|
ذكريات اللاذقية 6: بهاليل وأبالسة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3740 - 2012 / 5 / 27 - 11:38
المحور:
الادب والفن
أيامٌ معدودات، عليها كان أن تمضي على استقراري بمقرّ خدمتي في مدينة اللاذقية، قبل أن يَتسنى لي معرفة " السالوخة ". كان ذلك خلال الاجتماع الصباحيّ، الشاهد على تألق الضابط المُناوب؛ رئيس قسم التوجيه السياسي. هذا النقيب، كان إذن قد شرع في موعظة حولَ ضرورة الالتزام بالنظام العسكري، الصارم، حينما صدرت بغتة ضحكة مُبتسَرَة، شبيهة بثغاء الحملان. انتفض الضابط مُغضباً، ولا غرو، مُوجّهاً شررَ عينيْه السوداوين نحوَ أحدهم: هذا الأخير، كان مُجنداً على ما تفصح عنه هيئته، وبالرغم من أنه يُماثل النقيب في السن؛ النقيب، الذي ما لبث أن هتف به بنبرَة يختلط فيها السخط بالوعيد: " ولاه، سالوخة، ما هذا؟.. أأنت مجنون؟ " " إيْ مجنــــون.. وعندي شهادة بذلك "، أجابَ المجند بلهجة أهل مدينة اللاذقية، المُحبّبة. أعقبَ كلامُهُ، كما هو متوقع، مَوجة من المَرَح في صفوف المجتمعين، وخصوصاً المجندين. ذلكَ، ولا رَيْب، ضافرَ من أوار اللهب الأحمر في سحنة النقيب. إلا أنه، لدهشتي، أشاحَ بنظره عن دعيّ الجنون، وراح يواصل خطبته المُملة. حال عودتي إلى مكتب المراسلات ( أين كنتُ أخدم في مستهل حلولي بالمقر )، اهتمّ فضولي بمساءلة زميل لنا عن مواطنه ذاك، الأخرق. فأجابني هذا الجنديّ المتطوّع، العامل على موتورسيكل مراسلاتنا العسكرية: " إنه أعقل مني ومنك. ولكن طول فترة بقائه في الجيش، هو المتسبّب في غرابة مَسلكه " " كم أمضى هوَ، في الاحتياط..؟ " " إنه لم يَصِل إليه بعد، مع كون سنوات خدمته قد قاربت اكمال الدزينة "، ردّ المراسلُ وهوَ يتبسّم بشيء من الأسف، أو ربما التهكم. ومثلما لحظته، لاحقاً، عند من عرفتهم من أهالي مدينة اللاذقية، فإنّ ثمة عبارة كانت تتردد على لسان مراسلنا: " كذا... أمّ فرنسة "؛ وهيَ العبارة، التي كانت تعقبُ دوماً مُجادلة، أو مَشادة، مع أحد المنتمين لريف المدينة. وإذن، في اليوم التالي، على الأثر، كان " السالوخة " على مرمى أبصارنا، حينما كان يُغادر الندوة. خللَ النافذة الكبيرة، المُشرفة على الدرب، ندَهَ مساعدُ المكتب على دعيّ الجنون. هذا المساعد الثاني، كان أيضاً من أهالي المدينة، القديمة. الزائرُ المَدعو، شاءَ أن يَدخل المكتبَ من جانب، وعلى دفعات: هذا، لعمري، كنت قد لحظته من قبل عند همشرية الحارَة ( أيْ حيّنا الدمشقي )؛ الذين دأبوا على مخالفة المألوف في تصرفاتهم وأقوالهم سواء بسواء. " أخي سالوخة، هذا الشاب جديدٌ لدينا في المكتب؛ وهوَ يرغب بالتعرف إليك "، خاطبَ معلّمنا مواطنه الأخرق ببساطة. احمرار وجهي، وتلعثم عبارتي من ثمّ، ربما كانا دافعَيْن لصاحبنا كي يُطلق ضحكته تلك، المَوْصوفة. في زياراته الأخرى للمكتب، كنتُ بالمقابل أقلّ تحفظاً في حديثي مع ذاك المجند الأبديّ. وعلى لسانه، عرفتُ بعضَ تفاصيل مغامرته العسكرية، المَديدة والمَريرة. *** بعد أعوام طويلة، حينما كانت فكرة كتابة رواية " برج الحلول "، تشغل ذهني، فقد جاز لي جعل احدى شخصياتها المُتخيلة تتمثل شخص " السالوخة "، الواقعيّ. ومن ذلك، نقلي حرفياً تقريباً ما سبق وقصّه بحضوري عن حكاية طريفة، حصلت له في مبتدأ الخدمة مع عريف المطبخ؛ المُنحدر من ريف المحافظة. هذا الأخير، على ذمّة الراوي، انتهى به المطاف إلى السباحة في خلطة الفاصوليا باللحم، الساخنة، جزاء لنكده وغروره. ولغرابة الاتفاق، فقد جمعتهما الخدمة، مُجدداً، وفي مطبخ مقرّ لوائنا هذه المرة. إذ ذاك، كان العريف قد أضحى مساعداً، فيما أنّ المجند بقي مجنداً. في نهاية العام الأول لثورة الحرية والكرامة، شاءت الصدفة أيضاً أن أعثرَ على اسم " السالوخة " بين أسماء معتقلي حيّ الصليبة، وبصفته " شخصاً خمسينياً، خفيف العقل " ـ كما ورَدَ في أحد البيانات الثورية. نعم، إنه الحيّ نفسه، الذي اشعلَ في نهاية صيف 1979 انتفاضة أهلية، شاملة، في مدينة اللاذقية؛ وبالرغم من نجاح النظام بتصويرها كفتنة طائفية، بعدما تمكن من اخمادها. آنذاك، كان مجندنا الأبديّ ( مثل بقية زملائه ) قد قذِفَ به في مواجهة المنتفضين. وكان، إلى ذلك، يَتمتع بوسامة جديرة، حقاً، بممثلي السينما الكلاسيكية؛ من ملامح متناسقة وقوام رشيق، إلى عينين خضراوين وشعر أشقر وشارب كثيف نوعاً، معقوف الطرفين بعناية. لا أدري، بطبيعة الحال، ما فعلته السنون بهيئة صديقنا القديم، الباهرة؛ وما إذا كانت قد انطلسَتْ أخيراً بين براثن الأمن، الوحشية. *** كون مكتب الاستعلامات يَتبعُ، إدارياً، لقسم التوجيه السياسي، فقد كنت وزملائي تحت رقابة صارمة من قبل رئيسه. هذا النقيب، رفض ذات مرة اجازة كنتُ قد طلبتها للأتمكن من التسجيل في جامعة دمشق: " هكذا ألاعيب لا تمرّ عليّ؛ فأنت ترغب بقضاء ليلة رأس السنة عند أصحابك "، خاطبني بنبرَة مَسمومة. وهذا ما كان في نيتي فعله، حقيقة. هكذا تجاوزتُ معلّمي ببساطة، حينما دسستُ طلبَ الاجازة بين أوراق ملف رئيس الديوان؛ الذي كان في طريقه إلى قائد اللواء. حاجبُ هذا الأخير، هوَ من سهّل لي الأمر. حينما أضحتْ الاجازة أخيراً تتنعّم بدفء جيبي، كنتُ بالمقابل أنكمش على نفسي من البرد وأنا في الحافلة الكبيرة، المُتجهة للشام. ثمة، في مرورنا بمنطقة " العريضة "، اشتريتُ مهرّباتٍ مناسبة لسهرة الاحتفاء بالعام الجديد؛ من ويسكي الجوني ووكر إلى عرق التوما. ولم أنسَ سجائر الوينستون، التي كان أحد الأصدقاء قد أوصاني بها. حال عودتي سعيداً من دمشق، إذا بالمساعد يَستقبلني بنبأ غير سار: " ماذا فعلتَ؟.. النقيب أقام الدنيا، حالما علِمَ بأمر الاجازة ". بعد قليل، جاءَ أحدهم لكي يُخبرني بأنني مطلوب لمقابلة المعلّم. هذا، استقبلني