|
في إشكالات السيرة النبوية
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 3735 - 2012 / 5 / 22 - 20:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تمثل سيرة النبي محمد معرفة بديهية لأغلب مسلمي العالم اليوم، على الأقل ضمن الإطار العام لهذه السيرة وفي حوادثها المهمة. فأجزاء من السيرة النبوية يتم تداولها في المناهج الدراسية، وتدارسها ضمن حلقات الوعظ، والتأكيد عليها في الخطب الدينية. بل إن السيرة النبوية في تفاصيلها الدقيقة هي مجال للفتاوى والتشريع والاقتداء فيما يخص الدعوة والقتال والتفاعل الإنساني وبعض نواحي الطب (الطب النبوي) وغيرها من المجالات. فالقناعة الإسلامية العامة تتعامل مع نصوص السيرة النبوية من خلال ذهنية البداهة التي تجزم جزماً قاطعاً بحقيقة حوادثها وبصحة نصوصها وبالتالي تُسلِّم لسياق السيرة وتواريخها. إلا أن هذه الذهنية الإسلامية المطمئنة لنصوص السيرة النبوية قد تعرضت لهزات عنيفة بسبب الدراسات الاستشراقية وبسبب المناهج الحديثة لنقد النصوص التاريخية ودراسات علوم الألسن واللغة. ففي هذا السياق النقدي الاستشراقي الذي ابتدأ بشكل منهجي منذ حوالي منتصف القرن التاسع عشر، تعرضت نصوص السيرة ومعها الأحاديث المنسوبة للنبي محمد ونصوص التاريخ المبكر للإسلام وخصوصاً في القرن الأول للهجرة، ومعهم الآليات الإسلامية المرافقة مثل سلاسل السند وما يسمى بعلم الجرح والتعديل، إلى نقد منهجي منظم بحيث تكشّف معها، من وجهة النظر الاستشراقية على الأقل، بأننا لا نعرف على الحقيقة عن النبي محمد إلا شذرات بسيطة جداً عنه بحيث لا يمكننا معها تكوين أي تصور واقعي عن حياته ولا عن أحداثها ولا عن تفاصيل دعوته، دع عنك إمكانية تكوين سيرة كاملة له كالتي نقرأها اليوم في مراجع إسلامية متعددة. فكما هو الحال تماماً مع النبي موسى والمسيح عيسى، من وجهة النظر هذه، فإن التاريخ الذي ترويه التوراة (أسفار موسى الخمسة) والأناجيل سواء منها الأربعة المعترف بها من الكنيسة أو غير المعترف بها، هذه جميعها لا تروي "تاريخ" حدث بالفعل ولكنها بالمقابل تروي "لا شيء آخر سوى إلباس أفكار دينية لبوس التاريخ، يتم تشكيلها بواسطة قوة الأساطير الإبداعية وبشكل غير واعي، ثم يتم تجسيدها من خلال شخصية تاريخية" كما يقول أحد المستشرقين ودارسي التراث التوحيدي ديفيد شتراوس، وإن كانت عملية "أسطرة" الشخصيات التاريخية لا تتم دائماً بصورة غير واعية برأي كاتب هذه المقالة. وعلى هذا المنوال، ومن نفس وجهة النظر الاستشراقية هذه، فإن نصوص السيرة النبوية تعاني من نفس هذه القصور. هذه المقالة هي مقدمة مختصرة جداً لبعض المقدمات التي يعتمد عليها هؤلاء المستشرقين ومَن يتبنى مناهجهم بالإضافة إلى جهد منشور لكاتب هذه المقالة في كتابه (نقد نص الحديث).
تعاني السيرة النبوية كما نقرؤها اليوم من محورين خطيرين بحيث يضعا حوادثها التاريخية تحت طائلة النقد. المحور الأول هو حقيقة أن الروايات المتعلقة بحياة النبي محمد وأقواله وأفعاله تم تناقلها بصورة شفهية لأكثر من مئة سنة قبل أن يتولى محمد بن إسحاق تدوين أول سيرة للنبي، ثم لتختفي جميع نسخ هذه السيرة، وياللعجب والغرابة، ولا يتم العثور حتى هذه اللحظة على أي مخطوط كامل لسيرة ابن إسحاق. والمحور الثاني هو أن الظرف الذي تم تداول أحداث هذه السيرة فيه شفهياً من دون تدوين هو ظرف متصارع سياسياً وعقائدياً وغير محايد، ولا يمانع حتى في استخدام العنف والتصفية ضد أي تصور يخالف التصور الشعبي – السياسي لحياة النبي محمد.
