نعمة السوداني
الحوار المتمدن-العدد: 3742 - 2012 / 5 / 29 - 14:17
المحور:
الادب والفن
مسرحية مملكة الكريستال في عرضها الاخير بمراكش
المسرحية مستوحاة من قصائد الشاعر -- موفق محمد-- وعن رواية عابر السرير للروائية الجزائرية احلام مستغانمي ...
شاركت فرقة ينابيع العراق المسرحية في عملها -- مملكة الكريستال -- في مهرجان مراكش الدولي للمسرح في دورته الثامنة دورة الفنانة مليكة الخالدي .
كنت منذ اللحظات الاولى اتابع البروفات وخطة العمل المرسومة برؤية وافكار فريق العمل بشكل مجتهد جميل وواضح , كانت جهود ( كاست العمل ) تصب من اجل تقديم عرض يمثل المسرح العراقي الجاد بين تلك العروض المسرحية العربية والعالمية .
وجدت اجتهاد الممثلة نضال عبد الكريم وهي تتالق في بناء المشهد الواحد بطاقاته الفنية الخلاقة وهي في المراحل الاولى من التداريب وكانها تعمل على تقديم العرض الان لتقول لنا ( نحن هنا الان ) وليس في زمن التدريب , كما وشاهدت الفنان المبدع حيدر ابو حيدر الذي تالق ايما تالق في هذا العمل من حيث تقنيات فن التمثيل في الاستلام والتسليم مع زميلته اثناء التدريب والعرض .
مسرحية مملكة الكريستال من الاعمال المهمة التي عرضت في هذه الفترة الزمنية التي يمر بها العراق في منعطف تاريخي خطير, وكما هو معلوم ,ما للظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من تاثيرات سلبية على الواقع حينما يكون هناك انفلات امني وعدم استقرار بالوضع العام في الحياة , فبعد انهيار النظام الدكتاتوري للبعث والتحولات الدراماتيكية التي لحقت ذلك الانهيار , انقلبت البلاد راسا على عقب وسرعان ما اجتاحت الحياة اساليب قتل وانفجارات واغتيالات ودمار لكل البنى , ثم أشاعت الفوضى والخراب , حتى اصبح نزيف الدم نهر جاري, بالاضافة الى انتشار الذعر والخوف بين الناس , هذا القلق كله وعدم الاستقرار الذي شمل كل قطاعات الحياة ومنها المثقفين الادباء والفنانين والاعلاميين والعلماء والاطباء وكل الطاقات البشرية التي تعمل على رفع شان البلد ومستواه بين الامم , حدد على انه سلوك واسلوب دموي ظلامي غريب دخل جسم المجتمع العراقي محاولا انهاكه واسقاطه بالقاضية , وقد تحولت هذه الممارسات السلبية الى ظاهرة سيئة راح ضحيتها الالاف من البشر الابرياء فالموت اصبح مجاني , موت , موت موت, ولاتوجد ظاهرة او اشارة للحياة .
ظاهرة كبيرة لابد التوقف عندها .
هذه المقدمة هي تعبير عن روح قصيدة للشاعر -- موفق محمد -- بعنوان ( عبدائيل ) التي جوهرها الحقيقي كان المحرك الاساسي لتقديم هذا العرض المسرحي .
(المخرج ) و حاملي خطاب العرض( الممثلين) يقدمون شريطا مسرحيا يعتمد وقائع حدثت في تلك المملكة , وقائع تشير الى ان مجموعة من الكلاب استولت على هذه المملكة وبدأت تنهش بلحم البشر ,تنهش في لحم كل الفئات من البشر , و المثقفين هنا فئة طالتها انياب تلك الوحوش الكاسره وقتلت منهم ماقتلت ,هنا في هذا العمل تحديدا يتم التركيز على عين الكاميرا للمصور الذي راح ضحية هذه الحالة البشعة بينما هو يسجل الوقائع الغريبة التي تحدث .
لقد جاءت المفردات في النص المسرحي تعبر عن احاسيس وافكار تنبع من طريقة نطقها بالزمان والمكان وايضا للممثلين ورسمت علاقة مركبة مع الطرف الاخر المتفرج الذي تفاعل مع تكثيف المشاهد ووضوح الحوارات وهذه اضافة جديدة لقوة النص الذي جاء وفق رؤية المخرج (سلام الصكَر) فنجد في بعض الاحيان جملة اوعبارة ضمن الحوارات تختصر لنا مشهدا يوميا نراه في حياتنا الطبيعية .. شخصيات حاضرة في غيابها على خشبة المسرح .
