نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1096 - 2005 / 2 / 1 - 11:17
المحور:
الادب والفن
(في مرحلة ما من تعلمنا السير يكون لزاماً عليهم أن يجبروننا على عدم النظر في الأرض, و الذي نكون قد اعتصمنا به في خطواتنا الأولى كنوع من مراقبة الأداة التي تقوم بعملية السير, القدمين. يعلمنا النظر أماماً أثناء السير أمراً آخر: استكشاف المجال الذي يقتحمه جسدنا, نوع من مراقبة المفعول به و ليس الفاعل, لأن ثقتنا في كيفية أداء الفاعل تكون قد تطورت على مر الأيام. هذا الاستكشاف للمجال قبل الخطو فيه هو تمهيد كذلك للمجال نفسه, الذي نزرع فيه أمراً لطيفاً و يبدو مدجناً و هو النظرات قبل قلب عناصره بوحشية يمارسها جسدنا الكفيف. لم يتعلم حسين هذا أبداً.)
فشل والدا حسين في أمر واحد طوال تنشئتهما له. كان حسين يسير ناظراً في الأرض و لم يستطع أبداً رفع رأسه و تحسس بعينيه ما أمامه أثناء سيره. كان حسين يبدو للوهلة الأولى- حتى و هو ابن سنتين- فيلسوفاً يتأمل أسرار الحياة على صفحة الأرض غير أنه لما يتلوها من وهلات كان هذا يبدو غير منطقي, أو أنه كان هناك خطأ ما. كأنه قد التصق بالأرض في لعنة لا يستطيع التخلص منها. كان يبدو دائماً كعروسة ماريونت تتحرك, بخيوط لا تصلها من أعلى و إنما من أسفل. و كان الإغراء الدائم هو محاولة تمرير الأصابع لتقطع ذلك الخيط الوهمي الذي يربط بين عيني حسين و الأرض. هكذا لم ينجح أحد في استكناه تلك الصلة التي تربط بين نظراته و الأرض كما لم ينجح أحد في قطعها. كان تمرير اليد ينتهي بأنه ليس هناك شيء. غير أنه كان هناك شيء. كان يقين الجميع يؤكد هذا.
طوال حياته لم تتوقف فكرة واحدة عن الدوي في عقل حسين. كان ينظر إلى الأرض بلا انقطاع و تلتهب نظراته و تبرد و تحنق و تصير حيادية غير أن اتجاهها لم يتغير أبداً. كان يفكر في أنه لم يتوقف لحظة عن تسليط نظراته على الأرض. و أن الأرض – بما هي حارس للحقيقة أو مرآة نزرع فيها وجوهنا فترد إلينا انعكاس وجوهنا – التي كان يزرع فيها نظراته لابد سترد يوماً تلك النظرات إليه. لابد ستكشف عن الحقيقة التي دفنها فيها على امتداد سنواته. هذه كانت فكرته التي لازمته طوال حياته. مرت كيفية تطبيق تلك الفكرة على مراحل, بالنظر إلى عمره و تحول تفكيره من الرمزي إلى الواقعي و منه إلى المجرد.
مرحلة الأشجار:
درس حسين في المواد الاجتماعية بالصف الثاني الابتدائي كيفية زراعة الفول. أخذ فولة و غرسها في إصيص زرع صغير و صار يرشها بالماء حتى استوت نباتاً سرعان ما أهمله فذبل. و لكن النظرات التي زُرعت في الأرض طوال ثماني سنوات هل تذبل قط؟!
عندما كان حسين يجلس بعد العودة من المدرسة في الشرفة كان يتأمل الشجرة الكبيرة التي تطل على مدخل البيت و كان يخترع لها تاريخاً مناسباً
هذه الشجرة لم تكن موجودة عندما ولدتُ, أمي تقول هذا, و من المؤكد أنني إذ كنت رضيعاً كنت أتطلع إلى الأرض أيضاً – يا لهذا الفيلسوف الصغير. نظراتي تلك ألم تكن كافية لإنبات الشجرة؟. نظراتي التي زرعتها في الأرض ألم تتفرع و تنبت تلك الشجرة؟
و عندما كان حسين يرسم أشجاراً في دفتر الرسم الخاص به كان يحرص على أن يجعل بداخل كل ورقة شجرة حدقة عسلية (عيناه عسليتان) و ترك سائر ورقة الشجر أبيض. و برغم أن المدرسة كانت تعلمه أن أوراق الشجر خضراء كلها و ليس بها حدقات, لأنها ببساطة أوراق شجر و ليست عيوناً, فلم يتعلم حسين.
و بدلاً من اللعب كان حسين يقضي وقت فراغه في تقطيع أوراق الشجر التي كانت تصادفه. كانت أمه تزجره غير أن فعله بدا له مبرراً تماماً. كان يقول أن أوراق الشجر تنظر إليه. و برغم أن أحداً لم يصدق فلم يكف هو عن الاقتناع بأن الأرض تنتقم منه و أنها ترد له النظرات, التي سبق و مارسها في لحمها, على هيئة أوراق شجر تبدو بريئة.
صادفت حسين في هذه المرحلة مشكلة جغرافية بسيطة و لكنها كادت تحطم منطقه: و ماذا عن الأشجار التي تنمو في أماكن لم يمر عليها من قبل, بالتأكيد, في أستراليا مثلاًً أو الصين. جهد حسين في رسم خريطة يتصور بها ما يدور تحت الأرض. يزرع هو النظرة هنا, و عن طريق مجارٍ و أنفاق و سعاة بريد تحت الأرض تنتقل نظراته في كل مكان, تحت الأرض أيضاً, و تصل إلى كل الأماكن بشكل اعتباطي و تبدأ في النمو أشجاراً سامقة.