تنقسم مواضيع النقد فيما يتعلق بالمحور الأول إلى تشعبات كثيرة جداً منها ما يتعلق بطبيعة الرواية الشفهية من حيث تحولها وتغيرها وتنقيحها وتعرضها للنسيان والوهم والأهواء والتحريف والزيادة والنقصان، ومنها ما يتعلق بأوجه الشبه المثيرة للشك بين سيرة النبي محمد وسير حياة أنبياء العهد القديم، ومنها ما يتعلق بـ "حبكة الرواية" نفسها، أو مضمونها، بحيث نرى الرواية تكرر مضمون أحداث صراع ديني أو مذهبي كان دائراً قبل حياة النبي محمد بكثير، هذا بالإضافة إلى مواضيع وتشعبات أخرى أيضاً. فنحن نرى، مثلاً، أن هناك أوجه تشابه مثيرة للدهشة حقاً بين قصة حياة النبي موسى وسيرة النبي محمد. فمثلاً:
1- يذهب موسى إلى جبل ليتلقى "كلمة" الله في الألواح – يذهب محمد إلى الغار في الجبل ليتلقى "رسالة" الله وليقول له الملاك "إقرأ". 2- يتعرض أتباع موسى في مصر إلى العذاب – يتعرض أتباع محمد في مكة إلى العذاب. 3- يفر موسى إلى "مدين" – يهاجر محمد إلى "المدينة". 4- يخرج موسى بأتباعه من مصر – يهاجر محمد بأتباعه من مكة. 5- القبائل الإثنى عشر لبني إسرائيل ممثلين لدى موسى – النقباء الإثني عشر للأنصار (الخزرج) ممثلين لدى محمد في العقبة. 6- يضرب موسى صخرة في الصحراء فيخرج منها الماء ليشرب بنو إسرائيل – يخرج الماء من بين يدي محمد في الصحراء ليشرب المسلمون. 7- تمطر السماء خبزاً ولحماً (المن والسلوى) لموسى بحيث لا تتوقف استمراريتهما – تكثير الطعام لمحمد من قصعة واحدة بحيث لا ينفد محتواها. 8- يُقتل فرعون وجيشه بواسطة الغرق – يُقتل ملأ قريش وبعض جيشهم في بدر. 9- يتعرض موسى لصراع داخلي من بني إسرائيل إلى درجة كفرهم وعبادتهم العجل – يتعرض محمد لصراع داخلي من المسلمين وليتم نبزهم بالمنافقين واعتبارهم يبطنون الكفر. 10- ملاك الرب يسير أمام موسى وشعبه ليُبيد الأموريين والحثيين والكنعانيين – تقاتل الملائكة إلى جانب المسلمين إلى حد أنهم يسمعون صهيل خيولهم ويسمعون أصواتهم. 11- لا يتولى تربية موسى صغيراً أبويه بسبب الخوف – لا يتولى تربية محمد صغيراً أبويه بسبب اليتم. 12- يرعى موسى الغنم – يرعى محمد الغنم. 13- يريد فرعون أن يقتل كل أطفال بني إسرائيل ومنهم الوليد موسى – يريد اليهود أن يقتلوا النبي محمد صغيراً ويحذِّر بحيرى الراهب عمه أبا طالب منهم. 14- يطارد جيش فرعون موسى عند خروجه من مصر – تطارد قريش محمد عند هجرته. 15- يختار موسى سبعين من شيوخ بني إسرائيل ليصعدوا الجبل معه للقاء الرب – يبايع النبي محمد سبعين من الأنصار عند العقبة.
