أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - أساطير البحر - برنار كلاڤيل















المزيد.....



أساطير البحر - برنار كلاڤيل


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3722 - 2012 / 5 / 9 - 09:31
المحور: الادب والفن
    


برنار كلاڤيل

أساطير البحر

ترجمة: خليل كلفت

هذه ترجمة كتاب:

Bernard Clavel: Légendes de la mer

الصادر عن: Librairie Hachette, Dépôt: mai 1997

سلسلة: Livre de Poche; Hachette Jeunesse

إهداء المؤلف


Pour Geneviève
لـ چينيڤييڤ


المحتويات

- مقدمة................................................................ 5
- الابن السابع لصياد السمك البريتونى (فرنسا).......................... 7
- كنز جزيرة فردينانديا (صقلية)....................................... 11
- ابنة جنى الأمواج (الجزائر).......................................... 14
- ساحرات پنييسكولا (إسپانيا).......................................... 17
- ثلاث ربطات من الخشب (النرويج)................................... 20
- عجول البحر (فنلندا).................................................. 24
- رحلة الملك سوران (الأرخبيل الهندى)................................ 27
- سمك قرش تا‘أروا (تاهيتى)......................................... 30
- صياد السمك الدائم الشباب (الياپان).................................... 33
- جلاوكوس وسيلا (اليونان)............................................ 36
- ملكة بحر البلطيق (ليتوانيا)........................................... 39
- سرّ المدّ والجزر (الجزر الأنجلو نورماندية)........................... 42
- جنى جبل تان ڤيين (ڤييتنام).......................................... 45
- صياد ورق الشجر (ألبانيا).......................................... 48
- الشحاذ الجميل وروح اللآلئ (ألمانيا)................................ 51
- ناس قاع البحار (البرازيل).......................................... 55
- بجع البحر (آيرلندا).................................................. 58
- مدينة تحت الماء (هولندا)............................................ 61
- شيخ البحر (سيبيريا)................................................. 64














مقدمة

عندما قررت افتتاح هذه السلسة من الحكايات والأساطير بمجموعة مخصصة للأنهار والبحيرات فإنه لا شك فى أننى كنت بحاجة، فى سبيل أن ألمس شاطئ العجائب الخارقة، إلى أن أتمسك بحقائق طفولتى. ومنطقة جبال چورا Le Jura هى بلاد السيول، والمستنقعات، والبحيرات، وقد أشبعت، بالبدء من هناك، الحاجة التى بقيت بداخلى بأن أتعلق كليا بما يشكل أساس ثقافتى.
ولكن يبقى أننى، على هذه الأرض التى تقع بعيدا جدا عن البحار، عرفت أيضا الحلم وأنه فى هذا الحلم كان للبحر مكانه. وفى تلك الاوقات حيث لم تكن الذاكرة المنتعشة قد تقدمت بعد نحو القطع الأدبية والكتابة، كنت أقضى ساعات طويلة فى تخيل المحيطات التى لم يرها أحد مطلقا. وبعيدا عن البحر، خلال أعوام، حلمت بأمواج، بمدّ البحر وجزره، وبأشرعة، وبرحلات بحرية إلى جُزُر شبيهة برحلة الجمعة الحزينة. وكانت شجرة بلوط عجوز مقطوعة الفروع، فى أسفلها مياه سوداء آسنة فى حوض كبير فى غابة، هى بالتناوب غواصتى وسفينتى ذات الصوارى الثلاثة. ومن السطح الأعلى لسفينتى كنت أشرف على الحديقة التى كانت الرياح فيها تدفع أمواج أوراق الشجر. وفيما كان يتقاذفه هذا الخليط المشوش من الأمواج الصاخبة، ويستحوذ عليه مدّ الفاصوليا المدفوعة بالمجداف، كان أبى ـ دافعا عربته الصغيرة ـ صياد سمك آيسلندى يقاوم عناصر الطبيعة الجامحة على ظهر مركب مثير للسخرية.
بعد ذلك بكثير، عندما اكتشفت البحر، قطع أنفاسى. كان أسطع وأضخم أيضا من عالم الأحلام، حتى إذا كان لا يعرض على الأنظار كل عناصر الدرما. واليوم كلما لقيته جذبنى وأخافنى. ومع أنه مُغو للغاية فإنه لا يظل أقل خطرا فى نظرى، وإذا لم تكن الأساطير قد دفعتنى إلى هناك وهى تطمئننى على دعمها فإننى لم أكن لأجرؤ مطلقا بالطبع على أن أخصص له سطرا.
غير أن أسرار المحيطات تتحول عندما يكون أبطال الأساطير هم الذين يأخذونك من يدك لخدمتك كدليل.
وبالتالى فإننى عندما أقترب مرة أخرى من الأطفال فإنما مع طفولتى نفسها أرتبط من جديد. لقد دفعنى عطشى للحلم ورغبتى فى الهرب نحو عرض البحر حيث ينفتح عالم خفىّ من القاع العميق. وتهب رياح المغامرة فى اتجاه الشواطئ من أجل أولئك الذين يقيمون فى البر، وأحلام اليقظة المبتهجة، مثل باخرة، هى الزورق الصغير الذى نركبه.
وربما، عندما نكتشف عالم المياه هذا، يكون من الجدير بنا أن نتذكر أنه الوسط الأكثر اكتظاظا بالحياة ولكن أيضا تعرضا للأخطار. فالعلماء هم الذين يصيرون المستكشفين الحقيقيين، وأولئك الذين التقيت بهم فى مرصد البحر فى جزيرة أنبييه l Observatoire de la Mer l île des Embiez تحدثوا معى فى كثير من الأحيان وكأنهم شعراء. إنهم أيضا يريدون أن يروا الشباب يقتربون من أسرار المحيط وأن يعملوا فى سبيل أن يظل هذا العالم مليئا بالحياة.
والحقائق الكائنة تحت الماء، التى جرى منذ وقت طويل تخيلها قبل أن يتم اكتشافها، سوف تخبئ جانبا من السرّ بقدر ما يبقى البحر حيا. وينبغى أن نأمل أنه سيبقى حيا دائما لأسباب تتعلق بالتوازن البيولوچى، ولكن أيضا لأن هذا الواقع هو خبز أحلامنا.
أضف إلى هذا أن الحلم يلد الحدث أو يحدد الفعل، وعندما يغوص علماء الأحياء ويعملون لإنقاذ نوع أحيائى فهذا لأنهم يحملون بداخلهم حب الحياة والإيمان الذى كان يحرك الجن الذين كانوا حماة الأسماك، والدرافيل، وعجول البحر، أبطال أساطيرنا.
برنار كلاڤيل
































