أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمدى السعيد سالم - المتنبى واستكشاف الذات















المزيد.....


المتنبى واستكشاف الذات


حمدى السعيد سالم

الحوار المتمدن-العدد: 3738 - 2012 / 5 / 25 - 06:12
المحور: الادب والفن
    


احسست وانا اتحدث اليه كأننى قطارا خرج عن سكته !!! هذا هو شعورى عندما زارنى احد اصدقائى الذين يعملون فى احدى القنوات الفضائية العربية ... واتجه الحديث الى الأدب والفن والشعر ... وانتقل الكل من الشعر الى الشعراء ... ومن الشعراء الجدد الى الشعراء القدامى ثم الى الموضوع السخيف عن المقارنة بيننا وبين البلاد الاوربية ...وفجأة احسست ان الجو خانق وكلامه جاسم على صدرى بمعنى كاتم انفاسنا (وليس جاثم ) كما يتشدق من يدعون العلم والمتفيقهة من اهل اللغة ...

لقد احسست ان الكلام من اولة لآخره غير مألوف ..فلايحدث عادة ان تنقلب جلسة فى مكتب فى جريدة الى ندوة شعرية ..وانما المألوف ان يدخل محرر يسأل عن خبر او تدور مناقشة حول صحة خبر او بعده عن الحقيقة !!! او يدخل محرر او يخرج آخر .. فالكلام والحديث والحوار والنقاش كله من لون واحد وطعم واحد !!! ... وكل شىء فى مقرات الصحف عصبى المزاج ..ومن النادر الا يكون كذلك !!! .. هل هى طبيعة العمل ؟! هل هى طبيعة الصحافيين ؟!! هل هى العادة اليومية ؟!.. هل هو الخوف من نشر خبر او عدم نشره ؟! .. هل هى حمى التنافس بين الصحف ؟!!.. مع ان الدنيا لن تقوم ولن تقعد اذا نشر خبر او لم ينشر ... او اذا كان فيها صحافيون او لم يكن !! انما هو غرور ابناء كل مهنة ان يتصوروا انهم اهم الناس واكثرهم ضرورة لحياة الناس !!!.. الاطباء والمهندسون والسائقون والساسة والفلاحون والعمال والسماسرة كلهم يظنون انهم الاكثرة ضرورة لحياة الناس !!! والمرضى والمجانين والفقراء والجهلة كلهم ضروريون للهيئة الاجتماعية العامة !!..

فى حديثى مع صديقى لم يدر فى حديثنا شىء من هذا كله ... وانما تحدثنا عن الانسان ... عن ضعفه عن جمال عبارته عن قدرته على الخيال والابداع .. وعلى ان الحياة قد ربطت الناس فى اغلال وسلاسل من حديد !!! وان الناس دون ان يدروا اشبه بحيوانات مسحوبه من انوفها الى الامام !!! وان مكاتبهم اقفاص كالتى نراها فى حدائق الحيوانات ... هذه الاقفاص لها اعواد حديدية هى العادات والتقاليد والقيود الوظيفية ...واهم من ذلك ان هذه الاقفاص هى الحياة التى تعودوا عليها !!! ولايقدرون ويخافون ولايحبون ان يخرجوا منها او عنها !!! ...

عندما تحدثت مع صديقى تحدثنا عن المتنبى وعن حكمته التى سبقت كل العصور .. وحق لي أن أقول ما قاله محمود شاكرفى كتابه : " المتنبي ..ليتني ما عرفته!"( فما إن تعرفت على ذلك الشاعر الطموح إلى مجد لا يعرف طبيعته، حتى أحال حياتي إلى ريح لاتعرف الهدوء وجعل مني طائرا يقلب جناحيه في الفضاء لا يبالي في أي أرض وقع.... ولا على أي كوكب هبط..... لا يلقي عصى التسيار في أرض إلا ليستجمع ما أوتي من قوة لييمم دروبا من مجاهيل الحياة الأخرى.. وكأنما شعاره الأبدي قول ابن زريق:
(كأنما هو في حل ومرتــحل = موكـــل بفضاء الله يذرعه!)..إن قلوب عشاق الاستكشاف تشبه قلوب الأطفال وهم في مرحلة استكشاف الذات.. يؤذون أنفسهم كي يتعرفوا على ناموس الحياة...و يكسرون كل ما رأوا أمام أعينهم كي يعرفوا ما هو؟! و ما طبيعته؟....فليرحمنا ربنا! وليسامح المتنبي فكم سهد من عين وكم أجرى من دمعة!! حين قال :
جنتْ علي الليالي غير ظالمة = إني لأهل لما ألقاه من زمــــــني!!!
فما رأيت من الأخطار عادية = إلا بنيت على أجوازها ســـــكني....
ولا لمحت من الآمال بارقة = إلا تقحمت ماتجتاز من قنـــــــــن.....
أحلتُ دنياي معنى لا قرار له = في ذمة المجد ما شردتُ من وسن!!!