هذه بعض أوجه التشابه بين القصتين، كما هي في التوراة والسيرة النبوية، مما يبدو معها، كاستنتاج أولي على الأقل، أن ناقل أخبار السيرة النبوية شفهياً قبل التدوين قد نسج بعض أحداث حياة النبي محمد على منوال ما قرأه في أسفار العهد القديم (التوراة بالتحديد)، مما يعني أن الأحداث الحقيقية لسيرة النبي محمد في أجزاء متعددة هو يجهلها لسبب أو لآخر فهو يحاول ملأ الفراغ، أو كاحتمل ثان، هو يريد ملأ الفراغ بسبب حذف متعمد في سياق هذه السيرة بواسطة الاعتماد على معرفة سابقة لحياة النبي موسى.
إلا أن أوجه التشابه في السيرة النبوية لا تقف عند حد نصوص التوراة فيما يتعلق بالنبي موسى، ولكنها تخرج إلى اقتباس أساطير وقصص العرب وأيامهم ومن ثم نسبتها إلى حوادث سيرة النبي محمد. وقد أورد كاتب هذه المقالة في كتابه (نقد نص الحديث) عدة أمثلة، هذه أحدها:
يروي لنا صاحب كتاب (الأغاني) وغيره من مصادر أيام العرب عن الحروب الجاهلية التي حملت اسم "حروب الفجار". وقد سميت بالفجار لأنها كانت في الأشهر الحُرُم، وهي الشهور التي يحرم فيها القتال عند الجاهليين وبقيت كما هي في الإسلام، ففجروا فيها بقتالهم. يقول أبو الفرج الأصفهاني: "اليوم الثاني من أيام الفجار الأول، وكان السبب في ذلك أن شباباً من قريش وبني كنانة كانوا ذوي غرام، فرأوا امرأة من بني عامر جميلة وسيمة، وهي جالسة بسوق عكاظ في درع وهي فُضُل [الدرع هو لباس للمرأة فضفاض، وفُضُل كناية عن طول ذيل الثوب وراءها] عليها برقع لها، وقد اكتنفها شباب من العرب، وهي تحدثهم. فجاء الشباب من بني كنانة وقريش فأطافوا بها وسألوها أن تُسفر، فأبتْ. فقام أحدهم فجلس خلفها، وحَلَّ طرف ردائها وشدَّهُ إلى فوق حُجْزتها بشوكة وهي لا تعلم. فلما قامت انكشف درعها عن دبرها، فضحكوا".
كانت تلك القصة سبب معركة من معارك أيام جاهلية العرب قبل الإسلام، فإذا بنا نقرأ في سيرة النبي محمد التي حوتها سيرة ابن هشام عن سبب حرب النبي ليهود بني القينقاع: "كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدِمَتْ بجَلَبٍ لها، فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها. فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت. فعَمَدَ الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده على ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا".
بل الأمر يتعدى ذلك إلى أساطير اليمن كما رواها وهب بن منبه في كتاب (التيجان في ملوك حمير). كتاب التيجان هذا هو برواية ابن هشام، نفس الراوي الذي اختصر وحذف من سيرة ابن إسحاق قبل فقدان الرواية الأصلية، وأخرج لنا سيرة منقحة هي التي بين أيدينا الآن تحت عنوان (السيرة النبوية – لابن هشام). الاقتباس الآتي هو من كتاب (نقد نص الحديث) لـ (حسن محسن رمضان):
"عند مقارنة الكتابين، كتاب التيجان والسيرة النبوية، مع بعضهما البعض فسوف نخرج بنتيجة مثيرة للغاية، وهي أن الكتابين (الروايتين لابن هشام) يحملان تشابهاً صارخاً على أكثر من محور (...) فابن هشام ينقل لنا عن وهب الرواية التالية عن ما حدث لعابر بن شالخ: (وأن عابر رأى في منامه كأن باباً من السماء فُتح له ونزل منه مَلَك، فأخذ بيديه فأقامه قائماً، فشق صدره ونزع قلبه فشقه وغسله ثم أطبقه فعاد صحيحاً كما كان، ثم رده في صدره فعاد سوياً). كان ذلك ما قاله وهب عن عابر بن شالخ، فإذا بنا نقرأ في السيرة بلسان النبي محمد: (أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجاً، فأخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقّاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه). ثم بعد ذلك يقص علينا وهب عن عابر أيضاً (فرأى كأن المَلَك أتاه فأخذ بيده وأقامه على نفسه ثم قال: هات الصحيفة يا عابر. فأتى بالصحيفة عابر. فقال له المَلَك: اقرأ يا عابر. قال له عابر: ما الذي أقرأ؟) (...) ولكن هذا الخبر هو نفس الخبر الشهير لجبريل مع النبي في بداية الوحي (فقال: اقرأ، قلتُ: ماذا أقرأ). ويخبرنا وهب أن يعرب رأى رؤيا تأمره بحفر حفرة (نقب) في (أرض برهوت في غربي الأرض)، فإذا بنا نقرأ في سيرة ابن هشام (بينما عبد المطلب بن هاشم نائم في الحِجر إذ أُتيَ [أي حلم أو رأى رؤيا] فأُمرَ بحفر زمزم). ثم يحدثنا وهب عن الملك الصعب ذو القرنين بن الحارث الرائش (إذ رأى رؤيا كأن آتياً أتاه فأخذ بيده وسار به حتى رقي به جبلاً عظيماً منيفاً، لا يسلك فيه سائر من هول ما رأى، إذ شرف على جهنم وهي تحته تزفر وأمواجها تلتطم وفيها قوم سود تتخطفهم النيران من كل جانب. فقال له الصعب: من هؤلاء؟ قال له: الجبابرة)، وهذا هو حديث المعراج [للنبي محمد] مع ملاحظة أن "المعراج" لم يذكره القرآن أبداً، صراحة على الأقل. ويكمل وهب رواية أساطيره فيقول (ثم أنه رأى في الليلة الثانية كأنه نُصب له سلم إلى السماء ورقى عليه، فلم يزل يرقى حتى بلغ إلى السماء، فسل سيفه ثم علقه مصلتاً إلى الثريا، ثم أخذ بيده اليمنى الشمس، وأخذ القمر بيده اليسرى)، وإذا تركنا الإيحاء الواضح للمعراج جانباً فإننا نقرأ في سيرة ابن هشام قول النبي محمد لعمه أبي طالب: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري)".
قام الدكتور دبليو رافن (W. Raven) بكتابة موضوع (السيرة) في (إنسكلوبيديا الإسلام) (Encyclopedia of Islam). ما كتبه في مقدمة الموضوع يمثل خلاصة الموقف الاستشراقي من نصوص سيرة النبي محمد. كتب رافن في المقدمة:
"إن مادة السيرة ككل هي غير متجانسة بشكل كبير بحيث أي صورة متماسكة [مترابطة منطقياً] للنبي [محمد] من غير الممكن الحصول عليها من هذه النصوص. هل من الممكن استخدام أي من هذه النصوص [ولو بصورة جزئية] للخروج بسيرة ذاتية [للنبي] محمد بحيث تكون تاريخياً موثوقة، أو استخدامها لصالح بناء تأريخ للإسلام المبكر؟ [الجواب هو] أن هناك عدة اعتراضات تقف على الضد من هذه الإمكانية: 1- بالكاد يوجد أي نص كتابي للسيرة يرجع بتاريخه للقرن الأول للإسلام. 2- الروايات الكتابية المتعددة للسيرة غالباً ما تُظهر تناقضاً [أو تعارضاً]، سواء في المضمون أو الترتيب الزمني للأحداث. 3- كلما كانت المصادر أبعد زمنياً من حياة النبي محمد، كلما ادّعت بأنها تعرف أكثر عن حياته وتفاصيلها. [قارن على سبيل المثال اختصار سيرة ابن إسحاق (توفي 151 هـ) مع مغازي الواقدي (توفي 207 هـ)، ثم قارن كل ذلك مع المقريزي (توفي 845 هـ) في كتابه (إمتاع الأسماع)]. 4- المصادر غير الإسلامية [عن حياة النبي أو فترة الإسلام المبكر] غالباً ما تختلف عن المصادر الإسلامية [وتتناقض معها]. 5- أغلب نصوص السيرة من الممكن تصنيفها ضمن واحدة من الأنواع [الأربعة] المذكورة أعلاه. نصوص تاريخ الخلاص [المقصود بتاريخ الخلاص هو التاريخ الديني الذي يتولى كتابته المؤمنون والذي يضحي بحقيقة الواقع وما حدث بالفعل لصالح رؤية دينية عقائدية لم تحدث أصلاً ولم تقع ولكنه يلبسها لباس التاريخ] نصوص تاريخ الخلاص والتعقيبات [التفسير] على نصوص القرآن هي غير صالحة كمصدر لكتابة تأريخ علمي [لحياة النبي وللإسلام المبكر]".