الابن السابع
لصياد السمك البريتونى
(فرنسا)

فى أودييرن، عاش قديما صياد سمك فقير جدا كان يجد صعوبة كبيرة فى إطعام أطفاله الستة. ومثل كل صيادى السمك البريتونيين كان يحب المحيط، غير أن المحيط ليس دائما صديقا سهلا. وقد عرف البحارة الحقيقيون هذا منذ أجيال، إذ يحدث أنهم يفاجأون بغضبه. والواقع أن صاحبنا صياد السمك، وكان اسمه يان، كان من بين الأكثر جرأة وحدث، مرارا وتكرارا، أنه أشرف على الموت ليكون أقرب ما يكون إلى الصخور التى يتعلق بها السمك أثناء الأمواج.
"إذا لم تترك هنا قاربك ولا هيكلك العظمى ذاته، قال له الشيوخ، فإنك ستنتهى بالفعل إلى أن تترك هناك شباكك على الأقل".
ولم يكن يان ممن يستخفون بحكمة القدماء، ولكن، لأنه كان يحتاج إلى كسب الخبز لذويه، حدث له أن نسى الخطر.
وفى العهد الذى تبدأ فيه هذه القصة، وضع يان المزيد من الحماس فى عمله لا سيما وأنه صار أبا لطفل سابع. وبالفعل ففى المنزل الصغير الذى عاش فيه على المرسى، كانت زوجته تقوم بإعداد المهد واللفافات.
غير أنه ذات صباح فيما كان يصطاد السمك بين جزيرة سين ومنارة لا ڤيياى، اعتقد يان المسكين أن شبكته، تعلقت بصخرة، وأنها ستضيع. ولم تكن التيارات والدوامات، العنيفة دوما قبالة پوانت دى را، لتقوم بتسهيل المناورة. وعلاوة على هذا فإن عصفة ريح، بدا وكأنها تهب على الخليج من تريپاسّيه، دفعت القارب نحو صخور الشط التى تحيط بالمنارة. وفى لحظة اعتقد يان أنه هلك؛ وفيما كان يتخلى عن شبكته ليحاول إنقاذ قاربه على الأقل، هدأت الريح وارتفعت الشبكة أخيرا. وكانت ثقيلة جدا، وعرق صياد السمك كثيرا ليشدها إلى الشاطئ. وفرح بالفعل معتقدا أنها تحتوى بلا شك على كمية كبيرة من الأسماك، عندما ظهر على سطح البحر وجه امرأة، يحيط به شعر طويل شديد النعومة وطحالب شقراء مضيئة.
خائفا قبل كل شيء، بدأ يان يفهم أنه أسر جنية بحر. والآن، إذا سحب إلى البر أحد هذه الكائنات الغريبة التى يسمع عنها الجميع ولم يرها أحد مطلقا فإن حظه سيكون أكيدا.
غير أن المرأة ذات العينين بلون أعماق البحر كان لها صوت ذو عذوبة لا حدود لها. وباللغة البريتونية، وبلا أدنى قدر من النبرة الأجنبية، قالت:
"يان، أنت رجل شجاع. إننى أتوسل إليك ألا تذهب بى إلى البر. هناك سأكون أتعس منك فى أعماق البحر. لا ترتكب عملا سيئا فى اليوم الذى ولد فيه طفلك السابع منذ قليل.
- ماذا تقولين؟ سأل صياد السمك.
- بالتأكيد، أنت لا تعرف هذا بعد، غير أن الطفل الذى تنتظره وُلد منذ أكثر قليلا من الساعة. وأستطيع حتى أن أقول لك أنه رضيع جميل".
ولأن يان لم يكن عازما على إطلاق سراح جنية البحر أضافت هذه الأخيرة:
"اصغ إلىّ، سأعرض عليك صفقة. عندك سبعة أطفال وليس لى أطفال. سأعطيك قطعة من الذهب ستضعها فى مدخنتك. وهى قطعة سحرية. وكل صباح، ستجد قطعة أخرى إلى جانبها. وسوف يسمح لك هذا الذهب بإطعام أسرتك دون أن تعمل، لكنك سوف تعدنى بأن تعطينى رضيعك المولود منذ قليل. وغدا صباحا، سوف تحضر لى الطفل. سوف أنتظرك أسفل خليج تريپاسّيه".
وعندما رأى قطعة الذهب التى مدتها له جنية البحر، وعد يان قائلا لنفسه أن القطعة الذهبية من الجيد أخذها دائما، وأن الوعد الذى نعد به كائنا من هذا النوع ليست له أهمية كبرى. وأطلق سراح جنية البحر، وطوى الشراع وعاد إلى المرسى.
الوليد الجديد كان فى حالة ممتازة. كان مليئا بالحياة وسماه والده إيڤون. وبطبيعة الحال، وضع يان قطعة الذهب على أرض الموقد، غير أنه كان يحرس ابنه. ومنذ ذلك الحين، لم يعد يصطاد السمك إلا لمتعته لأنه كل صباح كان يجد قطعة ذهب بجوار الرماد البارد. ولأولئك الذين اندهشوا برؤيته يعيش أفضل ويعمل أقل، قال إن زوجته ورثت عمة عجوزا، أصلها من تريجاستيل.
غير أن يان كان يخشى أن يلتقى بجنية البحر، وكان يتجنب الذهاب لصيد السمك فى مضيق السين. غير أن جنية البحر، غاضبة لخداعها، انتهت إلى العثور عليه فيما كان يبحر فى عرض سان-جينوليه. كان البحر هادئا وكانت الشمس تنحدر فى الأفق عندما ظهرت على مسافة عدة أمتار من القارب وهب نسيم خفيف ببطء على المرسى.
