خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 3723 - 2012 / 5 / 10 - 21:16
المحور:
الادب والفن
مقالات مترجمة فى الفن التشكيلى
ترجمة: خليل كلفت
المحتويات
1: تفسير الطاعون: كتابة تاريخية تقوم على محاكاة الواقع بقلم: فلورانس شانتورى ............
2: دفاعا عن أعمال پيكاسو الأخيرة بقلم: چون بيرجر
أولا: مقدمة لمقال چون بيرجر عن پيكاسو بقلم: مايك جونثاليث ......................
ثانيا: دفاعا عن أعمال پيكاسو الأخيرة بقلم: چون بيرجر ............................
3: الرجل الذى رسم السعادة: حول لوحات رينوار الزيتية بقلم: أناتولى لوناتشارسكى .............
4: أفكار عن سيزان بقلم: روبرت ڤالزر ....................................................
1
تفسير الطاعون:
كتابة تاريخية تقوم على مُحاكاة الواقع
فلورانس شانتورى
Florence Chantoury
معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية (EHESS)، پاريس
(مراجعة ريشار چاكمون)
فى الفرعين المعرفيَّيْن اللذين اهتمّا بتمثيل الطاعون، تاريخ الطب وتاريخ الفن، نلتقى بتصوُّرَيْن متناقضين تماما تجاه أيقونات هذا المرض. وفى نظر مؤرخى الفن، أظهرت الممارسة التصويرية picturale لعصر النهضة شبه غياب لتمثيلات المصابين بالطاعون ويدافع العديد من بينهم عن الفكرة القائلة بوجود قصور فى إنتاج الصور فى زمن الطاعون. وعلى العكس ففى ميدان تاريخ الطب، يلاحظ المؤرخون وجود كمية من أيقونات الطاعون. ورغم تباعد هذين التفسيرين إلا أن كلا الفرعين المعرفيَّيْن ينطلقان من نفس المفهوم فى التدوين التاريخى الذى ينظم هذا الإنتاج التصويرى.
وتمثل الدراسات التى تتناول الفنون البصرية فى زمن الطاعون التجسيد المباشر لما تقوم بتفسيره، فالخطاب حول أيقونات الطاعون قد سمح لنفسه بالتأثر بالمتخيل imaginaire الذى صنعه الطاعون وفى الوقت ذاته بالرؤية الرومانسية للمشهد الحافل بالجثث والجيف. وإذا كانت معانى التشاؤم، والانحطاط، والشعور بالإثم، ووجود الموت فى كل مكان، تمثل مجموعة متنوعة من مشاعر فترة الوباء فى ثقافة القرن الرابع عشر Trecento (*)، فإنها ليست مع ذلك سوى تفرعات. وعند اندماجها فى نسق خطاب المؤرخين فإن استعمالها يُظهر الالتباس الذى جرى صنعه فى تقييم عصر سابق دمج المؤرخ لهذا الرأى فى فكره.
ديكاميرون بوكاتشيو
لقد تشكلت هذه الكتابات التاريخية التى تقوم على محاكاة موضوعها انطلاقا من نصّ معيارى مكرّس هو ديكاميرون Décaméron بوكاتشيو Boccace [بالإيطالية Boccacio] التى قام بتأليفها فى منتصف القرن الرابع عشر(1). وتمثل اﻠ ديكاميرون قصة سبع شابات وثلاثة شبان يهربون من مدينة فلورنسا إبان وباء الطاعون فى 1348 ليلجأوا إلى الريف. وخلال عشرة أيام، يحكون كل مرة عشر حكايات. وفى حكاية اليوم الأول، يصف بوكاتشيو وباء الطاعون فى 1348 من خلال عناصر وبائية épidémiologiques (**) وإكلينيكية وسلوكية، تدل على أن الوباء كان يُعاش كنوع من القضاء والقدر. وبعد أن حدّد مكان وعام قدوم الطاعون، يبيّن بوكاتشيو سببية الوباء - النجوم أو العدالة الإلهية - وأصله الشرقى. وفى الحال يظهر طابعه الحتمى: "ما من تدبير من تدابير الحكمة أو الحيطة البشرية كان فعالا فى مكافحته" (Boccace, 1994: 38). ويجرى تصوير الشراسة القصوى للمرض عن طريق مثال استثنائى للعدوى: "أصغوا إلى المشهد العجيب الذى ينبغى أن أرويه لكم: لو لم أره، مثل كثيرين، بعينىَّ هاتين، ما كنت جرؤتُ على تصديقه [....] كانت الأسمال البالية لرجل فقير مات من الطاعون ملقاة فى الطريق العام، فوجدها خنزيران و، كعادة هذا الحيوان، أمسكا بها أولا بالخطم، ثم بالأسنان، ودعكا بها الوجنتين وبعد أقل من ساعة، وكانا قد أخذا يترنحان قليلا وكأنهما شربا السم، سقط الخنزيران ميتيْن فوق الأسمال البالية التى كانا قد أمسكا بها لسوء الحظ"(Boccace, 1994: 40).
ثم يُورد بوكاتشيو قائمة بالتدابير المتخذة فى زمن الطاعون، ولكنها، سواء أكانت ذات طابع حكومى، أو دينى، أو طبى، بقيت بلا تأثير. وبالتالى فإن الطابع الجماعى والشرس للظاهرة وعجز الطب تجاه المرض هما ما يجرى إبرازه لنا بهدف تعزيز فكرة استسلامٍ من جانب المرضى.
وفى ديكاميرون، يجرى تفسير السياق على أنه سياق رعب عنيف مفاجئ ومطلق ينتهى إلى ردود فعل جَمْعية تتمثل فى اليأس الكلى. وتغدو الصلة بين المرض البيولوچى والمرض الاجتماعى أكثر فأكثر رهافة وتضمحل. وسرعان ما ينتقل السرد إلى الوقع السيكولوچى للطاعون على المجتمع. ويصف بوكاتشيو الخوف من المرض، والقلق من العدوى، والتصرفات الرُّهابية (الفوپية) الناشئة عن هذا. ووصف الاستسلام هو ما يجرى تقديمه إلينا لنقرأه. وفيما يتعلق بالفلاحين، يلاحظ بوكاتشيو: "هذا هو السبب فى أنهم أصيبوا بلين الطباع مثل سكان المدن، فلم يعودوا يبالون بمنافعهم ولا بأىّ شأن آخر: على العكس، ، لم يعد الكل يثابرون على تنمية المنتجات المقبلة لقطعانهم، وأراضيهم، وثمرة أعمالهم الماضية، كأنهم ينتظرون الموت فى اليوم نفسه...." (Boccace, 1994: 45).
ويشدد بوكاتشيو على الطابع المرضى، ويصف باليه الحانوتية، والمقابر العامة، والمآتم. وفى سياق السرد، يصف بوكاتشيو سقوطا فرديا بقدر ما هو جماعى يتجلى من خلال ظهور حالة فوضى فى المدينة، ومن خلال ترك الجثث وسط الشوارع، ومن خلال أمثلة للسلوك المنحلّ: "قدَّر آخرون، على العكس أنه، فى مواجهة مثل هذا الداء الوبيل، ما من دواء أكيد المفعول سوى كثرة الشرب، والتمتع بوقت طيب، والانطلاق فى الغناء واللهو هنا وهناك، ومحاولة إشباع كل الرغبات، والضحك والاستخفاف بما يجرى: وحملوا أنفسهم على أن يتصرفوا كما قالوا، فكانوا يجرون نهارا وليلا من حانة إلى حانة، يشربون بلا ضابط أو رابط، خاصة فى بيوت الغير...." (Boccace, 1994: 40). ويؤكد بوكاتشيو على الإحساس الجديد بعدم الحياء، والكفّ عن الرعاية، وفقدان الإحساس البشرى بالتعاضد،: "تسللت هذه المحنة بمثل هذا الرعب إلى قلوب الرجال والنساء، إلى حد أن الأخ هجر الأخ، والعم ابن الأخ، والأخت الأخ، وفى كثير من الأحيان الزوجة زوجها" (Boccace, 1994: 42). وتتراوح تشكيلة المواقف الموصوفة من الهستريا الجماعية إلى الاستسلام تجاه قوة مجهولة.
وفى عصر كانت فيه كل فكرة ميكروبية أو وبائية غائبة، انتهت عناصر فكرية إلى تكريس الطاعون كنوع من المصادفة وموضوع للوساوس والكبت أكثر منه كسرد تاريخى. وبالفعل فإنه فى أدب العصور القديمة، عبر قصص الأوبئة عند ثوكيديدس Thucydide، و لوكريشوس Lucrèce، و سينيكا Sénèque، كثيرا ما نجد رؤية تجعل من الطاعون ظاهرة شاملة، ويتحول الوصف إلى نظرة مرعبة للوباء، تُفهَم فيه فكرة الآفة على أنها كارثة تكشف عن إضفاء طابع جمالى على ما هو مرضى. وفى القرن الرابع عشر، طرحت قصة بوكاتشيو لعدة قرون، الموضوعات المعتادة topoi الملازمة لتصوُّر الطاعون. ففى إطار حضرىّ من الناحية الأساسية، يُفهَم المرض على أنه دمار شامل يتم بشكل مفاجئ. والحقيقة أن طابع الرؤية والمشهد الذى لا يُحتمل - عندما يكون المطلوب على وجه التحديد هو التحمُّل - سوف يستعين به مؤلفون عديدون يستخدمون ديكاميرون باعتبارها شهادة صحفية على واقع معيش، وهذا بقصد إحداث رد فعل متكلف.
الخطاب فى مواجهة الأيقونات
وانطلاقا من قصة بوكاتشيو، حدث استخدام للأدب واستكشاف مؤثر لمخاوف غامضة وسما الطاعون بسمة خيالية بمنحه قوى مرعبة. وقد أرادت قصص تفسير الوباء العام الكبير فى 1348 إعطاء انطباع محبط وخرافى كان لا مناص من أن يتركه الطاعون الأسود فى المتخيل الجمعى. وقد انتقل هذا التصور إلى الرأى المكوَّن عن أيقونات الطاعون. فقد آثر تفسير الطاعون نسقا للخطاب فى مجال تاريخ الفن أحدث نقصا فى أيقونات الطاعون و، بصورة أعمّ، فكرة استحالة تجسيد هذه الحالة الپاثولوچية. وانطلقت على هذا الطريق دراسات مختلفة فى تاريخ الفن فربطت تشاؤما فى زمن الطاعون بالمفهوم القائل بانحطاطٍ للفن.
فكرة القصور فى إنتاج الأيقونات
العمل الرئيسى والمؤسس لدراسة الإنتاج التصويرى فى زمن الطاعون هو Painting in Florence and Sienna after the Black Death [التصوير فى فلورنسا وسيينا بعد الطاعون الأسود] ﻠ ميلارد ميس Millard Meiss (2). وقد أراد ميلارد ميس أن يوضح كيف أن مأساة طاعون 1348 كانت كارثة كبرى بالنسبة للفنون البصرية فى أواخر القرن الرابع عشر فى توسكانيا. ومن خلال دراسته للإنتاج التصويرى لمدينتين فى إيطاليا، فلورنسا وسيينا، يلاحظ، فى أعمال ما بعد 1348، تأثير الطاعون فى تغيرات فى السمات المميزة الأسلوبية والأيقونوجرافية. وبإدخاله طابعًا سلبيًّا فى مجال تاريخ الفن، أزال المؤلف أحد التابوات، كما أنه أسهم فى الوقت نفسه فى إنتاج فكرة تراجع الفن فى زمن الوباء(3).
وتتمثل حجة أولى تشيع فى كتاب ميلارد ميس فى الفكرة المتعلقة بقصورٍ فى إنتاج الصور بعد طاعون 1348. ووفقا للمؤلف فإنه يمكن أن نلاحظ فى سيينا فى النصف الثانى من القرن الرابع عشر تناقُصًا فى الإنتاج التصويرى للأيقونات الدينية. على أن السبب فى هذا النقص يعود جزئيا إلى نهاية الطلبيات الكبرى، فى أعقاب موت المروِّجين والمصوِّرين(4). وتلاحظ كريستين م. بوكل، وهى مؤلفة عمل حديث يتناول أيقونات الطاعون: Images of Plague and Pestilence [أيقونات الطاعون والوباء] وجود فجوة أيقونوجرافية فى الأيقونات التى تمثل الطاعون ولكنها تفسر هذه الفجوة تفسيرًا يتناقض مع تفسير ميس تناقضًا تامًّا (Boeckl, 2000)(5). ويصدر تصورها عن النقص فى أيقونات الطاعون عن حُكْم قيمة سلبى حيث يرجع السبب الرئيسى لهذه الندرة ، وفقا للمؤلفة، إلى أن مصوِّرى ذلك العصر وأطباءه كانوا يعانون مشكلات فى تشخيص أعراض المرض. فنظرًا لأن منشأ المرض لم يتم اكتشافه قبل 1890 فإنه لم يكن بمستطاع الفنانين تمثيل المرض إلا بطريقة عديمة المهارة. ووفقا لمنطق كريستين بوكل فإن العجز الإدراكى لدى الفنانين يبرر هذه الفكرة عن غياب أيقونات الطاعون.