أحد أوجه الإشكالية الرئيسة تنبع من أن أول سيرة مكتوبة وصلت شذرات منها لنا عن حياة النبي محمد قد قام بها محمد بن إسحاق بعد حوالي 120 سنة أو أكثر من تاريخ الحوادث التي يؤرخها (توفي ابن إسحاق 151 هـ). كل هذه المدة كانت تفاصيل السيرة النبوية يتم تداولها شفهياً من دون تدوين. ومما هو جدير بالملاحظة أن عبد الملك بن هشام (توفي 218) بعد أن التقى تلميذ ابن إسحاق الذي نقل كتاب السيرة له، زياد البكّائي الكوفي (توفي 183 هـ)، قد قام باختصار هذه السيرة، ثم ليكتب عن السبب لاختصاره سيرة ابن إسحاق الآتي: " وأنا (...) تارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله (ص) فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيراً له، ولا شاهداً عليه، لِما ذكرت من الاختصار، وأشعاراً ذكرها لم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياءٌ بعضها يشنع الحديث به، وبعضٌ يسوء بعضَ الناس ذكره، وبعضٌ لم يُقِر لنا البكّائي بروايته". فابن هشام قد شكّ أصلاً بصحة بعض تفاصيل أول سيرة نبوية مكتوبة ولذلك قام بحذفها، هذا بالإضافة إلى تعمده حذف بعض التفاصيل الأخرى لأنها برأيه (يشنع الحديث به). ومما يزيد الدهشة والغرابة، وكما ذكرنا سابقاً، أن الأصل الذي اختصره ابن هشام، أي كتاب محمد بن إسحاق، أول سيرة مكتوبة للنبي محمد، قد اختفت تماماً من التداول بين المسلمين وليحل محلها المختصر الذي قام به ابن هشام.
المحور الثاني الذي يضع نصوص السيرة النبوية تحت طائلة النقد هو أن الظرف الذي تم تداول أحداث هذه السيرة فيه شفهياً من دون تدوين هو ظرف متصارع سياسياً وعقائدياً وغير محايد، ولا يمانع حتى في استخدام العنف والتصفية ضد أي تصور يخالف التصور الشعبي – السياسي لحياة النبي محمد. يقول بسام الجمل في كتابه (أسباب النزول): "أثبتت الدراسات الحديثة أن الرواية الشفوية تكون متحولة باستمرار في بنيتها السردية، وتستعصي على أشكال التحديد كلها. ويتخذ هذا التحول صوراً عديدة أهمها التصرف في الرواية (الأصل) بالزيادة أو النقصان من ناحية، وبالتقديم والتأخير في بعض مكوناتها اللغوية من ناحية أخرى. وفضلاً عن ذلك، فإن ناقل الرواية يكون متأثراً بضغوط واقعه التاريخي وإكراهاته، سواء أكان واعياً بذلك أم غير واع. ولذلك يكون لهذه العمليات التي تمر بها الرواية الشفهية إنعكاس عميق في ما تفيده من دلالة غالباً ما تختلف عن الدلالة التي قصدها صاحب الرواية الأولى". وإن كان ما سبق إيراده في المقالة هو تدليل صريح لبعض ما ورد في هذا الاقتباس، فإن ما تبقى منه من تقرير سوف أدلل على صحته من خلال مثالين اثنين يتم الإثبات من خلالهما أن السيرة النبوية تعرضت لتنقيح واع متعمد بسبب سياق اجتماعي ضاغط من جهة، وآخر سياسي مصلحي – عنيف من جهة أخرى مما تسبب بدون أدنى شك في "محو" أجزاء من السيرة النبوية من الذاكرة الشفهية، وبالتالي اضطرار الرواة، إما بسبب نجاح هذا المحو المتعمد أو بسبب الظرف السياسي الاجتماعي، إلى ملأ تلك الفراغات في السيرة بطريقة أو بأخرى.