"أنت تلاعبت بى! هاجمت صياد السمك. لكننى أتنبأ لك بأنه ذات يوم سيكون لى!"
لم يكن لدى يان الوقت لكى ينبس بكلمة قبل أن كانت جنية البحر قد اختفت. قلق جدا، عاد إلى بيته وأوصى زوجته والابن الأكبر سنا من أولاده أن يحرسوا الصغير إيڤون جيدا.
وعلى هذا النحو كبر ابن صياد السمك فى مرسى دون أن يكون له فى يوم من الأيام الحق فى ركوب قارب. وكل الحب الذى يحمله الأطفال الذين تربوا قريبا من الشواطئ لأشياء البحر كرسها لأشياء البر. ومتجولا فى الأرض، تعلم أن يحب النباتات، والحيوانات، وبصورة خاصة، الطيور.
ولابد أنه كان فى الثانية عشرة من عمره، عندما أتى ذات مساء لإنقاذ صقر وقع فى شرك. ومتأثرا بهذه البادرة، قال له الطائر الكبير:
"أنت ولد طيب جدا، وكل الكائنات الحية لن تكون مثلك. الطيبة لا يُجازى عنها دائما، لكننى، لكى أشكرك، سأعطيك القدرة على تغيير نفسك إلى صقر عندما تكون فى خطر. فإذا كان عليك أن تهرب ذات يوم، قل ببساطة: "يا صقر، يا صديقى" وسوف تطير مثلى تماما. فقط، انتبه: عليك إلا تستعمل هذه القدرة ألا فى حالة الخطر الكبير. ويجب أن تبقى هذه القدرة سرا".
واستمر إيڤون يكبر. ولم ينس لقاءه مع الطائر، لكنه لم يتحدث عنها مع أى شخص. ولم يخبر عنه حتى يولاند الجميلة التى التقى بها فى يوم بلوغه التاسعة عشرة من عمره والتى طلب يدها.
كان الشابان سعيدين، وأخذت الأسرتان تقومان بالإعداد للزفاف. غير أن صياد السمك فى لوكتودى أراد أيضا أن يتزوج من يولاند. ولكى يتخلص من منافسته، كسب ثقته وبعد أن جعله يشرب أكثر من المعقول دعاه إلى ركوب قاربه. وساعد خمر التفاح إيڤون على أن ينسى توصيات والديه واتجه الولدان إلى عرض البحر. وعندما لم يعد الساحل فى مدى البصر، دفع صياد السمك إيڤون إلى البحر. فبعد أن كان قد عاش على البر، لم يستطع الولد المسكين أن يعوم وسقط عموديا. ولكن، فى قاع الماء، كانت جنية البحر التى انتظرته منذ حوالى عشرين عاما هناك لإنقاذه.
إيڤون، الذى اعتقد أن ساعته الأخيرة قد جاءت، استعاد وعيه داخل قصر رائع تحت البحر بأسوار مغطاة بأصداف وقشور متلألئة.
وفى هذا المسكن الذى عاش فيه كل شعب الأسماك ذات الزعانف المضيئة، وكانت تقوم بتأمين الخدمة الأخطبوطات التى يمكن أن تحمل دزينة من الأطباق فى وقت واحد. وكان رئيس الطهاة سرطانا بحريا ضخما كان ماهرا للغاية ولكن غير مريح مطلقا. وفيما يتعلق بحراسة القصر، فقد عُهد بها إلى جيش من أسماك المورينا موضوع تحت أوامر حوت لا يمزح فى أمور النظام. تسلى إيڤون بكل هذا خلال أسابيع عدة، ثم قلق على والديه وعلى خطيبته.
"اسمعى، قال لجنية البحر، أنا مسرور كثيرا هنا. الطعام جيد، والجميع لطفاء معى، غير أن الحياة تحت الماء تصيبنى بطنين فى الأذنين وصداع فى الرأس وكل هذا يمنعنى من النوم. فقط إذا استطعت أن أتنفس فى الهواء الطلق من وقت لآخر، أعتقد أننى سأكون أسعد البشر.
- فليكن، أجابت، سأقوم بتوصيلك إلى سطح المحيط. ولكن أسماك المورينا والقرش سوف ترافقنا. وأحذرك أنه إذا اقترب أبوك بقاربه فإنه سيهلك فى وقت أقل مما يحتاج لأن ينطق بكلمة.
- لا تقلقى إذن، قال الولد. إذا رأينا أصغر قارب، سنغوص فى الحال".
ومحمولا على ظهر جنية البحر التى أحاط بها مرافقوها من الحراس، عاد إيڤون إلى سطح الماء. ولم يكن هناك أىّ قارب يبحر فى تلك النواحى من المحيط غير أن الولد، حالما برز من الماء، همس:
"يا صقر، يا صديقى!"
أما جنية البحر فقد رأته، مذهولة، يتحول إلى طائر ويطير نحو الشاطئ الصخرى. قفز القرش وأسماك المورينا خارج الماء، ولكن بعد فوات الأوان.
وبسرعة وصل الصقر إلى الساحل. وبمجرد أن لمس الصخرة، استعاد هيئته البشرية وانطلق يجرى فى اتجاه القرية.
وبالطبع، تزوج من يولاند الجميلة. واستمر الزفاف أربعة أيام وأربعة ليال. أربعة أيام وأربعة ليال سمع أثناءها منافس إيڤون الأغانى وصيحات الابتهاج التى تصل إليه فى عمق زنزانة كانت قد سجنته فيها شرطة أودييرن.