كان التركيز على قضية العرض وعدم التشعب بها واللجوء الى الرص المتين في كتابة النص او اعداده اعطى دفقا عاليا للكلمة والصورة .
ففي بعض الاحيان يخلق المبدع اخراجا وتمثيلا من ادواته البسيطة منجز عظيم وهذا بحد عينه تقدم نحو الامام , لذلك فالابداع لايعني توفر كل التقنيات وكل وسائل التكنولوجيا الحديثة .
لقد وضعت فرقة الينابيع العراقية المسرحية امام عينيها فكرة السينوغرافيا البسيطة --المتريال-- عبارة عن-- حاوية للزبل فقط -- لانها مسرح الجريمة لانجاز عملها الذي ساهم في خلق اجواء واضحة في تقديم العرض الصورة , وكوسيلة في عملية الخلق الفني الذي ساهم في بنائها -- الحوار-- الذي اعطى دورا مهما في وظيفته الاجتماعية بتحسين الذائقة الفنية وتنوير الذهن وتحريك الماء الساكن عبر وظيفة الفنانين حيدر ابو حيدر ونضال عبد الكريم .
العرض يقدم لنا غاية مهمة جدا ليست في المتعة والترفيه وحسب انما اعطى واضاف لنا من الغذاء الفكري الذي يثير الشجون ويطرح التساؤلات عند المتفرج ايضا ,عما يحدث في الواقع !!
ان غاية وهدف العرض هو تحريك الساكن لدى المتفرج لأهم القضايا المصيرية التي تتعلق به وبالمجتمع ,والمسرحية هي من الافكار الجديدة لما فيها من حوارات وعبارات تستخدم في ربط المشاهد المستعرضة امامنا ( كفرجة على واقع منقول ليس هو الواقع نفسه ) وهي من عوامل النجاح لكون النص الادبي هو( نص شعري ) ثم دخل الى فلتر المسرح وتمت تصفيته حينما دخل اوساط متعددة مختلفة تحول فيها المقروء الى منطوق وصورة في حضور العرض واصبح نصا ماديا من هنا نؤكد على تفاعلية العلاقة بين فضاء النص المعد وفضاء العرض المسرحي تطرح الان .
وفي سؤال للفنان حيدر ابو حيدر الذي اعد النص من القصيدة الشعرية ( عبدائيل ) للشاعر موفق محمد قال :
انا قرات النص الشعري قراءة ثانية تماما ,وفي لقائي مع الشاعر الاستاذ -- موفق محمد-- في بغداد قلت له اين نصك الشعري في مسرحية مملكة الكرستال ؟ قال لي بالحرف الواحد وجدته في كل المسرحية كما وانا اشعر انها لي , رغم انك لم تذكر بيت شعري واحد من القصيدة سوى جمل لها روح القصيدة ....
ويستطرد الفنان حيدر ابو حيدر في حديثه فيقول :
هناك بيت شعري من نظم الابوذية يقول فيه :
على نصب النوايب سال مني
كما البركان دمي سالمني
خلص كل دمي جسمي وسال مني
خلص والناس كلها تلوم بي
هذه الابوذية تصور الوضع المزري الذي يعيشه المثقف العراقي اليوم بل الانسان ايضا .
وتبقى قصيدة عبدائيل بالنسبة لنا ولنص العرض هي المحرك الاول لي بكتابة المسرحية لما لها من دلالات وصور كماوتبقى بالتاكيد لغة المسرح مختلفة تماما عن لغة النص الادبي . ان الشاعر وصوره الشعرية هي التي حركت - الدراما - مثل ما اريدها انا , اما بقية النص فهو لي بالكامل , ولكن للامانه لابد من القول ان قصيدة عبدائيل أثارت المواجع فجاء النص هكذا ...
مفردة الحاوية اخذتها ايضا من الشاعر نفسه حين يقول --عبدائيل -- ينتظر الدفن على حساب البلديات.
رسالة العرض برؤية المخرج سلام الصكَر :
صور شعرية من النص عبدائيل :
(أخذ ايما لغم من مخلفات الحروب وانسف هذا الجسد الخراب
فلقد تعبت من التوجس والترقب
ويفجر هذا الكون و يبني مملكة الفقراء
وان يشرب نخب الموت الجاثم كالليل على الطرقات
فلم يعد التابوت ذايا ولكي يبرهن حبه للنقل الجماعي
صار لزاما ان تحشوه بفضلات المستشفيات )
على ضوء ماجاء بالنص الشعري -- عبدائيل-- من صور مثيرة تعاملت معها الحوارات واللغة والصور من خلال تفعيل الحركة في-- مملكة الكريستال -- بعين ورؤيا المخرج حتى انطلق منها ليجسد افكاره فيها , معتمدا بذلك على ان الجسد العراقي الذي يمتد عمره لسبعة الاف من السنين , نراه اليوم جسد من دون روح حية , جسد يسكن فيه الخراب الذي يدعي للخوف والترقب من الموت , والموت بعينه نيابة عن الاخرين . انها مملكة خربة ليست من الكريستال الحقيقي انما في غابة ينتشر فيها الموت .