وقد طرح ريناتو بورجس Renato Burgess، أمين قسم تاريخ الطب بمعهد ويلكوم Wellcome Institute بلندن، مسألة معرفة ما الذى صوَّره الفنانون فى لوحاتهم عن الطاعون إذا لم يصوروا العناصر الأكثر تمييزًا لهذا المرض (Burgess, 1976). وتلغى فرضية ر. بورجس تابوًا، إذ أنه يرى أن هناك اعتبارات جمالية منعت الفنانين من تصوير الطاعون. ويتبنى بورجس تعاليم ألبيرتى Alberti بخصوص تصوير التشوُّه ويلاحظ أن المصور كان عليه أن يخفى عيوب أو أمراض الشخصيات التى كان يمثلها(6). وهكذا فإنه بمقتضى مثل أعلى للجمال كان الفنانون يقومون بتمويه المرض فى التصوير، ليختاروا أن يصوروا فى أيقونات الطاعون مشاهد مستمدَّة من مصادر أدبية متنوعة. ويبين بورجس وجود نوع من عدم المشروعية فى تصوير الطاعون من جانب فنانى عصر النهضة نظرا لأن تمثيل هذا المرض يعنى بالضرورة، فى نظر مؤرخى الفن، مسألة تصوير كارثة، أىْ حقيقة عنيفة تنتهى إلى تمزيق النظام السائد إرْبًا إرْبًا. ومن هذا المنظور، تمثلت مهمة المصورين، وفقا له، فى تخفيف حدّة الإنتاج الفنى المكرَّس لهذا الشكل من المرض. ويستند تصوُّر هذه الأيقونات إلى إحساسٍ بالقلق، ويتجسد فى إعادة صياغة تفسيرية ليست، فى جوهرها، سوى رفض لمشاهدة أيقوناتها(7).
تشاؤم الفن وتدهوره بعد 1348
عندما يتناول ميس الطاعون الأسود فى الفصل الثانى من كتابه فإنه يمنح أهمية خاصة لتأثير الوحشية ويبدأ بتقدير أرقام الطاعون مبيِّنا معدل الوفيات(8). وهو يستشهد بالمؤرخ السيينى أنيولو دى تورا Agnolo di Tura بهدف تقديم شهادته على النهاية القريبة لكل شخص والمعدل الكبير للوفيات فى تلك الحقبة. ثم يستشهد ﺑ بوكاتشيو بهدف تقديم شهادته أيضا على معدل الوفيات بالتعبير المعروف القائل بأن فلورنسا لم تكن سوى قبر كبير. ويمكن أن تصلح هذه القوالب للكتابة كنموذج للأعمال التى تتناول أوبئة الطاعون. وقد حظيت بشهرة أدبية كبيرة فى الدراسات التى تتناول الطاعون لأنها تحمل فكرة الطابع المباغت للوباء والمذبحة فى المدينة، وتعزز الفكرة القائلة بعقاب إلهى. والمقصود تعريض القارئ لصدمات كهربائية متكررة لواقع تاريخى عنيف يبدو فيه أن قوة العلامات تتفوق على القوة المعتادة للأيقونات.
التدين والشعور بالإثم
وتجد الفكرة الخاصة بفن فى حالة تراجع أثناء فترة الطاعون الأسود تفسيرها فى تشديد سيطرة السلطة الدينية على الفنون التصويرية. أما فرضية ميس القائلة بأن الطاعون زاد من حدَّة عودة ما هو دينى إلى الحياة اليومية فيدلّ عليها وجود متزايد للكنيسة فى الإنتاج التصويرى بعد 1348. فهو يرى أن شعورًا بالإثم غذَّى زيادة التدين، خاصة من خلال إنشاء تجمعات دينية من التائبين من أمثال رهبان الإخوان الصغار Fraticelli وانتشار فكر مبشرين جدد. ويشدد ميس على أن القادة الدينيين الكبار كان لهم، طوال العقدين التالييْن للطاعون، تأثير فى التصوير يتجسد فى كثافة روحية. ووفقًا له، نجد فى ذلك الحين التيمات الدينية لهؤلاء المبشرين فى لوحات تلك الحقبة - الرعب من تحلل الجثامين، المشاهد الجنائزية، الشيطان كتجسيد للشعور بالإثم. ويلاحظ ميس فى الأدب والفنون البصرية "تشاؤمًا عميقًا يصل إلى حد النفور من الحياة"(Meiss, 1994: 254).
وفى تصور ميس، تجد فكرة أن الطاعون يدل على نهاية عصر وبداية عصر آخر جذورها فى فكرة أن التجربة المتعلقة بكارثة إنما هى عقاب للثقافة. ونلمس فى هذا شكلا من أشكال اللاشعور الجمعى له جذور عميقة فى عبادة المثل الأعلى الأخلاقى المسيحى. والحقيقة أن تعاليم العقيدة الدينية هى التى تقوم بتشكيل خطاب مؤرخ الفن عندما يفسر ميس تغيرات أسلوبية فى الفن البصرى لعصر بعينه بلغة الانحطاط، المرتبط بفترة متشائمة بالضرورة. وهذه النظرة للأمور قريبة من نظرة القرن التاسع عشر، هذه الكتابة التاريخية التى أغوتْها كثيرًا الأسطورة الرومانسية المنسوجة حول الطاعون: كان يُنظر إلى الطاعون الأسود على أنه المثل الأعلى للعقاب على حياة محكوم عليها بأنها منحطة. غير أنه ينبغى أن نطرح على أنفسنا مسألة معرفة ما إذا كان من شأن فترة أزمة متأثرة بظروف خارجية أن تؤدى بالضرورة إلى نشوء إحساس متشائم. وإنما يغدو الأمر على هذا النحو وفقا للمنطق الإكليريكى للعصر.
وإذا كان الشعور بالإثم الذى تركه الطاعون ماثلا فى متخيل ثقافة القرن الرابع عشر، فإن النصوص بعيدة تمامًا عن إثبات هذه النظرة وحدها. ذلك أن عنف ردود الفعل ليس بالضرورة فى نفس مستوى عنف الوباء. وعلى العكس فإن أزمة قصوى تمنع تماما ردود الفعل القدرية. وعلى هذا النحو فإن خطاب التاريخ وخطاب تاريخ الفن هما اللذان يخترقهما الشعور الدينى بالإثم(9). وهذا ما يثبت أن فكرة الشر، فى كل زمان، هى التى قامت دائمًا بتشكيل فكرة المرض وأن الدلالة الأخلاقية التى تنبع من هذه الفكرة قد اخترقت إلى حد بعيد فكرة تاريخ الفن.
وجهة نظر مؤرخى الطب
وقد اتجه مؤرخو الطب نحو تفسير مختلف. إذ يرى چان- مارى شاركو Jean-Marie Charcot و پول ريشيه Paul Richer أن الإنتاج التصويرى المرتبط بأيقونات الطاعون غزير نسبيًّا وغنىّ بالدروس (Charcot/Richer, 1902). ويلاحظ شاركو و ريشيه دقة فى الوصف التصويرى للعَرَض الرئيسى من أعراض الطاعون، وهو الخُرّاج الطاعونى، بما يضارع الأوصاف الأدبية. وهما يشددان على واقع أنه فيما يتعلق بأوبئة الطاعون فى عصر النهضة، قام المصورون بإبراز السمات المميزة الكبرى للطاعون مقتفين أثر سرد النصوص القديمة بدلا من الرجوع إلى السياق المعاصر. وبما أن تفسير مؤرخى الطب ينطلق من نظرة إكلينيكية، فهم يتناولون الأيقونة فى بُعْدها التأملى؛ وفى هذه الحالة، تتمثل المهمة الإلزامية للفن فى النسخ الأمين للطبيعة البشرية وپاثولوچيتها.
وفى هذا المنظور ذاته، أوضح كل من چاكلين بروسوليه Jaqueline Brossollet و هنرى مولاريه Henri Mollaret، وهما باحثان فى معهد پاستير، كيف أن الطاعون كان فى نظر فنانى عصر النهضة مصدر إلهام ومناسبة لم يسبق لها مثيل لإنتاج أعمال الفن(10). ووفقا لهذين المؤلفين فإنه إبّان الوباء الثانى للطاعون فى 1348، "نشأ إنتاج من الأعمال الفنية أغزر مما أنتجته أية كارثة على الإطلاق" (Brossolet/ Mollaret, 1965: 13). غير أنه على العكس من شاركو و ريشيه، قام الفنانون بتصوير ما رأوه؛ وإنما صوروا الطاعون بقصد طرد أشباح مخاوفهم. وحيث إن العلاقة بين الفن والطاعون "تنبع من الرعب"، فقد كان هناك نوع من الإرغام على أداء الشهادة؛ لم يكن بمستطاع الفنانين فى سياقه إلا أن يصوروا الموت وأن يحكموا تصويره من أجل طرد أشباح وساوس الوباء. وفى الحالة الأولى، كانت أيقونة الطاعون هى النسخة البصرية لسرد أدبى، وفى الحالة الثانية، تغدو وثيقة تاريخية. ويجرى تصوُّر ما هو مرضىّ، وهو نابع من رؤية رومانسية، على أنه إحساس ملهم فى نظر چ. بروسوليه و ه. مولاريه، فهو يملك القدرة على حفز المتخيل عند الفنان، ويُعْزَى بُعْد سيكولوچى إلى الفن باعتباره الوسيلة الأكثر أمانة لعرض حدث مأساوى. وعلى وجه الإجمال، يقوم كل من بروسوليه و مولاريه بتقييم تصوير الطاعون فى سياق عُصاب névrose جمعى، يمثل الفنانون الأشخاص الوحيدين القادرين على إخبارنا به. وبهذا المعيار للصدق العلمى، كُلِّف هؤلاء الفنانون بالتزام أخلاقى بالبوح عن كل شيء من خلال تصوير آثار الوباء. ذلك أن مصير الفن الذى لا مناص منه هو أن يعرض الكارثة على أساس المذهب الطبيعى naturalisme؛ والفنان صاحب الرؤى هو القادر وحده على أن يوجه الأنظار إلى هول الوباء.
سِحْر تيمات المآتم
فى كثير من الأحيان يصاحب التصور المتعلق بتطوير جديد لتيمات المآتم فى التصوير تحليلات أيقونات الطاعون. ونلقى الفكرة المتعلقة بوسواس لدى الفنانين فى وصف الموت فى خطاب مؤرخى الطب من أمثال بروسوليه و مولاريه ولكننا نلاحظها أيضا عند مؤرخى الفن. ورغبة فى عقد علاقة سببية بين حدث الوباء والفنون البصرية، كان ميس قد شدد بالفعل على الطريقة التى ترك بها الطاعون آثارا من خلال مجموعات تيمات متشائمة فى إنتاج المصورين، مثل انتصار الموت le Triomphe de la mort، و لقاء الموتى الثلاثة والأحياء الثلاثة la Rencontre des trois morts et des trois vifs، وتيمة رقصة الموت Danse macabre(11). وكان قد تعرَّفَ على تجديد للاهتمام بالإحالات إلى التيمات المأتمية فى بعض الفريسكات فى سيينا وفلورنسا، معتبرًا فى الوقت نفسه هذه المجموعات التصويرية ذات أسلوب يتسم بالنكوص. ووفقًا ﻠ ميس، عالج الفنانون تيمة الموت ﺒ "شراسة خاصة" فى حواجز مذابح الكنائس كما فى اللوحات الجدارية. ويستحوذ على الفنانيْن - أوركانيا Orcagna و فرانسيسكو ترينى Francesco Traini - وسواس "الحضور الطاغى للمعاناة والموت فى العالم"(Meiss, 1994: 709).
وفى كاتالوج معرض البندقية والطاعون Venezia e la peste، تبدأ ستيفانيا ماسون رينالدى Stefania Mason Rinaldi دراستها حول تصوير الطاعون بإقامة نوع من الموازاة بين الطاعون والموت(12). ويجرى النظر إلى إضفاء الطابع الشخصى على الموت على أنه النهاية للحظة أيقونوجرافية أولى من فترة أزمة، يرجع تاريخها إلى النصف الثانى من القرن الرابع عشر. وترى چاكلين بروسوليه أن تيمة رقصة الموت تنبع بصورة مباشرة من وباء 1348، وتُعْزَى إلى تصور جديد عن الموت فى أعقاب الطاعون(13). غير أن ليليان جيرى Liliane Guerry، وهى مؤلفة دراسة عن تيمة رقصة الموت، أثبتت تمامًا كيف أن هذه التيمة لم تظهر قبل الربع الثالث من القرن الخامس عشر فى إيطاليا وكان أمدها قصيرًا جدًّا. ويتمثل سبب آخر وراء الإحساس المأتمى الذى يفوح من هذه الأعمال الفنية وفقًا للمؤلفيْن فى أن المصورين كانوا متأثرين بقصص قديمة غارقة فى إحساس مرضىّ.
والحقيقة أن الأهمية التى يجرى إيلاؤها للتصوُّر المكثف عن العلاقة بالموت، وللولع بتذكُّر الموتى memento mori وبالمشاهد المأتمية، التى أراد مؤرخو الفن ومؤرخو الطب أن يروها فى فن القرن الرابع عشر تنشأ مباشرة من الإحساس المأتمى الذى يفوح من قصص الوباء، التى رأينا أحد أمثلتها فى ديكاميرون بوكاتشيو. ويصير الرعايا الموتى رابطة مشتركة عندما يتعلق الأمر بأيقونات زمن الطاعون. ومع هذا فإن مشكلة الفن بعد وباء 1348 ليست مشكلة تتعلق بأيقونوجرافيا الموت.
الخلاصة
والحاصل أن تفسيرات الإنتاج التصويرى فى زمن الطاعون يخترقها نموذجان: انجذاب رومانسى إلى المرضىّ morbide le الذى يحكى تجربة مَنْ يستسلم لسحر البراعة، وبقاء إحساس دينى بالإثم مرتبط بالكوارث الكبرى. وقد شدد مفسرو الطاعون بالإجماع تقريبًا على صَدْع فى الزمن، مُلحِّين على واقع أن فترة أزمة إنما تنتج بالضرورة فن أزمة(14). ويجرى النظر إلى الطاعون على أنه المرض الذى يتلاءم مع تشخيص هذا العصر الانتقالى، فهو يتميز بأعراض محزنة بما فيه الكفاية وبوضوح أرشيڤىّ لا يُقارن بالأمراض الأخرى. والحقيقة أن مثل هذا التصوُّر عن الطاعون مستمدّ من إضفاءٍ للطابع الشخصى على (أو من رؤية ممسرحة ﻟ) الأمراض التى تفعل فعلها على طول التاريخ.