جنيات البحر [السيرينيات] عديدة فى الحكايات البرتونية [نسبة إلى إقليم بريتانى فى فرنسا]، مثلما فى كل البلدان الواقعة على حافة البحر. وهذه الكائنات الغريبة، ذات القدرات الخرافية، يبدو أنها مع ذلك شبيهة من حيث طباعها بالبشر. وجنية البحر التى التقى بها يان صياد السمك، الحسودة والحقودة، لا تغفر له خداعه لها، وهى تسعى بلا انقطاع إلى الانتقام لنفسها منه. ولكن إذا استطعتم أن تكونوا طيبين مع هذه الكائنات، بعيدا عن أن تكونوا ناكرين للجميل، فإنها تكرس نفسها لسعادة أصدقائها.
وتحدثنا حكاية بريتونية أخرى عن إحدى جنيات البحر هذه قامت بتحويل حياة صبى صغير لتشكره على أنه أنقذها. وكان طفلان يصطادان السمك على الصخور، عندما رأيا جنية بحر تنام على الماء، غير بعيد عن الشاطئ. وانزلق الشريكان بلا ضوضاء فى البحر وسبحا مع ألف من الاحتياطات. أمسكا بالشعر الطويل الأشقر الذى كان يطفو واقتادا فريستهما إلى الشط.
خارج الماء، توسلت إليهما جنية البحر: "سأموت"، رددت بلا كلل. وبدأ الصبيّان يمعنان التفكير. الأكبر سنا أبى إلا أن يذوق لحم الفقيرة المسكينة، وتمسك بالاستفادة بهذه النعمة. الثانى، إيڤان، كان أكثر كرما. ذلك أنه مليئا بالشفقة اقترح إلقاء هذه المخلوقة النادرة فى البحر. واحتدم جدال. وعرض إيڤان على رفيقه أن يتخلى له عن كل نقوده مقابل حرية جنية البحر. وتم عقد الصفقة.
ألقت الصديقة الجديدة لإيڤان نايًا عند قدمىْ منقذها، ثم اختفت فى الأمواج. ولابد أن هذا الناى كان يسمح للصبى الصغير بأن يدعو جنية البحر عندما يكون فى ضيق.
بعد ذلك بأعوام كثيرة، صار إيڤان رُبّانا. وذات يوم، غرق، ضحية عاصفة مرعبة. عندئذ أخذ نايه ودعا جنية البحر. ظهرت فى الحال، وهى تقود سفينة كبيرة مخصصة لكى تحل محل تلك التى فقدها الشاب. ولم تكن السفينة بحاجة إلى ملاحين، وكانت المناورات تتم كلها من تلقاء نفسها. وأمكن تصليح التجهيزات، وصار الربان بسرعة بالغة غنيا جدا بفعل كرم وعرفان صديقته فى أعماق البحر.
































