يمتلك النظام الطفيلي الحاكم في العراق تجربة طويلة وممارسة عالية في " التحييد " ويمارس هذه الطريقة في إدارة صراعاته الطويلة وفي اشتداد الأزمات.
وقد بدأ ممارستها بعد انقلاب 17 تموز 1968، بأيام معدودة للانقلاب فاستطاع ان يحيد رموز الانقلاب مثل حردان التكريتي ليتخلص من عبدالرزاق النايف عراب الانقلاب ثم ما لبث ان تخلص من حردان وصالح عماش وعبدالرحمن الداوود وغيرهم. وقد تتلمذ النظام على مناهج الأنظمة الشمولية كالاتحاد السوفيتي السابق مستفيداً من إمكاناته المخابراتية وطبيعته الطفيلية.
وتمرس في استخدام هذه اللعبة في إدارة صراعه مع القوى العراقية فحيّد عزيز الحاج قائد الانشقاق ضد الحزب الشيوعي العراقي في صراعه مع الحزب الشيوعي العراقي ثم مالبث ان حيّد الشيوعيين في صراعه مع الحركة الكردية بل لم يكتف بتحييدهم بل جندهم في صراعه ضد البارزاني وضد الأحزاب الشيعية ايضاً. وفي التفاصيل تفرد النظام في خلق المساحات المحايدة غير المثيرة للقلق حيث ينتقل بتعامله معها نحو التجنيد المستقبلي في صراعاته ومثل هذا التجنيد يأخذ احياناً طابعاً مخابراتياً وان مارس بعضه العمل الثقافي. .
أما في صراعه مع الجارة ايران فلم يكتف بتحييد العرب بل جندهم لصالح ماكينته الحربية وحربه الطويلة واستثمر الموقف الدولي من الثورة الإيرانية ليستثمر ذلك الدعم اللامحدود الذي قدمته التكنولوجيا الأمريكية، البريطانية، الألمانية والفرنسية . .
وعند غزوه للكويت استطاع تحييد مجموعة من الدول العربية كالأردن مثلاً عداك عن السودان واليمن ومنظمة التحرير التي أخرجها من الحياد الى التجنيد ولولا هجوم الخطاب الأمريكي بالضد منه ولولا السيولة المالية التي وفرها الكويت والخليج لتحول العرب من التحييد الى التجنيد في مشروع المغامرة الصدامية ولأن العرب غير معنيين بقراءة المستقبل لغياب الاستراتيجية وللتوافق الضمني على المحميات المسماة دولاً تم التغاضي عن قراءة السياسة الكويتية قبل الاحتلال وكذلك تمّ تجاهل الانتفاضة العراقية ضد النظام 1991 لأسباب مذهبية صرفة من جهة ولتشكيل حماية للنظم السائدة وان بتنازلات دولية تتوضح صورتها المأساوية على الساحة الفلسطينية حيث إسرائيل هي الأخرى تشاطر النظام العراقي لعبة التحييد بل كأنهما درسا هذا المنهج على مقعد واحد وان تقاطع صراخ الموالاة العاطفية مع الحقائق الرقمية التي تثبت حجم الخدمات التي يقدمها الشبيهان لخدمة وديمومة بعضهما.
اما على الصعيد الدولي وكيف تم التعامل مع الانتفاضة فيكفي استعادة تلك الفترة إعلاميا وكيف ناصر الإعلام الدولي كله النظام مردداً نفس المفردات في وصف الانتفاضة على أنها مجرد أعمال غوغاء تقودها جماعات تثير القلاقل سرعان ما تستعيد السلطة السيطرة عليها (…). وقد حدث هذا إعلاميا بعد ان انعطف التحالف الدولي انعطافة لا تنسى فبدلاً من المساعدة في إسقاط النظام المتهاوي بل بدلاً من الحياد عمل على إعطاء الضوء الأخضر للنظام للبطش والتنكيل بأوسع انتفاضة شعبية عرفها العراق الحديث، وهكذا استمر النظام بطبيعته الطفيلية التي تتنفس في المناطق الرخوة من العلاقات الدولية والإقليمية، ضاغطاً بكل إمكاناته القمعية والمخابراتية على شعب لم يستيقظ بعد من الخذلان الذي عاملته به القوى الدولية والإقليمية، عداك عن معارضة بلا رؤية واضحة للراهن وللمستقبل. وبدأ النظام يستعيد حيويته وانتشاره الثقافي عربياً فعاد الى الرشوة وشراء الضمائر التي اشتغل عليها قبل وخلال الحرب ضد الجارة إيران حيث سيطر على شبكات الإعلام العربي صحافة وإذاعات مسموعة ومرئية وصارت فيالق الفنانين والأدباء تطوف شوارع بغداد وتنام في فنادق الدرجة الأولى مع تعبئة الجيوب بشيكات النظام الذي يتحكم بشعبٍ اطفاله يصبغون الأحذية ويغسلون السيارات وبعد انكساره في عاصفة الصحراء عاد الى حجمه الطفيلي الأول . . وما ان استجمع قواه عاود التمدد ثانية ليس على صعيد التجنيد الثقافي والإعلامي بل على الصعيد السياسي عبر الهبات الاقتصادية فمد أنابيب الرخاء الى الأردن ثم سوريا وتركيا وصولاً الى مصر ثم عبر القارات حيث اشتغل الكثير من المنتفعين في برنامج النفط مقابل الغذاء وفي الحقيقة كان النفط مقابل استفادة المؤسسات التي توفر لصدام التغطية، هذا البرنامج الذي لم يستفد منه الشعب المعاصر بسبب سياسات الطاغية.
