محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3725 - 2012 / 5 / 12 - 00:21
المحور:
الادب والفن
رحلة الى الجسر
محمود فنون 11|5|2012
دخل الحرم الجامعي مستعجلا فلم يبق على موعد المحاضرة سوى ثلث ساعة وكالعادة يدخل الى مجلس اتحاد الطلبة في الجامعة الاهلية, ليتابع بعض الامور الروتينية قبل ان يذهب الى المحاضرات:
-"ما رأيكم برحلة الى الأردن؟ سمعت عن برنامج رحلات سياحية لمدة ثلا ايام بكلفة معقولة .."
سمع ذلك وكأن أحدا طرق على باب ذاكرته وأيقظ مشاعره الجميلة ,فهو قد ولد في الاردن ونسج خيوط طفولته هناك ,ولما عاد اليها في زيارة بعد ان كبر قليلا ,والتقى بأقرانه استعاد بناء ذاكرته الطفولية بشكل محسن واكثر وضوحا ونضجا .فقد ذهب الى معظم الاماكن التي بنى فيها كينوته الصغيرة ,ووجد ان اقرانه قد كبروا معه ايضا وتداعت ذكرياتهم معا ,وود لو يذهب الى جميع الاماكن السياحية التي تذكر انه ذهب اليها ..البحر الميت ..العقبة..احراش جرش ودبين..
"انا سأذهب معكم في هذه الرحلة .."
-"ولكن...؟!"
-"لا لكن, ولا غير لكن ..سوف اجرب مرة أخرى"
تسلل خبر الرحلة من تحت الباب وخرج الى دوائر تزداد اتساعا في اوساط الطلبة والكثير منهم لم يسبق له ان غادر الضفة الغربية الى أيّ مكان,وكان الخبر يكبر ويتكامل كلما انتقل من جماعة الى أخرى.
اخذوا يتوافدون على المجلس للتأكد من صحة الخبر .
-"هل سمعت ؟لقد نظموا رحلة الى الأردن.."
-"هل صحيح سجلتم في رحلة جماعية الى الأردن ؟ولماذا تكتمتم على الموضوع ؟ولماذا لم تسجلوا اسمي؟و.."
-"الكثير من الطلبة يرغبون في التسجيل لهذه الرحلة."
-"جيد ,هذا مشجع وسوف نعلن عن التسجيل قريبا ولكن بعد ان نتفق مع الشركة السياحية ونتفاهم على البرنامج والتكاليف.."
انتشر الخبر كالنار في الهشيم ,فالجامعة لا زالت في مراحل تطورها الاولى ومجمعة في مبنى واحد على رأس تلة مجاورة لمخيم الدهيشة يظهر مبناها كقلعة قديمة اضيفت لها مظاهر الحداثة والشموخ.
تك تاك.. تبادل مجلس اتحاد الطلبة كل ما يلزمه من معلومات مع احدى الشركات السياحية الاردنية ,و بدورها قدمت عرضا مغريا في السعر والبرنامج وكأنها ترغب في تشجيع الطلبة على السوح في الاردن وكأنها تستجيب لما دار في خلد الكثيرين منهم.
ما ان انهى المحاضرة الاولى حتى عاد للمجلس ليجد زملائه يطبعون الاعلان ويستنسخوه للصقه على اماكن النشر مع موجز بالمعلومات الضرورية.
كان احد الطلبة يعبر من المكان فتناول نسخة من الاعلان وخرج مسرعا يمتليء وجهه بالبشاشة ويحدوه الامل.
-"ساتظاهر بإلصاقه امامها ..ليتها توافق على المشاركة .."قال في نفسه.
-"ما الذي تحمله ؟"قال أحدهم.
-"هذا لا يخصك.."
-"هذا اعلان الرحلة وسوف تسجل شلتنا كلها ..فقد اتفقنا على ذلك"اكد صاحبه بغرور.
-"طبعا لا مشكلة لديكم ..فالله قد انعم عليكم..الحسرة ان الكثير ممن يرغبون بل يتلهفون على الذهاب يحصلون على اجرة الوصول الى الجامعة بصعوبة ..".
-"إن معظم البنات يرغبن في الذهاب والخروج للمرة الاولى الى الاردن ,بل الى أي مكان بدون احتلال"قالت احدى الزميلات.
***
-"لو انها تقبل الذهاب ..لو انها تقبل ان أدفع عنها تكاليف الرحلة ..والله ..طيب من اين تدفع عن نفسك؟ ..سأدعوها للمشاركة..
"نركب معا مركبا صغيرا ونجذف سويا في العقبة ..لا..لا..انا فقط اجذف وهي تشرد وتتمتع بمنظر البحر وتضحك بحرية وبصوت عالي ..تقترب مني قليلا وتنظر في وجهي لأشاهد مقدار سعادتها ..