مرحلة الناس:
يرسو وعي حسين في تلك المرحلة على أرض صلبة. ينظر إلى الأناس الذين حوله -أبوه و أمه الكريهين بالأساس. يلتفت إلى مدرسيه و زملائه التافهين جميعاً, و يقرر أن نفس المصدر الذي أنبت أوراق الشجر في المرحلة السابقة هو الذي يمنح لهؤلاء الناس أبصارهم في هذه المرحلة. نظراته هو. يغدو حسين أكثر ثقة في أنه سبب إبصار كل هؤلاء الذين يحيطون به و الذين لا يحيطون به (لا يزال نفس المنطق الذي فكك به المشكلة الجغرافية في المرحلة السابقة سارياً). يغدو حسين كذلك أكثر حقداً. الأرض تنبت نظراته على هيئة نظرات لجميع البشر. يستقي البشر نظراتهم من الأرض و يغرسونها فيه. يحوله الأوغاد إلى هدف للنظر. حسين كان خجولاً, طبعاً.
ما ظل طي الكتمان, و سيظل حتى النهاية و لن يعرفه غير حسين هو أنه قد ارتكب جريمة مروعة. هو –ما بين الإعدادية و الثانوية الآن- فقأ عين طفلين أكبرهما كان لديه أربع سنوات. الآن نسي حسين التفاصيل –و نحن نستقرأ ذاكرة حسين لا الحقيقة الموضوعية- و لم يعد يذكر إلا المشهدين بشكل مضبب.
في الثانوية العامة واجهت مشكلة تاريخية منطق حسين و جعلته يعيد النظر في حساباته: و ماذا عن من قبلي, الذين ولدوا قبل أن أولد, أبي و أمي مثلاً؟ من أين حصلا على بصرهما و لم يكن شيء قد غرس بعد في الأرض كي تمنحه لهما. توصل حسين إلى تأريخ ديني تمكن به من إعادة الثبات لمنطقه
(الله –بوصفه مسئولاً عن مشاكل البشر و من بينها الإبصار- قد أقرض أبي و أمي بصرهما, ريثما أولد أنا و أزرع نظراتي في الأرض فتنبت بشكل طبيعي نظرات لهما)
كان حسين في تلك لمرحلة يدرك أن الكون قبله كان في انتظاره و أنه بولادته فقد حدث أهم حدث في تاريخ الكون.
مرحلة الجوهر الساكن للسديم ثم الثائر عليه:
ستلازم هذه المرحلة حسين حتى نهاية حياته, و سيبدأ وعيه في الاتجاه نحو أمور ستؤثر مستقبلاً على مكوناته النفسية ذاتها. سيبدأ الأمر بسؤال بريء (ما الذي زرعته أنا في الأرض؟ عيني!؟ أبداً. لقد زرعت نظراتي. عيناي ما تزالان في مكانهما) و هكذا لا تصير الأرض ملزمة برد العيون –سواء في عيون بشرية أو أوراق شجر- و إنما برد النظرات. و هذه النظرات ما هي؟ على أي شكل تكون؟ أين هي؟ و هل هي موجودة بشكل مادي أم أنها تصورات ذهنية نضعها لنصور عملية غير مفهومة؟. حسين تخرج من كلية الأداب قسم فلسفة.
ترد الأرض لي نظراتي التي أزرعها طوال حياتي. و لكن في أي شكل؟ و بشكل واقعي فكل شيء قد يحتوي على تلك النظرات. ذلك أن النظرات جوهر و ليست شكلاً. و قد يبدو مكانها الأصلي هو الفراغ المحيط بنا. و على هذا فلا تغدو العيون و بالقطع و لا أوراق الشجر إلا احتمالين بسيطين لمكوث النظرات من ضمن احتمالات بلا عدد.
أنا من زرعت النظرات و عليه فهي لابد موجهة لي أنا. أنا مراقَب من جميع الاتجاهات, و ليس هذا إلا رداً, و إن كان غير عادل, على ما أفعله بالأرض منذ أربعين عاماً. أسلخ الأرض. لا أرحمها دقيقة, و بالمقابل تسلط هي علي الفراغ كله, كل الأشياء لتقتلني بلا رحمة.
(هكذا يتطور المنطق أكثر فأكثر إلى التجريد) النظرات جوهر بلا شكل. لأنها هي تحتوي الشكل و لا يحتويها. و لا الفراغ و لا السديم يحتويها لأنها و إن كانت موجهة لي أنا بالأساس, بفعل مؤامرة دنيئة لأرض بغي, فهي قادرة كذلك على سلخ هذا السديم و من ثم احتوائه.
لا يتوقف حسين في سيره –يا للشقي- عن النظر إلى الأرض, بينما بحذر بالغ كذلك ينبش بحذائه في التراب عساه يقتلع من الأرض نظرات عمرها ستون عاماً, و لا ينجح إلا جزئياً لأنه كلما استطاع اقتلاع نظرة من الأرض انزرعت فيها مجدداً عشر نظرات, و لا تتوقف نظراته عن الانزراع و النمو في اتجاهات تسبغ عليها هي وجودها و لا تخضع أبداً لقوانينها التافهة.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