راهن المعارضة ولعبة التحييد :
قبل أن أبدأ برسم ملاحظاتي عن الراهن لا بد لي من المرور على لعبة التحييد التي مارسها النظام خلال صعوده القومي من خلال الحرب العراقية الإيرانية حيث بدأت المعارضة تفقد المبادرة، تقيم الجبهات فتنهار جبهة "جوقد" التي انهارت بسبب عودة السيد جلال الطالباني للتحالف مع النظام وتصفية بيشمركة الحزب الشيوعي العراقي، وجبهة "جود" التي لا طعم ولا رائحة حتى لبياناتها ومع شيوع اليأس والإحباط في صفوف القواعد ظهرت بوادر انشقاقات فردية، يوسف حمدان، ماجد عبدالرضا وغيرهما انتقلوا من قيادة الحزب الشيوعي الى بغداد فأستثمرها النظام بالتهديد بتأسيس حزب شيوعي بديل، ثم أياد سعيد ثابت زعيم القوميين الذي قاتل ورفاقه مع الإيرانيين ضد النظام ثم عاد الى بغداد ليطلب الصفح من صديقه القديم صدام حسين الذي شاركه في عملية اغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم . كان النظام وبدراية مخابراتية يلتقط التيه أو الحيرة الناتجين عن غياب الرؤية والبرنامج عند المعارضة فيهجم بلعبة التحييد الذي سرعان ما تتحول الى تجنيد للدفاع عن النظام.
راهن الصراع ولغة المعارضة:
استطاع النظام ان يلعب الورقة الأخيرة فبعد وضوح الخطاب الأمريكي الذي تضمن انتهاكات النظام للقانون الدولي وحيازته لأسلحة الدمار الشامل اضافة الى خريطة الأنتهاكات الهائلة لحقوق الإنسان العراقي، وأوضح الخطاب الرغبة الأمريكية الصارمة بتغيير النظام ومساعدة العراقيين عبر الأمم المتحدة على إقامة نظام ديمقراطي وطالب أولاً بتطبيق القرارات ومنها القرار 688 المتعلق بحماية السكان من إرهاب النظام المسلح . . بعد هذا الطرح الذي فاجأ المندوبين في الأمم المتحدة لجأ النظام كالعادة الى لعبة التحييد فأعلن قبوله بعودة المفتشين من غير شروط وقد أعطى النظام ورئيسه تحديداً ورقة لكوفي أنان ليكتبها دليلاً على رغبة النظام بشق الوحدة المنطقية التي صنعها الخطاب الأمريكي وبدأت استثمارات النظام للعبته التي وصفها ريتشارد باتلر (رئيس التفتيش السابق) بأنها "ورقة ذكية ستخلط الأوراق" . . وهكذا تصاعد الصوت الروسي مطالباً الفصل بين عودة المفتشين وقرارات أخرى كانت الولايات المتحدة تطالب بها مثل مرافقة قوة عسكرية لفرق التفتيش لها الحق بتفتيش كل الأماكن التي تشك في وجود أسلحة للدمار الشامل فيها.
وهكذا كسب النظام وقتا اضافياً يسنده في ذلك النظام العربي الرسمي الذي يرى في استمرار النظام استمرارية له كما يرى ان أقصى تغيير يمكنه التعامل معه هو التغيير السطحي أي إقالة صدام وبعض العرب يسعى الى تنحية صدام وتنصيب أحد أبنائه رئيساً للعراق وفي هذا ترسيخ لطريق التوريث الجمهوري الذي بات واضحاً سير الرؤساء العرب عليه . .
