتدى الدين اقوالا مرسلة حول معنى الوجود ترتبط بالواقع اليومي المعاش، استحال تألهات، وتعميات تقوّض المعنى ولا تخفي سرا من فرط خداعها وانفضاحها. ما كان في البداية قواعد للمعاملة مثل "احبوا بعضكم بعضا"، او "لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه"، تحول الى مجامع لاهوتية ومجلدات كلامية او موسوعات تفسيرية، تحجب بقدر ما تفسّر وتقيّد بقدر ما تحرر، اذ هي تؤول الى سجن الحياة او الى دفنها داخل الانساق النظرية المحكمة او تحت التجريدات الماورائية الخاوية. من هنا دعوة روان وليامس، اسقف كانتربري الجديد، وكما نقل عنه، الى النزول بالعمل الكنسي من سماء الماورائيات اللاهوتية الى "حياة الناس" اليومية.
استحالة التطابق مع الاصل
4- عندما انفجر الخلاف بين المطران غريغوار حداد وكنيسته، للمرة الاولى، كان تفسيري للموقف ان المطران يريد ان ينهج نهج المسيح، من حيث الزهد والتواضع او المحبة والرأفة، ولكن الكنيسة لا تقبل بذلك ولا تقدر عليه، لأن ما يشغلها الآن ليس التطابق مع البداية المسيحية، بل الدفاع عن نفسها كمرجعية وسلطة، او كهوية ومؤسسة، او كموقع وحصة. وبالطبع هذا شأن المؤسسات الدينية الاسلامية: ما يعنيها اخيرا ليس التطابق المستحيل مع السلف، بل الحفاظ على المرجعية والولاية او على الموقع والسلطة او الحصة والغنيمة. وتلك هي المفارقات لدى المرجعيات والمؤسسات العقائدية التي يحاول اصحابها التماهي مع الاصول والبدايات.
هذه ايضا مشكلة المطران حداد ومحنته: انه يريد ان يمشي ممشى عيسى، ولكن العصر لا يتحمل ذلك ولا يطيقه. بل ان المشروع المسيحي لم يصبح ممكنا وقابلا للانتشار والتداول، الا بعد الخروج عليه، والتعامل معه بمنطق التعديل والتبديل، كما هو شأن المشروع الاسلامي، خصوصا بجانبه المثالي وكل مشروع لادارة البشر وتغيير العالم. بهذا المعنى ليست المشاريع محاولات تطبيقها بقدر ما هي شبكات تحولها اكانت ذات جذر ديني ام علماني.
في اي حال لا اعتقد اننا نحتاج الآن، كمشروع خلاص او كنهج للعمل، ان ندير الخد الايسر عندما نُضرب على الخد الايمن. مثل هذا الزهد بالذات لا يحد من استعمال العنف، ربما يعمل على ازدياده وتفاقمه. ما نحتاج اليه هو ان نتخلى عن عقلية البطل والمنقذ او الرسول الذي يدّعي القبض على حقيقة الحقائق او تجسيد المثل الاعلى او امتلاك مفاتيح الهداية والخلاص، لكي ننخرط في توجه وجودي جديد ونتمرس بسياسة فكرية مغايرة، فلا نتعامل مع الافكار بوصفها مبادئ او نظريات مطلقة تصح بذاتها بمعزل عن سياقاتها وتدابيرها، بل بوصفها قابلة لأن تحيا حياتها وتفعل فعلها بالانتشار والتداول، بحيث ان من يقتنع بها ويعمل عليها، يتغير بها او يتحول معها بقدر ما يساهم في اغنائها وتطويرها. فليس بوسع فرد ان يصلح دينا او ينقذ امة او يغير مجتمعا بكامله. هذا ادعاء نظري او عملي قد تم افتضاحه بمفاعيله السلبية وترجماته الفاشلة. فالمجتمع يتغير ويتطور، بقدر ما يتصرف فيه كل فرد بوصفه صانعا لحياته يتغير ويساهم في تغيير سواه بممارسته حيويته الفكرية، واستثمار قدرته على الخلق والابتكار في مجال عمله او في محيطه وعالمه.

