إبراهيم جركس
الحوار المتمدن-العدد: 3730 - 2012 / 5 / 17 - 22:01
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لماذا يتحوّل الدين إلى عنف (1/2)
(الإرهاب الديني من منظور التحليل النفسي)
جيمس جونز
ترجمة إبراهيم جركس
[من أجل كل ضحايا الإرهاب الديني الذين سقطوا على أرض وطني الحبيب سوريا... إبراهيم]
هذا العمل قيد الإنجاز. قد يبدو للوهلة الأولى كأنه ورقة عمل أكاديمية منتهية نصّها مليء بعلامات الترقيم والفواصل والنقاط، لكن كل ذلك ما هو إلا وهم _بالمعنى الفرويدي للكلمة. إنها أمنية _ أمنية للانتهاء من هذا الموضوع الفظيع. فخلال صيف 2001 كنت قد أنهيت كتابي الإرهاب والتحوّل: إشكالية الدين في منظور التحليل النفسي [Terror and Transformation: The Ambiguity of Religion in Psychoanalytic Perspective (Jones, 2002)]. ولأنّ عنوانه كان يحمل كلمة "إرهاب Terror" وكان قد طبع قد عدّة أشهر من حوادث الحادي عشر من أيلول، كنت قد علقت في زوبعة من النقاشات والجدالات حول الدين والإرهاب، وهو موضوع لطالما وجدته غريباً بالكامل عن خبرتي وتمّ كثيراً تجنّب الخوض فيه. بالإضافة إلى أني _مثل الكثير من قاطني منطقة نيويورك_ أرى أنّ حوادث 11 سبتمبر ما زالت تلقي ظلالاً ثقيلة جداً على حياتي (بطرق مازلت أجد صعوبة بالغة في التكلّم عنها) ظلالاً أثقل بكثير من برجي التجارة العالميين وهما يهويان متهافتين في منطقة مانهاتن. وبقدر ما أرغب بالتهرّب من تلك النقاشات، فإني لم أكن أقدر على ذلك.
أنا أكتب عن الدين بصفتي مختصّ في علم النفس السريري، ومهتمّ بالآليات السيكولوجية المتعلّقة بالدين وخصوصاً بالعنف الديني وما قد ينجم عن ذلك من تأثير بعلم النفس الديني. أنا لا أقترح نظرية عامّة عن الإرهاب بل بالأحرى أطرح تساؤلات عن الظاهرة التي يمكن أن تخبرنا عنها الدراسة النفسية، العقلية للإرهاب الديني وعن سيكولوجية الدين بشكل عام. فخلال قراءتي للأدب الذي يتناول هذا الموضوع كنت قد صدِمت من ندرة النقاشات التي تناولت هذين العاملين بالتحديد _العمليات العقلية للإرهاب الديني والجانب الديني ذاته. ذلك جزئياً لأنّ أغلب الأدب الأكاديمي العام مكتوب من قبل علماء النفس الاجتماعيين، وليس الأطبّاء السريريين، ومن قبل علماء السياسة بدل دارسي الظاهرة الدينية أو علماء النفس الدينيين. وهذه الورقة أعتبرها مساهمة متواضعة لملء تلك الفجوة التي تتخلّل النقاش.