ويتمثل الانطباع السائد فى تحليلنا فى أن الواقع المعنى إنما هو ظاهرة بشرية artefact، وتصوُّر يصنعه المؤرخ. والطريق الذى كانت الموضوعات المعتادة topoi التقليدية تتكرر فيه بصورة مستحوذة، وردود الفعل الموصوفة بأنها لاعقلانية... كل هذا يتراكب بصورة كاملة تقريبًا مع لغة اليأس والذعر فى خطاب كل مؤرخ. ولا يتداخل هذا السرد التاريخى مع التصورات الاجتماعية وردود الفعل إزاء الوباء. ذلك أن السلوكيات البشرية كانت مشفَّرة داخل مجموع من النماذج الطقسية تبرز منه شفرة رمزية. ويجب أن نذكر فارقا دقيقا مهمًّا فيما يتعلق بتصور الطاعون الذى صنعه لنفسه مجتمع ما قبل عصر النهضة. فالطاعون لم يكن يجرى تفسيره على أنه تحويل للنظرة إلى العالم، بل كان يجرى فهمه، بالأحرى، على أنه التكرار لغضب إلهى يصيب البشرية بصورة منتظمة. ولذلك فمن المهم أن نميز بوضوح بين تصور الطاعون الذى صنعه لنفسه مجتمع القرن الرابع عشر، أىْ من حيث جِدَّة المرض، وبين العودة الدورية للطاعون، حيث كانت تصاب به المدن الكبرى فى أوروپا كل عشرة أعوام تقريبًا حتى القرن الثامن عشر. وفى سياق هذا الانبعاث، يتعلق الأمر بالأحرى بشيء عادى، ولهذا كانت ردود فعل الهيئة الاجتماعية مختلفة تمامًا.
ويجب أن نتخذ مسافة إزاء نَصّ بوكاتشيو لأنه شاهد على الخوف، والقلق الموروث عن الأسلاف تجاه الحدث المأساوى، تجاه ما يبدو بلا مبرر وبلا أسباب. فزمن الطاعون دليل على نظام باء بالفشل. إن وحشية الحدث، عندما تصدم البشر صدمًا وتضعهم وجهًا لوجه أمام واقع كريه ومأساوى، تندرج ضمن مجموعة من السلوكيات. ذلك أن الحسّ الأخلاقى يميل إلى دمج الأحداث فى نسقٍ للسببية. وكان الطاعون يُفْهَم من جانب أذكى العقول على أنه محنة ينبغى من خلالها أن تقوم الجماعة بالقضاء على أسباب شرّ أخلاقى واجتماعى كبير. وكان لا بد من منح معنى للشر بهدف اقتلاعه من المملكة البيولوچية. إنه أيضا العجز عن فهم معاناةٍ بطريقة أخرى سوى أنها نتيجة إدانة ما، عاقبة إثم ما. وفى هذه الحالة، تبدو المعاناة دليلا على العقاب، وبالتالى على الإثم. ذلك أن فكرة الشعور بالإثم جوهرية بالنسبة للمرض ويتضح أنها محاولة لرفض المعاناة عن طريق محاولة إرجاعها إلى سببية، إلى خطيئة(15). وهناك أيضا نوع آخر من السلوك فى سبيل تفادى مشاهدة المرض، وهو الصياح على الفضيحة وصُنْع حدثٍ مأساوى، نوعٍ من القصة الصحفية. غير أن تاريخ الطاعون لم يحتفظ بجزء أساسى من ديكاميرون، هو فكرة خلق مجتمع مصغَّر. فحكاية مجموعة من الشباب يفرُّون من مدينة فلورنسا فى سبيل الإفلات من الوباء هى بمثابة طريقة من طرق التعزيم لطرد أشباح الشر، تعمل كشكل منظِّم. وتتبنى المجموعة سلوكيات الوقاية – مثل الفرار – لأن بقاء المجموعة هو الذى يتعرض للخطر.
والحقيقة أن ديكاميرون بوكاتشيو قصة محمَّلة بأكسير النسيان، وتخترقها أبنية لاشعورية يكمن فيها رفض المأساة فى الأمل اللاشعورى بإنكار الأساس المأساوى لكل حقيقة. وهذا هو السبب فى أن الواقع التاريخى لا يبحث عن ذاته فى ماضٍ خالص، إذ لا يمكن الاكتفاء بتصوُّرٍ للتاريخ يركِّز اهتمامه على الوقائع التاريخية وحدها. وتلعب الذاكرة على الصعيدين المادى والسيكولوچى، وهذا هو السبب فى أن الأمر يتعلق بالأحرى بصُنْع "أركيولوچيا للاشعور التاريخ"، أىْ فَهْم آليات الدمج أو الطرد التى أحدثتها أوبئة الطاعون وآثار هذا البناء المتخيل. ويعنى تناوُل تاريخ الطاعون من هذه الزاوية أن نأخذ فى الاعتبار المشكلة الأنثروﭙولوچية المتعلقة بنقل المعتقدات والمخاوف تجاه الوباء، التى صنعتها عمليات شعورية ولاشعورية. ومن الآن، لن يكفى أمام تمثيلٍ للطاعون، سواء أكان تصويريًّا أو أدبيًّا، توضيح مبادئ تركيبه، بل سوف ينبغى بالإضافة إلى هذا أن نتساءل عن السر الذى يخبِّئه. وعلى هذا النحو فأمام أيقونة الطاعون، ربما كان هناك مجال للتساؤل ليس عما تُظهر، بل بالأحرى عما تُخفى؟
إشاراتان للمترجم:
(*) تعنى لفظة Trecento (باللغة الإيطالية) حرفيا: ثلاثمائة وهى تشير إلى أعوام القرن الرابع عشر (1300- 1399) والمقصود: ثقافة النهضة فى القرن الرابع عشر.
(**) أىْ تلك العناصر المرتبطة بالعلاقات القائمة بين الأمراض أو كل ظاهرة بيولوچية أخرى وبين عوامل متباينة قابلة للتأثير فى تواترها وتوزيعها وتطورها مثل نمط الحياة، والمحيط البيئى أوالاجتماعى، والخصوصيات الفردية.
إشارات المؤلفة:
(1) فيما يتصل بالعلاقة بين بوكاتشيو والطاعون؛ انظرْ:G. A. Brucker, « Florence and the Black Death », dans Boccacio : secoli di vita. Atti del Congresso internazionale Boccacio, sous la direction de M. Cottino-Jones et E. F. Tuttle, Ravenne, Longo, 1975, p. 21-30 ; A. S. Bernardo, « The Plague as Key to Meaning in Boccacio’s Decameron », dans The Black Death. The Impact of the Fourteenth Century Plague, Ibid., p. 39-64 ; Tenenti, Alberto, «La rappresentazione della morte di massa nel Decameron», dans Tod im Mittelalter, sous la direction de Borst, A., Von Graevenitz G., Patschovsky, A. et K. Stierle, Constance, UVK, 1993, p. 209-219 ; Flasch, Kurt, Poesia dopo la peste. Saggio su Bocaccio, Traduction de Rosa Taliani, Roma-Bari, Laterza, 1995, p. 41-58.
(2) من أجل دراستنا، استخدمنا الترجمة الفرنسية للكتاب:Millard Meiss : La peinture à Florence et à Sienne après la peste noire. Les arts, la religion, la société au milieu du XIVe siècle. Traduit de l’anglais par Dominique le Bourg, préface de Georges Didi-Huberman, Paris, Hazan, 1994.
(3) العلاقة السببية التى لاحظها ميس بين طاعون 1348 والتغيرات الفنية فى تلك الفترة طرحها للنقاش العديد من المؤلفين. وتتمثل وجهة النظر الشائعة اليوم فى ملاحظة أن الأعمال الفنية التى درسها م. ميس يرجع تاريخها فى كثير من الأحيان إلى ما قبل الطاعون الأسود. وقد أظهرت التحديدات الجديدة لتواريخ بعض الأعمال الفنية الإيطالية التى قام ميس بتحليلها حدود هذا النهج. وقام چيوڤانى دينى بتقييم فن التصوير فى سيينا فى تلك الفترة انطلاقا من أعمال فنية لم يدرسها ميس وقد توصل إلى استنتاجات مختلفة تماما. Dini, Giovanni, L’art gothique siennois, Catalogue d’exposition, Avignon, 1983, p. 208-209.
(4) Miklos Boskovits adhère à cette même pensée dans son ouvrage Pittura fiorentina alla vigilia del Rinascimento. 1370-1400, Firenze, Edam, 1975.
(5) هذا الكتاب، الذى تم إعداده على أساس النهج التقليدى للدراسة الأيقونوجرافية، قام بتوظيف كبير للمصادر الأدبية التى كان لها، وفقا للمؤلفة، تأثير فى الفنون البصرية. انظرْ مقدمة بوكل: Boeckl, Christine M., Images of Plague Iconography and Iconology, (Sixteenth Century Essays & Studies, Vol. LIII), and Pestilence. Kirksville, Truman State University Press, 2000, p. 9-14 .
(6) يستدعى بورجس المقطع الذى يستشهد فيه ألبيرتى بمثال المصورين الذين قاموا بإخفاء عَوَر أنتيجون وتشوّه رأس پيريكليس Ibid., p. 422.
(7) شكك فى فكرة وجود محرَّم (تابو) يحظر تمثيل الطاعون فى الفنون البصرية فى النصف الثانى من القرن الرابع عشر اثنان من المؤلفين: أثبت چون ب. فريدمان John B. Friedman أن مجالا للفن - مجال المنمنمات - كان ميدانًا لتمثيل استعارى ورمزى للطاعون، ولاحظ صامويل ك. كوهن Samuel K. Cohn حدوث تطور جذرى فى العقليات بين 1360 و 1425، من خلال تزايد فى الطلبات بالوصايا وتفننٍ فى مجال الهبات الخيرية: Friedman, John B., « He hath a thousand slayn this pestilence : The Iconography of the Plague in the Late Middle Ages », Medieval and Renaissance Texts and Studies, ed. By Francis X., Newman, Vol. XXXIX, Binghamton/New York, 1986, p. 75-112. Samuel K. Cohn, Death and Property in Siena, 1205-1800. Strategies for the Afterlife, Baltimore and London, The Johns Hopkins University Press, 1988, voir le tableau n° 16, p. 252.
(8) هذه الإستراتيچية لإحصاء معدل الوفيات تظهر فى كثير من الأحيان بهدف التقدير العددى للوباء لوضعه فى إطاره. وكثيرًا ما يسبق إحصاء الضحايا هذا قائمة المشاهير الذين ماتوا أثناء الوباء.
(9) يمكن أن نرى هذا الموقف فى أعمال مختلفة ترتبط بدراسة الطاعون. وبين أعمال أخرى؛ انظرْ: Roberts Gottfried, The Black Death : Natural and Human disaster in Medieval Europe, New York, Free Press, 1983 ; Naso, Irma, « Les hommes et les épidémies dans l’Italie de la fin du Moyen Age : les réactions et les moyens de défense entre peur et méfiance », Maladie et société ( XIIe – XVIIIE siècles). Ed. Neitthard Bulst et Robert Delors, Paris, 1989, p. 307-326 ; Ziegler, Philipp, The Black Death, London, Collins, 1969. وقد أثر كتاب پول پيردريزيه تأثيرا كبيرًا جدًّا على دراسة ميس، وهذا المؤلف لا تنقصه الحجج للمطالبة بأن يُنسب إليه التصور المتعلق برؤية تشاؤمية بعد الطاعون: "يمكن أن نتصور أنه، منذ الطاعون الكبير فى 1348، عاشت القرون الوسطى فى رعب دائم، فى ارتجاج عصبى متواصل. والحقيقة أن الخوف من الموت الذى لازم هذه القرون الوسطى صار، منذ أن أخذ الطاعون يفتك دوريا بأوروپا مصدر قلق دائم". Perdrizet, Paul, La Vierge de Miséricorde. Etude d’un thème iconographique, Paris, A. Fontemoing, 1908, p. 139.
(10) كانت چاكلين بروسوليه لفترة طويلة مسئولة فى إدارة الطاعون بمعهد پاستير. وقد خصصت دراسات عديدة لأيقونات الطاعون. خاصة: Brossollet, J., « Quelques aspects religieux de la grande peste du XIVe siècle », Revue d’histoire et de philosophie religieuses, vol. LXIV, n° 1, 1984, p. 53-66. - « Saint Roch et la pudeur », La Clinique, vol. LVI, n° 677, 1971, p. 225-229. - « Sur quelques traces des anciennes épidémies de peste dans la langue et dans la légende », n° 227, février 1971, p. 99-106. En collaboration avec Henri Mollaret, « La peste : source méconnue d’inspiration artistique », Jaarboek Koninklijk Museum voor Schoone Kunsten, Anvers, 1965, p. 3-112.
(11) لاحظ ميس نشأة تيمة انتصار الموت كنتيجة منطقية للطاعون الأسود. وطرحت ليليان جيرى هذا الموقف للنقاش فى:Le thème du Triomphe de la Mort dans la peinture italienne, Paris, Maisonneuve, 1950.
(12) Mason Rinaldi, Stefania, « La peste e le sue immagini nella cultura figurativa veneziana », Venezia e la peste, Ibid., p. 209-286.
(13) خصصت چاكلين بروسوليه نصوصا عديدة ﻟ رقصة الموت. انظرْ:Brossollet, J., « Les danses macabres en temps de peste », Jaarboek Koninklijk Museum voor Schoone Kunsten, Anvers, 1971. Brossollet, J., « L’influence de la peste du Moyen Age sur le thème de la danse macabre », Médecine et hygiène, vol. XXVII, n° 860, fév. 1969, p. 1-9.
(14) الآلية التكرارية لأقواله دون تحقق فعلى موجودة فى كتب عديدة. ويصور الدكتور كابانيه جيدا هذا التقليد فى كتابه:Dr A. Cabanès illustre bien cette tradition dans son ouvrage, Les fléaux de l’humanité, Paris, Albin Michel, 1920.