 
الاختلاف والانشقاق

 
5- الخلاف بين المطران حداد والكنيسة الكاثوليكية، والمارونية تحديدا، ليس مجرد سوء تفاهم ولا هو مجرد خلاف من اجل اصلاح الكنيسة. فالمطران تعدى ذلك بآرائه ومواقفه اللاهوتية والاجتماعية او السياسية، اذ هو منذ ظهر الاختلاف الى العلن كان يفكر ويتصرف كثائر متمرد او كخارج منشق.
تجلى ذلك بشكل خاص في انفتاحه على الآخر العلماني والاسلامي. ولا مراء ان الانفتاح على الاسلام في بلد كلبنان هو مثار الالتباس بمعنى ان الانفتاح على العلمانية هو اخفّ وطأة عند المسيحي من المماهاة مع الاسلام، تماما كما ان تبني المسلم فلسفة غربية علمانية هو اخف وطأة من مماهاته او اعتناقه المسيحية، نظرا للحساسية الاجتماعية الطائفية من جهة، وللعداوة التي نشأت بين الديانتين بفعل الصراع على احتكار المشروعية الدينية كما تجسد ذلك في استراتيجيا الرفض المتبادل.
هذا المنطق الضدي المغلق هو ما يحاول المطران حداد كسره باستمرار، بتعامله مع ظاهرة التوحيد من غير تفريق بين الديانات، بحيث لا يجد حرجا عندما يُسأل عن هويته بأن يقول للسائل: بامكانك القول انني "مسلم" كما اجاب في حوار متلفز منذ سنوات، كما لا يجد حرجا في اقامة صلة وثيقة بين مشروع عيسى ومشروع ماركس بالذات، كما يكرر القول عندما يُسأل عن موقفه من الماركسية.
ولذا ليست المشكلة ان المطران حداد يخالف معتقده المسيحي لقوله بنبوّة محمد، كما يُسأل او يجادَل بسذاجة. فهو يتجاوز ذلك الى ما هو ابعد وارحب، اذ هو يتعامل مع التراث الاسلامي بوصفه تراثه الذي يرجع اليه، كما يتعامل مع التراث العلماني والفلسفي بوصفه تراثه الذي ينهل منه. من هنا فانه بعد يومين من حادثة الاعتداء عليه، يستشهد بالقرآن لا لكي يحتج به على المسلمين، بل لكي يعيد النظر في موقفه من الاصول، وعلى نحو يخدم وحدة الايمان وتعدد الديانات.

 
كسر الحواجر العقائدية

 
وهكذا لا يميز حداد بين تراث وآخر. من هنا كانت دعوته بعد الحادثة الى "تجديد المسيحية والاسلام" معا، محاولا بذلك ضرب الاحتكار الذي تمارسه الطوائف والمذاهب تجاه الكتب والنصوص فليست الاناجيل ملكا للمسيحيين، ولا القرآن ملكا للمسلمين، وانما نحن ازاء نصوص تشكل منابع للمعنى بقدر ما هي امكانات مفتوحة لكل من ينظر ويتأمل، او يعقل ويتدبر. ولرب غير مسلم يستخدم التراث الاسلامي بصورة غنية ومثمرة اكثر من المسلم نفسه. وبالعكس. ومن المفارقات ان من احسن من كتب عن فكر الامام علي وسيرته في لبنان هم مسيحيون.
6- ان تحطيم الحواجز بين الديانات يكتسب اهمية مزدوجة وفائقة: الاولى على الصعيد اللبناني، اذ هو يفتح خطوط التواصل ويخلق مجال التفاعل بين المجموعات والطوائف بقدر ما يَحُول دون تحويل الهويات الدينية الى سياجات عقائدية، او الى محميات عنصرية تترك آثارها السلبية على وحدة المجتمع والوطن وعلى الحياة المدنية.
والثانية على الصعيد الكوكبي، بعد ان باتت المصائر والمصالح متشابكة بين البشر اقتصاديا وامنيا وثقافيا. على هذا المستوى من النظر لا هوية لاحد تخصه وحده دون سواه، ما دام ثمة تفاعل بين الخصوصيات الثقافية والهويات المجتمعية.
بالطبع من حق كل جماعة ان تمارس حريتها في التفكير والاعتقاد والتعبير. ولكن ليس من حقها تنزيه الذات بصورة نرجسية لرمي الجماعات الاخرى في دائرة الكفر والرذيلة او الشر والبربرية. هذه عملة عقائدية دفعت البشرية اثمانها الباهظة فتنا وحروبا اهلية. من هنا كل حق خاص في ممارسة حرية الاختلاف يصبح موضعا للمناقشة والمداولة، انطلاقا من حق كوني عام، فيما المجتمعات البشرية تدخل في عصر الهوية العالمية والمواطنة الكوكبية، وذلك حيث الشراكة والمسؤولية المتبادلة عن المصائر.