أبو الطيب المتنبي هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد أبو الطيب الكندي الكوفي المولد، ولد سنة 303 هـ ،نسب إلى قبيلة كندة نتيجة لولادته بحي تلك القبيلة في الكوفة لا الانتماء لهم..... عاش أفضل ايام حياته واكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان أحد أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية....... فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء..... وهو شاعرحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي..... وتدور معظم قصائده حول مدح الملوك...... ويقولون عنه بانه شاعر اناني ويظهر ذلك في اشعاره.... قال الشعر صبياً..... فنظم أول اشعاره وعمره 9 سنوات..... اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً....

الى جانب انه صاحب كبرياء وشجاعة وطموح ومحب للمغامرات..... وكان في شعره يعتز بعروبته، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة.... مما لاشك فيه إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة...... وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة...... ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني....

شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون..... فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب.... ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك.... والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي..... كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحاً وتصريحاً حتى أشفق عليه بعض اصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في دهوك فلم يستمع له وإنما أجابه ً: أبا عبد الإله معاذ أني........ إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن....

المتنبى اتصل بسيف الدولة بن حمدان، أمير وصاحب حلب، سنة 337 هـ وكانا في سن متقاربه، فوفد عليه المتنبي وعرض عليه أن يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يفعل الشعراء فأجاز له سيف الدولة أن يفعل هذا وأصبح المتنبي من شعراء بلاط سيف الدولة في حلب.... وأجازه سيف الدولة على قصائده بالجوائز الكثيرة وقربه إليه فكان من أخلص خلصائه وكان بينهما مودة واحترام، وخاض معه المعارك ضد الروم، وتعد سيفياته أصفى شعره..... غير أن المتنبي حافظ على عادته في أفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه وتقديمه إياها على ممدوحة، فكان أن حدثت بينه وبين سيف الدولة جفوة وسعها كارهوه وكانوا كثراً في بلاط سيف الدولة....لذلك أحس بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير..... وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر والأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما..... وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي ينشدها..... وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالويه عليه بحضور سيف الدولة حيث رمى دواة الحبر على المتنبي في بلاط سيف الدولة، فلم ينتصف له سيف الدولة، ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه......... فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها: (لا تطلبن كريماً بعد رؤيته). بعد تسع سنوات ونصف في بلاط سيف الدولة جفاه الأمير وزادت جفوته له بفضل كارهي المتنبي ولأسباب غير معروفة قال البعض أنها تتعلق بحب المتنبي المزعوم لخولة شقيقة سيف الدولة التي رثاها المتنبي في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها، وكان هذا مما لا يليق عند رثاء بنات الملوك.... إنكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة بالمتنبي....

فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم....... فغادر حلب، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة وبعد ترحاله في بلاد عديده بقي سيف الدولة في خاطر ووجدان المتنبي....

الجدير بالذكر ان شعر المتنبي كان صورة صادقة لعصره، وحياته، فهو يحدثك عما كان في عصره من ثورات، واضطرابات، ويدلك على ما كان به من مذاهب، وآراء، ونضج العلم والفلسفة. كما يمثل شعره حياته المضطربة: فذكر فيه طموحه وعلمه، وعقله وشجاعته، وسخطه ورضاه، وحرصه على المال، كما تجلت القوة في معانيه، وأخيلته، وألفاظه، وعباراته.......وقد تميز خياله بالقوة والخصابة فكانت ألفاظه جزلة، وعباراته رصينة، تلائم قوة روحه، وقوة معانيه، وخصب أخيلته، وهو ينطلق في عباراته انطلاقاً ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة.ويقول الشاعر العراقي فالح الحجية في كتابه في الادب والفن ان المتنبي يعتبر وبحق شاعر العرب الأكبر عبر العصور.....كان المتنبي قد هجا ضبة بن يزيد الأسدي العيني بقصيدة شديدة مطلعها:
مَا أنْصَفَ القَوْمُ ضبّهْ وَأُمَّهُ الطُّرْطُبّهْ
وَإنّمَا قُلْتُ ما قُلْـ ـتُ رَحْمَةً لا مَحَبّهْ