وكيع بن الجراح (129 هـ - 197 هـ)، أحد أئمة الحديث. وصفه الذهبي في (سير أعلام النبلاء) بقوله: "كان من بحور العلم وأئمة الحفظ"، وقال عنه أحمد بن حنبل: "ما رأيت أحداً أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع"، وحديثه في صحيحي البخاري ومسلم. تعرض وكيع إلى محنة كادت أن تقتله بسبب رواية رواها في وفاة النبي. يقول الذهبي في (سير أعلام النبلاء) عن هذه المحنة:
"محنة وكيع، وهي غريبة، تورط فيها ولم يرد إلا خيراً. ولكن فاتته سكتة. وقد قال النبي (كفى بالمرء إثماً أن يُحدّثَ بكل ما سمع) (...) قال علي بن خشرم، حدثنا وكيع [بن الجراح] (...) أن أبا بكر الصديق جاء إلى النبي بعد وفاته، فأكبَّ عليه، فقَبَّله، وقال: (بأبي وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك)، ثم قال (...): وكان تُرك يوماً وليلة حتى ربا بطنه وانثنت خنصراه. قال ابن خشرم: فلما حدّث وكيع بهذا بمكة، اجتمعت قريش، وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة لصلبه (...) قال علي بن خشرم: سمعت الحديث من وكيع، بعدما أرادوا صلبه، فتعجبت من جسارته (...) [يقول الذهبي]: فهذه زلة عالم، فما لوكيع ولرواية هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد؟ كادت نفسه أن تذهب غلطاً، والقائمون عليه معذورون، بل مأجورون. فإنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود غضاً ما لمنصب النبوة (...) النبي فمفارق لسائر أمته في ذلك، فلا يبلى، ولا تأكل الأرض جسده، ولا يتغير ريحه، بل هو الآن وما زال أطيب ريحاً من المسك، وهو حي في لحده حياة مثله في البرزخ التي هي أكمل من حياة سائر النبيين (...) ولولا أن هذه الواقعة في عدة كتب، وفي مثل (تاريخ الحافظ ابن عساكر) وفي (كامل الحافظ ابن عدي) لأعرضت عنها جملة (...) فرفع ذلك إلى العثماني [والي مكة] فحبسه، وعزم على قتله، ونصبت خشبة خارج الحرم (...) فدخل سفيان [بن عيينة] على العثماني، يعني متولي مكة، فكلمه فيه (...) فعمل فيه كلام سفيان فأمر بإطلاقه (...) فكتب أهل مكة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع، وقالوا: (إذا قدم عليكم فلا تتكلوا على الوالي، وارجموه حتى تقتلوه) (...) فبعثنا بريداً إلى وكيع أن لا يأتي المدينة، ويمضي من طريق الربذة، وكان قد جاوز مفرق الطريقين، فلما أتاه البريد، رد، ومضى إلى الكوفة".