كنز جزيرة فردينانديا
(صقلية)

كانت چينا معروفة لكل البلاد بسوء طبعها. وفى قرية سياكا، عندما تهب الرياح التى تحمل العاصفة، كانوا يقولون عن طيب خاطر:
"هذه رياح سيئة مثل چينا. ولا شك فى أن أولئك الذين كان عليهم أن يعانوا منها وسط البحر كانوا يفكرون فى بيپو المسكين، الذى تزوج من هذه المرأة الشريرة"
وبالطبع، كان يقال هذا عندما يكون الناس متأكدين من أنها بعيدة، ذلك أنه لم يكن يخشى هذه المرأة الشرسة سوى البائس بيپو.
ولم يكن بيپو يملك من الثروة سوى زورقه، وبعض خيوط صنارات الصيد السيئة التى كانت تمزقها فى كثير من الأحيان الأسماك التى لم تكن مع ذلك كبيرة مطلقا. وربما لم يكن صياد سمك حاذقا جدا، ولكن ينبغى القول أيضا أن واقع سماعه لا يكف عن نداء چينا كان لا يعطيه الثقة بنفسه. ومنذ العشرة الأعوام التى تزوجها فيها، كان سوء الحظ يلاحقه إلى حد أنه انتهى إلى إقناع نفسه بأن المرأة الشرسة كانت ذات عين شريرة.
وذات يوم، قال له صديقه ڤنسنزو:
"تلك المرأة كائنة شيطانية. وعليك أن تتخلص منها؛ وإلا ستنتهى إلى أن تجعل صوابك يطير".
ومنذ تلك اللحظة، بدأ بيپو يمعن التفكير. ولأنه لم يكن شخصا سيئا، فإن فكرة قتل زوجته لم تخطر بباله لحظة واحدة. ولكنه، عارفا بأنها لم تكن خبيرة جدا فى قيادة السفن الشراعية، قال لنفسه أنه إذا استطاع أن يستدرجها إلى ركوب سفينة بمفردها ذات صباح تهب فيه رياح البر، ربما ستكون هناك الفرصة لكى تجرفها الأمواج حتى شواطئ أفريقيا. ولأنه كان يعرف أن چينا كانت راغبة للغاية فى كسب الكثير من المال، قال لها ذات مساء عائدا لتوه إلى المرسى فى جو عاصف:
"لم آت بشيء معى، ولكن لا تضربينى. ليس هذا خطئى، فالعاصفة فاجأتنى..."
ولم يكن لديه وقت ليتحقق من أن زوجته، ممسكة بالمقشة، بدأت بالفعل فى ضربه بشدة:
"توقفى! تضرع صياد السمك... عندما تعلمين ماذا اكتشفت، ستندمين على ضربك لى.
- ماذا اكتشفت؟ حانة لتسكر؟
- لا، مطلقا. الزوبعة دفعتنى إلى جزيرة فردينانديا. وهناك، عند زحزحة حجر لإرساء قاربى، اكتشفت كنزا. غير أن البحر كان هائجا للغاية، وقد تركته خوفا من أن أفقده أثناء عودتى".
وضعت چينا مقشتها، بل صبت نصف كأس نبيذ لبيپو وبدأ يعطى تدقيقات للمكان الذى يوجد فيه الكنز.
"هذا عظيم، قالت، سنذهب للبحث عنه".
وفى الغد، توقفت العاصفة، غير أن بيپو، الذى كان يعرف الوقت جيدا، فهم أنه قبل منتصف اليوم ستهبّ رياح البر خلف الجبل وتندفع نحو البحر.
"أنت تعرفين، قال، عاصفة الأمس هذه والضربات التى وجهتها إلىّ جعلتنى مريضا. إننى عاجز عن ركوب البحر اليوم".
دمدمت المرأة الشريرة، وهى ترى البحر هادئا تماما، قررت الرحيل بمفردها.
وبمجرد أن قامت برفع المرساة، غادر بيپو حصيرته وانصرف إلى المقهى، حيث وجد أصدقاءه.
"ماذا فعلت بامرأتك؟ سأله ڤنسنزو.
- أرادت أن تذهب وحدها لصيد السمك. قال بيپو. وهى تزعم أنها ستصطاد عشرة أضعاف السمك الذى أصطاده.