بوابل من الوعيد والتهديد. ثمّ عاين النقيبُ، على الأرجح، أن صمتي، المثابرَ، هوَ نوعٌ من اللا مبالاة. فاتبعَ ذلك، مُحنقاً، بأن أمَرَني بحلق شعري على الصفر. عند ذلك، حَسْب، أجزتُ للساني أن يَنطق: " عندما أصبحُ حاجباً لديكَ، سأنفذ هذا الأمرَ ". " ولاه... اذهب على الفور إلى مساعد الديوان، لكي يُنظم لك عقوبة ستة أيام سجن "، صاحَ بأعلى صوته. بيْدَ أنني، بدلاً عن ذلك، رأيتني أمضي لكي استمتع بصحبة الأصدقاء في الندوة. في حوالي الساعة الثانية ظهراً، كانت عيني على مَدخل قسم المكاتب، تتابعُ حركة سائق العقيد بالقرب من سيارة الرانج روفر. لحظات، على الأثر، ثمّ أسرعتُ لملاقاة قائد اللواء. استمعَ هذا إلى شكوايَ، ثمّ ما لبث أن أنحى باللائمة عليّ لأنني مرَّرتُ طلبَ الاجازة إليه بدون موافقة رئيسي. ولكنه، لما كان يَهمّ بركوب السيارة، إذا به يلتفت إلى مساعدَ الديوان، الحاضر، ليقول له مُتسائلاً: " أعتقدُ أنّ المساعدَ، دنورة، كان يَطلبُ مُحاسباً لمَكتبه..؟ " " نعم، سيّدي.. "، أجابَ المساعدُ وهوَ يَرمقني من جانب بنظرةٍ خاطفة. إذ ذاك، أمَرَه العقيدُ بكتابة أمْرَ نقلي إلى مكتب سريّة المقر. ما أن تحركَ موكبُ القائد، حتى التفتَ إليّ مساعدُ الديوان، ليخاطبني بما يُشبه الهمس: " هذا، كله، كان من تدبيري.. "، ثمّ استطردَ قائلاً بامتعاض وهوَ يتطلع فيّ " ولكن، رحماك، توجّه إلى الحلاق ليُحسِّن لكَ شعرك، على الأقل. إنّ شكلكَ لا يوحي بأنكَ عسكريّ، بل كأنكَ أحد الخنافس ". المفردة الأخيرة، كانت تطلق في عقد السبعينات على أولئك الشبان، الذين يقلّدون تقليعة الهيبيز، الغربية. *** مكتب سريّة المقر، يقعُ في منطقة الشئون الفنية، في الجهة المشرفة على طريق الشام. هنا، المكاتبُ أكثر حداثة وأناقة إن كان لجهة العمارة أو التأثيث. غيرَ أنّ حسَنة اخرى، كان يحظى بها المكتبُ الجديد؛ من وجهة نظري، طبعاً: وهيَ أنّ النقيبَ، رئيسَ القسم، كان آنذاك يُتابع دورة أكاديمية في مدينة حمص؛ وبالتالي، فأمورنا هيَ بيد المساعد الأول " دنورة "، الطيّب القلب والعزيز النفس. وحدتنا، كانت بالأساس فوجاً للمدفعية، ثمّ تحوّلت بعد حلولي فيها مباشرة ً إلى لواء صواريخ. الخبراء الروس، كان لديهم مكتبهم الخاص، المُحاذي لمكتب المهندسين. هنا، كان يمكنُ للمرء رؤية هؤلاء الخبراء، وهم على حركة دائبة، نشطة، وعلى العكس من معظم ضباط المقرّ. شهران تقريباً، إثرَ تعييني محاسباً، رأيتني ألجُ المكتبَ لأخاطب المساعد في شأن ما. ثمة، بالقرب منه، كان يَجلسُ رجلٌ بمُقتبل العُمر، يرتدي فيلداً عسكرياً فوق ملابسه شبه المدنية؛ فقدّرتُ من هيئته، وصورته أيضاً، أنه أحد الخبراء الروس. وإذا بالمُساعد يَحدجني بنظرة حذرة، مومئاً إلى ناحية الضيف. هذا الأخير، كان عندئذٍ يُحدّق فيّ بتمعّن، فما عتمَ أن فاجئني مُستفهماً بلهجة ريف المحافظة: " إذن، أنتَ هوَ المُحاسب، الجديد..؟ ". نطق بها، بنوع من التهكّم. في صباح اليوم التالي، عادَ حاجبُ المَكتب، " جهاد "، من عند رئيس قسم سرية المقر، ليقول لي حالما دخلَ: " سيادة النقيب يطلبكَ. ولقد بدا مُنزعجاً ، لأنني من حملَ إليه البريدَ ". في الواقع، كان على المرء أن يبذل جهداً ليس بالقليل، حتى يتمكن من فكّ طلاسم مفردات حاجبنا. هذا المسكين، هوَ من احدى القرى العلوية، البائسة، المترامية على أطراف المحافظة. كان يتكلّمُ ( أو يُبَرْبر، بالأصح ) بطريقة غريبة، توحي وكأنما هوَ في حوار مع نفسه، خافتٍ ومُضطرب. حينما التقيته على انفراد، لأولّ مرّة، فإنه سألني ما إذا كنتُ مَسيحياً. ان اسمي الغريب، ولا غرو، كان يوحي لكثيرين بذلك. حينما أفهمتُ حاجبنا حقيقة الأمر، فقد بدا من نظرته وكأنما قد التُبِسَ عليه أكثر. عند ذلك، سألته بدوري: " هل عرفتَ، حقاً، ماذا يَعني أن يكون المرءُ كردياً؟ " " أجل. يَعني انتْ لا مَسيحي ولا مُسلم ولا... "، أجابني ثمّ سكت فجأة. اشفقتُ عليه، في تلك اللحظة، لداع آخر: حتى أمثال هذا الشخص المسكين، شبه الأبله، لا يستطيعون النطقَ جهراً باسم طائفتهم. *** في واقع الحال، فإنّ " جهادَ " لم يكُ حاجباً للمكتب، بمَعنى الكلمة. لقد دبّت الشفقة بمساعدنا، حينما رآه في مكتب الديوان مع آخرين من زملائه المُجندين، الذين انهوا للتوّ دورة الأغرار. ولكي لا يُرمى إلى مصير سيء، مُحتمل، في احدى سرايا المدفعية أو كتائب الصواريخ، فإنّ معلّمنا طلبَ " جهاد " من مساعد الديوان. أحياناً، كان المُعلّمُ يُبدي لربيبه هذا، ودونما مواربة، ندامتهُ: " آه منك، يا عسكور.. لا أدري، هلَ كنتُ مَضروباً على عيني حينما اخترتك للخدمة في مكتبي؟ ". في هذه الحالة، كان حاجبنا يهرَعُ إلى خارج الحجرة، مُدَمْدِماً عباراتِ انزعاجه. فلا يكون من المساعد، مُقهقهاً بمَرَح، سوى مناداة ذلك الحَرِد لكي يعود أدراجه. عطلة العيد الصغير، أو الكبير، هيَ من مناسبات سوء التفاهم بين المعلّم وحاجبه. إذ ذاك، يتقافز حجّابُ الضباط، المُدللون، كالجراد في مكتبنا، وكلّ منهم قد حصلَ على التوصيَة اللازمة، التي تمحي اسمه من مناوبة الحراسة. فلا يكون من معلّمنا، وقد اسقط في يده، سوى الالتفات لأمثال حاجبه من المَعفيين، مَبدئياً، من هذه المهمة. " يوسف "، هوَ أحدهم. هذا المُجند، البليدُ جداً، كان يكادُ لا يعمل شيئاً، غير التنقل بين المكاتب؛ ثمة، حيث كان يُطرد في غالب الأحيان. معلّمنا، كان يكره هذا المُتبطل بشدّة، حتى أنه دأبَ على توصيتي بإبعاده عن المكتب فورَ تشريفه: " حذاري من هذا الثعبان.. "، كان المُساعد يقول وقد شعّت عيناهُ الزرق. ثمّ يُضيف بنبرَة مُلغِزة: " إنه يَدّعي البلاهة، بينما هوَ يَسعى حقيقة ً للفساد والنميمة ". ذات يوم، وكنتُ لوحدي في المَكتب، دخلَ " يوسف " بخطواته المُترددة، المتثاقلة. وبما