|
كاتمة الأسرار – مصر والمرأة المصرية في أعمال محمود مختار
سها السباعي
الحوار المتمدن-العدد: 3724 - 2012 / 5 / 11 - 19:25
المحور:
الادب والفن
هذا الشهر تحل ذكرى ميلاد المثال المصري محمود مختار (10 مايو 1891 - 28 مارس 1934)، ذلك الفتى القادم من إحدى قرى الريف المصري في الوجه البحري، والذي كان يقضي معظم أوقات طفولته بجوار الترعة ليشكل من الطين الأسود أشكالاً لأشخاصٍ وكائناتٍ كان يراها حوله في قريته. قضى مختار بدايات حياته القصيرة متنقلاً بين عدة أماكن داخل وخارج مصر صنعت منه المثَّال العظيم الذي أصبحه فيما بعد، فعلى الرغم من كونه ابنًا لعمدة القرية، إلا أنه عاش مع جدته لأمه في بيت خاله في قرية أخرى، ومن عاش في الريف لمصري، يعرف تمامًا المكانة التي تصل إليها المرأة حينما تصبح جدةً تقدم بها العمر وحفر الزمن في وجهها خطوطًا تدل على حياة طويلة من الكفاح والعطاء والجهاد اليومي من أجل الأسرة ، فتجتمع خبراتها مع حنانها الممزوج بالحزم ، لتجعل لها قدرًا كبيرًا في نفوس أفراد الأسرة. وربما كانت تلك البداية الراسخة هي ما أثر في وعي مختار وهو ينحت عددًا كبيرًا من تماثيله التي تجسد المرأة الريفية وتصورها في مشاهد واقعية يومية أو بشكل رمزي يشير إلى قضيةٍ أكبر.
انتقل مختار إلى القاهرة ، ودرس في مدرسة الفنون الجميلة، وأثارت موهبته إعجاب وتقدير أساتذته الأجانب، فأفردوا له مرسمًا خاصًّا بالمدرسة، كما رشحته تلك الموهبة أيضًا ليفوز ببعثة إلى باريس لدراسة الفن تحت رعاية الأمير يوسف كمال راعي المدرسة، حيث أثار إعجاب أساتذته هناك ، وفاز بالميدالية الذهبية عن نموذج مصغر لتمثاله الأشهر "نهضة مصر" في عام 1920، الذي نُفذ بعد عودته إلى القاهرة في ميدان كبير تظهر من خلفه وعبر شارع عريض تحيط به من الجانبين الحدائق الكبرى، القبةُ الضخمة للمبنى الرئيسي لجامعة القاهرة، هذا التمثال الذي ساهم في تمويل إنشائه الفلاحون والبسطاء بقروشهم القليلة، تلبيةً للدعوة إلى اكتتاب عام ساهمت فيه الحكومة، ليرفع عنه الستار في عام 1928. ولمن لا يعرف ، فالتمثال يصور أبا الهول وهو يفرد قائمتيه الأماميتين في إشارة إلى النهوض من جلسته الأزلية، وإلى جواره فلاحة مصرية بملابسها التقليدية وغطاء رأسها العريض الذي رفعته عن جانب وجهها بيد ووضعت يدها الأخرى على رأسه، في رمز لمصر التي دائمًا ما يشبهها أبناؤها بالأم. وإذا أضفنا التوقيت الذي نحت فيه مختار تمثاله الأشهر ، الربع الأول من القرن العشرين، حيث سبقت ثورة 1919 فكرة التمثال بعام واحد، وأنه أيضًا قد جسد عدة أعمال للزعيم الوطني سعد زغلول، فإننا نستطيع أن نستنبط دلالاتٍ عديدة.
بقية أعمال مختار لا تقل في أهميتها ودلالتها عن تمثاله "نهضة مصر"، فجميعها تعبر عن روح الوطن وخصوصيته ، قادمة في معظمها من القرية، حيث جسد الفلاح والفلاحة كرمزين للنهضة التي كانت تسود المناخ العام للمجتمع المصري في ذلك الوقت. ولا يعني هذا أنه لم يتأثر بما تعلمه في باريس ولم يلق بالاً إلى الحركة الثقافية العالمية، ولكنه لم يترك لها الهيمنة على أعماله. وربما نجد في مجموعته النحتية "العميان الثلاثة" ما يقنعنا بأنه جمع بين تراثه الحضاري كمصري وما تعلمه في باريس، حيث يذكرنا التمثال بلوحة النحت البارز الفرعونية الشهيرة "العازف الأعمى"، وفي الوقت نفسه يذكرنا بالمجموعة النحتية من البرونز ، "بورجوازيُّو كاليه"، للفنان الفرنسي المعاصر لمحمود مختار "أوجست رودان" (1840 –1917) . وهذا يبين بجلاء ارتكاز محمود مختار بجذور ثابتة على الماضي وفي نفس الوقت امتداده كفروع شجرة باسقة إلى ملامح الفن المعاصر.