في محنة وكيع مثال باهر على أن (العقيدة) هي التي كانت تريد أن تكتب (التاريخ)، ولم يكن الهدف إطلاقاً كتابة (تأريخ) العقيدة في الذهنية الإسلامية المبكرة والوسطى. فالذهبي يلوم وكيع لأنه (فاتته سكتة)، ويؤكد حصول "الأجر" لمن أراد قتل وكيع، ولولا أن تلك الرواية مذكورة في كتب أخرى لغض الذهبي النظر عنها وسكت حتى يتم محوها تماماً من الذاكرة والتدوين لسيرة النبي محمد. ولم يتجرأ أحد بعد وكيع أن يروي الخبر، أو أن يثبته في السيرة النبوية على أنها رواية على الأقل "قد قيلت" في وفاته. ولكن السؤال الذي يُلح على فكر الناقد أمام هذه الرواية هو: كم من الروايات الأخرى التي كانت متداولة شفهياً قد تم الحجر عليها ومحوها من الذاكرة لأنها كانت على النقيض من العقيدة التي أريد لها أن تهيمن؟
المثال الثاني هو عن تدخل السلطة السياسية السافر لكتمان أوجه متعددة في السيرة النبوية. فقد أورد الزبير بن بكار (توفي 256 هـ) في (الأخبار الموفقيات) خبراً آخر يوضّح بجلاء تدخل السلطة الأموية في نصوص السيرة والتاريخ:
"قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة اثنتين وثمانين، وهو ولي عهد. فمر بالمدينة، فدخل عليه الناس فسلَّموا عليه. وركب إلى مشاهد النبي (ص) التي صلى فيها، وحيث أُصيبَ أصحابه بأُحد، ومعه أبان بن عثمان وعمرو بن عثمان وأبو بكر بن عبدالله بن أبي أحمد، فأتوا به قباء ومسجد الفضيخ ومشربة أم إبراهيم وأُحد، وكلٌّ يسألهم ويخبرونه عمّا كان. ثم أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سِيَر النبي (ص) ومغازيه. فقال أبان: هي عندي، قد أخذتها مصححة ممن أثق به. فأمر بنسخها، وألقى فيها إلى عشرة من الكُتّاب فكتبوها في رق. فلما صارت إليه، نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وذكر الأنصار في بدر، فقال: ما كنتُ أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإما أن يكون أهل بيتي غَمصوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس كذلك (...) قال: ما حاجتي إلى أنْ أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين [عبد الملك بن مروان]، لعله يخالفه. فأمر بذلك الكتاب فحُرِّق". وعندما رجع سليمان وأخبر عبد الملك بن مروان بالسيرة التي عند أبان، أجابه: "وما حاجتكَ أنْ تَقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعرِّفُ أهلَ الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها؟ قال سليمان: فلذلك يا أمير المؤمنين أمرت بتخريق ما كنت نسخته حتى أستطلع رأيَ أمير المؤمنين. فصوّبَ رأيه".
الخلاصة هي أن نصوص السيرة النبوية كما نقرؤها اليوم تحمل ضمن طياتها إشكالات متعددة. فإشكالاتها لا تقف فقط عند حدود الذهنية التي تُسلّم لكل ما ورد فيها بحيث تكون إنعكاسات نصوصها فردياً محدوداً، ولكنها تتعداها إلى تأثير أكثر خطورة عندما يتم الاستشهاد بنصوصها في التشريع والفتوى. والمجهود الاستشراقي الذي قاد الطريق في أوجه متعددة من نقد النصوص الإسلامية، على محدودية تأثيره ضمن العالم الإسلامي اليوم، فإن تأثيره المستقبلي، وبدون أي شك، سوف يكون لصالح إعادة النظر في الكثير من المفاهيم الإسلامية التي نراها فاعلة حولنا اليوم.
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في إشكالية العصمة النبوية
-
من إشكالات المجتمع الكويتي
-
هل لا تزالون أمة ً أمّية؟
-
رسالة يهوذا، الذي خان المسيح، إلى الحُكام العرب
-
إشكالية اغتصاب المرأة في الفقه الإسلامي
-
مقالة في أن العلمانية تحمي الدين من احتمال الاستبداد
-
إلغاء ملتقى النهضة وزيف شعارات الحرية
-
مقالة في أن لا كهنوت في الإسلام مقولة خاطئة
-
خطورة التسويق للنموذج السعودي للحداثة … الاستقواء بالسلطة ضد
...
-
السذاجة الإسلامية كما تتجلى في قضية حمزة الكاشغري
-
أفضل هدية في عيدها أن نتصارح مع الكويت
-
في العلمانية ومفهوم الليبرالية والهدف منهما
-
ديموقراطية الشذوذ القَبَلي
-
أرى خلل الرماد وميض نار - الحالة الكويتية
-
عندما يقول الغرب لكم: إن قبائلكم ومذاهبكم يثيران الاشمئزاز ا
...
-
الكلمة التي ألقيتها في الحلقة النقاشية عن مواقع التواصل الاج
...
-
إنها قشور دولة
-
حقيقة التلبس الشيطاني - الفرق بين أوهام رجال الدين ومنطقية ا
...
-
إشكالية المجاميع الليبرالية الكويتية
-
السلطة المعنوية لقمة الهرم السياسي الكويتي كما هي عليها اليو
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|