سيدة عشتار بن علي
الحوار المتمدن-العدد: 3735 - 2012 / 5 / 22 - 14:11
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
حين هبت الجماهير العربية الثائرة في ذوبان إنساني رائع تحول فيه الملايين إلى جسد واحد وروح واحدة وعقل واحد, كان يدفعهم إيمانهم بان بإمكانهم أن يعيشوا كشعوب محترمة لها كيانها واحترامها, فقد كانت الملايين الهادرة تتحرك نحو هدف مشترك على الرغم من عدم وجود قيادة محددة معروفة بالاسم في كيان نفسي واحد أدهش العالم, وبدأت الشعوب التي عاشت عقودا من القمع والقهر محفوفة باليأس وفقدان الأمل تتغير حالتها المزاجية من الاكتئاب إلى السعادة ,لكن سرعان ماعاد لها الاكتئاب مرة أخرى فالأنظمة الدينية التي أمسكت بزمام الأمور لم تحقق وليس هناك ما ينبئ بأنها ستتناغم مع طموحات الناس ,كما أنها لا تواكب الإيقاع الثوري السريع إضافة إلى الغموض في خطابها وازدواجيته وردود أفعالها المتأخرة والغامضة ,هذا إضافة إلى موجة الشك التي أصبحت حقيقة يصعب إنكارها في مصداقية هذه الحكومات المدعومة من أمريكا بما تحمله لها الشعوب العربية من كراهية وحقد وفقدان ثقة خاصة بعد معاينة انجازاتها الديمقراطية في العراق الذي حولته إلى جحيم من الفقر والمرض والصراعات الطائفية ,ثم إن ما يبذله حكام الخليج من جهد لدعم هذه الأنظمة يضعها في محل مسائلة وريبة, فكيف لهؤلاء الحكام المعروفين بانتهاك حقوق الإنسان والديمقراطية أن يعملوا على إرساء أنظمة ديمقراطية ?? كل هذا جعل الناس في حالة استنفار دائم لعدم إحساسهم بالأمان والخوف من المجهول الذي ينتظرها فكل الدلائل تشير إلى أن المصير سينتهي بإعادة ضخ الدماء في دكتاتوريات جديدة تفوق في شراستها الدكتاتوريات التي وقع إسقاطها, وبدا شبح المؤامرة يسيطر على الأذهان خاصة وهم يرون أهداف الثورة توضع في الثلاجة والإنسان ومتطلباته هو آخر ما يمكن أن تفكر فيه هذه الأنظمة التي انصرفت فور توليها السلطة إلى تصفية الحسابات القديمة والاهتمام بقضايا لا تمت للعصر ومتطلبات الحياة الحاضرة بصلة , وكانت النتيجة هي حالة إحباط أصابت الثوار ومن شاركهم أو أيدهم في الثورة, فالآمال الّتي علّقتها هذه الشعوب على هذه الثّورة كبيرة وليس من السّهل على الإنسان أن يرى حلمه الذي أوشك على التّحقق وهو ينهار أمامه أو يكتشف أنه كان مجرد أداة استعملت لتحقيق مصالح فئات أخرى, فتعالوا نتأمّل في المظاهر المعبّرة عن حالة الإحباط هذه بالاستعانة بما صرح به الأطبّاء النّفسيون.
يشير الأطبّاء النّفسيون إلى أن الأزمات الّتي يصنعها الإنسان مثل الحروب والقمع والحروب والحصار والعقاب الجماعي يكون تأثيرها على الأفراد والجماعات أشدّ بكثير من تأثير الأزمات الخارجة عن إرادة الإنسان مثل الأزمات الطبيعية, وهذا ما حدث في أوساط الشعوب العربية اثر الثورات العربية أو الرّبيع العربي كما روّج , فمشاهد القتل والعنف الرهيبة أدت إلى ظهور حالات نفسية شديدة وهي ما يطلق عليه أطباء النفس باختصار PTSDالتي تنشأ اثر التّعرّض لأحداث وصدمات نفسية تفوق الاحتمال ,إذ أنّ الإنسان يقع تحت طائلة صدمة تخرج عن نطاق الخبرة الإنسانية العادية مما يؤدي إلى أعراض الاضطراب النفسي في صورة قلق وتوتّر دائمين واضطراب في النوم بسبب الكوابيس الناتجة عما خزنته الذاكرة من صور ومواقف أليمة ويتبع ذلك شعور بالإجهاد والألم النفسي والضيق والعزلة واليأس .ومن ردود الأفعال التشتت الذهني والانتباه الزائد ورد الفعل العصبي لكل شيء يذكر الإنسان بمشاهد الصدمة النفسية الأليمة ممّا يفقده الاستمتاع بالحياة لتحل مشاعر الاكتئاب الجماعي, وقد لا تظهر هذه الأعراض مباشرة عقب التعرض للصدمة ويتأخر ظهورها لشهور أو سنوات ويكفي أن نعلم أن حالات الاضطراب النفسي مازال يعاني منها جنود حرب فيتنام رغم مرور أكثر من 40 عاماً على تعرضهم لمواقف الرعب أثناء الحرب
مظاهر الإحباط والأزمة النفسية لدى الشعوب الثائرة
في تونس :
تشير الإحصائيات إلى الإقبال الغير مسبوق لدى التونسيين على الأقراص المهدّئة ومضادّات الاكتئاب , ويؤكد الدكتور محمد العربي ألنهدي الاختصاصي في الأمراض النّفسية والأعصاب تزايد الإقبال على عيادات الطبّ النفسي اثر الثورة بعد ان كان محتشما قبلها ويؤكد ان الاكتئاب والشعور بالإحباط هي ابرز الأمراض التي أصبح التونسي يعانيها كما يذهب الدكتور عماد الرقيق اختصاصي الأمراض النفسية والعصبية أيضا أن الاكتئاب والتوتر وأعراضها النفسية قد تصل إلى 90٪ بين التونسيين وليس بمفاجأة أن يبلغ عدد المنتحرين 44 حالة خلال شهرين فقط.ا وحسب دراسة أجرتها وزارة الصحة العمومية التونسية، فقد سجل 111 حالة انتحار ونصف هذه الحالات انتحروا حرقا في ما بين شهري جانفي و جوان 2011، أي خلال الأشهر الستة الأولى للثورة التي كانت خليطا من الفرح و الانتشاء و الجزع و الترقب، جعلت العديد من الناس يفقدون رؤوسهم وهم يرون أحلامهم وأمالهم تتهاوى أمام سطوة المتسلقين والراكبين المتطفلين ,كيف لا و الثورة بالنسبة لهم هي الحرب النهائية التي مثّلت بالنسبة لهم نهاية البؤس والظلم وبداية عصر جديد ستتمّ فيه تصفية الحسابات و إقامة العدل و إزالة العذابات?? و من مظاهر الاكتئاب والإحباط النفسي أيضا بعد الثورة ارتفاع نسبة الجرائم المتعلقة باستهلاك المخدّرات فقد أصبحت تتصدّر النّشرات الإخبارية والصّفحات الأولى من الجرائد وهذا ما أكّده رئيس الجمعيّة التونسية للوقاية من تعاطي المخدّرات الدّكتور عبد المجيد الزّحاف في قوله :"مقارنة بالسنوات الأخيرة، فهناك ارتفاع ملحوظ في عدد المدمنين الجُدد على استهلاك المخدّرات في تونس بعد الثورة
في ليبيا :
يعيش الليبيّون حالة إحباط بعد مرور عام على ثورتهم التي أنهت حكم العقيد معمر ألقذافي ,لكن الحكومة الحالية لم تستجب لطموحات الليبيين وآمالهم العريضة في التطوّر والدّيمقراطية التي علقوها على الثورة ,والسبب هو عدم انفتاح هذه الحكومة الانتقالية إضافة إلى عدم قدرتها على السيطرة على المسلّحين في دولة مدجّجة بالسلاح ,وكانت صحيفة واشنطن تيمز الأمريكية قد لفتت إلى الانتقادات التي يتعرض لها المجلس الانتقالي مشيرة إلى حالة الإحباط التي أصبح الليبيون يعانونها بعد الثورة ,. ونقلت في هذا الشأن عن حكيم غادي، أحد الناشطين الداعمين للديمقراطية في طرابلس، قوله :"الناس الذين سبق لهم أن دعموا الثورة شبه متأكدين الآن من مشاعرهم لأنهم لا يرون أي بصيص من الضوء في نهاية النفق. فكثير من المشكلات القديمة تعاود الظهور على نحو أقبح
في مصر
تسود فى أوساط شباب الثورة المصرية وكتابها وشعراءها وممثليها موجة من الإحباط واليأس والتشاؤم تجلت خاصة فى أعقاب حلول الذكرى السنوية الأولى للثورة وذكرى رحيل مبارك فى 11 فبراير الماضي فهذه الموجة من الإحباط تغمر أوساط العناصر الديمقراطية الثورية المناضلة التي لعبت دورا أساسيا فى الثورة وكذلك الأوساط الشعبية البسيطة, ونلمس هذا الإحباط من خلال اللهجة التي أصبحت تسيطر على الشارع المصري والتي تعبر عن شعور طاغ بالإجهاد والقلق والملل او لنقل انه وصل إلى درجة خور العزيمة الذي يعبر عن نفسه من خلال طغيان عبارات شعبية بسيطة من قبيل مفيش فايده , غطينى وصوتى ياصفية , يللا نهاجر , لسنا الاقردة تجارب , حاربنا طواحين الهواء مثل دون كيشوت , ليس لنا الا النواح , شعب يستاهل اللى يجرى له , ياريت تجيلهم شوطه , يللا ننام يمكن بكره نصحى مانلقيهومش
والسؤال الذي يجب ان يطرح هنا :
ماهي المسارات المحتملة لحالة الإحباط هذه ??