- اناسعيدة جدا..
- لماذ؟
-ألا تعرف؟وتضع اصبعها على اقرب نقطة من فمه ثم تدير وجهها بدلال, لسببين :لأن هذه اول مرة اشاهد فيها البحر بل واركب قاربا فيه ..
-وايضا؟
-لا ايضا ولا غيره ..اعرف انت لوحدك.
فشعر بسعادة غامرة..."
تجول هنا وهناك بحثا عنها,فهو منذ سمع بخبر الرحلة كانت هي وهي فقط أول من ملأ كيانه وخطر على باله, واسرع نحوها وعرض اعلان الرحلة امام انفها وبطريقة لا لبس في انها رأته..
-"هذا اعلان الرحلة وانا عارفة بها "قالت "الكل سمع بها والكل يرغب في الذهاب ." قالت ببرود وسارت الى شأنها.
-"تتجاهلني! ..لا تكترث!.. لا بل ربما انها لم تفهم .."وشوش نفسه بامتعاظ .
لقد حاول لفت انتباهها اكثر من مرة,انها من اسرة ميسورة الحال ووالدها رجل محترم وهي زهرة الياسمين معبقة بندى الصباح .أما هو فبالكاد يتدبر امر نفقة دراسته بالاضافة الى ديون الاقساط المتراكمة..
تخيل هذا وانطوى على نفسه.
اجرى القادرون على اتخاذ قرارهم فوريا اتصالاتهم بذويهم وتوجهوا للمسؤول عن تنظيم الرحلة وسجلوا اسمائهم .اما هو وبعد حيرة نتجت عن تشوش افكاره فقد حسم امره بالتسجيل ان وافق ابوه على دفع نفقات الرحلة .
-"كلنا راغبون في الذهاب "قال احدهم مكررا ما قاله آخرون" لو ان الرحلة بدون ..:رفع قبضته قليلا وقال بغيظ وهو يكزّ على اسنانه "الله يلعن الفقر.." ولو كلمّه احدهم بأي كلمة للكمه على صحن خده دون ان يدري ما ذا فعل.
*****
ضحك قلبه .وشعر وكأنه يقلّب الشمس بين يديه .لقد كبر وأمضى سنتين من العقد الثالث من عمره ,وشعر بفخر لا حد له حينما وافق ابوه على تدبر نفقات الرحلة.انه يعلم الحال كله ,وعندما فسر والده تأييد ذهابه امام امه ,تمنى لو انه يملك العالم ليقدمه لوالديه.
-"حاول يا بني ان تزور الاقارب وبالأخص عمتك "قال ابوه
-"واقتصد في نفقتك ..ودير بالك على حالك ..انشاء الله يا ربي تتمكن من تحقيق مرادك.."قبلته وادارت وجهها.. ثم عادت ونظرت في عينيه وقبلته مرة أخرى بصمت وانصرفت دون هدف.
****
تواصل مع اصدقائه بعد ان تناول الطعام مع الاسرة وانصرف الى تحضير لوازمه بلذة وانشغال واضحين .كان قد التقى مع امه في السوق واشترى بعض الملابس واللوازم في طريق عودته من الجامعة,واستكمل احتياجاته من محلات القرية,وتأكد من البطاقة الخضراء وجواز السفر, وحزم كل شيء في الحقيبة وخرج ,ربما لأن الدار لم تعد تتسع له.
*****
جمعوا ما يملأ الحافلة من الراغبين من الطلبة وذويهم,امهات وأخوات واخوة,وانطلقت الحافلة نحو الجسر ووجوههم يملأها الحبور,وما ان تجاوزت العبيدية حتى انطلقت حناجرهم بالغناء وكل اشكال المرح ,هم يفرحون بصباهم وبتجربة جديدة لمعظمهم,ولما ملأ ت الاصوات اذنيه افترق عنهم..
..بعد ان غادر "جسر اليهود" اتصل بخاله الذي كان يعلم بمقدمه ,وانتظره على الجسر ,حيث افترق عن الجماعة راكبا مع خاله وأولاده الذين هجموا عليه مداعبة وألفة ,وبالكاد تمكن من مهاتفة عمته ليعلمها بوجوده وارتباطه بالرحلة وقد وعدها بأن يتخلف عن الرحلة لبعض الوقت وزيارتها وهكذا هاتف جدته وأقربائه خلال سير السيارة وراء الحافلة السياحية التي تقل الفوج السياحي ..
-"لو اننا في عطلة لتخلفت عن الرحلة حال انتهائها وذهبت لزيارة الاصدقاء ورفقاء الطفولة .."