(15) أوضح كليمانت روسّيه أهمية المعايير السوسيو- ثقافية التى تدخل فى تقييم حدث تراچيدى (مأساوى) Rosset, Clément, Le monde et ses remèdes, Paris, Presses Universitaires de France, 2000, [1ère édition 1964].
ببليوجرافيا:
Baschet, Jérôme 1993 - « Image et évènement : l’art sans la peste (c. 1348-c. 1400) ? ». In : La pesta nera : dati di una realtà ed elementi di una interpretazione. Convegno storico internationale – Todi - 10-13 ottobre 1993, Spoleto, Centro Italiano di Studi sull’alto medievo, p. 25-47.
Boccacio, Giovanni 1994 – Décaméron - Traduction, introduction et notes sous la direction de Christian Bec, Paris : Le Livre de Poche - éd. orig. 1350.
Boeckl, Christine M. 2000 - Images of Plague and Pestilence. Iconography and Iconology - (Sixteenth Century Essays & Studies, Vol. LIII), Kirksville : Truman State University Press.
Brayr, R. S. 1996 - Armies of Pestilence. The Effects of Pandemics on History - Cambridge : The Lutterworth Press.
Brossollet, Jacqueline et Henri Mollaret 1965 - « La peste : source méconnue d’inspiration artistique ». In : Jaarboek Koninklijk Museum voor Schoone Kunsten – Anvers - p. 3-112.
Brucker, G. A. 1975 - « Florence and the Black Death ». In : Boccacio : secoli di vita. Atti del Congresso internazionale Boccacio, sous la direction de M. Cottino-Jones et E. F. Tuttle –Ravenne - Longo, p. 21-30.
Burgess, Renato 1976 - « Note on Some Plague Paintings ». In : Medical History, vol. IV, n° 20, p. 422-438.
Charcot, Jean-Marie et Paul Richer 1902 - L’art et la médecine - Paris : Gaultier, Magnier et Cie.
Cohn, Samuel K. 1988 - Death and Property in Siena, 1205-1800. Strategies for the Afterlife - Baltimore and London : The Johns Hopkins University Press.
Friedman, John B. 1986 - « He hath a thousand slayn this pestilence : The Iconography of the Plague in the Late Middle Ages ». In : Medieval and Renaissance Texts and Studies, ed. By Francis X., Newman, Vol. XXXIX - Binghamton/New York - p. 75-112.
Mason Rinaldi, Stefania 1979 - « La peste e le sue immagini nella cultura figurativa veneziana ». In : Venezia e la peste. 1348-1797. Catalogue d’exposition – Venezia - Marsilia Editore, p. 209-286.
Meiss Millard 1994 - La peinture à Florence et à Sienne après la peste noire. Les arts, la religion, la société au milieu du XIVe siècle. Traduit de l’anglais par Dominique le Bourg, préface de Georges Didi-Huberman - Paris : Hazan – ed. orig. 1951.
Polzer, Joseph 1982 - « Aspects of the Fourteenth Century Iconography of Death and the Plague », The Black Death. The Impact of the Fourteenth Century Plague - ed. Daniel Williman, Binghamton/New York : Center of Medieval and Early Renaissance Studies, p. 107-130.
Tenenti, Alberto 1993 - «La rappresentazione della morte di massa nel Decameron». In : Tod im Mittelalter, sous la direction de Borst, A., Von Graevenitz G., Patschovsky, A. et K. Stierle – Constance - UVK, p. 209-219.
Van Os, Henk 1981 - « The Black Death and Sienese Painting : a Problem of Interpretation ». In : Art History, vol. IV, n° 3, p. 237-249.
2
دفاعا عن أعمال پيكاسو الأخيرة
بقلم: چون بيرجر
(عن مجلة "إنترناشونال سوشاليزم" الفصلية البريطانية وفى المقدمة
تعريفٌ كافٍ ﺑ چون بيرجر وبطبيعة وإشكاليات وأصداء إنتاجه – المترجم)
أولا
مقدمة لمقال چون بيرجر
عن پيكاسو
بقلم: مايك جونثاليث
حتى وهو ميت، يفجِّر پيكاسو الخلافات. والحقيقة أن الجدل العام حول المعرض المقام مؤخرا لرسوم ولوحات زيتية من السنوات العشرين الأخيرة ﻟ پيكاسو قد أصاب بعض النقاد بما يشبه السكتة الدماغية. وعلى سبيل المثال، وصف أحد الكتاب هذه المجموعة بأنها "خربشات غير مترابطة من صُنْع مخرِّف مسعور فى غرفة انتظار الموت"(1). ولماذا هذا السعار؟ فى التعليقات التالية لهذه المقدمة، يقدم چون بيرجر نظرة عميقة نافذة فى إنتاج پيكاسو - نوعا من الحاشية لدراسته الرائعة الأكثر إسهابا: نجاح وإخفاق پيكاسو(2). كما أن هذه التعليقات قد تفسر، بصورة غير مباشرة، بعض ردود الأفعال التى أثارها المعرض. وربما ليس من المصادفة أن كتابات بيرجر ذاتها قد تلقت إدانات لاذعة بصورة لا تقلّ كثيرا من بعض الجهات فى الآونة الأخيرة(3).
بيرجر والنقاد
يجسد پيكاسو عددا من التناقضات التى ظلت الثيمات الدائمة فى كتابات چون بيرجر. ذلك أن بيرجر ظل مهتما بصفة رئيسية بالطريقة التى يجرى بها تحويل الفن إلى سلعة؛ فاللوحة الزيتية تقوم بتصوير طبقة مالكة لنفسها وهى ذاتها ملكية فى نفس الوقت. والمنتجات التى تبدأ كمنتجات إبداعية لخيال فردى إنما تكتسب معناها الاجتماعى، ومكانتها بوصفها "فَنًّا" فى ظل الرأسمالية، فى نفس اللحظة التى يجرى فيها تحديد أسعارها، تحديد قيمتها السوقية. كما أن نفس هذه العملية تجعل من الفنان أو الفنانة سلعة أيضا، ومن أسلوب حياة كل منهما موضوعا لشبكة متنوعة لكن مترابطة من المؤسسات التجارية - مثل ناشرى المذكرات، وبائعى الموضوعات التى تُحوّلها لمسة الفنان تحويلا سحريا.
هذا هو الوجه الآخر لتلك العملية العامة التى تؤدى إلى أن يواجه البشر ثمار عملهم وكأنها أشياء خارجية غريبة عليهم. ذلك أنه يجرى تحويل هذه الإبداعية التى يشتمل عليها الفن، هذا الاستعمال للخيال، إلى لغز، إلى استجابة غير سوية من جانب مجموعة صغيرة ومنعزلة من الأشخاص الغريبين وغير الواقعيِّين. أما الإمكانية المحرِّرة التى ينطوى عليها اقتران الوعى والممارسة فيجرى مسخها فى شخص الفنان كنوع من المنبوذ الغريب.
هذه بعض العمليات التى استكشفها چون بيرجر فى مجموعة بالغة النفاذ من الكتابات التى جدّدت و"حدّثت" نظرية ماركسية معقدة للفن. وفى الستينات والسبعينات تبنَّى أناس كثيرون تلك الأفكار، لكنْ مع تشويهات أو إساءة استخدامها فى كثير من الأحيان تقليدا له. ذلك أن بيرجر لم يقع فى الفخ الذى اصطدم به الكثير من تلامذته، الأمر الذى أدى إلى أن تغدو نظرية الفن علما منفصلا عن المادية الجدلية، إلى حد انتهى معه الأمر إلى أن يكون هناك نوع من الصراع الطبقى فى الفن لا تجمعه أية علاقة بالصراع الطبقى فى العالم المادى.
وبطبيعة الحال ففى الثمانينات اختفى كثيرون من أصدقاء السرّاء هؤلاء، حيث كَفَّتْ الماركسية فجأة عن أن تكون أداة لنجاح أكاديمى بديل. وعلى سبيل المثال فإن پيتر فوللر، مساعد بيرجر سابقا، أصبح الآن أشد نقاده مرارة. ويزعم فوللر أن التحليل الذى ينظر إلى الفن فى علاقته المعقدة بالمجتمع "يختزل" الفن وينكر القيمة "الفنية" - هذا الشيء الذى لا يوصف والذى هو جوهرى للعمل الفنى ويجعل الفن باقيا و"حقيقيا" ويسلِّم فوللر بأن البحث عن ذلك اللب "الجمالى" الجوهرى للفن نشأ من الضيق العميق بفن يقوم على التعليق السياسى ومن نوع من التوق إلى الحقيقة الأزلية. ولأن له خلفية يسارية، أو بالأحرى ماضيا يساريا، يحاول فوللر أن يجرب حيلة بارعة ليثبت أن المحافظين والماركسيين اختزاليون على حد سواء وأنه لا يريد إلا الدفاع عن "الذوق الرفيع والروحية فى الفن" (مهما كان شأنهما!).
على أن الافتراء على بيرجر له أساس جوهرى أعمق. ذلك أن فوللر ينسجم مع عهد ثاتشر، مهما كان إصراره بحماس على سجله الانتخابى كمؤيد لحزب العمال. فالواقع أن التأكيد المميز لمثقفى الثاتشرية هو أنه ليست هناك أية صلة بين مختلف نواحى النشاط البشرية؛ وأن إدراك الكلية أسطورة يسارية، وأن القيم السائدة طبيعية، ومسلَّم بصحتها، ولا فكاك منها. وهنا بلا شك توافق لافت للنظر بين اليمين وبين أولئك المنظّرين اليساريين الذين قادهم هاجسهم إزاء "الثاتشرية" إلى استنتاجات مماثلة يائسة وموئسة(4). وإذا لم يكن بمستطاع التغيير أن ينشأ عن النشاط التحويلى الواعى، فلا يمكن أن يكون هناك إذن أىّ خيال، ولا أىّ كشف للتناقضات، ولا أىّ حلم بمجتمع بديل.
فأىّ دور يكون للفن فى مواجهة مثل هذا التشاؤم الشامل؟ يمكنه أن يصير من جديد ملاذا بعيدا عن الواقع - "مكانا" متخلصا من أهوال الواقع المروّعة لكن التى لا فكاك منها. وهو نزيه لأنه لا يقول شيئا، وهو لا يقدم أىّ رد، وهو موجود لا أكثر ولا أقل فى زمانه ومكانه. غير أن بيرجر يصرّ على ترابط الأشياء، ويحدد مكان الفن داخل نطاق العالم المزدوج للأيديولوچيا وعلاقات الملكية، ويرى فى الفن إمكانية محرِّرة. لكنه يستكشف أيضا، خاصة فى عمله: طرق الرؤية، الآليات التى عن طريقها تتوافق بلورة "الحقائق الأزلية" عن الفن، على التوالى، مع الحاجة إلى تعزيز العلاقات الاجتماعية القائمة ومع كبت واحتلال الخيال ذاته. وليست محاولة فوللر سوى الطبعة الأخيرة لتصميمٍ على إسدال حجاب على العالم.
پيكاسو والنقاد
وتاريخ پيكاسو كمصوِّر تاريخ نموذجى. وعندما كان فنانا شابا بالغ المهارة فى پاريس العقد الأول من القرن العشرين، كان پيكاسو مشاركا رئيسيا فى ثورة فنية - "فن للتحرير الدينامى من كافة المقولات السكونية"(5). وليس هناك دليل على أنه رأى أىّ صلة بين الفن الطليعى والطليعة السياسية، ولا دليل على أىّ ارتباط سياسى على الإطلاق. وقد بدا عاجزا عن ربط التجربة الخاصة بأىّ واقع جماعى. غير أن تحديه للعالم البرچوازى تَغَلَّفَ بطريقة فى التصوير - التكعيبية. وكانت هذه الطريقة تستجيب لدعوة إنجلس إلى فن "يحطم تفاؤل العالم البرچوازى ويزرع الشك فيما يتعلق بالطابع الأبدى للنظام القائم"(6). والواقع أن لوحات المناظر الطبيعية واللوحات الزيتية لأواخر القرن التاسع عشر كانت تنضح بتفاؤل طبقة كانت ثورية ذات يوم وصارت حينئذ سيدة فى بيتها. وقدَّم العالم المرتَّب لتلك اللوحات الزيتية الصورة المطلوبة لمجتمع محكوم ومنظم كانت فيه التكنولوچيا والانضباط والنظام شركاء فى تقدم عنيد لم يكن تحقيقه بحاجة إلى أىّ عمل بشرىّ.
كانت التكعيبية جزءًا من حركة فنية وفلسفية أوسع تحدّتْ رأسا ذلك الرضا عن النفس على مستويات كثيرة. وقد أشاعت من جديد فكرة أن العالم دينامى ومتوتر، وأنه ساحة قتال بين قوى متصارعة حيث الواقع تنافرُ، وفوضى، وصراع. وفى صميم ذلك الصدام كان هناك قلب بشرىّ، النبى الذى قام بتشكيل العالم بنشاط.
ولهذا فإن إنتاج پيكاسو قبل 1914 طرح أسئلة حاسمة عن العالم وأصر على إبداعية مزهوّة ضد تماثل وضيق السوق. وتتمثل المفارقة، بطبيعة الحال، فى أن تلك التأكيدات للاستقلال الإبداعى صارت بدورها سلعًا غالية للغاية. وبطريقة ما، من الصعب أن يدهشنا أن تنجح الرأسمالية، بعد احتواء الاضطرابات الثورية فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، فى أن تدمج تعبيرات الراديكالية الفردية فى التجارة. والحقيقة أن پيكاسو بوجه خاص لم يسلّم بأىّ مسئولية تجاه الطبقة الثورية أو بأىّ علاقة بها.