وللمرأة المصرية نصيب كبير في أعمال مختار، التي تتميز تماثيله حين يجسدها بالنعومة وسيادة الانحناءات الدائرية وقلة الزوايا والخطوط الحادة، مما يعطي إحساسًا الراحة والاطمئنان لمُشاهدها. أما المَشاهد والأوضاع التي صورتها هذه الأعمال، فهي تعبر عن الحياة اليومية للفلاحة المصرية بكافة تفاصيلها؛ حيث كانت المرأة في عصر مختار تضطلع بالعديد من المهمات اليومية وتبذل جهداً مضنياً ليلاً ونهاراً في سبيل خدمة ورعاية أسرتها، فوسائل الرفاهية المنزلية وأدوات الغسل والطهي وأنابيب المياه والإنارة بالكهرباء لم تكن قد عرفت بعد، على الأقل في الريف الذي عبره عنه مختار بسخاء.
في "حاملة الجرة"، نجد الفلاحة ممشوقة القوام، تحمل على رأسها جرة من الفخار، في نموذج للعمل في مصر الزراعية. ورغم ذلك يصر مختار على إظهار ملامح الأنوثة لهذه الفلاحة الكادحة، حيث نجده يجمع في ملابس المثال بين الزي الفضفاض التقليدي للفلاحة في الريف كما يظهر اتساعه في ذراعها المرفوعة لتمسك الجرة، وانسدال الثوب على جسدها لدرجة الالتصاق لتظهر تفاصيل دقيقة للجسد نجد مثلها في رسوم قدماء المصريين.
وفي "العودة من النهر"، يصور ثلاث فلاحات عائدات من النهر يحملن على رؤوسهن الجرار المملوءة بالماء. وهنا يحقق في هذه المجموعة تنويعات على "حاملة الجرة" ، ولكنه تخلى هنا عن التعبير عن الملامح الأنثوية في سبيل إبراز قيمة العمل والتماسك المجتمعي والتفاني في خدمة الأسرة. ليطغى هنا وقار المجتمع المحافظ على الدلال الفرنسي في وجدان مختار.
ويعود في تمثاله "على ضفاف النيل" ليصور فلاحة أخرى وهي تنحني لتمسك جرتها، وعلى الرغم من الزي السابغ الذي يغطي جسدها تمامًا بداية من رأسها، إلا أننا نجد الأقدام عارية، ونجد تفصيلات الجسد ظاهرة بلطف من خلال زوايا الانحناء الذي يذكرنا ببعض أوضاع التماثيل الرومانية، لتعود السيادة للدلال الفرنسي الذي يصر مختار على تغليفه بوقارٍ ريفيٍّ ناعم.
في تمثاله "العودة من السوق"، يجسد فلاحة أخرى تحمل على رأسها سلةً من الخيزران ممتلئة تمامًا بالخضروات وتجلس في داخلها "بطة" حية! مما ينبئنا بحجم العمل الذي ينتظر هذه الفلاحة الجميلة التقاطيع في المنزل. وهنا ترك مختار يديها حرتين، فهي لا تسند السلة بهما كما تفعل أخواتها حاملات الجرار، وإنما يرتفع ذراعاها إلى جانبيها في حرية، ليصنعا مع ردائها الفضفاض للغاية – الذي يُظهر مع ذلك رشاقة وتناسق أبعاد جسدها - جناحين لمساعدتها في الحفاظ على الاتزان وهي تسير حاملةً ذلك الثقل على رأسها.
في "فلاحة جالسة"، تظهر امرأة صارمة الملامح ثاقبة النظرة، تذكرنا – وربما تذكره – بالجدة التي تتخذ مجلسها في صدر البيت، تلقي الأوامر والتعليمات لبناتها وزوجات أبنائها، وتوجه أبناءها بما تراه، وتزجر الأحفاد إذا أخطئوا أو ارتفع صياحهم. ثبات الجلسة واستقامة الظهر يوحي بالقوة والعزم، والشدة التي اكتسبها الجسد عبر سنوات من العمل الشاق ومكابدة الحياة اليومية.