أنني لم أعبس في وجهه ( كما اعتاد الآخرون أن يَتصرّفوا في مواقفٍ مُشابهة )، فقد نظرَ في عينيّ ملياً، ثمّ راح يهز رأسه بحركة العالم العلامَة: " ايه، يا أخي.. "، استهلّ القول بغير تكلّف " لا أحد يُحبّنا. نعم. نحن في هذا البلد لا نحبّ بعضنا البعض. ولكن، الجميع يكرهوننا نحـــن ". صيغة الجَمْع، في جُمله المُفيدة، دفعتني لسؤاله بشيء من الاهتمام: " نحن؟.. أنتَ تقصد من؟ ". فأجابني وهوَ يُكشر عن أسنانه القذرة: " أأنتَ لا تشعُر بنظرات حقدهـــم، بسبب أنك نصراني؟.. حَسَنٌ. أنا أيضاً، أعرفُ أنهـــم يكرهونني، فقط لأني علوي ". وبما أنني، حتى ذلك الحين، كنتُ اعتبرهُ مَعتوهاً بشكل ما، فلم أرَ من المُجدي أن يَعلمَ عن أصلي وفصلي. في مساء أحد الأيام، كنا مُجتمعين في المكتب الماليّ، عند رقيبٍ مُجند. هذا، كان من أهالي " الدريكيش "، في القسم الجنوبي من جبال العلويين. وكونه مُتزوّجاً، فإن بعضَ الحاضرين أخذوا بممازحته عن كيت وكيت. حتى تناهى الجدلُ، في آخر المطاف، إلى عدد المرات التي من الممكن للمرء أن " يفعلها " مع امرأة. في هذه المسألة، أخذ كلّ يدلي بدَلوهِ، فهذا يقول مرتين وآخر يقول ثلاثة الخ الخ. ولكن، كم أدهشني عندئذٍ أن أعرف بأنّ " يوسف "، ما غيره، مُتزوّجٌ.. ومن امرأتيْن، معاً. " أنا أفعلها مع حرمتي عشر مرات "، قالها بثقة ثمّ استدركَ " بل قل عشرين مرة أحياناً ". فهتف فيه مُضيفنا، وقد استولى عليه الذهول بدورهِ: " ماذا تقول، يا هذا؟.. في الليلة الواحدة؟ ". فكرر الآخرُ، المزهوّ لأنهم ما زالوا يستمعون إليه: " بحَضي، في كلّ ليلة أيضاً ". " ولكن، هيا.. أخبرنا كيف تتمكن من فعل ذلك؟ " " هكذا.. "، قالَ البليدُ وهوَ يقومُ بتثاقل. ثمّ ما لبث أن انتصب على رجليْه، الرخوَتيْن، وبدأ يقلّد حركة الرَّهز مُردداً: " واحد.. اثنين.. ثلاثة.. أربعة.. ". عند ذلك، وفيما كانت ضحكات الآخرين تكاد تهز الحجرة، إذ بالرقيب يتناهضَ فيُمسك بتلابيب دعيّ الفحولة والبلاهة، فيقذف به إلى الخارج. *** " نعمان "؛ مُجندٌ مَبخوس الفأل، بالنظر لتخلّفه العقليّ. إلا أنّ شكله، المَنغوليّ، يُوحي بذلك في الحال. كذلك الأمر، بالنسبة لنطقِهِ الشبيه بلغة الأطفال. كان يَخدم في مكتب التعيينات ( التموين )؛ أين تجدُهُ مُتسمّراً أمام الباب لردّ تحيات العابرين فيما فمه مشغولٌ بمضغ تفاحة أو قطعة حلوى: " ولكْ مية أهلين.. كيفك انتْ..؟ "، كان يرحّب بهذا وذاك بلهجة أهل " جبلة "، الظرفاء. دقة حجمه، كما وصوته الرفيع، يعطيان انطباعاً بأنّ صاحبهما لم يَصل سن البلوغ بعد. ولم يكُ يُجاريه في ذلك، سوى المُجند المَنعوت بكنية " طيارة ". هذا الأخير، كان بالمُقابل غلاماً بعُمْر لا يتجاوز السادسة عشر سنة، حينما تحتمَ عليه تلبيَة نداء التجنيد: إنّ والده، وخوفاً من دفع الغرامة النقدية بسبب عدم تسجيل ولادته في