|
ثمن الحرية البخس
عبد الفتاح المطلبي
الحوار المتمدن-العدد: 3725 - 2012 / 5 / 12 - 13:05
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة- ثمنُ الحريةِِ البخسُ عبد الفتاح ألمطلبي بين فضائين يحيطهما الإسمنت من كل جانب رأى روحَه تترسب بعيداً في مجاهلِ جسده ِ الذي لم يعد كما عهده من قبل،وعندما تحرك الباص الصغير مبتدئا رحلته اليومية كانت المرآة الكبيرة التي يضعها السائق لرؤية ما يقع خلفه تتيح له أن يرى وجهه من فوق كتف السائق، نظر ملياً إلى كفه المعروقة بشكل لم يلحظه من قبل ثم انتقل بعينه إلى فودهِ الأيسر الماثل في المرآة ، شاهد تلك الشعرات الدقيقة الملتوية ذات اللون الأبيض التي انتشرت بشكل ملفت متخللة اللون الأسود الذي ود لو لم يفسح مكانا لذلك البياض الذي ينبئ بشيخوخة مبكرة و إن الوقت يتقدمه كثيراً و عليه أن يحاول ما استطاع تفهمَ وقبولَ ما يجري لروحه التي بدت مثل لُقيةٍ ملقاة في قعرٍ سحيقٍ ، ود في تلك اللحظة أن يبكي بكاءً مراً فقد كانت الأحلام مجرد وهم أحسنوا صنعه والآن لا شيء من تلك الأحلام غير شعور بالإحباط والأسف وعندما تلفت حوله رأى الجميع في الباص الكبير علامة فورد الأمريكية منهمكين بإزاحة ما التصق بوجوههم من خيوط البؤس والقنوط وهم يختفون وراء ضحكات مبتسرة و أحاديث لا تتعلق بهم فكتم رغبته واكتفى بالوجوم ، بدا كلُ شيءٍ مستقراُ في مكانه ِلا يتزحزح في كيانه المدجّن على مواصلة هذه الرحلة التي يمارسها يوميا كفعل ميّت في حيّز روحه من لحظة ركوبه الباص حتى دخوله بوابة هذا القفص الكونكريتي الضخم حيث يزاول عمله ، جلس إلى الطاولة التي تشاركه انقباض صدره منذ تدرب على مجاراته من أجل العائلة و لأول مرة عند انطفاء تيار الكهرباء أحس بالاختناق رغم إن ذلك حدث كثيرا لكن روحه لم تتضاءل لهذا الحد من قبل ، أراد الفرار بيدَ إن أسوارَ البناية المحروسة جيدا بالنظام والمدراء ورغيف العائلة الذي يوفرهُ ببيع روحه لهذا الكونكريت المتعالي لحد إشعاره بالعجز تئد دائماً رغبته تلك ،شعر هذه المرة أن روحه أللائبة قد بلغت التراقي، خارت قواه ولم يقاوم رغبته بالفرار بما تبقى له من هواء خارج البناية التي دأبت على تلفيق قناعته بوجوده بين جدرانها ، تقدم بقدم ثابتة ولكن بعينين زائغتين نحو رب عمله: ـ أستاذ لو تسمح لي بالذهاب إلى البيت ، هناك ظرف استثنائي يخص عائلتي لم يمانع الرجل لكنه شك أنه مريض وإن ظرفه الذي تكلم عنه ليس بعيدا عما يعانيه الجميع هذه الأيام ،وخلال المسافة التي تفصل بوابة مفوضية شؤون سجناء الاحتلال التي يعمل موظفاً فيها عن البوابة الخارجية لسياج الكتل الكونكريتية العملاقة تسرب خيط من الشعور بالذنب لعدم تمكنه من مواصلة تمشية الملفات الكثيرة للسجناء التي تنتظر الحسم منذ زمن طويل وحين شاهد أهالي السجناء،آباء و أمهات وزوجات شابات وأطفال ينتظرون مناداتهم من خلال النافذة الصغيرة المعدة لهذا الغرض، زاد شعوره بالأسى وتفاقم ولم ينقذه من شراسة هذا الشعور غير تلك الجلبة والزحام على شيء ما ، غلبه الفضول فراح يخطو نحو تلك الجلبة ، وسّع له المزدحمون المكان و انشقوا كما انشق البحر لقوم موسى حين هروبهم من فرعون فاستغرب هذا التصرف منهم ولكنه حين رأى بطاقة التعريف الحكومية التي لازالت تتدلى من عنقه كفّ استغرابه وحمد لها هذا الصنيع وانحسرَ بحرهم المتلاطم عن رجل وابنه يذودان عن قفص من الأسلاك المتينة بعيون صغيرة وقد امتلأ بعصافير الحقل العادية الوجلة ، تقدم إلى الرجل مستفسرا ، قال الرجل: ـ فك رقبة! يا سيدي ، إطلاق سراح عصفور بألف دينار لعل الله ينظر بعين رعايته للسجين ويطلق سراحه ، إنه رزقنا يا سيدي إننا لا نفعل ما يخالف القانون ، صاحت امرأة وهي تلوّح بورقتين من فئة الألف أعطني عصفورين لأطلقهما لوجه الله فأنا أم لسجينين عند الأمريكان، صاحت الأخرى ، عندي ثلاثة ، أخرج ورقة من فئة الألف قائلا أعطني واحداً لأطلقه لروحي ، أخذ العصفور الذي كان يزعق بفزع وأطلقه،تابعه وهو يطير نحو فضاء عميق الزرقة غير مصدقٍ بحريةٍ كانت قبل قليل ضرباً من الأحلام لعصفورٍ يائس، أحس براحة لم يألفها وهو يعي أنه قد حرر عصفورا للتو من سجن يُطبق عليه ، فكر أن العصفور ربما انتابه الشعور ذاته الذي شعر به عندما كانت تُطبق عليه جدران الإسمنت وتخنق روحه ، راقب العصفور و قد انطلق في فضاء لا نهاية له ساحباً خيطا من روحه نحو ذلك الفضاء الكبير لكنه ليس كالعصفور سيعود بقدميه لقفصه الكونكريتي غدا بمجرد أن ينظر لعيني طفلته الصغيرة ، يحصل نهاية كل شهر على رزمة من الأوراق النقدية مقابل هذه الروح التي تدخل إلى سجنها على مضض وتساءل هل تقبض الروح ثمن سجنها في اليوم التالي تعمد النزول في البوابة الخارجية متعللا بعذر ، اتجه إلى حيث بكّــر بائع العصافير قال له: ـ من أين تأتي بكل هذه العصافير ، وكيف فكرت بهذا الأمر ، الحق إنه عملٌ رائجٌ ، من منهم لا يشتري عصفورا ويطلقه من أجل فأل حسن لسجين حبيب؟ كان الرجل بائع العصافير يعتمر قبعة أمريكية من مخلفات مواقع الاحتلال التي ينتقلون منها لمكان آخر، رفع قبعته كما يفعل الكاوبوي في الأفلام وقال: ـ أوه يا سيدي أنا لا أملأ قفصي بالعصافير بسهولة ، أنا أنفق الكثير لكي آتي بها إلى هنا و أنت تعلم إن العصفور صار أكثر حذرا من ذي قبل ، ولكن الحاجة إلى الطعام أقوى من الحذر إنها أرزاق يا سيدي إن للحرية ثمنها ، لاشيء دون مقابل. ـ ربما ..ربما هي العصافير ذاتها التي يطلقونها تعود لقفصك مرة أخرى ـ ربما يا سيدي فالقمح والشوفان يغري العصفور والعصفور يفقد ذاكرته عند الجوع ـ إذن هل يقبض العصفور ثمن سجنه ؟! ـ ماذا تقول يا سيدي ... ها .. لم أفهم؟ ـ لا عليك أنا أكلم نفسي ، هاك الألف وأعطني واحدا ، تناول العصفور أطلقه نحو الفضاء أحس براحة وشعور بالغبطة وهو يحرر العصفور ثم واصل طريقه نحو البناية الكونكريتية وصوت الرجل بائع العصافير يتناهى إلى سمعه : ـ يا بلاش فك رقبة بألف فقط حرر عصفور لعل الله يحرر ذويك من سجنهم ، يا بلاش الحرية بثمن بخس حرر عصفور يحرر الله أحبابك وعندما دلف إلى جوف البناية الكونكريتية انقطع صوت بائع العصافير، جلس إلى طاولته راح يقلب أوراق الملف الأول ، ذهل حين قرأ اسم السجين (علي حسين مهدي) فقد كانت حروفه الأولى ذات حروف اسمه ( عمر حامد مصطفى).
#عبد_الفتاح_المطلبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمانٍ عاريات
-
وادي السلام
-
شجرةٌ في البرية
-
حدث ذات يوم-قصة قصيرة
-
قطط و أحلام
-
نظرةٌ إنطباعيةٌ
-
رجع قريب
-
الشبيه
-
يوم إستثنائي-قصة قصبرة
-
طفوّ قصة قصيرة
-
غنِّ يا حمام النخل
-
يوميات طفل الحلم
-
درب قصيدة
-
سلاماً أيها الوطنُ المباحُ
-
أيام صائد الفئران
-
ربيع الكونكريت
-
رياح الوجد-قصيدة
-
رنين بعيد
-
سمت الرؤى-قصيدة
-
صيدالأرانب-قصة قصيرة
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|