- وأنت تركتها تركب القارب فى حين أن رياح البر تهدد؟ لفت نظره إنريكو. هذا ليس من الحكمة.
- أنت تعرف جيدا ما هو طبعها. لقد فعلت كل شيء لمنعها، لكنها ضربتنى. انظر هنا، انظر إلى ظهرى".
خلع صياد السمك قميصه، واستطاع أصدقاؤه أن يروا آثار الضربات التى تلقاها فى عشية ذلك اليوم.
"يمينا، قالوا، إذا أمسكت بها العاصفة فإنها لن تلقى إلا ما تستحق".
فى منتصف النهار، عندما كانت أولى الزوابع تنزل المنحدرات وهى تعوى، وقف بيپو، الذى كان قد أفرغ عددا كبيرا من الزجاجات، مترنحا، ووصل بطريقة ما إلى الرصيف. وفى ذلك الحين تكونت أمواج ثقيلة، دافعة إلى عرض البحر زبدها الفضى. واكفهرت السماء بسرعة وقبل سقوط الليل كان من الممكن رؤية كتل ضخمة من الماء تتدفق على صخور جزيرة فردينانديا.
وبطبيعة الحال، عادت كل الزوارق إلى المرسى منذ وقت طويل. كلها، إلا قارب بيپو الصغير.
وكممثل كوميدى، أخذ صياد السمك يرثى لحاله:
"كانت تضربنى، قال، لكننى أحببتها كثيرا. أين هى مفقودة، الآن، وسط هذه العاصفة؟ يا إلهى، اِحْم مسكينتى چينا واجعلها تعود إلىّ!
- الأمر يحتاج إلى معجزة"، قال ڤنسنزو.
ولكن يحدث أن الإله الطيب يستجيب للصلوات، حتى عندما لا تكون مخلصة. لأن المعجزة تحدث.
مرت أربعة أشهر. أربعة أشهر قضى بيپو خلالها، بعد أن أقام قداسا فى سبيل طمأنينة روح چينا، أياما هانئة من حانة إلى أخرى.
ثم، فى نهاية هذه الأشهر الأربعة، فيما كان عائدا ذات مساء إلى منزله بعد نهار قضاه فى الشرب والغناء، لمح بيپو أمام بابه هيئة ظنها قبل كل شيء شبح چينا. غير أن الصرخات التى مزقت أذنيه والضربات التى تلقاها أعادته إلى رشده بسرعة. لم يكن ما رآه شبحا، بل زوجته بلحمها وعظمها، مفعمة بالحيوية تماما وأكثر شراسة مما كانت فى يوم من الأيام.
"آه! أيها التافه، صرخت، لقد كذبت علىّ لتتخلص منى! حسنا، ستدفع الثمن! بل ستدفع ثمنا غاليا جدا...
هل تريد أن تعرف من أين أتيت الآن؟ هل اعتقدت أننى فى الجحيم؟ أنت مخطئ. نعم، غرقت. نعم، زورقك ضاع. لكننى أنا، أنقذنى بحارة سفينة متجهة إلى تونس! وقد قمت بالرحلة معهم. رحلة ممتعة جدا فى بلاد من الجميل جدا رؤيتها. كل ما فى الأمر، أن هذه الرحلات تكلف غاليا جدا. والآن، ينبغى أن ندفع. وأعتقد تماما أنه لن يكفيك طول عمرك لكى تسدد ديونى".
بخضوع تحت الضربات، أخذ بيپو ينتحب:
"لكننى لم أعد أملك قاربا لكى أصيد السمك.
- صيد السمك، صرخت المرأة، سيكون الفردوس، بالنسبة لك، ولن تأتى أبدا بسمك يكفى لإطعامى وسداد ديونى. سوف تذهب إلى عملك فى تكسير الحجارة بضربات المطرقة".
ومنذ فجر اليوم التالى، مضى بيپو فى طريقه إلى عمله. وهناك، تحت الشمس التى تكوى لك جلدك وفى الغبار الذى يحرق لك حلقك، بدأ يعمل. وحتى نهاية حياته، روى بعرقه الحصى الذى كان يكسره.
وعلى فترات طويلة، عندما كان ينهض واقفا، ويد على خصره المؤلم، كان يلمح البحر الأزرق حيث ترقص أشرعة بيضاء شبيهة بتلك الخاصة بالقارب الذى عرف وهو على متنه أسعد ساعات حياته.