هناك مسارين :الأول يتجلى لدى شباب الثورة الذي مازال إلى الان بصدد التعبير عن غضبه في صورة مليونيات واعتصامات متكررة واحتكاكات وتصادم مع السلط الحالية وهو ما ينبئ بالمزيد من تصاعد الغضب بسبب مشاعر العداء تجاه من التفو على الثورة وركبوها متجاهلين أصوات الشعوب ومشاكلها التي من اجلها قامت الثورة
أما المسار الثاني, وهو اليأس والاستسلام فنلحظه لدى فئات من الناس ترى أنه لا فائدة من الثورة, وأن الذل والبؤس والقمع قدرهم الذي رافقهم قبل الثورة وسيظل يرافقهم بعدها, وهم يشعرون أن لا فائدة ترجى في أي شيء, وأصبح كل همهم الحصول على لقمة العيش والشعور بالأمان ,وقوى الثورة المضادة تلعب على هذه الفئات وتحاول أن ترسخ حالة اليأس والقنوط لدى أعداد أكبر من المصريين على أمل أن يكفروا بالثورة ومبادئها إلى ان تهدا الأوضاع تماما وتعود الحيوانات عن هيجانها لتألف أقفاصها من جديد
لتجاوز الإحباط
مهما كانت النتائج التي أسفرت عنها الثورات, فان هناك شيئا هاما لا يمكن تجاهله او الاستهانة به وهو التغيير بل القفزة النوعية التي حدثت على مستوى العقلية العربية فثمة تغيير واضح بين الإنسان قبل الثورة وبعدها ,فقد تعود الناس لعقود طويلة على التهميش, وأن السياسة يختص بها قلة من الناس في قمة السلطة وعلى رؤوس الأحزاب, وأن السياسة هي نشاط نخبوي بالضرورة, وأن ممارستها دائما محفوفة بالمخاطر,أما بعد الثورة فان الإنسان و رغم مشاعر الخوف وغياب الامن الا انه اكتسب شعورا جديدا تمثل في إيمانه بقدرته على إحداث التغيير كيف لا وقد نجح في إسقاط دكتاتوريات مستبدة في فترة وجيزة ?? فهناك نقلة في النظرة الى صورة الذات واضحة جدا ,خاصة إذا وضعنا في الاعتبار الصورة السلبية التي كانت سائدة قبل الثورة و التي كانت مليئة بمشاعر الدونية والإحساس بالهوان والضعف, ولذلك يجب الإيمان بان السرقة الحقيقة للثورة تكون عبر استسلام هذه الشعوب للهزيمة والإحباط ,فالمعركة مستمرة وتحديد مصير حياتنا يجب أن يكون من صنعنا ,ولن يحدث هذا إذا فقدت الشعوب من جديد إيمانها بقدرتها وذواتها......الحرية حق إنساني ينتزع ولا يمنح ويجب أن تتحول الى ممارسة يومية كي نتخلص خاصة من الصنم الجديد الذي يجاهد في سبيل الانبعاث ممثلا في فلول السلفية التي تنتشر في أراضي الثورة قصد بث عقلية الرهبة والخوف من جديد في نفوس الشعوب كي تعيدها الى أقفاصها وتحكم الإغلاق عليها ...لا يجب أن نسمح لهم بهذا ويجب أن نقاوم دون ان ننسى ان القوة مهما بلغ مداها لا تقهر إرادة الشعوب إذا أرادت الحياة ..... يجب إعادة الروح إلى الفضاءات الخارجية وإعادة الفرحة للمجتمع وتحريك الأنشطة الثقافية الراكدة والدخول في الاحتفاليات والاستمتاع بالحياة التي هي من حقنا مهما حاولوا ترهيبنا بأساليبهم الهمجية المعتادة ...والبقاء للشعب وحده مهما تتالت السلط الحاكمة وتناوبت .....هكذا حدّث التّاريخ وأثبت
#سيدة_عشتار_بن_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