تاريخها الصحيح، كان قد لجأ إلى حيلة شائعة؛ وهيَ تقييده في سجلات النفوس باسم أخ له، سبق وتوفي قبلَ ثلاث سنين من ذلك التاريخ. " طيارة "، يوحي أيضاً بكونه يَخدُمُ في جميع أقسام المُعسكر؛ هوَ المُفترَض أنه مُساعدٌ لعامل في مَقسم الهاتف، يَنتمي مثله لمدينة حمص. ولكن هذا الغلامَ، الفائق الحيوية، عُرفَ بهوسِهِ بقيادة المركبات. الشيطان وحده، ربما، هوَ من يَعرفُ الكيفية التي تعلّم فيها " طيارة " التحكّم بكافة أنواع السيارات العسكرية. فما أن يَلمَح إحداها، قادمة ً من جهة ما، حتى يَعترض سائقها بإلحاحه ولجاجته: " من أجل الله، فقط سأقوم بدَورة صغيرة ضمن المُعسكر.. ". غيرَ أنه، ذات مرة، أحبّ على ما يبدو مفاجأة أهله بسيارة " جيب واز "، من أحدث طراز. هذه المَغدورة، كانت السيارة الخاصّة بنائب قائد اللواء، وموضوعة للتصليح في قسم الشئون الفنية. وقد تمّ في اليوم السابق مُعالجة مشكلتها، ومن ثمّ تجربتها بنجاح. " طيارة "، كان يُراقب ما يَجري ثمّة عن بعد. والمُرجّح، أنه فكّرَ آنئذٍ على الشكل التالي: " المقدّم لديه سيارة أخرى، من نوع فيات؛ وهوَ فضلاً عن ذلك في طريقه الآن إلى الشام، حيث تقيم عائلته، ليُمضي عطلة نهاية الأسبوع ". في طريقه إلى حمص، إذن، كان مُحتماً على المغامر المرورَ عبرَ منطقة " العريضة "، الحدودية؛ والتي هيَ عملياً داخل الأراضي اللبنانية. عناصرُ الشرطة العسكرية، المتواجدون هناك بكثافة في العادة، لا بدّ وبوغتوا بمرأى هذا الغلام الدقيق الجسم، الرقيق، والذي يكاد زغبُ عارضيْه غير ملحوظ. فاعتقدوا لوَهلةٍ أنه من أبناء الضباط، المعتادين على استعارة سيارات آبائهم. عند ذلك، تدخلَ هؤلاء لكي يُنهوا هذه المُغامرة، الصبيّانية والخطِرَة في آن. من بعد، تمّ بأمر العقيد فرضُ رقابة صارمة على هذا المُجند، الطائش. سائق قائد اللواء ( وهوَ من آل " ايبو "، في حيّ ركن الدين )، أخبرني ذات مرّة بأنّ مُعلّمه كانت تبلغ به الشفقة على ذلك الغلام، أن يُفكّر في أمره بقلق حتى حينما يكون هوَ في خارج الخدمة. [email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذكريات اللاذقية 5: مَراتب وحجّاب
-
ذكريات اللاذقية 4: الطريقُ الخَطِر
-
ذكريات اللاذقية 3: مدير الندوة
-
أوديب على أبواب دمشق
-
حكاية كتاب 3: التجربة
-
حكاية كتاب 2: الرّحلة
-
حكاية كتاب: الاكتشاف
-
طيورُ الظلام: اسلامٌ مُسيّس وفساد سلطويّ
-
فيلمُ الغموض والغرابة
-
أسمَهان 2012؛ لحنٌ لم يَتمّ
-
الفعلُ الشعبيّ في فيلم رَيا وسُكينة
-
المطبخ التركي
-
مُريدو المَسجد
-
ذكريات اللاذقية 2: جبل الأكراد
-
أدونيس؛ مفرد بصيغة الطائفة
-
أنا القائد الكاريزمي
-
دبّوس السلطان
-
ذكريات اللاذقية: شيخ الجبل
-
استفتاء فني، إفتاء سياسي
-
شذرات؛ زمن الشبيحة وزمن شبيه
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|