إذا كانت الحكايات ما تزال تستدعى اسم سكيلا، هذا الوحش الذى تحول إلى صخرة، على حافة مضيق ميسينا، فإن العديد من البحارة كانوا ضحايا هذه الصخرة. وقد ظلت جزر كثيرة شهيرة بسبب الأخطار التى تمثلها.
وليس هذا حال جزيرة فردينانديا، التى لم تبق خارج الماء سوى ثلاثة أشهر. وقد تخيل سكان المناطق المجاورة عندئذ كل أنواع الحكايات التى لعبت فيها الجزيرة التى ابتلعها البحر دورا كبيرا. ونفس تاريخ الجزيرة يمثل حكاية تقريبا. وكان لها أيضا اسمان چوليا وفردينانديا.
ففى شهر يوليو 1831، برزت من أعماق البحر، فى البحر الأبيض المتوسط، جزيرة حقيقية، بجبال، وسهول، وأخيرا كل شيء، باستثناء البشر، بالتأكيد. قبطان عمارة بحرية إنجليزية متجهة إلى أفريقيا استولى عليها باسم بلاده، ثم أرسل تقريرا عن اكتشافه إلى حكومته. وصارت الجزيرة الصغيرة جزيرة چوليا.
بعد ذلك بوقت قليل، رست سفينة ناپولية بدورها هناك. وحدث نفس المشهد. رفع قومندان السفينة، فى احتفال، علم ملك الصقليتين، على الجزيرة. وقد جرى تعميد قطعة الأرض باسم: فردينانديا.
وكان لابد من أن تفجر المغامرة إشكالا بين البلدين. لأىّ منهما تنتمى الجزيرة؟ وطالب بملكيتها كل من الطرفين.
وخلال هذا الوقت، قام الإنجليز، الذين اعتبروا هذه الأرض بريطانية، بتعيين حاكم. وغادر الرجل الجسور لندن ومعه كل أسرته بل يبدو أنه باع كل أملاكه قبل أن يبحر.
وبعد سفر طويل، عبرت السفينة أخيرا مضيق جبل طارق ودخلت بجرأة فى البحر الأبيض المتوسط، متجهة إلى جزيرة چوليا. واحتاج الأمر إلى البحث عنها طويلا: بدا أنها صارت مفقودة. وخشية ارتكاب خطأ ما، أخذت السفينة تتجول أياما عديدة فى تلك المناطق من البحر، ولكن كان لابد من الخضوع لحكم الواقع، لم تظهر فى الأفق أىّ أرض.
والحقيقة أن جزيرة چوليا، التى أثارت منازعات لا نهاية لها بين الإنجليز والناپوليين، اختفت عشية وصول الحاكم. ويبدو أنها لم تعاود الظهور منذ ذلك الحين. فهى لم تبق سوى ثلاثة أشهر خارج الماء.