فلما كان المتنبي عائدًا إلى الكوفة ، وكان في جماعة منهم ابنه محشد وغلامه مفلح، لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهو خال ضبّة، وكان في جماعة أيضًا. فاقتتل الفريقان وقُتل المتنبي وابنه محشد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول غربيّ بغداد.....قصة قتله أنه لما ظفر به فاتك... أراد الهرب فقال له ابنه... اتهرب وأنت القائل :
الخيل والليل والبيداء تعرفني = والسيف والرمح والقرطاس والقلم...
فرد عليه بقوله قتلتني قتلك الله.... اما بالنسبة للقبه : فلها حادثة شهيرة في حياة المتنبي حيث إدعى النبوة في بداية شبابه ، في بادية السماوة، و لئن كان قد جوزي على ادعائه بالسجن بأمر من والي حمص ونائب الإخشيد الذي كان اسمه لؤلؤ ، إلا أن حادثة تنبؤه تبدو حيلة سياسية ليس إلا ... أو تدليساً من الحاكم ضد الثائر الشاب حيث كان قد تبعه كثير من الناس..... ثم تستطرد الرواية أنه بعدما سجن تاب ورجع عن دعواه . يرى أبو العلاء المعري في كتابه معجز أحمد : أن المتنبي لُقب بهذا من النَبْوَة، و هي المكان المرتفع من الأرض ، كناية عن رفعته في الشعر.... لا عن إدعائه النُبُوَة .... وغيرها من الروايات ...

الأستاذ محمود شاكر رحمه الله ادَّعى في شبابه، قبل أن يستحكم علمه، أن المتنبي علوي صحيح النسب، وأن العلويين أنكروا نسبه، فثار ليطلب حقه السليب. ولم يقدِّم دليلاً على ذلك إلا شبهات هي أوهى من خيوط العنكبوت. ثم أقرَّ بأخرَة بأن هذه الدعوى لا أساس لها من التاريخ، وأنه وصل إليها من خلال ما أسماه "منهج التذوُّق"، أي الشعور الحدسي الذي وجده وهو يقرأ شعر المتنبي ويرى تعاظمه لنفسه، فيبغي إذن أن يكون من سلالة أعظم العلويين!! فاهتبل رافضة عصرنا هذا الرأي، وزعموا أن المتنبي علوي إمامي، على طريقتهم المعروفة في الغشّ والتدليس العلمي وتجاهل النصوص التي تتعارض مع الغرض الطائفي! بل زعم ـ محمود الملاح ـ أنه ابن الإمام الثاني عشر الغائب! في كتاب يضحك الثكالى!!


وأما التحقيق العلمي فالظاهر من جملة النصوص أن شيعة الكوفة في القرن الرابع كانوا زيدية مالكية..... وذلك أن أعظم رجالاتها آنذاك هؤلاء الأربعة:
1 - أبو الحَسن محمَّد بن يحيى العلوي الزَّيدي، جار أبي الطيِّب المتنبِّي..... وهو الذي قال للتنوخي المؤرِّخ (كان المتنبِّي وهو صبيٌّ ينزل في جواري بالكوفة، وكان يُعرف أبوه بعِيدان السَّقَّا، يسقي لنا ولأهل المحلة، ونشأ وهو محبّ للعلم والأدب فطلبه، وصحب الأعراب في البادية فجاءنا بعد سنين بدويًّا قُحًّا ... قال أبو الحَسن : كان عيدان والد المتنبِّي يذكر أنَّه من جُعْفي، وكانت جدة المتنبِّي هَمْدانية صحيحة النسب لا أشكُّ فيها، وكانت جارتنا، وكانت من صُلَحاء النساء الكوفيات)....وقد كاد هذا الرجل أن يليَ الخلافة! فقد أراد معزّ الدولة ـ وهو زيديّ الهوى - خلع الخليفة العباسي ومبايعته بالخلافة لمّا دخل بغداد سنة 334، فصرفه عن ذلك وزيره الصَّيْمَري بقوله (إذا بايعتَه استنفرَ عليك أهَل خراسان وعوامَّ البلدان وأطاعه الديلمُ ورفضوك وقَبِلوا أمرَه فيك....... وبنو العباس قومٌ منصورون، تعتلُّ دولتهم مرَّةً وتصحُّ مراراً، وتمرض تارةً وتستقلُّ أطواراً، لأنَّ أصلها ثابتٌ وبنيانها راسخ)، فأطاعه معزُّ الدولة وأبقى على الدولة العباسية (انظر تكملة تاريخ الطبري للهمذاني 354)...وذكر البِيروني أن معزّ الدولة استدعى أحد العلويين من فارس لتسليم الخلافة إليه (المقفَّى 1/368، وملاحق كتاب المتنبِّي لشاكر 683).... ولا شكّ بأن المقصود أبو الحسن، بدليل أن الهمذاني ذكر إقامته بعَسْكَر مكرم من بلاد الأهواز (تكملة تاريخ الطبري 408)....
2 - أبو الحَسن محمَّد بن عمر بن يحيى العلوي الزَّيدي، والظاهر أنه ابن أخي الرجل الأول، وكان عظيم القدر في الدولة البويهية... ولا شكّ بأن حاله من جهة المذهب كحال عمِّه وعشيرته...
3 - أبو الحسن بن أم شيبان الهاشمي العباسي، قاضي القضاة في الدولة العباسية كلها، وهو الذي قال للتنوخي المؤرِّخ (كنت أعرف أباه بالكوفة شيخاً يسمَّى عِيدان، يستقي على بعير له، وكان جُعْفيًّا صحيح النسب)..... وهو معدود في أعلام المالكية، ومترجم في كتب المذهب....
4 - المحدِّث الحافظ أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، وهو زيدي....