هنا عامل يطرح فعلياً وبشكل دائم من قبل علماء النفس الاجتماعي وعلماء السياسة أثناء كتابتهم عن أنّ الإرهاب ذو الدافع الديني عبارة عن تجربة مريرة من الشعور بالعار والذل والمهانة. طوال سنوات، أكّد علم النفس القضائي الصلة بين الشعور بالعار، المهانة، والعنف. علماء النفس القضائي يضعون عدداً من الدراسات يتناولون فيها ظروف العار والمهانة ويربطونها مع واقع ازدياد نسبة العنف والجريمة، و بشكل خاص بين الذكور[1]. هناك دراسة طب-نفسية على تقارير قادمة من السجن تقترح أنّ كل عمل عنف داخل السجن كان مسبوقاً بحادثة إذلال أو إهانة تلقاها السجين خلال حياته[2]. تبيّن الإحصائيات أنّه في الولايات المتّحدة، على الأقل، هناك تزايد ملحوظ في نسبة الجريمة يسبقه مباشرة تزايداً في أعداد العاطلين عن العمل. إنّ مشاعر المهانة والخزي من ناحية السكان العرب كانت واحدة من أكثر العوامل "الأساسية" المستشهد بها كثيراً للتحوّل إلى الإسلام الأصولي[3]. يقول أحد مدرّبي تنفيذ العمليات الإرهابية الفلسطينيين: ((تسعون بالمئة من العمل تمّ إنجازها بالفعل عن طريق المعاناة التي مرّ بها هؤلاء الناس... أمّا أنا دوري فلا يتجاوز العشرة بالمئة. فالمعاناة وعيش الأشخاص منفيين بعيداً عن وطنهم أعطاهم تسعين بالمئة ممّا هم يحتاجونه ليتحوّلوا إلى شهداء))[4]. تقرير نفسي فلسطيني يظهر لنا أنّ ((الخزي أو العار من أهمّ العوامل الدافعة وراء العمليات الانتحارية للشباب))[5]. حسب إحدى التقديرات، أكثر من 90% من المجنّدين في صفوف الجماعات الفلسطينية المقاتلة قدموا من قرى ومعسكرات حيث أنّ معاناتهم كانت تتركّز على الوجود الإسرائيلي فيها، حيث يكون الإذلال أعظم والصراع أشدّ وأشرس[6]. يخبرنا حسّان: ((كنت أسمعهم [العسكر] يقولون مراراً وتكراراً: "الإسرائيليون يذلوننا ويهينون كرامتنا. إنّهم يحتلون أرضنا، وينكرون تاريخنا وماضينا"))[7] وكالعديد من الحركات الدينية الجديدة، نرى أنّ الطائفة اليابانية "أوم شينريكيو Aum Shinrikyo" _أطلق بعض أتباعها غاز السارين المميت داخل نفق للمترو في طوكيو وقتلوا العديد من الأشخاص_ قد انخرطت باستمرار في طقوس الإذلال والمهانة لأتباعها. غالباً ما كان الأعضاء ينتقدون من قبل الغورو، ويحبسون في مكان معزول، أو يدفعونهم للانتظار ساعات طويلة قبل ظهور زعيمهم بينما يهتفون مراراً وتكراراً ((أيها المعلّم، أرجوك اظهر "Master, please appear"))[8].
في حين أنه غالباً ما يتمّ إرجاع كل من المهانة والعار لظروف سياسية، إلا أنهما عبارة عن شروط سيكولوجية أساساً، وكثيراً ما تكون روحية. من خلال التمسّك بهدف مثالي ومطلق _سواء أكان إلها أو سيدا أو معلما أو نص مقدّس_ ضدّ ما يمكن أن تسقط أمامه جميع القيم الأخلاقية وعن طريق الإصرار على "الاختلاف النوعي اللامحدود infinite qualitative difference" [حسب تعبير سورين كيركجارد] بين الكائنات الإنسانية والهدف الأعلى، يمكن للأديان وبسهولة أن تثير وتلعب على أي ميل إنساني طبيعي نو مشاعر الخزي والعار والإذلال[9]. وسأمضي لأبعد من ذلك في اقتراحي أنّه كلما رفع الدين أهدافه وغاياته وصعّدها، أو صوّر المقدّس كحضور مطلق القوة ويؤكّد الشرخ بين الكائنات البشرية المحدودة وتلك الأهداف حتى نشعر أننّا مثل ((ديدان، ولسنا بشراً)) [حسب لتعبير الوارد المزامير]، كلما كانت مساهمته أكبر وكان أقدر على تعزيز تجارب الخزي والعار والذل أكثر.