ان التجربة الاخراجية للمخرج العراقي (سلام الصكَر) تعد تجربة طويلة وذات اصول فنية عريقة ولاسيما قد عمل في المسرح منذ السبعينيات من القرن المنصرم وفي اجمل الاعمال التي قدمها ومع العديد من الاساتذة الكبار في تاريخ مسرحنا العراقي , و قداستطاع في هذه التجربة ان يقدم عملا مسرحيا حمل سمات وصفات واضحة للمسرح العراقي وكان بحق علامة بارزة تضاف اليه.
المسرحية قدمت لنا صور حقيقية تعاملت مع الاحداث -- التي جرت فعلا -- بصياغة جديدة وفق ملاحظات ورؤى اخراجية تتناسب تناسبا طرديا مع الواقع باللغة الحوار او الصورة المركبة و الحركة و التعبير , والغاية من ذلك كله هو كشف المشاكل , ورصد الظواهر السلبية التي انتشرت في كل مناحي الحياة العراقية ونقدها محاولا ترجمتها ترجمة تساهم في خلق استجابة مع وعي المتفرج وتبيهه عما يدور هناك ...
ولنا هنا ان نحدد بعض من هذه الثيم المهمة التي اعتمدها العرض المسرحي :
الاستهزاء بما يحدث من جرائم وقتل وتدمير للعقلية العراقية...
اللسان ( الحوار ) و لغة الصورة ( الكاميرا)... اللعب مع الكلاب الضالة وسط النفايات ,
حوارات بين مثقف ملابسه متهرئة يعيش بالمزابل كمجنون يتحدث بلغة العاقل مع كلب رمزي
حاوية , نفايات و اكياس ازبال .. فوضى ..
حارس مقبرة بدون شواهد للقبور ...
اموات ليسوا بحاجة الى حراسة ....
المقبرة تبدو مزبلة والمزبلة تبدو مقبرة ....
صراعات متعددة تطلقها حوارات نص العرض , انفجارات هنا وهناك حتى في سوق الكلمة
فالكتابة والثقافة كلها تؤدي الى الموت لانه ياتي من كل حدب وصوب ...موت مجاني
للموت دلالات اجنبية ايضا فالهمرات تروح وتجيء ..
الطب العدلي شغال على قدم وساق ..برادات الموتى مليئة باجساد العراقيين .
فتش عن هوية المفقود و المغدور به ان وجدته خيرا .
لم تكن الثلاجات وحدها مليئة بالموتى , انما حتى الحاويات مليئة ومن ضمنها حاوية ذلك المصور الذي يعيش في تلك المزابل ...
القتل والاغتيال لكل فكرة يقودها عقل واعي ... بينما يتصور البعض بان الخدعة التي مرت على الوطن بسرقة النفط , وسرقة الحياة كلها بكل مفرداتها قد تمر من دون معارضة .. انه الغليان في الداخل .انه البركان القادم لامحال .
كلب مستشار خير من مستشار كلب ....
اغتيال مصور ورميه في حاوية الازبال --عبدائيل -- هو الذي يقودنا الى ثلاجات العالم المتعفن باجداث الموتى ...وهو الذي يقودنا الى تفعيل الاحداث وصراعتها .
ثلاجة او ( براد ) رقم 8 ...
يسجى به جثمان بائع مشروبات مستوردة وقعت عليه جريمة البيع هذه وعليه الاستغفار ..
الجلاد يقول الرب واحد ونحن نجتمع حوله ..
الضحية تقول نفس الكلام .. ولكن هناك اشارة الى ان الرب الاخر الذي يقتل من يتجمع ..
يتساوى نهش الكلاب ونهش البشر في الحياة اما بعد الموت فلا يهم ذلك النهش لاي قبر.
اذا الموت بالجملة , حينما يتم اغتيال للكلمة و للثقافة في وضح النهار. اذ لافرق بين المزبلة او البراد, حتى لو تم تبادل الاماكن بين ساكنيها ... فالكل اموات .
صور شعرية جميلة مؤثرة يتبعها بناء درامي اخر جديد على هذه الصور اكثر شاعرية وايلاما.