ويتشابه تمثالا "قيلولة" و"الراحة" في تجسيد امرأة جالسة وقد افترشت إحدى فخذيها وأقامت الأخرى في وضع الجلوس لتتمكن من الاستناد على ركبتها بذراعها، حيث تسند رأسها إلى كفها في وضع شبه قائم وقد أغمضت عينيها في إغفاءة قصيرة في التمثال الأول، لتتنبه بسهولة لنداء الواجب إذا دعاها. أما في التمثال الثاني فنجدها قد أراحت رأسها تمامًا على كفيها المستندين إلى ركبتها، صانعة برأسها زاوية شبه قائمة مع ظهرها شبه المنحني في وضع متكور. كلا التمثالين يعبران عن احتياج طبيعي لراحة قصيرة في خلال يوم عمل طويل لم ينته بعد.
ولا ينسى مختار العاطفة في أعماله، فعلى الرغم من الواجبات اليومية المستمرة، و الجو المحافظ التقليدي في الريف المصري، إلا أن نداء الحب أقوى من أن يتم تجاهله. نجد تلبية هذا النداء في تمثال "نحو الحبيب" الذي نحته من الرخام الأبيض في تأكيد لرموز الطهر والعفاف والرقة، لفتاة تجمع في خطوتها بين معاني الحياء والخجل ظاهرة في انخفاض نظرتها نحو الأرض مع التردد بين الإقدام والإحجام، تعبيراً عن الصراع بين نداء القلب والقيم الاجتماعية. وقد عبر مختار عن الجمال الأنثوي والرشاقة في وضع ناطق بالدلال المتضمن في أنوثةٍ شجاعةٍ فخورةٍ بدورها في الحياة، فهذه الفتاة الفلاحة الناضجة هي التي تحمل مسئوليات الأسرة قبل الزواج وبعده.
تتجسد العاطفة مرة أخرى في تمثال "مناجاة"، الذي يجسد على أحد مستويين العاشق راكعًا على ركبتيه بينما المحبوبة تجلس على المستوى الأعلى ويسند الشاب ذقنه على يديه مرتكزًا بذراعه على حجر الفتاة، ويناجيها بينما تتدلل هي في رقة وعذوبة . وإذا تجاوزنا الصورة الظاهرية وأردنا أن نستنبط رمزًا ما، فقد نرى أن وضع الفلاحة الأعلى وحجمها الأكبر في التمثال عن الرجل يشير من الناحية النفسية إلى امتزاج رموز الأم والمحبوبة مع رمز مصر كما رسخت على مر العصور في صورة المرأة المحبة الراعية.
وفي "كاتمة الأسرار"، يصور مختار مصر على هيئة سيدة تجلس على الأرض مفتوحة الركبتين وقدماها متقاربتان. بينما تسند ذقنها على ظاهر كفيها المستندتين على كتلة ما ترتكز على حجرها وتحيطها بذراعيها من الجانبين في تمسك وحماية. ملابسها تغطي جسدها تمامًا ما عدا القدمين العاريتين كما هي العادة في معظم أعمال مختار، وأسفل غطاء الرأس المعتاد يظهر جزء من منديل رأس وبه عقدة في المنتصف تشبه التمائم التي كان يضعها قدماء المصريين على جبهات الملوك وهى على شكل "جعران". الكتلة تشير إلى الأسرار التي تحفظها هذه السيدة التي هي رمز لأرض مصر التي حفظت كنوز القدماء وأسرارهم آلاف السنين. تماماً كما تفعل المرأة المصورة في التمثال وقد وضعت الأسرار في حضنها والرأس المستند على هذه الأسرار كله يقظة وانتباه وتطلع.
وفي هذا التمثال الأخير، ربما يحلو لنا أن نتخيل أن مختارًا كان يتنبأ بالمستقبل، حيث ستدور أحداث وصراعات وحروب وثورات على هذه الأرض التي عشقها وجسدها مرارًا في أعماله، وحيث ستظل هذه الأرض محتفظةً بأسرار أخرى، أكثر تعقيدًا، وأشد غموضًا، وحيث يكون من الصعب التنبؤ بما سوف تسفر عنه هذه الأسرار إن تكشفت يومًا ما.
#سها_السباعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنها ليست كراهية، إنه حب امتلاك
المزيد.....
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
-
روى النضال الفلسطيني في -أزواد-.. أحمد أبو سليم: أدب المقاوم
...
-
كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا
...
-
مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م
...
-
“نزلها حالا بدون تشويش” تحديث تردد قناة ماجد للأطفال 2025 Ma
...
-
مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|