ومثلما صارت اللوحات الزيتية ذاتها سلعا، كذلك صار الفنان ذاته. وصارت حياته، منذ عشرينات هذا القرن وصاعدا، قابلا للبيع. وفى دوامة "الجيل الضائع" للعشرينات، انفصل فن پيكاسو بالتدريج عن لحظته التاريخية. وفى الثلاثينات قدَّم الاستغراق الذاتى الذى كان يمثل السمة الرئيسية لإنتاجه سلسلة من اللوحات الزيتية والرسومات الحسية المبهجة ﻟ مارى تيريز ڤالتر(7)، واحتفاءً بالجنس، وتظاهُرًا مبتهجا بنوع من الفردية المنعزلة.
غير أن الفردية ليست بالشيء الذاتى التوالد بلا انقطاع، كاملا ومستقلا. ففرديتنا هى النتاج المعقد لتفاعل واستجابة مع التجربة الاجتماعية المشتركة فى ظروف مادية خاصة. ونحن فرديون لأننا اجتماعيون؛ حتى أشد رغباتنا حميمية تتشكل تاريخيا(8). وحياة پيكاسو ذاتها هى الدليل. ذلك أن پيكاسو، مقطوعا ومعزولا عن الواقع الاجتماعى، ومعبودا وواقعا فى شرك فردية قابلة للتسويق، أفرغ عالمه الداخلى بكل بساطة من كل الإمكانات التى "دفعها خارج موضوعات تصويره"، كما قال بيرجر. وفى الخارج، كما عاش العالم خلال عقد الأربعينات، جرت تحولات ضخمة، وتم تحقيق إمكانات مبدعة على مسرح التاريخ الفعلى. غير أن پيكاسو ظل ينظر فى مرآته (حتى "الجيرنيكا" تعبير عن المعاناة الشخصية وليس عن إدراك للقوى الاجتماعية المتصارعة فى الحرب الأهلية الإسپانية). لكن المرآة لم تنبئه بشىء. ومجرَّدًا من المحتوى ومن التجربة الاجتماعية، كان پيكاسو ذاته قد صار مجرد موضوع آخر، ملكية للمتاجرة بها.
ومنذ ذلك الحين وصاعدا، سعى پيكاسو إلى أن يعيد اكتشاف شيء اسمه "التجربة الفنية"، شيء كان يمكن عزله فى الفن ذاته. وبحث عنه فى اللوحات الزيتية لآخرين(9) (الذين يتميزون من الناس الآخرين، الحيوات الأخرى). بدأ يعيد تصوير إنتاج مصوِّرين آخرين. وكان ذلك عملا بارعا، لكن فقط بمعنى تقنى؛ ذلك أنه كان بلا خيال.
"توسُّل بائس"
هذه هى الطريقة التى يصف بها چون بيرجر رسومات پيكاسو ولوحاته الزيتية فى طوره الأخير. وهى فى نظر أحد النقاد "بائسة، فجة، مملة، استحواذية"(10). وهى فى نظر الرجعية مس هوفنجتون عروض فى مقاضاة پيكاسو على كراهية النساء، والطغيان الجنسى، والاستغلال المنتظم لكل شخص قاسمه حياته(11). وما من سبب خاص يدعونا إلى الشك فى سلوكه الأقل من مثالى فى هذه المجالات. لكننا إذا ما حاكمنا اللوحات الزيتية بهذه الطريقة فإننا نكون قد سلّمنا بأن كل فن ليس سوى تعبير ذاتى فليس له أىّ محتوى اجتماعى على الإطلاق، حتى وإنْ كان محتوى اجتماعيا يتحقق عبر التجربة الفردية.
وفى هذه الأعمال الأخيرة، فى تخيلاتها المطبوعة بطابع جنس مفقود أو مشوّه وفزعها من العجز، هناك ما هو أكثر كثيرا من نوع من الإباحية البائسة. إنها حقا عن النساء وعن الجنس. لكنْ يبدو أيضا أن لها معنى تهكميا حقيقيا، يطعن فى تلك المفارقة التى تقلب الخيال المحرِّر إلى سجن، وتقدم نوعا من الشهرة والاعتراف يبشر بإشباع كل رغبة. غير أن كون المرء فنانا يعنى كونه مخلوقا له نظام لا بد وأن يحطم الرغبة ويدمر الإبداعية. ولهذا ففى الرسومات بوجه خاص يغدو الدهان أو الحامل فى وقت واحد طريقة فى التعبير عن الرغبة وعقبة لا تُذلَّل بين الفنان وموضوع رغبته. إنه يغدو المُشاهد لتجربة إنسانية، لكنْ عاجزا عن المشاركة فيها.
لكنْ لماذا نجد هؤلاء الذين كانوا تواقين ذات يوم إلى رفع شأن پيكاسو يصيرون الآن غاضبين منه إلى هذا الحد؟ هل يكون ذلك لأن هذا الاعتراف بالضعف والحيرة لا مكان له فى هذا المجتمع الذى، حتى بالنسبة لحزب العمال، يوجد "ليكافئ على الإنجاز"؟ الواقع أن بريطانيا ثاتشر مكان حقير بكل المعانى - وهى تنبذ بسهولة أولئك الأبطال الذين يثبت أن أقدامهم من طين. ومن باب أولى عندما اكتشف پيكاسو، ذلك المثال الحى على الفردية المستقلة، أنها مكان بالغ الوحشة والبؤس.
لقد عاد تحرير الذات المنعزلة فى السنوات الأخيرة فى ثياب جديدة. ويحق لنا أن نقرأ التلهفات المؤثرة الأخيرة ﻟ پيكاسو باعتبارها دليلا على أن الذات لا يمكن تحقيقها إلا فى سياق انخراطها فى التحويل الثورى الجماعى.
إشارات
1: Quoted Brian Sewell’s vitriolic review Doodles of a voyeur in decline in Standard, 30, June 1988, p. 36.
2: Success and Failure of Picasso, Writers and Readers (London, 1980, first published in 1965).
3: See for example Peter Fuller’s Seeing Berger, (London, 1980). Fuller is now the increasingly influential editor of a journal called Modern Painters.
4: Berger’s work includes Permanent Red, Selected Essays and Articles (including his marvelous essay The Moment of Cubism), Art and Revolution, his most influential work of Seeing, and About looking. Significant too is his novel A Painter of Our Time.
5: As exemplified by the writings of Stuart Hall in Marxism Today, and in particular the work of Ernesto Laclau who has recently announced that society is impossible, Picasso see pages 59-60.
6: Engels Quoted in Slaughter: Marxism, Ideology and Literature (London 1980, p. 84).
7: A series which has its counterpart and negation in Picasso’s late works.
8: …, in present-day society, man has lost his ideology, but at the time he has not only acquired the theoretical consciousness of his loss, he has been driven by a distress no proletariat can and must free itself, Marx: The Holy Family (Moscow 1956, p. 52).
9: For example, Picasso painted at least 52 versions of Velazquezk’s las meninas.
10: Sewell, see note 1.
11: Arianna Stassinoplous Huffington’s Picasso, creator and destroyer is published by Weidenfeld.
*****
ثانيا
دفاعا عن أعمال پيكاسو الأخيرة
بقلم: چون بيرجر
سيطرتْ على الفترة الأخيرة من حياة پيكاسو كمصوِّر ثيمة الجنس. ومن الأعمال المائتين المعروضة فى معرض تيت هذا الصيف، تعرض ثلاثة أرباعها النساء أو الذكور والإناث من خلال ملاحظتهم أو تخيُّلهم ككائنات جنسية. وعندما أفكر فى هذه الفترة الأخيرة ﻟ بابلو پيكاسو تخطر ببالى أبيات كتبها الشاعر الآيرلندى العظيم، و. ب. ييتس، فى شيخوخته:
أنت تحسب شنيعا لشيخوختى
أن يلازمها الشبق والهياج
ولم يكونا مزعجيْن للغاية عندما كنتُ شابا
وهل لدىّ شيء آخر يدفعنى إلى الغناء؟
لكن، لماذا يتلاءم مثل هذا الهاجس إلى هذا الحدّ مع أداة التصوير؟ لماذا يجعله التصوير بليغا إلى هذا الحدّ؟
قبل أن نحاول الإجابة، دعنا نمهد السبيل قليلا. والواقع أن التحليل الفرويدى، مهما كان ما يمكن أن يقدمه فى أحوال أخرى، لا يقدم كبير عون هنا، لأنه معنىّ قبل كل شيء بالرمزية واللاوعى. بينما السؤال الذى أطرحه يخاطب ما هو جسدى مباشرة وواعٍ بجلاء.
كما أن فلاسفة الفحش - مثل باتاى Bataille الشهير - لا يقدمون الكثير، فيما أحسب، لأنهم مرة أخرى لكن بطريقة مختلفة أدبيون وسيكلوچيون أكثر مما يقتضى الأمر. وعلينا أن نفكر بكل بساطة فى لون وتعبير الأجساد.
وأولى الصور التى جرى تصويرها على الإطلاق عرضت أجساد الحيوانات. ومنذ ذلك الحين، تَعْرِض أغلب اللوحات فى العالم أجسادا من نوع أو آخر. وهذا لا يعنى التقليل من شأن المنظر الطبيعى أو الأنواع المتأخرة الأخرى؛ كما أنه لا يعنى إقامة هيراركية. لكنْ إذا تذكرنا أن الهدف الأساسى الأول للتصوير هو استدعاء حضور شيء ليس موجودا، فليس من المدهش أن ما يجرى استدعاؤه عادة هو الأجساد. وحضور الأجساد هو ما نحتاج إليه فى عزلتنا الجماعية أو الفردية ليعزّينا أو يقوينا أو يشجعنا أو يلهمنا. فاللوحات الزيتية تصاحب عيوننا. وكل صحبة تستلزم الأجساد عادة.
لنفكرْ الآن - مجازفين بالوقوع فى تبسيط هائل - فى الفنون الأخرى. القصص السردية تستلزم حدثا: لها بداية ونهاية فى الزمان. والشعر يخاطب القلب، والجرح، والموت - كل شيء له وجوده ضمن عالم التواصل بين ذاتياتنا. والموسيقى حول ما هو ما وراء المعطَى: الصامت، الخفىّ، المنطلق. والمسرح يعيد تمثيل الماضى. أما التصوير فهو حول الجسدىّ، والمحسوس، والمباشر (وقد تمثلت المشكلة المستعصية التى واجهت الفن التجريدى فى التغلب على هذا). والفن الأقرب إلى التصوير هو الرقص. كل منهما مصدره الجسد، كل منهما ينفخ الحياة فى الجسد. كل منهما جسدىّ بالمعنى الأول للكلمة. ويتمثل الفارق الهام فى أن للرقص، كما للقصة والمسرح، بداية ونهاية كما توجد فى الزمان؛ بينما التصوير لحظىّ. (أما النحت، لأنه أكثر سكونية بلا جدال من التصوير، ويفتقر فى كثير من الأحيان إلى اللون وهو عادة بلا إطار وبالتالى أقل ألفة، فهو باب قائم بذاته ويحتاج إلى مقال آخر).
التصوير، إذن، يقدم الحضور الجسدى، المحسوس، اللحظى، العنيد، المتواصل. فهو أكثر الفنون حسية بصفة مباشرة. جسدًا لجسد. وأحدهما هو جسد المشاهد. وهذا لا يعنى أن هدف كل تصوير حسى؛ لقد كان هدف لوحات زيتية كثيرة هو الزهد. كما أن الرسائل التى مصدرها ما هو حسى تتغير من قرن إلى قرن، وفقا للأيديولوچية. كذلك يتغير دور الجنس. وعلى سبيل المثال، يمكن أن تقدم اللوحات الزيتية النساء كموضوع جنسى سلبى، كشريك جنسىّ فعّال، كشخص مخيف، كإلهة، ككائن إنسانى محبوب. ومع أن فن التصوير يجرى استخدامه إلا أن استخدامه يبدأ بشحنة حسية عميقة يجرى نقلها عندئذ فى اتجاه أو آخر. فكِّرْ فى جمجمة مُصَوَّرة، زنبقة مُصَوَّرة، سجادة، ستارة حمراء، جثة - وفى كل حالة، مهما كانت النهاية، ستكون البداية (إنْ كان التصوير حيًّا) صدمة حسية.
والواقع أن الصلة الوثيقة (السطح المشترك) بين التصوير والرغبة الجسدية، والتى ينبغى أن نخلِّصها من الكنائس والمتاحف، المعاهد والمحاكم، لا علاقة لها بالنسيج التنكُّرى الخاص للتصوير الزيتى، كما أناقشه فى كتابى: طُرُق الرؤية Ways of Seeing. وتبدأ الصلة بفعل التصوير، وليس بالأداة. كما أن السطح المشترك يمكن أن يوجد فى التصوير الجدارى أو الألوان المائية. إن ما يهمّ ليس الطابع الملموس المخادع للأجساد المصوَّرة، بل إشاراتها البصرية التى لها كل ذلك التواطؤ الصاعق مع الإشارات البصرية للأجساد الحقيقية.
وربما كان بوسعنا الآن أن نفهم أفضل إلى حد ما ماذا فعل پيكاسو خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته، ماذا كان مدفوعا إلى أن يفعل، وماذا - كما ربما نكون توقعنا منه - لم يفعل أحد على الإطلاق من قبل.
كان آخذا فى الشيخوخة، وكان متكبرا كما كان فى أىّ وقت مضى، وأحب النساء بقدر ما أحبهن فى أىّ وقت مضى، وواجه سخف عجزه الجنسى النسبى. وصار ألمه وهاجسه نكتة من أقدم النكات فى العالم - وكذلك تحدّيًا لكبريائه البالغة. فى الوقت ذاته كان يعيش فى عزلة غير عادية عن العالم: عزلة - وكما أوضحتُ فى كتابى - لم يكن اختارها بنفسه على الإطلاق، بل كانت النتيجة المنطقية لشهرته الهائلة. ولم تقدِّم إليه وحشة هذه العزلة أية راحة من هاجسه؛ بل دفعته على العكس من ذلك بعيدًا أكثر فأكثر عن أىّ اهتمام أو همّ بديل. كان محكوما باستحواذ هدف واحد عليه بصورة لا فكاك منها، وبنوع من الهوس، اتخذ شكل مونولوج. وهو مونولوج موجه إلى ممارسة التصوير، وإلى كافة مصوِّرى الماضى الموتى الذين أعجب بهم أو أحبهم أو كان يغار منهم. وكان المونولوج عن الجنس. وقد تغيرت صيغته من عمل إلى عمل لكنْ ليس موضوعه.