 
الكنيسة بين التسامح والتشدد

 
7- ثمة من كتب في قضية حداد ومحنته لكي يضع الكنيسة موضع النقد والاتهام بالتطرف والانغلاق. وهذه مسألة تحتاج الى اعادة النظر. قد تكون الكنيسة في لبنان متشددة ولكن على الصعيد السياسي، والوطني بشكل خاص. وللكنيسة المارونية ارث راسخ في هذا الخصوص، اذ هي تتماهى مع لبنان بقدر ما تعتبر ان رئيسها قد "اعطي له مجد لبنان" بحسب القول المشهور.
وهذه احدى معضلات لبنان الوطنية: ادعاء تمثيله او النطق باسمه او ممارسة الوصاية عليه من جانب المرجعيات غير الرسمية، من دينية وسياسية، باسم شعار من الشعارات قد يكون السيادة والتحرر، او التحرير والمقاومة. وخطاب السيادة والتحرر عندنا منسوج من المخادعة، لأن لبنان الحديث ولد اساسا من تسوية تخلى بموجبها كل واحد من الفريقين، باللفظ والظاهر، عن تبعيته لمرجعيته الخارجية، العربية او الاجنبية بقدر ما اكد على هذه التبعية في السياسة والممارسة. واليوم يتعورب لبنان ثقافيا واعلاميا، وخاصة اقتصاديا، بدليل ان رجل اعمال عربياً مستثمراً له من الفاعلية على الساحة اللبنانية ما لعشرات السياسيين والمنظرين للسيادة والحرية.
فكيف ونحن اليوم في عصر ضعف السيادات الوطنية والقومية، بفعل الاشياء والكائنات العابرة للدول والقارات من الاموال والمعلومات او من الاسلحة والاشخاص والعملاء. والشاهد يقدمه لنا ما حدث من تفجير في مدينة نيويورك حاضرة العالم الكبرى. مما يعني ان الولايات المتحدة لا تستطيع ان تحفظ سيادتها الا بالتراجع عن عولمتها واللجوء الى القوة او الارهاب.
في اي حال، ان الموقع الرئيس الذي تحتله الكنيسة في لبنان، اي كونها تعامل كمرجعية وطنية او كهوية لبنانية من جانب الاكثرية من المسيحيين، هو الذي يولد مأزق المطران حداد، بقدر ما يجعل آراءه اللاهوتية ومواقفه السياسية عملة غير قابلة للتداول في الاوساط المسيحية، اكليريكية وعلمانية.
غير ان الكنيسة وإن كانت متشددة سياسيا ووطنيا، فهي اقل تشددا عقائديا، لأن آخر ما يهمها الآن ان تكون متطابقة مع البداية المسيحية، كما هو شأن كل صاحب مشروع او موقف منخرط في زمنه وواقعه، اكان مسيحيا ام علمانيا، مسلما ام غربيا. وهذا شأن المطران حداد  فان آخر همومه ان يتوافق مع كنيسته او يتطابق مع مسيحيته.
من هنا التسامح الذي تبديه الكنيسة عقائديا في قضية المطران حداد، اذ هي تقبل منشقا بين صفوفها لا يتوقف عن نقدها ومعارضتها. وبالمقارنة، نجد انه من الصعب على السلطات الدينية الاسلامية ان تتسامح مع الخارجين على الاجماع. والشاهد اتانا مؤخرا من ايران، حيث تراجع امام اصفهان عن النقد الذي وجهه للمرجعية الدينية الرسمية حتى لا يعامل كمنشق. هذا بالنسبة لرجال الدين، اما الآخرون فتطلق ضدهم تهم التكفير والردة التي ازدهرت في السنوات الاخيرة في العالم العربي، وكان لها ضحاياها تهديدا وتشريدا او اغتيالا وتصفية.