المعارضة وصورة الصراع:
ان معارضة كالمعارضة العراقية لا تمتلك دليلاً نظرياً يعينها في الممارسة السياسية تعاني من غياب وحدة الخطاب، فالتيار الديمقراطي، الليبرالي يشبه من عثر على وصفة جاهزة تدفعه الى محطة انتظار الطريقة الأفغانية فداخل هذا التيار توجد قنوات التواصل مع الخارجية والكونغرس الأمريكي وغيرهما من المؤسسات الحيوية تمثل هذه القنوات مصدر قوة لهذا التيارمع غياب واضح لخطابها، ورغم تحالفه أو بالحقيقة تواصله مع التيارين الكرديين ومع المجلس الأعلى وتكوين ما يسمى بالأطراف الستة إلا ان هذا التواصل لم يتمكن من تكوين غرفة عمليات لمراقبة الصراع الدائر كأن الجميع ينتظر طبخة ما تم إعدادها بعناية أو هكذا يريدون تصوير الأمر فلا بيان ولا تصريح وكأن الأمر يجري خارج إحداثيات العراق.
الخطوة التي أقدم عليها الحزبان الكرديان واضحة باتجاه المستقبل فقد أدركا ان صوتاً كردياً موحداً يستطيع عراق المستقبل تحمله. أما النظام فقد بدأ بالاشتغال على التحييد، فمقالة بين الحين والآخر تبث خبراً عن تشيّع صدام ثم مقالة تقول ان "الشيعة أبناء زنا" ثم افتتاحية تتحدث عن بن لادن بصفته (جسم سني بعقل شيعي)، مثل هذه المقالات مصدرها أصبح معروفاً كذلك أهدافها في إشغال الرأي العام العراقي.
أما الجبهة الثانية من المعارضة وهي جبهة اليسار الأممي واليسار القومي فتعيش حلقات الأزمة التي يمر بها سائر اليسار في العالم إنها أزمة لغة لا يمكن التخلص منها بإعادة القراءة، قد تعين إعادة القراءة على إيجاد فسحة في الأمام وليس في راهن المتغيرات السريعة ولا يجرؤ هذا اليسار على إحداث قطيعة مع أجزاء يعتقدها مهمة من طرق التفكير والسلوك ووسائل التحريض وهذا كله لا يمكن حدوثه من غير التسليم بأزمة اللغة وضعف المخارج التي تعيد اليسار الى إنتاج ذات البضاعة وبنفس المواصفات دون معاينة السوق. وتنسحب هذه الأزمة على اليسار العربي والعراقي فبمجرد قراءة بسيطة لبيان الأحزاب الشيوعية العربية تعيدك الى نفس الأسطوانة حيث الإمبريالية وأنيابها والولايات المتحدة ورغبتها بالسيطرة على العالم الأمر الذي يدفع بالشيوعيين الى تكريس طاقاتهم لصد الهجمة الإمبريالية الكولنيالية (…) الخ. وهكذا دخلوا من حيث يدرون أو لا يدرون الى "التحييد" الذي يحتاجه النظام العراقي.
فإذا كان هذا حال الحزب الأكثر تأثيراً بتاريخه على الشارع العام والثقافي فكيف حال الأحزاب القومية التي تبنت الماركسية كتمويه وليس كنظرية معرفة.
واليوم يتحالف التيار القومي مع الشيوعيين في شعارات صد الهجمة الأمريكية وأصبح مثقفهم يستثمر كل الخزين السابق حيث تهم العمالة والأمركة والصهينة لكل من يرى في العامل الدولي قدرة على حسم الصراع مع النظام التوليتاري العشائري لصالح رغبة العراقيين بالخلاص من أطول فترة اضطهاد مركب، يناصر هؤلاء الذين انسحبوا من النظام لأسباب شخصية والآن يسكنهم الخوف من التغيير الكلي للنظام.
في هذا المناخ الذي غاب عنه خطاب المعارضة الموحد باتجاه إسقاط النظام سيتم تأجيل الكثير من الحلقات التي يتوجب إنجازها قبل التغيير، فالتغيير عاصفة لا ترحم حتى قادتها كما حصل مع غورباتشوف.
خلاصــة:
ان النظام الطفيلي سيحاول الإيهام بإمكان ممارسته لتكتيكه القديم لكن المساحة هذه المرة محدودة جداً، سيتخلى عنه فيها المستثمرون الدوليون مثل روسيا وستصمت كائنات التحييد الطفيلية فالأمور باتت واضحة جداً أمام كل الأطراف فإما ان يرحل ومن معه وإما يتم ردم المستنقع عليه .
الشاعر غيــــلان