ولوحات رمبرانت الأخيرة - ولا سيما پورتريهاته لنفسه - مشهورة باستجوابها لكل شيء كان الفنان فعله أو رسمه من قبل. ويبدو كل شيء فى ضوء جديد. و تيتسيانو، الذى عاش فبلغ من الكبر ما بلغه پيكاسو تقريبا، رسم فى أواخر حياته "سلخ مارسياس" و"المنتحبة فى ڤينيسيا": وهما لوحتان أخيرتان رائعتان ينقلب فيها الصبغ، كاللحم، باردا. وفيما يتعلق ﺑ رمبرانت و تيتسيانو نجد التباين بين أعمالهما المتأخرة وإنتاجهما المبكر ملحوظا تماما. ومع ذلك هناك أيضا استمرارٌ من الصعب تحديد أساسه بإيجاز. استمرارٌ فى اللغة التصويرية، والمرجع الثقافى، والدين، ودور الفن فى الحياة الاجتماعية. وهذا الاستمرار نجح - إلى درجة ما فى تخفيف وترويض اليأس لدى المصوّريْن العجوزيْن؛ وصار الأسى الذى أحسّا به حكمة حزينة أو توسُّلا.
لم يحدث هذا مع پيكاسو ربما لأنه، لأسباب عديدة، لم يكن هناك استمرار من هذا القبيل. وقد قام هو ذاته بالكثير لتحطيمه فى الفن. ليس لأنه كان محطم أوثان ولا لأنه كان نافد الصبر مع الماضى، بل لأنه كره أنصاف الحقائق المتوارثة لدى الطبقات المثقفة. كان يحطم باسم الحقيقة. لكن ما حطمه لم يجد الوقت قبل موته ليندمج من جديد فى التراث. وكان نسخه، خلال الفترة الأخيرة، للأساتذة القدامى مثل بيلاثكيث أو پوسّان أو ديلاكروا، محاولة للحصول على صحبة، لإعادة إقامة استمرار محطَّم. وقد سمحوا له بالانضمام إليهم. غير أنه لم يكن بوسعهم أن ينضموا إليه. وهكذا كان وحيدا - كما هو حال المسنِّين دائما. لكنه كان وحيدا تماما لأنه كان مقطوع الصلة بالعالم المعاصر كشخص تاريخى، وبتراث تصويرى مستمر كمصوِّر لا شيء ردّ على حديثه، ولا شيء كبحه، وهكذا استحال هاجسه إلى جنون: نقيض الحكمة.
جنون رجل عجوز بجمال ما لم يعد يمكنه أن يفعل. مهزلة. سُعار. وكيف يعبر الجنون عن نفسه؟ (لو لم يكن قادرا على الرسم أو التصوير كل يوم لأصابه الجنون أو مات - كان بحاجة إلى إيماءة المصوِّر ليثبت لنفسه أنه كان لا يزال إنسانا يحيا). ويعبِّر الجنون عن نفسه بالعودة مباشرة إلى الصلة الملغزة بين اللون واللحم والرموز التى يشتركان فيها. إنه جنون الألوان كمنطقة إثارة جنسية لا حدود لها. غير أن الرموز المشتركة، بدلا من أن تدل على الرغبة المتبادلة، تعرض الآن الآلية الجنسية. بفجاجة. بغضب. بتجديف. هذا هو التصوير وهو يسبّ قدرته هو وأمّه هو. التصوير وهو يُهين ما سبق أن مجّده وقدّسه ذات يوم. ولم يتصور أحد من قبل كيف يمكن للتصوير أن يكون فاحشا فيما يخص أصله، باعتبار هذا متميزا عن الرسم التوضيحى للفواحش. واكتشف پيكاسو كيف يمكنه أن يكون كذلك.
ومن يتحدث عن الحسية - حيث يتعلق الأمر بالجسد البشرى والخيال البشرى - إنما يتحدث أيضا عن الجنس. وإنما هنا تبدأ ممارسة التصوير فى أن تغدو أكثر إلغازا.
ويلعب ما هو بصرىّ دورا هاما فى الحياة الجنسية للعديد من الحيوانات والحشرات. فاللون والمظهر والإيماءة البصرية تنبه وتجذب الجنس الآخر. بل يُعَدّ الدور البصرى أكثر أهمية فيما يتعلق بالبشر، لأن الإشارات لا تخاطب انعكاسات وحسب بل الخيال أيضا. (وقد يلعب ما هو بصرى دورا أكثر أهمية فى الجنس لدى الرجال أكثر من النساء، غير أن من الصعب تقييم هذا بسبب اتساع نطاق تقاليد التمييز على أساس الجنس فى صناعة الإدراك الشعبى الحديثة).
والثدى، والحلمة، والعظم العانى، والبطن، بُؤَر بصرية طبيعية للرغبة، كما أن تلوينها الطبيعى يعزّز قوة جاذبيتها. وإذا كان هذا لا يقال ببساطة كافية فى كثير من الأحيان - إذا كان متروكا لمجال الرسوم العفوية على الجدران العامة - فهذا يرجع إلى وزن إضفاء الطابع الأخلاقى الپيوريتانى. والحقيقة أننا جميعا مولودون هكذا. وقد أكدت ثقافات أخرى فى عصور أخرى على جاذبية ومركزية هذه المناطق باستخدام مستحضرات التجميل. مستحضرات التجميل التى تضيف المزيد من اللون على التلوين الطبيعى للجسد.
وعندما نفترض أن التصوير هو الفن الملائم للجسد، ونفترض أن الجسد، ليؤدى وظيفته الأساسية المتمثلة فى التناسل، يستخدم إشارات ومنبهات بصرية للجاذبية الجنسية، نبدأ فى إدراك لماذا لا يكون التصوير أبدا بعيدا جدا عما هو مثير جنسيا. فكّرْ فى تينيوريتّو مصوّر المرأة التى تكشف عن ثديها (متحف برادو). هذه الصورة لامرأة تكشف عن ثديها بحيث يمكن رؤيته هى فى الوقت ذاته تمثيل لهبة التصوير، لموهبة التصوير. وعلى المستوى الأشد بساطة، يُعَدّ التصوير (بكل فنه) محاكاة للطبيعة (بكل دهائها) فى جذب الانتباه إلى حلمة وإلى الهالة التى تحيط بها. ويُستخدم نوعان مختلفان تماما من "التلوين" لنفس الهدف.
لكنْ تماما كما أن الحلمة ليست سوى جزء من الجسد، فإن كشفها ليس سوى جزء من التصوير، فالتصوير يشمل أيضا السيماء البعيدة لوجه المرأة، والإيماءة القريبة جدا ليديها، وثيابها الشفافة، ولآلئها، وتسريحة شعرها، وشعرها المحلول على قفا عنقها، والجدار أو الستار الملوّن بلون اللحم خلفها، و- فى كل موضع - اللعب بين الأخضر والوردى والذى يحبه البندقيون للغاية. بكل هذه العناصر، تغرينا المرأة المصوَّرة بالوسائل المرئية للمرأة الحية. والمرأتان كلتاهما متواطئتان فى نفس المعابثة البصرية. وقد سُمِّىَ تينيوريتو بهذا الاسم [ومعناه بالإيطالية: الصبّاغ - المترجم] لأن أباه كان صبّاغ ثياب. ورغم انصرافه عند مرحلة بعينها عن هذه الحرفة، كان الابن، داخل نطاق عالم الفن بالتالى، ومثل كل مصوّر، "ملوِّنا" للأجساد، للجلد، للأطراف.
فلنتصوَّرْ أننا نضع إلى جانب لوحة تينتوريتو لوحة چيورچيونى لامرأة عجوز (أكاديميا، البندقية)، وهى مصوّرة قبل الأخرى بقرابة نصف قرن. وتثبت اللوحتان معا أن العلاقة الوثيقة والفريدة القائمة بين اللون واللحم لا تعنى بالضرورة الإثارة الجنسية. على العكس، يتمثل موضوع چيورچيونى فى فقدان القدرة على الإثارة. وربما لم يكنْ بوسع أية كلمات على الإطلاق أن تسجل مثلما يفعل هذا التصوير حُزن لحم المرأة العجوز التى تقوم يدها اليمنى بإيماءة مماثلة لكنْ مختلفة للغاية. لماذا؟ ألِأَنَّ اللون تحول إلى ذلك اللحم؟ هذا صحيح تقريبا لكنْ ليس تماما. وبالأحرى فلأن اللون تحوَّل إلى بلاغ عن ذلك اللحم، إلى نُواحٍ عليه.
وأخيرا، دعنا نضيف إلى اللوحتين الأخريين لوحة تيتسيانو باطل الدنيا (پيناكوثيك، ميونيخ) التى تخلّتْ فيها امرأة عن كل مجوهراتها (باستثناء دبلة زواج) وعن كل زينة. على أن "الحلى الرخيصة"، التى نبذتها المرأة باعتبارها باطلا، تنعكس فى المرآة المعتمة التى ترفعها. لكنْ، حتى هنا، فى هذا السياق الأقل ملاءمة، يصرخ رأسها وكتفاها فى اللوحة بالرغبة. واللون هو الصرخة.
ذلك هو العقد العتيق الملغز بين اللون واللحم. ويسمح هذا العقد للعذراوات العظيمات والأطفال العظام بإتاحة سلام وسرور حسيّيْن عميقيْن، تماما كما يضفى على المنتحبات العظيمات الوطأة الكاملة لحدادهن - الوطأة المفزعة للرغبة اليائسة فى أن يعيش اللحم من جديد. إن الألوان تنتمى إلى الجسد. ومادة الألوان لها شحنة جنسية. وعندما يصور مانيه لوحة الغداء أثناء نزهة (هذه الصورة التى نسخها پيكاسو مرارا خلال فترته الأخيرة) فإن الشحوب الفاضح للألوان لا يحاكى فحسب، بل يصير العرى الفاضح للنساء على العشب. وما تعرضه اللوحة هو الجسد معروضا.
فما الحكم بشأن هذه الأعمال الأخيرة؟ لا ينبغى أن نتعجل فى الحكم. والحقيقة أن أولئك الذين يزعمون أن هذه الأعمال تمثل ذروة فن پيكاسو سخفاء مثلما كان دائما صُنّاع الأساطير من حوله. أما أولئك الذين ينبذون هذه الأعمال باعتبارها التبجُّحات الجوفاء المتكررة لرجل عجوز فإنهم لا يفهون شيئا عن أىٍّ من الحب أو المأزق البشرى.
والإسپان مشهورون بأنهم فخورون بالطريقة التى يمكنهم أن يُقْسموا بها. وهم معجبون ببراعة أَيْمانهم ويعلمون أن القَسَم يمكن أن يكون من سمات النبل وحتى دليلا عليه.
ولم يُقْسم أحد بالألوان من قبل فى يوم من الأيام.
3
الرجل الذى رسم السعادة
(حول لوحات رينوار الزيتية)
بقلم: لونا تشارسكى
1
منذ وقت غير بعيد سنحت لى فرصة أن أقضى أيامًا معدودة فى پاريس. وقد تصادف أن توافقت زيارتى مع معرض تصوير لواحد من أعظم - وربمّا أعظم - التأثيريّين الفرنسيين، رينوار Renoir.
عاش رينوار حياة مديدة. وعندما كان يقترب من السبعين من عمره بدأ يعانى من روماتيزم مفزع فى يديه، اللتين تحولتا تدريجيًّا إلى شيء أشبه بخطافين أو بمخلبين من مخالب الطيور.
وسوف يجلس الفنان الشهير، كل يوم، إلى آخر يوم فى حياته تقريبًا، أمام حامل قماشة لوحاته، ويجعل نفسه فى وضع يتيح له أن يستعمل يده اليسرى لتوجيه يده اليمنى، ويقول:
«إيه... لا، لا ينبغى أن ندع يومًا واحدًا يمرّ بلا عمل!».
وسأله زائر معجب به ذات مرة: «لماذا تُصرّ إلى هذا الحدّ؟».
أجاب رينوار، المستغرق تمامًا فى لوحاته الزيتية القماشية:
«لكنْ ليس هناك مُتعة أكبر!» وأضاف:
«ثم إنه واجب، بطريقة مّا».
وعند هذه النقطة تطلَّع الفنان المبدع، الذى كان قد بلغ الرابعة والثمانين من عمره، إلى سائله، بابتسامة، وواصل حديثه:
«وإذا كان المرء بلا مُتَع ولا واجبات فما الخير فى أن يظلّ على قيد الحياة إذن؟».
وليس فى نيتنا، بطبيعة الحال، أن نقدّم هنا قائمة بكافة روائع رينوار أو أن نقوم بتحليل الدور الذى لعبتْه مدرسته فى تاريخ الفن، أو الدور الذى لعبه هو - فى مدرسته. فهناك مسألة أخرى تستحق اهتمامنا هنا: عن أىّ شيء على وجه التحديد كان رينوار يبحث فى فنه وماذا كان يحاول أن يحقق؟
غير أننا ينبغى أن نتوقّف قليلًا هنا. فمنذ وقت غير بعيد، نُشرت الرسائل ذات الأهمية البالغة لعبقرية فرنسيّة أخرى، نيكولا پوسّان Nicolas Poussin زعيم المدرسة الكلاسيكية فى التصوير فى القرن السابع عشر.