وظاهر أن الرجلين العلويين المذكورين هما من أحفاد يحيى بن عُمَر الزَّيدي، حفيد زيد بن علي وزعيم الزَّيدية في القرن الثالث، الذي طلب الخلافة وثار بالكوفة في أيام المستعين وقُتل بها سنة 250، فرثاه ابن الرومي بقصيدته المشهور (أمامَكَ فانظرْ أيَّ نَهْجيكَ تَنْهَجُ)، وقد نصَّ ابن حزم على مذهبه بقوله (كان فاضلاً مالكيَّ المذهب حسَنَ القول في جميع الصحابة رضي الله عنهم )...... واسم عمر يدل بوضوح على أن القوم كانوا من أهل السنة والجماعة، وربما مع تشيُّع خفيف مقبول... ولا تعارُض بين الزيدية والمالكية؛ فالزيدية كانت آنذاك نسباً وعقيدة سياسيية ضمن أهل السنة والجماعة من حيث الجملة، والمالكية مذهب فقهي..... ثم صار للزيدية دولة في طبرستان واليمن، واتَّجهت إلى الاعتزال، وصار لها مذهب فقهي مستقل، وكل ذلك بعد عصر المتنبي....

وقد أوضح أبو الطيِّب رأيه في الشيعة الإمامية الاثني عشرية، واستهزأ بأسطورة الغيبة ومهديِّ الإمامية! وقد وقعت حادثة الغيبة المزعومة في منتصف حياة أبي الطيّب، وهو الرجل الكوفي الذي ادَّعى الانتساب إلى العلويين ذات مرَّة! مع أنه كان في الشام آنذاك، فقد يتابع أخبار العراق أولاً بأول، وما كانت هذه الحادثة الغريبة وما يدور حولها من خصومات وجدل مذهبي ليخفى على مثله..... فلما مدح ابن العميد بعد حادثة الغيبة بخمس وعشرين سنة ـ وهو رجل فارسيّ لم يكن صاحب دعوة مذهبية ولم يزعم أنَّه المهديّ ولم ينتسب إلى آل البيت، وبالتالي لم يُطالب الشعراء بمثل هذا الكلام ـ قال له أبو الطيِّب:
فإن يكنِ المهديُّ مَنْ بانَ هَدْيُهُ = فهذا، وإلا فالهُدى ذا فما المَهْدي؟!
يعلِّلنا هذا الزَّمانُ بذا الوعدِ = ويَخْدَعُ عمَّا في يديه من النَّقْدِ
هل الخيرُ شيءٌ ليس بالخيرِ غائبٌ؟ = أو الرُّشْدُ شيءٌ غائبٌ ليس بالرُّشْدِ؟
ولا معنى لهذه الأبيات إلا أنه يسخر بحادثة الغيبة ويعتبرها خدعةً من خدع الزمان ووعداً كمواعيد عرقوب، ويتَّخذ السخرية بها أداةً لكسب الدَّراهم، وقطعت جهيزةُ قول كلّ خطيب! ....وإليك شرح الواحدي لهذه الأبيات الثلاثة:
(1) إنْ كان المهديُّ في الناس مَنْ ظهر سَمْتُهُ وصلاحُه وهُداه، فهذا الذي نراه [أي ابن العميد] هو المهديُّ الموعودُ يملأ الأرضَ قِسْطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً.... وإنْ لم يكن هو الموعود، فما نراه نحن من طريقته وسيرته هُدىً كلّه، فما معنى المهديّ بعد هذا؟....
(2) الزمان يَعِدُنا خروجَ المهديّ، فيُعلِّلُنا بوعدٍ طويل، ويخدعنا عمّا عنده من النَّقْد بالوعد..... يعني أن الممدوح هو المهديّ نقداً حاضراً، وما يُنتظر خروجُه وَعْدٌ وتعليلٌ وخِداعٌ..