بالإضافة إلى أنّ هناك العديد من الكتّاب قد لاحظوا الصلة بين مشاعر الإذلال والقرف والاشمئزاز مع الجسد والتجسيد. وكما علّق الكثير من الكتّاب والمؤلفين، هناك مثال تقليدي في الغرب يتمثّل بالقدّيس أوغسطين St. Augustine، الذي صاغ فعلياً وبشكل منفرد مذهب الخطيئة الأصلية original sin وجعله المذهب الرسمي والمركزي للفهم المسيحي الغربي للطبيعة الإنسانية. ليس مصادفةً أنّ هذا النصير لفكرة أنّا خلقنا أشراراً ومخطئين يعبر باستمرار (في كتاب الاعترافات) اشمئزازه من أي شيء مرتبط بجسده. لكنّ هذه العلاقة الثيولوجية بين الجسد والشعور بالذنب والعار (لسوء الحظ) ليست فريدة أو مقتصرة عند القديس أوغسطين فحسب، بل يمكن إيجادها في النصوص التراثية عند العديد من الأديان. أحد زعماء الإرهابيين المسؤولين عن هجمات الحادي عشر من أيلول كتب قبل عدّة سنوات في وصيّته ألا يُمَسَّ جسده من قبل امرأة أو أي شخص غير طاهر وأن يتمّ غسل أعضاءه التناسلية من قبل أشخاص يرتدون كفوفاً بأيديهم. وحتى الطائفة العلمانية والقائمة على أفكار مصنّفة بأنّها من الخيال العلمي "بوّابة السماء Heaven s Gate" في الولايات المتحدة الأمريكية _أغلب أعضاءها ارتكبوا عملية انتحار جماعية خلال طقوس لهم عام 1997_تأمر بإخصاء جميع الرجال المنتمين فيها.
إنّها مسألة وجود صلة _كما تقترح دراسات كثيرة_ بين الذنب، العار، والإذلال وبين العنف، إحدى أشكال مساهمة الدين في الإرهاب هي عن طريق خلق و/أو تعزيز وتنشيط مشاعر الخزي والعار، والتي بدورها تزيد من إمكانية حدوث انفجارات عنيفة. وهذه الاحتمالية المتزايدة للعنف تحتاج لأن تكون محوّلة بطرق مقبولة اجتماعياً. بتكميد وإثارة الحملات الصليبية، لا أنسنة الآخرين، التشجيع على ارتكاب أعمال العنف، الأديان المنغلقة والمتشدّدة تنتج أهدافاً جاهزة، مقرّرة دينياً، لأجل أي زيادة بالعنف والعدوان. في حين أنّ معظم مشاعر الإذلال التي تغذّي نار أعمال إرهابية معيّنة قد تبدأ ضمن ظروف اجتماعية وثقافية، فالأديان المنغلقة قد أسسها على ذلك وتؤسّس حلقة حيث أنّ تعليماتها وممارساتها تزيد من مشاعر الخزي والإذلال، والتي تقوّي المشاعر العدوانية، بالإضافة إلى أنّها بعد ذلك تقدّم أهدافاً لتوجيه تلك المشاعر العدوانية نحوها.
أحد المعتقدات الشائعة، التي يذكرها العديد من المعلّقين، عن الحركات الدينية المتشدّدة التي تمارس العنف هي وجهة نظرها الرؤيوية الأخروية عن الصراع الكوني بين قوى الخير المطلق وقوى الشر المطلق[10]. عملياً جميع الإرهابيين الدينيين يوافقون أنّهم يخوضون معركة أخروية ضدّ قوى شيطانية، وعادةً ما تكون متمثّلة في قوى العلمانية. يقول الحاخام ماير كاهان Meir Kahane _بعد الهجمات التي تعرّض لها المسلمون من قبل اتحاد الدفاع اليهودي في كلٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل_ وبشكل صريح: ((الحكومة العلمانية هي العدو الحقيقي))[11] عدوّ كاهان الرئيسي، مؤسّس حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين، قال لأحد الصحفيين: ((هناك حرب دائرة)) ليس ضدّ الفساد الإسرائيلي فقط، بل أيضاً ضدّ كل الحكومات العلمانية ومن ضمنها السلطة الفلسطينية لأنّه ((ليس هناك شيء يسمى بالدولة العلمانية في الإسلام)) [12]. يقال أنّ أساهارا Asahara_مؤسّس طائفة أوم شينريكو_ كان ينادي مراراً وتكراراً على أتباعه: ((ألم تدركوا بعد أنّ هذه حرب!!))[13] ، وكان يصرّ دائماً أنّ جماعته ((كانت على أعتاب حرب وشيكة))[14]. الأب بيتر هيل Peter Hill _الذي أطلق النار على طبيب وأرداه قتيلاً أمام عيادة لتحديد النسل في الولايات المتّحدة الأمريكية_ برّر فعلته هذه خلال مقابلة صحفية معه على أنّها جزء من ((حملة عظيمة جرت عن طريق ثقافية تحتية مسيحية في أمريكا تعتبر نفسها في حالة حرب ضدّ المجتمع الأكبر، وأنها وقعت ضحيةً له إلى حدٍ ما))[15]. يتوصّل يورغنماير (2000) من خلال أبحاثه وتحقيقاته حول الإرهاب الديني حول العالم، الإرهاب في عقل الرب Terror in the Mind of God، إلى نتيجة مفادها أنّ: ((الأمر الذي يجمع بين مختلف المجتمعات التي جاؤوا منها [الإرهابيون الدينيون] هو اعتقادهم وإيمانهم العميق بأنّ العالم في حالة حرب))[16]. كلاين Klein، فيربايرن Fairbairn، وآخرون، كتبوا عن السوابق التحليلية-النفسية الواضحة لهذا الانقسام للعالم إلى معسكرين: معسكر الأخيار، ومعسكر الأشرار.