"سمعت جدتي لأبي تقول "ان الآلام تورث ,فهي كانت ممنوعة من كل شيء الا بصعوبة , وبعد محاكم وبعد انقضاء اوقات متباعدة .." وقبل بضع سنوات حينما شكلوا سلطة الحكم الذاتي قالت :"الناس ناسين بعضهم يأكل القلاج وبعضهم يقع في السياج"
حقا انه في بلادنا قد يحصل ان تورث الاسر مواقفها لأبنائها .فبعضهم يورث الخيانة وبعضهم يورث التضحيات,والتضحيات قد تشمل الجميع: الآباء والامهات و الاخوة والاخوات وبعد ذلك الابناء والبنات وربما الاصهار, فالعدو غاشم ولا يدفع ثمن قهرنا.
التحق بالحافلة مهللا ومرحا يغمر الفرح كل خلية من خلاياه ,فله في الاردن ...
-"واخيرا عبرنا.." قال في نفسه وهو يعلم ان أحدا من الزملاء لم يكن يعاني ما كان يجول في خاطره بل ولا يعلم ما ينطوي عليه صدره.
****
لاحظت احدى زميلاته درجة عالية من الحبور على وجهه"هل ستلاقي احدا في الاردن؟..يا.. وزمت شفتيها كما لو حسبت انه فهم مقصدها ونظرت الى بقية الزملاء وكأنها تشاركهم اكتشافها.
بدأ البعض يحس بطنين في اذنيه,فقد تجاوزت الحافلة الفلسطينية مستوى سطح البحر باتجاه اريحا,وأخذت الاصوات تخفت شيئا فشيئا ,ثم صمت الجميع ,فانطلق صوت احدى الطالبات مغنيا واحدة من أغاني فيروز الجميلة ,وكل اغاني فيروز جميلة وشجية ,وما ان اقتربت الحافلة من طريق الجسر حتى عم هدوء عميق وصمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير..حاول احد الشباب ان يرطب الاجواء دون فائدة فصمت مستشعرا الخجل من فعلته,فقد شعر وكأنه يتواقح.
اصطفوا على شبابيك الخروج في ثلاثة صفوف على ثلاثة شبابيك, يجلس ورائها ثلاث مجندات صغيرات السن ربما في التاسعة عشرة ,تجلس الواحدة وامامها الحاسوب ,وما ان تستلم بطاقة الهوية أو جواز السفر الفلسطيني حتي تسجل رقم البطاقة وتنتظر الخبر من الشاشة الصغيرة امامها .
شاهد ذلك ولم تكن المرة الاولى,كما شاهد سرعة في الانجاز عبر روتين محدد .الواحد يسلم بطاقته فتضع الفتاة عليها الختم وتعيدها له ثم يمر من معبر معين ويسلم ويستلم اوراقا تتعلق بالرسوم المدفوعة ثم يخرج من ممر الى باب بلا عودة وبهذا يكون قد خرج من آخر مرحلة من مراحل التفتيش والتدقيق ,فيصعد الى الحافلة التي تقل الركاب وامتعتهم الى نقطة الحدود الاردنية والتي يسميها الفلسطينيون " جسر الاردن او جسر العرب مقابل جسر اليهود".
اقترب صاحبنا وشاهد وجه الفتاة ,كان مكبدا قليلا رغم حسن تقاطيعها,فهي اما انها متعبة او تعاني من طور متقدم من الدورة الشهرية ,على اية حال لا يمكن وصفها بالبشوشة .
سلمها جواز السفر الفلسطيني ,ومكتوب عليه ما يوجب تقديم التسهيلات لحامله علما انه يصدر باذن السلطات العسكرية الصهيونية ويحمل رقم بطاقة الهوية "الاسرائيلية".
كتبت شيئا على الحاسوب فزاد وجهها اسودادا .
"يا ستار "قال في نفسه وهو يرقب اقل نأمة وأقل حركة من حركاتها .
-"استنا هون "قالت المجندة ""روحوا كلكم هناك ..روحو على شباك تاني" صاحت في الناس بجلافة وحملت جواز السفر وغادرت حجرتها ودخلت الى مكان غير مرئي بعد ان قالت له ان يجلس وينتظر.
-"ربما يسمحوا هذه المرة فهي لم تقل –ارجع"
-"ولكنها لا تقول ارجع عادة هي فقط تدخل من هذا الباب وتسلم الجواز, وبعد قليل تعود الى شباكها اما أن تنهي المعاملة بعد المراجعة ,اوتستأنف عملها بعد ان تقول انت ..استنا ..هون "
رن الهاتف النقال ,فقد كان الاهل يتتبعون مسار الرحلة اولا بأول ,ولم يسعفهم الصبر لينتظروا حتى يفاجئهم بالنتيجة" السارة!" .لقد كانت امه تتحرك في البيت لانجاز ما عليها من أعمال ولكن ليس كما بقية الايام ..ربما انها كانت تدرك النتيجة ,ولكنها تتسلح ببعض الاحتمالات .