ان ما تقدم به من الصور والحوارات واللغة في شريط العرض انما اراد ان يقول لنا المخرج فيه
هناك ايضا اشكاليات في الوجود الانساني مع الخالق وبين الاحياء والاموات .. بين الهمس والاشارة , بين السر والبوح , كما استطاع ايضا بقدراته الاخراجية على توليد الدلالات الحركية في عالم التفكير والتواصل المسرحي مع المتفرج والعرض المسرحي , النص مليء بالحركة واللغة , تفاعل واضح في هذه المنظومة .
التمثيل والاداء المسرحي :
على مستوى التمثيل والاداء كانت هناك حالات من التشخيص الواقعي لشخصيات خيالية جاءت من محض فكر المؤلف او المخرج . وهي حالة من اقتباس لذلك الواقع وحقيقته وقد عمل حيدر ابو حيدر على طريقة تقمص تلك الشخصية واضاف اليها سلوكه ومعرفته من حيث التصرف كممثل يعني ويفقه ويجتهد بالخيال والتخيل في حبل القيادة في الوعي والايهام .
وهذا ينطبق ايضا على امكانات الفنانة القديرة والمتالقة -- نضال عبد الكريم -- التي عملت وبشكل دؤوب,كانت تعمل بتقنيات الممثل الجيد ووضعية جسدها واليته وحركتها ورقصها روعة في الاداء الذي اعطاها ايضا مكانة الممثلة الحاذقة المكتنزة بالفعل , بالاستلام والتسليم فنراها تسبق كل تعبير في الصورة او الحوار والصوت بحركة وفعل مختلف يتساوق تساوقا طرديا مع منظومتها الجسدية والحسية .
تفاعل الجمهور مع الممثلين حتى صفق لهما بحرارة بعد انتهاء العرض .
النص والاداء...
الارتقاء بالنص عبر الية -- التمثيل و الاداء -- للمثلين حيدر ابو حدير ونضال عبد الكريم وهما يعلمان بان مايمثل وما يقدم ليس واقعا بل محاكاة للواقع , وان الممثل هو الذي يكون منشىء الاحداث لغاية لحظة الاشتباك المتوقع للجمهور , أي بين ( العرض المسرحي والجمهور) وهي من اسعد اللحظات التي يترقبها المتفرج وقد نجحا في ذلك التفاعل .
بالاضافة الى موضوعة التركيز على قوى الممثلين من اجل الوصول الى الهدف عبر ادائهم المسرحي من غناء ورقص ونطق والقاء وحركة . فمثلا كان غناء الفنان حيدر ابو حيدر مثل بركان ينفجر توا ...ابكى الحضور فعلا . ورقص الفنانة نضال كفراشة تحلق بفضاء واسع .
ولابد ان نشير الى انه كانت هناك استعاضات بالنظرات وبالايماءات والتلميحات , في الصوت والحركة والانفعال , عرف الممثل حيدر ابو حيدر كخالق ومبدع في العرض كيف يصنع الضحك في الحزن ومن الحزن ينتقل الى حالات الفرح وكان موفق جدا في تاثيراته على المتفرج وهو يتحرك بشكل سهل يتناسب وتصرفاته ومن ثم عكس لنا مضمون النص بشكل رائع وجميل بالرغم من تلك القساوة التي مرت في شريط العرض المسرحي الا انها قدمت صراعا دراميا يرتقي في هذا العرض . كان هناك انساجما في الصورة مع كل مشهد مع تناغم الضوء والحركة التي جعلت من الممثلين ان يتابعا انفعالات المتفرج. تحولات متعددة في البصري والسمعي والحركي والفكري جاءت بتناغم وتنسيق عال جدا وهي جماليات لهذه التحولات والانفعالات التي عمل عليها الممثلين اثناء العرض .
المخرج سلام الصكَر اشتغل على المشاهد بفقر انتاجي كبير لاسباب واضحة وقد اعتمد على الممثل وانتاجه فقط .
وكان ذلك سببا واضحا لنجاح العرض, حتى اثبت الممثلين بتعاملهم مع الجمهور الحي والحقيقي بتفاعلهم معه , في كل مشاهد المسرحية من اول لحظة رفع الستار الى اسدالها .
اعداد : حيدر ابو حيدر
اخراج : سلام الصكَر
تمثيل : الفنانة نضال عبد الكريم
الفنان حيدر ابو حيدر
تنفيذ الانارة والموسيقا : صلاح الصكَر
تقنيات وديكور : قاسم حسن
الادارة العامة : نعمة السوداني
نعمة السوداني
ناقد
مراكش -- بغداد -- خروننكَن
#نعمة_السوداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