الحركات الأخروية العنيفة لا تكتفي بتقسيم العالم إلى نظراء متناقضين للخير والشر، بل إنها أيضاً تتطلّع نحو نهاية مناخية للتاريخ، حيث سيتمّ استئصال الشر بشكل نهائي من العالم. الأديان الرؤيوية لا تعنى فقط بتقسيم العالم، بل تعنى أيضاً بتطهيره purify. حسب العقلية الأخروية، يجب أن يكون التطهير دموياً دائماً. فبدلاً من تصوّر عملية روحية يتحوّل من خلالها المدنس إلى شيء مقدّس، فالأديان الأخروية مليئة بأوهام وخرافات وصور عن العنف، الحرب، وسفك الدماء حيث يتمّ تحطيم الشيطاني والمدنّس بأقبح طريقة يمكن تصوّرها. هنا يصبح التطهير مرتبطاً بالموت العنيف. علينا أن نبحث في الآليات السيكولوجية المتضمّنة في هذه الصلة التي تربط بين عملية التطهير والموت العنيف.
السمة الأساسية للموت والبعث تعتبر سمة مشتركة فعلياً بين جميع أديان العالم. عملياً، جميع التقاليد التراثية تقول أنّ عملية الموت بشكل من الأشكال _بالنسبة للاستقلال الذاتي، لنفس مخطئة، لشهوات دنيوية بعيدة عن الروحانية_ ضرورية وحيوية جداً من أجل عملية التحوّل الروحاني. الديانة الأخروية تأخذ هذه السمة وتضعها ضمن إطار تاريخي. فالموت والبعث هما الآن عبارة عن شيئين يجب أن يحدثا _ويحدثان_ داخل التاريخ، خلال الزمن الحقيقي والفعلي. سمة أخرى تجري عبر هذه المادة وهي زيادة مستوى الانحدار الأخلاقي والروحاني للعالم، الأمر الذي يتمّ تصويره غالباً كحالة غرق سريعة في عالم الضياع والنسيان الروحي والأخلاقي، عالم يتجه نحو كارثة. يعبر أحد أعضاء طائفة أوم شينريكيو عن مشاعره بالقول: ((أنّ العالم تزداد حالته سوءاً، وهو يتجه بنفسه نحو حرب عالمية فانية مع قوى الشر المتزايدة فيه))[17]. كل هذا الإنتان والفساد في العالم ما هو إلا صرخة نداء لكي تتمّ إعادة الأمور لنصابها بعملية التطهير. فالأمور تزداد سوءاً ولا يمكن إلا لعملية تدخّل عنيفة ومتطرّفة أن تقلب الأمور. يصف ليفتون (2000) طائفة أوم شينريكيو، بعبارة يمكن أن تنطبق بشكل متساوٍ على العديد من الجماعات الإرهابية الدينية أو المدفوعة دينياً، عندما يكتب بأنها كانت مدفوعة من خلال ((اندفاع مستمر وعنيد نحو عالم يرفض التطهير))[18]
يجب علينا ملاحظة أنّ تفسير ليفتون، بينما تذكر طائفة أوم شينريكيو في كتب تتناول موضوع الإرهاب الديني بسبب جذوره الضاربة في البيئة الدينية اليابانية، توضّح أنّ الطائفة تعتمد بنفس القدر على العلم، الخيال العلمي، وتبجيل التكنولوجيا المتطوّرة كالدين[19] بهذا المعنى يربطها ليفتون مع طائفة اليوفو "بوّابة السماء". فكلتا الطائفتين كان قيامهما محالاً بعيداً عن بيئة مشبعة بالعلم، الخيال العلمي، وثقافة ألعاب الفيديو (بدمجها لكلٍ من العلم والعنف معاً)، وتبجيل التكنولوجيا. ومع ذلك في التفسيرات الشعبية الشائعة لطائفة أوم شيرنيكيو، يتمّ إبراز الدين وإظهاره وإهمال العلم والتقنية. لكنّ سمة العنف الأخروي والبعث من خلال الموت لا تغيب عن ثقافة الخيال العلمي في كلٍ من الولايات المتحدة واليابان.