 
ازمة العقلانية مع دعاتها

 
وليس الوضع افضل حالا لدى المرجعيات الايديولوجية العلمانية، القومية والماركسية، كما شهدت التجارب، حيث صنّف المخالفون والمعترضون في خانة العمالة والخيانة او التحريف والهرطقة او حيث واجهوا الادانة وتعرضوا للتصفية.
وهكذا تُبدي الكنيسة انفتاحا في المسألة العقائدية لا نجده لدى التيارات الفكرية والسياسية ذات التوجه العلماني كما شهدت النماذج والتجارب التي عمل اصحابها تحت شعارات التقدم والتنوير والتحرر. من هنا نجد رجال دين، خاصة في الوسط المسيحي، يتعاملون مع عقائدهم بصورة مفتوحة، مرنة وعقلانية، في حين تجد دعاة للعلمانية تعلقوا بها كديانة حديثة بقدر ما تعاملوا مع عقولهم وافكارهم بصورة لاهوتية، اي كمراجع مطلقة او كأصول ثابتة او كأقانيم مقدسة.
وتلك هي المفارقة لدى الذين استحضروا في كلامهم على محنة المطران حداد، الرموز والمعارك الفكرية القديمة والحديثة: لقد تناسوا ان العقلانية، وخصوصا في العالم العربي، سجلت تعثرها او فشلها لدى دعاتها الذين تعاملوا مع العقل بعقلية النضال والتبشير او بشكل مدرسي ومنطق ضدي مغلق، الامر الذي يفسر عجزهم عن تجديد مفهوم العقل او اثراء تجارب العقلنة.
واذا كان ثمة محاولات جادة او قيّمة في هذا الخصوص فبقدر ما يتحرر اصحابها من اطياف الدعوة ولغة الادلجة وبقدر ما يخرجون على منطق التقليد وعقلية المدرسة، لكي يتعاطوا مع المعطيات والانجازات بلغة الدرس والفهم او بمنطق التصنيع والتحويل.
بهذا المعنى لا تكمن ازمة العقل مع المؤسسات الدينية. تلك هي ازمة العقل النضالي والايديولوجي الذي هو الوجه الآخر للعقل اللاهوتي. اما العقل الفلسفي المفتوح، فان ازمته هي مع ذاته بقدر ما تنبع من مفهومه بالذات، اي من انماط الرؤية وقوالب المعرفة او من انظمة الفكر وادوات المقاربة او من مناهج الدرس وسياسة الفكر. وهذا مصدر الازمة في سائر الشعارات الحديثة التي اعيد انتاجها ولكن بنسخ فقيرة او سيئة او مشوهة بقدر ما جرى التعامل معها كنماذج جاهزة او كحقائق نهائية. في حين ان صيغ العقلنة واعمال التحديث والتنمية تحتاج الى خلق الوقائع الفكرية والمعرفية، كما يتمثل ذلك في ابتكار المفاهيم والنظريات او المناهج والنماذج.
وهكذا فنحن نطرح احيانا قضايا نجهلها او لا تكون قابلة للتداول، او لا نقدر على ترجمتها بقدر ما ندافع  عنها بأدوات مفهومية عقيمة وغير فعالة. ولعل هذه حال شعارات كالعلمانية والمجتمع المدني: تكاد تفقد مصداقيتها من فرط استهلاكها.