"قد تتناول الجواز وتختمه دون ان تنظر ..ربما تقع في مثل هذا الخطأ.. يعني يمكن ان يخطيء الانسان.."
-"لا..لا.. هؤلاء لا يخطئون مع انفسهم, يمكن فقط ان يخطئوا معنا ولا أحد يحاسبهم ,ولكنهم يدققون ضدنا في كل شيء وليس للدواعي الأمنية فقط ..طيب انا منعوني من المشاركة في رحلة الى الداخل انا وبناتي الاثنتين من دون اهالي البلد ,وهو طبعا ممنوع من التصاريح للخارج وللداخل..والله نحن ندفع اثمانا بشكل متواصل .لماذا ...عدنا؟..اصدقاؤه يشغلون اعلى المناصب ويتمتعون بالامتيازات ونحن نتمتع بالممنوعات والسجون والتضييقات.. ينقسم اصدقاؤه الى ثلاثة اقسام :الاول يتربعون على اعلى المناصب وزراء وحول الوزراء ومستشارون ولديهم وكالات متنوعة ويتمتعون هم واولادهم واسرهم في نعيم السلطة .والقسم الثاني استمر على الحالة الوطنية والكفاحية ,وظل يتعرض للاعتقال والملاحقة والممنوعات هو وأهله وأقاربه .والقسم الثالث انطوى على نفسه.
هذا عدا عن الفساد والسرقات والرشاوي ... على كل حال كل ناس وحظهم ..لالا ..لالا ..المسألة ليست مسألة حظ انها اختيار .."
-"اختيار؟! نعم اختيار. هكذا قال لي :اما ان أختار الوطن والجماهير ,أو أختار نعيم الاحتلال والدوس على دماء الشهداء .. وهو كما عرفته جيدا لا يمكن ان .."
"الو هلو ,..أه..يعني قالوا لك..آه"ردت على الهاتف النقال بعد ان أخرجها جرسه من وجوديتها .
-"اه ..خلاص ..جاء أحدهم وسألني ان كانت معي حقيبة ,وقلت له نعم وقال لي انتظر هنا وذهب ..يعني ..يعني.."
التقطت منه الحديث وقالت له "انت تعلم ذلك من قبل ,وليس في الامر مفاجأة يا بني ..حبيبي ..أصلا انا كنت مترددة لولا انني فكرت ان تجرب وتأخذ فرصتك.."
-"المشكلة انني سأنتظر مطولا قبل ان أستعيد الحقيبة ..!"
جلس على الكرسي وفهم ان هذا الجلوس هو اهون من الاعتقال ,وعزّى نفسه"لو انهم يريدون اعتقالي لاقتادوني من هنا على الفور .."
-ولكن هل هذا خيار ؟سأل نفسه .
-لا, هذا ليس خيارا, هو اجبار لي ضمن خياراتهم هم ,فأنا لا أختار السجن وكذلك لا أختار الرجوع.
-نحن في سجن كبير والانسان السوّي يسعى للتخلص من عبودية الاسر وعلى الاقل تخفيفها ولا يمكن ان يختار تقسية حياته وهو بكامل قواه العقلية .
-عندما يختار النضال مثلا هو يختار تقسية حياته .
- لا, هو يختار النضال والعدو هو الذي ..
-هو يختار النضال ,يعني هو يختار الحرية ,بينما العدو يقبض عليه ويضعه في السجن ليجبره على التخلي عن خياره وقد ينجح مع بعضهم بل قد يحوّل بعضهم الى ادوات في يده, اما الباقي :"فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"...
وأخيرا اخذوه الى مكان تجميع الحقائب بحافلة خاصة ,وأخذ حقيبته وعاد مع الحافلة وهي مغلقة عليه وفقا لأوامر الجيش ,وظل يسير بها ومعه وثائق المسافر الراجع الى نقطة تجمع الأجهزة الفلسطينية حيث سلم الوثائق لأحدهم الذي طلب منه ان يرافقه لبعض الاسئلة .
كان هو في اقصى درجات القرف وهو يعلم بالاجراء الفلسطيني هذا ,وتخلص منهم كيفما اتفق بعد ان أعلمهم ان والده..و"أنهم" سبق ان أعادوه ومنعوه من السفر..
-سألته امرأة نابلسية عن حاله عندما شاهدته يعود بحافلة لوحده ,فأخبرها فقالت"الله يكسر خاطرهن"
#محمود_فنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