إنّ سمة التظهير _سواء جرى وضعها ضمن إطار تاريخي أخروياً أم لم يتمّ ذلك_ غالباً ما ترتبط بسمات الموت والبعث، تبدو حيوية في كل تراث ديني رئيسي. جادل البعض، دوركهايم Durkheim (1965) على سبيل المثال، أنّ الانقسام بين المقدّس والمدنّس، النقي والملوّث، الخاصية المميزة للوعي الديني. وهذا يبدو صحيحاً بشكل خاص على الأديان المنغلقّة والمتشدّدة التي تخوض حرباً مع العالم المدنّس والضال الذي يحيط بها. الاستجابة الطائفية التقليدية كانت الانسحاب من هذا العالم الآثم، وخلق جزر من الفضيلة والنقاء معزولةً عنه (على سبيل المثال، شعب الأميش). الإرهابيون الدينيون لا يرضون بالانسحاب ببساطة ولاكتفاء بحماية جزرهم النقية، بل إنهم يسعون بفعالية لتحويل وتطهير العالم الخارجي. وصف أساهارا بأنه يطوّر ((رؤية لحدث أخروي أو سلسلة من الأحداث الأخروية التي ستدمّر العالم ممهّدةً لعملية التجديد))[20].
في العديد من الأديان تكون سمة التطهير مرتبطة مع سمة التضحية sacrifice. الجذر اللاتيني sacri-ficium معناه "جعله مقدساً". التضحية طريقة أو سبيل لجعل شيء ما مقدّساً، أي تنقيته وتطهيره. التضحية هي تقدمات وعروض للمقدّس وللمجتمع. لكنها نوع خاص جداً من التقدّمات حيث يتمّ فيها تدمير ما تمّ تقديمه. لكن يبقى هناك أمر لم يتمّ تدميره فحسب، بل تحويله (هو أو أي شيء آخر مرتبط به، كالمجتمع الديني مثلاً) أيضاً. شيء ما تمّ تقديمه، شيء ما تمّت تنقيته وتطهيره، ومن ثمّ قدسنته.
إنّ فعل التضحية يعود في تاريخه إلى الجذور البدائية الأولى للدين. فالفيدا الأوائل في الهند تتركّز حول عدّة طقوس تضحوية مختلفة، ومعظم التوراة العبرية مليئة بتعليمات لتقديم الأضاحي. طبعاً، الهندوسية لاحقاً أخرجت الأوبانيشاد بنقاشاتها الميتافيزيقية المفصّلة بالإضافة إلى مدى واسع من ممارست اليوغا، والطقوس التأمّلية والتكريسية. علاوةً على ذلك، قام الأنبياء العبريين والكتابات اللاحقة السخرية من فكرة أنّ الله بحاجة لأضاحي دموية، مؤكّدين بدلاً من ذلك على ((على القلب المفطور والتائب)) [كما في سفر إشعيا] و((العدل، الرحمة، والتواضع)) [سفر ميخا]. لكنّ سمة التضحية لم تختفي أو تموت بشكل نهائي. بل تمّ تبنّيها من قبل بعض المذاهب المسيحية التي استمرّت في إصرارها، مع كاتب الرسالة إلى العبرانيين(على ما يبدو أنّه كان أحد مهتدي القرن الأول من اليهود المحافظين إلى الديانة المسيحية) على مبدأ أنّه ((من دون سفك للدماء، لن تكون مغفرة الخطايا أمراً ممكناً)). أحد الأعباء التي تثقل عاهل هذه الورقة ستكون في محاولة كشف الغطاء على الآليات السيكولوجية الكامنة وراء هذه الصلة بين التطهير أو الخلاص وسفك الدم، بما أنّ تلك السمة تبدو كسمة مركزية لمثل هذا الإرهاب الديني.