 
الانسان وكوارثه


 
9- اختتم كما بدأت بتأويل تجربة المطران حداد، لأقول ان خلافه مع الكنيسة يتعدى قضية الاصلاح والتجديد. فليت المسألة عنده ان نعرف ما هي المسيحية الحقة لكي نعمل بها، او ما هو الاسلام الصحيح لكي نتبعه، ولا حتى ما هي العلمانية لكي نلتزم بها. فالجدل اللاهوتي والكلامي حول الاحقية والمصداقية من جانب اهل الطوائف والمذاهب، يحجب الواقع المعاش ويموه المشكلات، سواء على جبهة الديانات او على جبهة الفلسفات بعد ان وصلت المشاريع الحضارية والمساعي البشرية الى نهاياتها الفاشلة، او الى مآزقها الكارثية. ولعل هذا ما حدا بالمطران حداد الى ان يقول في احد الحوارات المتلفزة انه يؤثر الكلام على المسائل الاجتماعية، لا على المسائل اللاهوتية. وهذا ايضا ما جعله يطالب الذين اتوا للتضامن معه، بعد الحادثة، بأن يدعموا  مشروعه الاجتماعي كي لا يكتفوا بالظهور عبر الشاشات.
ومعنى ذلك ان المسألة لم تعد ان نفاضل بين هذا الدين وذاك، او بين هذا المرجع الديني وذاك الحزب العلماني. لأننا نتغذى في النهاية من الجذر الثقافي الذي يولّد الاستبداد الفكري، ونصدر عن العقل الماورائي او المتعالي نفسه الذي يشهد على عجزه عن ان يبتكر ويصنع او يتغير ويتحول لكي يجدد مجالاته وادواته او انظمته ومناهجه، بحيث يساهم بصورة غنية وفعالة في فهم العالم والتأثير في الواقع.
من هنا ليست القضية ان نعرف كيف نكوّن انفسنا، بل ماذا تقدم لنا عقائدنا المسيطرة وفلسفاتنا الرائجة من الامكانات لكي نتعايش ونقبل بعضنا البعض؟ كيف نتغير عما نحن عليه في ما نعتقد به او نفكر فيه او نسعى اليه، لكي نتقن التبادل والتواصل، او لكي نشارك في صناعة العالم، او لكي نعالج الازمات ونستبق وقوع الكوارث؟
ولا يعني ذلك، بالطبع، ان لا نهتم بالجدل الفكري. بالعكس: ما نعانيه هو حصيلة لعقلياتنا ومفاهيمنا واستراتيجياتنا التي تنتج ما يفاجئ ويصدم من الكوارث والمحن، اي هو ثمرة سيئة او مدمّرة لعقلنا الذي بلغ مأزقه وفقد مصداقيته في الفهم والترشيد والتدبير، بأشكاله القديمة والحديثة. فلم يعد يجدي او يغني فهم العالم والسعي الى تغييره بالعقليات الماورائية والمتعالية او النبوية والنخبوية لسارتر وماركس او للافغاني والكواكبي، او لفولتير ولوثر.
من هنا الحاجة في سبيل تغذية مصادر المشروعية وتجديد اشكال المصداقية، الى التدرب على عقل جديد بمنطقه واستراتيجيته ومفاعيله في التوسط والتعدد او التركيب والتجاوز او التداول والتواصل. واذا كان لذلك صلة بالتجديد في الفكر الديني، وخصوصا في المجال الاسلامي، فلذلك حديث آخر.
النهار اللبنانية


#علي_حرب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخديعة المزدوجة: أيلول الأميركي العربي العالمي


المزيد.....




- كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
- “التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية ...
- بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول ...
- 40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
- المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي حرب - ازمة العقلانية بين الكنيسة والعلمانية: قضية المطران حداد مثالاً