وكما هو متوقِّع من فنان عظيم يسيطر العقل على فنه، لم يكن پوسّان ذاته رجلًا صاحب عقل جبار فحسب، بل كان يشاطر عصره اقتناعه العام بأن العقل هو العامل الأساسى فى الحياة الثقافية.
يؤكد پوسّان أن: «التصوير، بالنسبة للفنان، تمرين متواصل على ‘الرؤية’ لكى يعلّم الآخرين بعد ذلك أن يروا العالم على نحو صحيح بمساعدة رسومه وصوره».
ويضيف پوسّان بسرعة: «غير أنه سيكون من الخطأ تمامًا أن نفكرّ فى "الرؤية" تفكيرنا فى عمل يخصّ العيون وحدها إنها ليست مجرد مسألة تخصّ تمييز الألوان، وبالتالى: الخطوط الخارجية للأشياء، أو تخصّ التنسيق البارع للمسافات، أو تخصّ - بوجه عام - إنتاج نسخة أخرى من الطبيعة بأقصى قدر ممكن من الدقَّة. "أن يرى المرء" ينبغى أن يعنى أن يستوعب موضوعًا بعينه أو نسقًا من الموضوعات فى عالمه الداخلى الخاصّ به، كشيء طيب أو رديئ كشيء سامٍ يكون كما ينبغى له أن يكون، أو، على العكس من ذلك، كشيء غير كامل يجاهد فى سبيل مزيد من الكمال، وهكذا، إلخ. والواقع أن الكائنات الحية، والناس بصفة خاصة يكشفون طابعهم العام وحقيقة مشاعرهم فى تلك اللحظة المحدّدة عندما تراهم. غير أنه، بالنسبة "للرائى" الحقيقى، يمكن حتى للمبانى أو لنسق من الماء والنبات، أن تعبّر عن قيم متمايزة: نظام سام، بساطة بالغة، رقة، وهكذا، إلخ.».
وقد توصل علم النفس الحديث، منذ وقت طويل، إلى صياغة للدلالة على «الرؤية السطحية» و«الرؤية العميقة». فهو يسمى الأولى «الإدراك الحسى» Perception، مجرد ملاحظة شيء ما، ويسمى الأخر «التصور» Apperception، وهو تعبير تقدم له اللغة الروسية بدائل رائعة عديدة، سيتضح للقارئ جمالها إذا فكر فيها قليلًا: تعابير مثل الفهم، الاستيعاب، امتلاك ناصية الموضوع، وهكذا، إلخ.
وتعنى كافة هذه التعابير أن موضوعا بعينه أو نسقًا من الموضوعات، قد أصبح مستوعَبًا، عن طريق جهد محدّد معقَّد، ليصير جزءًا من فلسفة الحياة لدى الفنان.
فإذا ظهرت عناصر بعينها من العالم الخارجى لاحظها فنان حقيقى، فى عمله، فهذا يعنى إذن أنه قد استوعبها؛ وهى تبدو، فى الصورة أو القصة، كجزء من «العالم» الخاص للمبدع.
وهناك ثلاثة عناصر جوهرية إذا كان لعمليّة التصوّر هذه أن تتم: الذات، «وعالمه»، أىْ العامل المحدد المتمثل فى كل ما يساعد فى تكوين فلسفته الخاصة من شعور إزاء العالم وفَهْم له، والموضوع القائم بصورة مستقلة قبل عملية الاستيعاب. وهكذا نجد أمامنا مثالًا واضحًا بجلاء لمبدأ تقرير المصير الطبقى فى العمل لدى الفنان، ذلك أن التصورّ ليس، فى التحليل الأخير، سوى استيعاب موضوع مّا من جانب طبقة أو مجموعة اجتماعية عبْر وساطة الفنان.
والآن وقد ساعدنا پوسّان البسيط للغاية، والبارع فى الوقت ذاته، فى التوصّل إلى الإجابة عن سؤالنا العام، لنحاولْ التوصّل إلى إجابة رينوار الخاصّة عن هذا السؤال: عمّ أبحث - لنفسى - وللآخرين - فى التصوير؟
2
بعد الثورة البرچوازية الكبرى فى فرنسا، كانت البرچوازية العليا والوسطى، هى التى أصبحت الطبقة الحاكمة. ورغم أن البرچوازية الصغيرة لعبت دورًا نشيطًا للغاية خلال الثورة فقد تم دفعها إلى الوراء.
والواقع أن الشريحة الحاكمة من البرچوازية والتى جعلت من نفسها نصيرًا لمبدأ «الوسط الذهبى» The golden mean، قد ناصرت هذا المبدأ فى الفنّ أيضًا. وكان فنُّهم أكاديميًّا، يستمدّ موضوعاته من الفن القديم تارة، ومن واقعيّة عصر النهضة تارة أخرى. وكان، على وجه الإجمال، فنًّا أصيلًا حىّ الضمير، بل كان عظيمًا فى بعض الأحيان (آنجر Angres)، غير أنه كان ساكنًا بصورة عميقة ومحافظًا بصورة عميقة.
وقد عارضت البرچوازية الصغيرة، كما هو الحال فى بقية مجالات الفن، هذه السكونية بمبدأ الرومانتيكية بقيادة ممثلين بارزين عديدين لهذه المدرسة، كان أعظمهم ديلاكروا Delacroix.
وقد تميز كامل أسلوب الرومانتيكيِّين، وبصفة خاصة استخدامهم للّون، بالتوتّر والتألّق، وكان يميل، بحكم حدّته ذاتها، إلى التناقض الصارخ مع الواقع أكثر من التعلّم منه ومن الناحية الأيديولوجية، نادرًا ما ذهب الرومانتيكيّون إلى ما هو أبعد من معارضة مختلف نواحى الغرابة، صوب ما هو دنيوى.
وفى غضون ذلك، سارت الرأسمالية إلى الأمام بخطى راسخة. ورفعت بثبات شأن العلم فى الحياة اليوميّة. وخلقت مجموعة اجتماعية واسعة تشمل حاملى المعرفة العلمية - الإنتلچنسيا التقنيّة. وقد اعتبرت هذه الإنتلچنسيا التقنيّة نفسها، إلى حدّ مّا، دائرة من المتدرّبين لدى البرچوازية، وكما يحدث دائمًا فى مثل هذه الحالات، تفتِّتَتْ إلى مجموعات تتراوح بين الخاضعين خضوعًا ذليلًا، والساخطين، والمستائين بصراحة، رغم أن هؤلاء الأخيرين لم يكن بوسعهم أن يتصوّروا أية طريقة لتخليص أنفسهم من «مُقَرِّرى مهامهم».
وقد وجدت كافة هذه الأمزجة تعبيرًا عنها فى الفن الواقعى بوجه عام، بما فى ذلك الرسم، الذى كان أعظم ممثليه كوربيه Courbet «الكوميونى [أىْ عضو كوميونة پاريس 1871 – المترجم] غير الحزبى».
وهنا نقف بعرضنا العام السريع لتطوُّر الفن البرچوازى الصغير فى القرن التاسع عشر فى فرنسا عند اللحظة التى تهمنا بصفة خاصة، اللحظة التى تتعلّق ﺑ رينوار.
لقد اكتسب تعبير «الواقعية» realism ذاته تفسيرًا مزدوجًا.
وكان التعريف الأول: «الواقع كموضوع ألاحظه».
وهذا التعريف سليم، مادىّ؛ غير أن مَنْ يُسمَّوْن بالفنانين الواقعيِّين فى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر (بما فيهم كوربيه) كان لهم فَهْمُهم التقليدى لهذا الواقع. لقد نظروا إليه كما اعتادوا أن ينظروا إليه منذ وقت طويل، وصوروه كما اعتادوا أن يصوروه، بحيث كانت النتيجة نوعًا من «الواقعية الساذجة» التى تقوم على أساس تقاليد المرسم.
وقد بدأ الفنانون - تحت تأثير الأعداد المتعاظمة من الإنتلچنسيا التقنية فى إدخال عناصر من «التجربة العلمية» فى أساليب ملاحظتهم وبدأ التعريف الثانى يتخذ مكان الصدارة: «الواقع هو ثمرة ملاحظتى».
وهذا التعريف - الذى لم يعد ماديًّا هذه المرة، بل صار وضعيًّا - لم يكن بالإمكان التوفيق بينه وبين الماديّة إلا بإعطائه التفسير التالى: التصوير الصادق، الصحيح اجتماعيًّا، للواقع (مثل ذلك الذى كان پوسّان يبحث عنه، كما رأينا فى القرن السابع عشر) هو ثمرة الملاحظة اليقظة الواعية للواقع.
غير أن الإنتلچنسيا الفرنسية فى أواخر القرن التاسع عشر - فى شخص قادة طليعتها الفنية (مانيهManet و مونيه Monet) لم تكن مَعْنيَّة بصفة خاصة سواء بالواقع المادِّىّ أو بإمكانية تنظيم القوى الاجتماعية من خلال صورها. وقد اعتبر هؤلاء الفنانون أنفسهم أبناء العلم الذين تمثّلت رسالتهم فى تحرير الفن من طغيان المرسم، الأبناء الذين رغبوا فى أن يعرضوا الأشياء كما رأوها على وجه التحديد: فى الهواء الطلق، بالأضواء المتباينة، وهكذا وإلخ. وهذا هو السبب فى أن حركتهم سُمَّيت بذلك الاسم ذى الصدى الذاتى، «التأثيرية».
وهكذا نصل الآن، مرة أخرى، إلى رينوار. كان رينوار تأثيريًّا. وهو يدين للتأثيرية بالشيء الكثير. لقد دفعتْه إلى خارج المرسم المظلم. وفتحت التأثيرية عينيه على الجمال المباشر والرائع والحسى للشمس. وعلَّمَتْه كلّ غنى اللون المختفى فيما بدا من قبل مجرّد ظلال بُنيّة ورمادية. وكشفت لعينه الموهوبة والحسّاسة كل ذبذبات الضوء واللون على سُطوح الأشياء وفى المكان الماثل بينها. ومنحته إمكانية أن يُعْجَب، وأن يساعد الآخرين على أن يُعْجَبُوا، بالحركة الغنية، السخية، الساحرة، البهيجة، للألوان.
والواقع أن رينوار التأثيرى كان، فى المقام الأول، فنانا متيَّمًا بالوفرة الهائلة لدرجات اللون، والضوء، التى يعمل عالم الأشياء كمجرّد سقالات لها، إن جاز القول.
لم يكن لعالم الأشياء ذاته إلا أهمية أقلّ بالنسبة لفناننا. وبدا أن مكان، وبنية، وجمال، ونقاء الخط، وبالإضافة إلى هذه الأشياء المعنى الكامن وراء ما كان يجرى فى الزمان والمكان، قد سقطت جميعًا من الحساب. هذه الأشياء لم يُنظر إليها على أنها عمل الفنان. كما أن عمل الفنان هو أن يتشرّب بمنتهى السعادة رقص الألوان، وأغانى الضوء، ورفقة الظلّ العميقة.
وبطبيعة الحال، فلم يكن كل هذا مجرّد مشهد متغير الأشكال والألوان: لقد كان عالمًا بأسره. وتعرِض صور رينوار المشاهد الطبيعية، والأزهار، والأطفال، والنساء، ومجموعات صغيرة وكبيرة من الناس. غير أنها جميعًا معروضة كألعاب نارية ذات أناقة رائعة وتنوُّعٍ وافر فى الألوان.
والواقع أن رينوار أعظم من أن تحتويه التأثيرية: إنه واحد من أعظم أساتذة التصوير الإنسانىّ الطابع. والواقع أنه هو ذاته لم ينفر من تأكيد هذا ولم يكن من قبيل الصدفة أنه كان يجب أن يُذكر اسمه فى نفس واحد مع الاسم العظيم المزهو تيتسيانو فيتشيليو دى كاردونا (تيتيان) Tiziano Vicellio di Cardona، أحد عمالقة عصر النهضة.
ولا يتسع المجال هنا للدخول فى مقارنة معمّقة بين رينوار و تيتيان. وينبغى أن نقول على الفور أنهما من حجميْن مختلفيْن. وذات مرة قال جوته Geothe فى سياقٍ مشابه: «إن وضع معاصرين أصغر منى سنًّا فى مجال الدراما (وكان يعنى تيك Tieck، و كلايست Kleist) على قدم المساواة معى أمر سخيف سُخْفَ وضعى أنا على قدم المساواة مع شكسبير». غير أن هناك شيئًا مشتركًا بين جانب واحد بالغ الأهمية من فنّ تيتيان فوق البشرى تقريبًا وفنّ رينوار المشعّ، الدافئ، الملاطف.
وكما نعرف جميعًا، أجرى كلود مونيه Claude Monet دراسات لا تحصى ولا تُعَدّ عن موضوع واحد محدّد، كومة قش على سبيل المثال، متناولًا إياها فى الصباح، فى الظهيرة، فى المساء، فى ضوء القمر، تحت المطر، إلخ. وسيكون من المشروع تمامًا أن نفترض أن هذه التمارين ياپانية الطراز والتى أجراها مونيه سوف تنتج نوعًا من الكاتالوج العلمى بالألوان عن موضوع كومة القشّ الشهيرة. وكان ما أنتجته فى الواقع قصائد قصيرة. فكومة القش تسمق بكبرياء ملوكيّة، وتغوص فى أحلام عاطفيّة، وتنقبض كآبة، وهكذا وإلخ.
وفى هذه الفترة بدأ الألمان - ضمن محاولاتهم لوصف الأعداد المتزايدة دومًا من المناظر الطبيعية التأثيرية - يبدون ولعًا خاصًّا بتعبير. Stimmungs Landschaft، أىْ، «منظر المزاج النفسى».
لكنْ ما هو «المزاج» على وجه الدقّة؟ إنه تلك الموسيقى السيكولوچية التى يبدو أنها تأتى مندفعة من المنظر الطبيعى، لكنْ التى وضعها فيه الفنان ذاته فى واقع الأمر من فيض غنائيته الخاصة، وتجربته الخاصة.