سمة التضحية غالباً ما تبدو محورية في سياق الديانات الأكبر التي تنبثق منها "القنابل البشرية"[21]. على سبيل المثال، قائد هجمات الحادي عشر من أيلول طلب من رفاقه أن ((نقّوا أرواحكم وصفّوها من كافة الرذائل)) وطلب منهم ((الطاعة العمياء والخضوع )) في ((هذه الساعات الأخيرة))[22]. هنا يشير أيضاً إلى أولئك الذين سيقتلهم بصفتهم حيوانات ويجب التضحية بهم. ذلك يؤكّد الطبيعة القربانية _الدينية، بمعنى آخر_ لهذه الأعمال. فالإرهابي يضحّي بنفسه من جهة وبضحيّته من جهةٍ أخرى.
بالإشارة إلى هذه السمة للتضحية بالنفس، يكتب سترينسكي (2003) أنّ ((الأشخاص الذين يجسّدون "القنابل البشرية" يعتبرون "مقدّسين" ضمن مجتمعاتهم التي خرجوا منها. فقد تمّ "قدسنتهم" في عيون المجتمع الذي "يقبل" بهم وبأفعالهم. فهم يرفعون إلى مراتب عليا، وطبعاً، إلى مستويات دينية خاصّة ومميّزة، بصفتهم ضحايا قربانية ضحّوا بأنفسهم أو بصفتهم نوع من الأولياء والقدّيسين))[23]. على سبيل المثال، يخبرنا حسّان (2001) أنّه في الحواري والأحياء الفلسطينية:
((يتمّ طباعة تقويمات مرفقة بصور "شهيد الشهر". صور لانتحاريين مزيّنون بأحزمتهم الناسفة وهم في الجنّة، منتصرين فائزين تحت سربٍ من الطيور خضراء اللون. هذا الرمز تم تأسيسه على قول للنبي محمد أنّ روح الشهيد تُحْمَل إلى الله في صدور طيور الجنة... وإذا قرأنا سيرة حياة أي شهيد... نجد كيف أنّ روحه صعدت إلى السماء على متن شظية من قنبلة... ويشرح لنا [إمام] ذلك بأنّ أول نقطة دم تسقط من شهيد خلال الجهاد فإنّها تغسل ذنوبه ومعاصيه كلها على الفور. وفي يوم القيامة، فإنّه لم ن يواجه أي حساب. وفي يوم البعث، بإمكانه التوسّط أو التشفّع عند الله للعديد من أقاربه ويصبح الأقرب والأعزّ لدخول السماء))[24]
العلماء المعتادين على التقاليد السِيَرِيَّة لأديان العالم سيرون العديد من السمات العامّة والشائعة هنا _على سبيل المثال، صور القدّيسين المسيحيين والمتنوّرين البوذيين وهم يحملون إلى الجنّة ويدخلون السماوات العُلّى حيث، يُطَهّرون من آثامهم، يمكنهم التشفّع من أجل الآخرين. فمن خلال تضحيتهم، يتحوّل الانتحاريون وغيرهم من الشهداء إلى قدّيسين. وعلى طول هذا الخط، يقول مقاتل فلسطيني ((إنّها هجمات حيث يقدمّ العضو حياته التي تنال أعلى مراتب الاحترام والتبجيل ورفع الانتحاريين لأعلى مستوى ممكن من الشهادة.))[25]. بطريقة مماثلة، يصف نمور التاميل عملياتهم الانتحارية التفجيرية في سيريلانكا بعبارة تحمل معنى ((نقدّم أنفسنا)). فأعمالهم تعتبر ((هبة للنفس)). فعند الانضمام للنمور يقسم الفرد بأنّ ((القسم الوحيد هو أني سأهب كل ما أملك، ومن ضمنها حياتي. وهذا القسم من أجل الأمّة))[26]. خلال إحدى القابلات رفض فلسطيني ورفاقه القول عن التفجيرات الانتحارية بأنها انتحار وعارضوا هذا القول بغضب قائلين: ((هذا ليس انتحاراً. فالانتحار فعل أناني، ضعيف وناجم عن اضطراب عقلي. بل هذا استشهاد في سبيل الله))[27]. ينبغي هنا ملاحظة أنّ هذا الفهم لمفهوم الشهادة والتضحية بالنفس ليس تقليدياً ضمن الإسلام، بل تمّت إدانته من قبل العديد من رجال الدين المسلمين والعلماء حول العالم[28]. في الواقع، يمثّل هذا المفهوم تجديداً ثيولوجياً رئيسياً من جهة الإسلاميين المتطرّفين كبن لادن.