(3) لا ينبغي أن يُعتقَد في الخير والشرّ الحاضرَيْن أنهما ليسا بخير ولا شرّ، كذلك لا ينبغي أن يقال: ليس ابنُ العميد المهديَّ والمهديُّ غيرُه.... وهذا استفهامٌ معناه الإنكار....
واستنكر ابن مَعْقل الأزدي ـ وهو شيعيّ إمامي ـ هذا القول على أبي الطيّب لأنه يتعارض مع أصول المذهب فقال (لا يُنْكَر للمتنبِّي أن يدَّعي في ابن العميد أنه المهديّ! ولو علم أنه يزيده في العطاء بزيادته على ذلك لقال إنَّه نبي، بل قال إنَّه إله! وتهوُّره في هذا المديح يدلّ على تهوُّره في الضلال ووقوعه في الوبال! ). وقال صاحب التببيان (لم يختلفوا في أنَّه [أي المهديّ] من قريش وأنَّه من ولد عليّ رضي الله عنه، إلا أبا الطيّب: فإنه جعله في هذا البيت أبا الفضل بنَ العميد )...


لقد كان قدماء الشيعة على شيء من الحياء والأمانة العلمية، وأما شيعة اليوم ـ من أمثال محسن الأمين صاحب أعيان الشيعة - فتبلغ بهم الخيانة والوقاحة أنهم يقرأوان هذه الأبيات الصريحة فيتجاهلونها ويزعمون أن المتنبي من طائفتهم!!فالحاصل أن القول بأن المتنبي من الطائفة الشيعية الاثني عشرية كذب ظاهر، وغاية ما هناك أنه كوفي، والكوفة من معاقل الشيعة المعروفة.... ولكنها الشيعة الزيدية.... بل إن أشرافها كانوا على المذهب المالكي!...وغفر الله للأستاذ محمود شاكر، فهو الذي فتح هذا الباب!.

حمدى السعيد سالم



#حمدى_السعيد_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عفوا لن اشارك فى تنصيب الطرطور القادم ... الثورة مستمرة
- التيارات المتأسلمة وادلجة الدين لفرض سيطرتهم على المجتمع
- تمثيلية حرب اكتوبر واللعبة الدموية القذرة والشرق الاوسط الجد ...
- نقابة الصحافيين الالكترونيين المصرية وجبهة الدفاع عن صحافيى ...
- الثورة المصرية والثورة الرومانية على نفس الدرب سائرون
- متى تفهمين سيدتى بأن قلبى ليس كأى قلب
- الانقلاب الاخوانى المسلح فى العباسية يريد احلال الجماعة محل ...
- هل جماعة الاخوان تحمل الخير لمصر ام تحمله من مصر!!
- فكرعبدالمنعم ابوالفتوح الاخوانى يخطط للاستيلاء على الدولة ول ...
- مؤسسة رئاسة ام مؤسسة نخاسة
- لماذا اعتذر حمدين صباحى للاخوان وهم من لوث وشوة تاريخ عبدالن ...
- هيام العشق
- الثورة لا تلدغ من جحر الحية الاخوانية مرتين
- المجلس العسكرى والتسليح والديمقراطية الامريكية
- نعم اعرف من تكونى
- نصيحة اليك ياصاحبة العيون القاتلات
- كيف يترشح حازم ابواسماعيل وهو مسيلمة العصر
- لن اعطيك هذا الشرف
- الانقلاب الربيعى او شم النسيم
- حمار الرئاسة


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” .. ...
- مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا ...
- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمدى السعيد سالم - المتنبى واستكشاف الذات