وهنا ينتقل رسام المناظر الطبيعية بُيْسر، بطبيعة الحال، إلى دور الشاعر.
كان رينوار فنانًا ذا قوة هائلة. ولم يكن هناك من يضارعه، فى الرسم، إلَّا قليلون طوال حياته. والواقع أن حدّة رؤيته، وغنى وأناقة پورتريهاته، والحيوية التى لا تستنفد فى العيون والشفاه والوجوه فى صوره، وذوقه الجيّد الذى لا يخطئ، ورشاقة لمساته - كل هذه الأشياء تضعه حقًّا فى الصفّ الأول بين فنانى القرن الماضى. غير أن قدرته هذه على التصوير الحى لمزاج نفسى هى - على وجه التحديد - ما يجعلنا نشعر به وهو فى حالته الأكثر أهمية، والأكثر سحرًا.
والواقع أن أفضل التأثيريين، كما سبق أن أشرت، لم يكونوا ممثلى الشريحة الحاكمة من البرچوازية. وكان أغلبهم يشعرون بنفور حادّ إزاء هذه البرچوازية: كانوا يمقتون ويحتقرون أذواقها والفنانين الذين يعملون قوّادين لديها.
وقد تشكلت موهبتهم وأسلوبهم فى الرسم فى فترة كانوا يعيشون فيها فى السطوح، ويتجادلون مثل الممسوسين فى مطاعمَ ومقاهٍ قذرة صغيرة ويحملون ويعملون بنشاط محموم دون أن يبيعوا شيئا. مات كثيرون وكوفِئَ بعضهم بشهرة أتت بعد وفاتهم. وتغلّب آخرون على المصاعب ليحققوا النجاح والشهرة غير أنهم، فى فنهم، ظلّوا مخلصين للمبادئ التى بلوروها فى شبابهم الجائع.
وكان رينوار واحدًا من هؤلاء الأخيرين. وفى حين أعطى بقية التأثيريين، وبصفة خاصة أولئك الذين كانوا أقرب إليه، «للمزاج» (الشعر، التصوير) أهمية أكبر إلى حدّ بعيد من البراعة الفعلية، تميز رينوار بتماسك استثنائى فى المزاج؛ والواقع أن مزاجه ظلّ دائما كما هو رغم أنه كان فى حد ذاته غنيًّا ومتنوعًا بصورة استثنائية. وكان هذا المزاج هو - السعادة.
وفى وقت من الأوقات، كان بوسع الناس أن يروا شابًّا ينوء أكثر الأحيان بحمل الأدوات الغريبة التى تتطلبها مهنة المصوِّر، وهو يتجوّل فى أنحاء پاريس: يجوب ضواحيها الخضراء الفاتنة، وحول مبانيها وبجانب مسطحاتها المائية، مختلطًا بالجموع من كل نمط يمكن تصوّره من الپاريسيِّين الذين يمكنك أن تلتقى بهم بينما تسير فى الشارع، حتى أكثرهم فقرًا.
وكان الشاب، ذو الشعر الضارب إلى الحمرة، والعينين الواسعتين الرماديتين الضاربتين إلى الزرقة، والجائع قليلًا دائمًا تقريبًا، ورثّ الملابس بكل معنى الكلمة، على مدى أعوام طويلة جدًّا، .. كان هذا الشاب يسير أشبه ما يكون بشخص دُعِىَ لزيارة معرض خيالىّ وكانت الشمس تداعبه بمثل تلك الخدع البصرية غير المتوقعة إلى حدّ أنه كان يسخر منها، تارة بهدوء وتآمر، وتارة أخرى بانتصار، بصوت مرتفع. ولم تكن السماء نفس السماء مطلقا. ومع ذلك فقد كانت - عندما كان يأخذ فى التفكير فيها - جميلة دائمًا، وكان الضياء! - النعمة الأزلية العظيمة التى لا يفى بحقها شُكْر - ينفذ نقيًّا عبْر الأبخرة الغامضة فى الهواء صوْب الأرض، مضيئًا بنوره الكائنات الحية والأشياء التى لا حياة فيها.
وهنا بدأ المهرجان الجديد.
أىّ معرض! أىّ سوق للعجائب! وستعمل عينا رينوار العنيدتان، النافذتان، مثل أصابع ماهرة لتقوما بحلّ العُقَد الضخمة، الساخنة، المتوهّجة، التى يعقدها تدرُّج الضوء Chiarosuro. وحينئذ، يمكنه فجأة وكأنه استحال إلى حجر، أن يقف ويحملق فاغرًا فمه فى فتاة تمرّ. أجل، أجل، لقد أذهله كل شيء فيها - المشية، صدرها المليئ شبابًا، وجهها العطوف، الشبيه بوجه قطة. إنه شاب، قسمًا بالآلهة! ألن يكون من دواعى البهجة أن يجذبها إلى غرفته العُزّابيّة غير المؤثّثة على السطوح؟ غير أن ما كان سيفعله قبل كل شيء هو أن يفتح النافذة ويجلسها بجوارها، ولا بد أنه كان سيعمد حينئذ إلى تصوير كيف نفذ ضوء العالم الكبير إلى عينيها الواسعتين المتألقتين، وكيف تحوّل إلى وَعْد بالسعادة، ولماذا قام وعد السعادة بتوظيف تلكما الشفتين الناعمتين، النديتين، القرمزيّتين، وتلك اللمعة الفضيّة أسفل خدّيْها.
وعندما واصل سيره سابحًا فى أفكاره قال بصوت مرتفع صارخ: «أىّ أضواء بهيجة سأضعها راقصة حول وجهك العطوف الشبيه بوجه قطة» وتصادف - فى تلك اللحظة ذاتها - أن أصاب سيدة سمينة بضربة موجعة فى ركبتها بصندوق رسمه، ولم يكن يعوزها المبرِّر تمامًا عندما صرخت وراءه: «المصوِّرون مخبولون دائمًا!" Les Peintres Sont toujour Fous!.
والواقع أن سعادة العالم لم تستوقف رينوار فى أىّ شيء بمثل تلك الصورة النقية المزهوّة كما استوقفته فى الأطفال. إنه واحد من أعظم مُصَوِّرى - أو شعراء - الطفولة.
ليكنْ ذلك، فهناك الكثير من السعادة يتبدّد فى كل مكان فى الطبيعة. لكنّ الشقاء؟ المظالم؟ وما العمل لمقاومة كلّ هذا؟
غير أن رينوار - يمرّ هنا دون اعتراض! فلا فائدة فى أن نتوقع منه أىّ شيء هنا.
لا، إنه ليس فنانا برچوازيا. غير أنه لم يكن ثوريًّا كذلك. إنه إنسان يملك شهية مفتوحة للسعادة وقد وجدها بوفرة. وهو إنسان منحها للآخرين بوفرة، وبعثرها حوله بسخاء فى صورة مبتكرة خاصة بهيجة لا يمكنها أن تبدو زائفة إلا فى نظر أشدّ الأجلاف جلافة.
وقد صوّر وأبدع تيتيان، أيضًا، فى فنه فوق البشرى تقريبًا، قدرًا هائلًا من السعادة غير أن بمستطاعه أيضًا أن يصوِّر قابيل الرهيب حقًّا يقتل هابيل، وكذلك پورتريهات الرجال والنساء بعيونهم الجارحة، ماكرين وقساة مثل النمور السوداء.
كان رينوار، أيضًا، مبدع عالم بكامله، غير أن عالمه أضيق كثيرًا، فنساؤه كائنات حلوة ودافئة وودودة بصورة رائعة - غير أنه نادرًا ما يكون لديهن، بكل عذوبتهن الساحرة وفتنتهن التى لا تقاوم، أية طموحات إلى الفطنة. ويشتمل عالمه على مجموعة كاملة من الأطفال؛ وهم أطفال لا يُنْسَوْن ومن الجائز أن نجد لديهم الراحة فى لحظات الحزن. وجموعه منطلقة ومبتهجة وسعيدة وأرضه حسناء تبتهج تحت سماء باسمة ولكل ذلك فهو يستحق أعظم الثناء. ولا يجب أن ننسى كم منحنا القدر من أشياء طيبة أو - على أقل تقدير - كيف يمكننا أن نكون سعداء.
فإن كان ذلك ما تطلبه من رينوار - فإنه سيمنحه. وإن كنت تطلب صنعة فنية عظيمة - فإنه سيمنحها. وإن كنت تطلب صفاء الروح لدى إنسان مقدَّس تقريبًا - فإنه سيمنحه.
أليس ذلك كافيا؟
4
أفكار عن سيزان(1)
بقلم: روبرت ڤالزر
لو شاء المرء أمكنه أن يلاحظ افتقارا إلى الجدية؛ غير أن الرسم المحيطىّ(2) هو الشيء الرئيسى، ربما بفضل سنوات طويلة من الاهتمام بالموضوع. والرجل الذى أتحدث عنه حملق - مثلا – فى هذه الفاكهة، التى هى عادية بقدر ما هى لافتة للنظر، لفترة طويلة، فكَّر مليا فى هيئتها، فى القشرة التى تحيط بها بإحكام، فى السكون الغريب لوجودها، فى مظهرها الضاحك المتوهج البهيج. وربما قال لنفسه: "أليس أمرا مأساويّا تقريبا أنه لا يمكنها أن تكون واعية بفائدتها وجمالها؟" وربما ودّ أن يوصِّل إليها ويصبّ فيها وينقل إليها قدرته على التفكير، لأنه كان حزينا عليها بسبب كونها عاجزة عن امتلاك أىّ تصوّر عن ذاتها. وأعتقد أننى مقتنع بأنه كان يرثى لها ثم لنفسه، وبأنه لم يعرف حقا لفترة طويلة لماذا.
حتى مفرش المائدة هذا له روحه المتميز الخاص به، ولهذا رغب فى أن يتخيل، وجاءت كل رغبة تتصل بذلك صادقة، فى الحال. كان موضوعا هناك، باهتا، أبيض، نقيًّا بصورة مُبْهَمة: اقترب منه وجعَّده. مُذْهل كيف ترك نفسه يتم إدراكه، تماما كما رغب الشخص الذى يرسمه. وربما يكون قد تحدث معه: "تعالَ إلى الحياة". وفى الوقت ذاته، لا ينبغى أن ينسى المرء أنه كان لديه الوقت اللازم لإجراء تجارب وتمارين غريبة وفحوص وبحوث مازحة. وكان محظوظا بأن تكون لديه زوجة يمكنه أن يعهد إليها، دون أدنى قلق، بالشئون اليومية وتدبير البيت إلخ. ويبدو أنه كان يعاملها كزهرة ضخمة وجميلة لم تفتح قط كأسها، شفتيها، لتنبس بأقلّ شكوى. أوه.. كانت هذه الزهرة تكتم فى نفسها كل شيء يضايقها منه، وكانت – كما أقول لنفسى – معجزة من معجزات سهولة الانقياد، وكان تسامحها مع تصرُّفات وتدقيقات زوجها أثناء العمل تسامُحَ ملاك. وكان هذا الأخير يبدو لها وكأنه قصر سحرىّ، استحسنتْه وقد تركت وشأنها، ولم تخترقه قط بأدنى تفسير، ولم تفكِّر فيه إلا قليلا، رغم أنها كانت تحترمه أيضا. وكان بوسعها أن تقول لنفسها: هذه الأمور ليست من شأنى. لا شك فى ذلك لأنها لم تصطدم قط بمجرد "مصاعب التلمذة" لدى قرينها، فهكذا تبدو لها جهوده فى أغلب الأحيان، فهى تتسم بالإنسانية، أو لِنَقُلْ بالذوق. وكان يقضى الساعات والأيام بلا انقطاع باحثا عن وسائل لكىْ يجعل ما هو جلىّ واضح غير قابل للفهم، ولكىْ يكتشف للأشياء التى تُفْهَم بسهولة أساسا غير قابل للتفسير. ومع مضىّ الوقت، استقرت فى عينيه يقظة مبهمة من كل ذلك التطويق الدقيق للخطوط المحيطية التى صارت بالنسبة له حوافَّ أحجية ملغزة. وقد مضى عمرا منعزلا بطوله مناضلا، دون جمهور يستمع، وقد يُغْرِى المرء أن يقول، وبكلّ نُبْل، ليجعل إطار الأشياء جبليا ضخما، إنْ كان لمثل هذه الصياغة التوضيحية أن يكفى.
وجوهر فكرتى أن منطقة مّا، على سبيل المثال، تصبح أضخم وأغنى فى محيط من الجبال.
ومن الجلى أن زوجته حاولت كثيرا أن تقنعه بأنه يجب أن يتخلص من عناء هذا النضال السخيف فى جانبه الأكبر، وبأنه يجب أن يسافر إلى مكان مّا، وبألا يكون مستغرقا بذلك العمق طول الوقت فى مثل ذلك العمق الشاقّ، الفردىّ والرتيب.
أجاب قائلا: "موافق! هل لى أن أطلب منك أن تقومى بما يلزم من حزم الأمتعة؟".
قامت بذلك، لكنه لم يسافر، بل بقى حيث كان، أىْ أنه سافر وأخذ ينسُل من جديد فى دوائر حول حدود الأجسام التى كان يصوِّرها، الأجسام التى كان يعيد بناءها، ومن الحقيبة أو السلة أخرجت زوجته مرة أخرى، بنفس الهدوء، مستغرقة إلى حدّ مّا، كلَّ شيء حزمته من قبل بأقصى عناية، واستمرت نفس الحياة القديمة كما كان الأمر من قبل، الحياة القديمة التى جدَّدها هذا الحالم لنفسه مرة بعد أخرى.
إشارتان للمترجم:
1: پول سيزان Paul Cézanne (1839-1906) مصوِّر فرنسى يُعَدّ واحدا من روّاد الفن الحديث.
2: الرسم المحيطى: طريقة فى الرسم تبرز فيها الخطوط المحيطية من غير تظليل.
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