تلك ((العمليات الاستشهادية)) مفهومة من قبل المشاركين فيها كأعمال دينية وهذا واضح من خلال الطقوس التي تحيط بها. ترك محمد عطا، منفّذ هجمات الحادي عشر من أيلول، رسالة توجيهية إلى الأجيال القادمة، السمات الرئيسية التي تتلخّص في الطاعة، الصلاة، الاتحاد مع الله، والتضحية. ينادي عطا على رفاقه للانشغال في الولاء والطاعة كتحضير لمهمتهم:
((تذكّروا كلام الله عزّ وجلّ... ذكّروا أنفسكم بالابتهال والتضرّع... طهّروا أجسامكم ببعضّ آي القرآن الكريم... صلّوا صلاة الفجر بشكل جماعي وتأمّلوا الفوز العظيم بتلك الصلاة. ادعوا الله بعد ذلك، ولا تتركوا شقّتكم إذا لم تؤدّوا الصلاة قبل مغادرتها... اقرؤوا كلام الله))[29]
مثل هذا التطقيس الديني لم يكن فريداً أو مقتصراً على خليّة منفّي هجمات الحادي عشر من أيلول، بل يعتبر ذلك جزءاً طبيعياً هاماً وحسّاساً في مهمّة الانتحاريين:
((قبل أن يمضي الانتحاري في رحلته الأخيرة، فإنّه يؤدّي عملية وضوء طقسية، يرتدي ملابس نظيفة، ويحاول تأدية صلاة جماعية واحدة على الأقل في المسجد. يلفظ الصلاة الإسلامية التقليدية المتّبعة قبل الدخول في المعركة، ويسأل الله أن يغفر خطاياه ويبارك مهمّته. يضع مصحفاً في جيبه الأيسر على صدره، فوق القلب تماماً، ثمّ يربط الشحنة الانفجارية حول خصره أو يلتقط حقيبة يدوية بداخلها القنبلة. يودّعه المخطِّط بالكلمات الوداعية التالي: "ليكن الله معك، ليمنحك القوة والقدرة لتنفيذ مهمّتك وليعينك للوصول إلى الجنة". يجب المنفّذ الذي سيكون بمثابة مشروع شهيد: "إنشاء الله، سنلتقي في الجنة". بعد ذلك بعدّة ساعات، ومع ضغطه على الزناد، يصيح قائلاً: "الله أكبر"))[30]
تمضي رسالة عطا لتؤكّد الحاجة للتضرّع الابتهال خلال عملية خطف طائرات 11/9 وضمان الحماية الإلهية، العفو، والجائزة:. يكتب عطا لرفاقه في رسالة قائلاً: ((في كل مكان تذهب إليه، أدّي الصلاة، وابتسم وكن هادئاً، إذ أنّ الله مع المؤمنين. وستحميك الملائكة من دون أن تشعر بأي شيء)). هناك إشارات قليلة في رسالته هذه إلى الغضب أو الانتقام: لكن في الواقع، الدافع المحفّز الرئيسي هو اللقاء مع الله. توضّح الرسالة أنّ الإرهابيين لم يكونوا يسعون وراء أهداف سياسية واجتماعية بل إنهم كانوا ((متّجهين إلى جنّات الخلد)). قال زعيم حركة حماس: ((إنّ حبّ الشهادة هو شعور عميق داخل القلب. في حين أنّ هذه الجوائز ليست أهداف أو غايات الشهادة بحدّ ذاتها. الهدف الوحيد لنيل رضا الله. ويمكن تحقيق ذلك بأبسط وأسرع وسيلة ممكنة وذلك من خلال الموت في سبيل الله))[31]
نفس الموقف يظهر خلال مقابلة مع انتحاري فلسطيني كان قد نجا من محاولة فاشلة ومعركة بالأسلحة النارية مع الغزاة الإسرائيليين. وعلى غرار عطا وصف عملية تجهيزه لتنفيذ ((عمليته الاستشهادية)) كمبدأ ديني روحاني:
((كنّا في حالة دائمة من العبادة. لقد أخبرنا بعضنا البعض أنّه إذا كان الإسرائيليون فقط يعلمون كم كنّا مسرورين لكانوا يجلدوننا بالسوط حتى الموت. تلك كانت أسعد أيام حياتي...كنّا نطوف، نسبح، نعوم في المشاعر بأنّنا كنّا على وشك الولوج في الأبدية. لم تكن لدينا أيّة شكوك. كنّا قد أقسمنا على القرآن الكريم، وبحضرة الله... أنا أعلم أنّ هناك طرقاً أخرى للجهاد. لكنّ هذا السبيل أحلى _إنّه أحلاها. جميع العمليات الاستشهادية، إذا كانت في سبيل الله، لن تؤلم أكثر من عضّة بعوضة))[32]
بنفس الملاحظة، قاتل الطبيب خارج عيادة تحديد النسل في الولايات المتحدة يقول أنّه كان مرتاحاً عبر قراءة المزامير خلال طريقه لارتكاب جريمته. أحد مرتكبي تفجيرات مبنى التجار العالمي عام 1993 يقال أنّه أخبر الصحفيين أنّ العلمانيين الأمريكان لن يفهموا مطلقاً سبب قيامه بفعلته هذه لأنّهم يفتقدون إلى ((الروح... روح الدين، هذا ما يفتقدونه))[33]
يتبع
**************************************************
الهوامش
[1] Gilligan, 1996; Miller, 1993
[2] Gilligan, 1996
[3] Abi-Hashem, 2004; Davis, 2003; Hassan, 2001
[4] Davis, 2003, p. 154
[5] مقتبس في Victoroff, 2005, p. 29
[6] Post, Sprinzak, & Denny, 2003, p. 173
[7] p. 38
[8] Lifton, 2000; وآخرون، حتى أنّ هناك أعمالاً أكثر إذلال وامتهاناً لكرامة الإنسان يتمّ تطبيقها وقد جرى وصفها في "القارئ Reader, 2000, pp. 137–141"
[9] McNish, 2004; Pattison, 2000
[10] Juergensmeyer, 2000; Kimball, 2002; Wessinger, 2000
[11] Juergensmeyer, 2000, p. 55
[12] Juergensmeyer, 2000, p. 76
[13] Lifton, 2000, p. 56
[14] Lifton, 2000, p. 60
[15] Juergensmeyer, 2000, p. 36
[16] p. 151
[17] Lifton, 2000, p. 93
[18] p. 204
[19] أنظر أيضاً: Reader, 2000, pp. 185–187
[20] Lifton, 2000, p. 203
[21] التعييات المحايدة شبه مستحيلة هنا. فالمسلمون، وحتى أولئك الذين يرفضون قضية الشهادة وتمجيدها، يرفضون تعيين "الانتحاريين الإرهابيين"، بما أنّ هؤلاء الأفراد لا يملكون أيّة سمات أو خصائص سيكولوجية لأولئك الذين يرتكبون أعمالاً انتحارية، وعلاوةً على ذلك، نرى أنّ الانتحار أو قتل النفس محرّم في القرآن. في حين أني أعتبرهم إرهابيون، وكم يشقّ عليّ هذا الأمر، أشعر أنّ هذه التسمية لا يجب أن تهيمن على النص العلمي والبحثي. سأتابع هنا اتفاق رافائيل إسرائيلي Raphael Israeli (Strenski, 2003) وأشير إليهم في أغلب الأحيان باسم "الانتحاريين" أو "القنابل البشرية".
[22] عطا في رسالته الأخيرة، تمّت مناقشتها لاحقاً ضمن هذه الورقة. Atta, n.d., Last Letter
[23] Strenski (2003) p. 8
[24] Hassan (2001) p. 39
[25] Post et al., 2003, p. 179
[26] Strenski, 2003, p. 22
[27] Post et al., 2003, p. 179
[28] للاطلاع أكثر حول هذه النقطة أنظر: Strenski, 2003; Davis, 2003
[29] Atta, n.d., Last Letter
[30] Hassan, 2001, p. 41
[31] Hassan, 2001, p. 36
[32] Hassan, 2001, pp. 36–37
[33] Juergensmeyer, 2000, p. 69
#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