ابنة جنى الأمواج
(الجزائر)

ذات يوم وأنا أهبط عبر أزقة حى القصبة بمدينة الجزائر، واتتنى فرصة مقابلة راوى حكايات عربى عجوز. كان هذا الرجل الضئيل الضامر والمحنى الظهر، والأعمى منذ سنوات، يحمل بداخله عالما بكامله من المعرفة والحياة. وكان هو الذى لم تعد عيناه تريان يستطيع أن يستدعى لمستمعيه الصحارى والبحار الهائلة الاتساع. وعند الاستماع إليه كانوا يجدون أنفسهم فجأة منقولين إلى أماكن أخرى وعصور أخرى. وكانت لغته المعبرة تعطى الحياة لآلاف من الشخصيات، وكان صوته المرتعش يستطيع أن يتحدث جيدا عن الطبيعة إلى حد أنه يقال أن صوته كان يغدو بالتناوب رياحا رملية، ورياح البحر، والنسيم المنعش للواحات، وحفيف أشجار النخيل، وطقطقة النار.
ويحتاج الأمر إلى كتاب بكامله لتدوين الحكايات التى حملتها ذاكرتها. ومن بين تلك التى باح بها لى أمام كوب من الشاى احتفظت لكم بقصة "إمحمد" والياقوتة الحمراء.
كان "إمحمد" ابن تاجر غنى فى باحة سوق ["فندق"]. وكان فى الثامنة عشرة من عمره عندما مات أبوه تاركا له ثروة كان يعتقد خطأ أنها لا تنفد. وكانت سنتان من الاحتفالات، والولائم، والليالى المجنونة إلى حد ما، تكفيه لتبديد ما وضع أبوه حياة بكاملها لاقتصاده. المسكين، لقد وجد نفسه وحيدا وفهم أن أولئك الذين كانوا يقولون إنهم أصدقاؤه لم يكونوا يحبونه إلا من أجل ماله. ومجبرا على ترك مسكنه لدائنيه، غادر المدينة ومضى فى طريق دون أن يعرف حتى إلى أين يقوده.
لم يكد يسير بضع ساعات عندما اكتشف بمحاذاة مزرعة نخيل، جسم فتاة مربوطة بالجذع الغليظ لشجرة. واقترب بقصد إنقاذ الفتاة التعيسة، غير أنه أدرك أنه وصل بعد فوات الأوان. كان جرح كبير مفتوحا فوق رقبتها وكان يبدو أن الفتاة ميتة.
عندما فحص الجرح، اكتشف "إمحمد" أن ما كان يسيل لم يكن قطرة دم بل كان ياقوتا أحمر. أخذ الحجر الكريم ومضى فى طريقه. وفى القرية الأولى استطاع أن يستجم ويشترى حصانا ويدفع أجر ليلته فى الفندق. ورقد لينام غير أنه رغم تعبه لم ينجح فى أن يجد النوم. ذلك أن فكرة أن أحجارا أخرى يمكن أن تسيل أيضا من هذا الجرح المفتوح منعه من النوم. وعند منتصف الليل تقريبا، غير قادر على البقاء هناك، ركب حصانه واتجه إلى بستان النخيل. كان نور القمر كما لاحظ "إمحمد"، من بعيد جدا، شكلا أبيض يهتز إلى جانب الفتاة. وتاركا حصانه، تقدم بلا ضوضاء، متخفيا وراء الأشجار. وعندما لم يعد إلا على مسافة عدة أمتار من الأسيرة، سمع سوطا يفرقع. وكان صوت رجل يصرخ:
"إذا لم تقبلى الزواج منى، سأقتلك... سأجعلك تموتين ببطء بآلام فظيعة".
وفرقع السوط، منتزعا عويلا من الفتاة.
ثائرا، اندفع "إمحمد"، وخطف السوط من بين يدىْ من يعذب الفتاة، وضربه بكل قوة إلى حد أن الآخر تدحرج على الأرض، متوسلا الرأفة.
"لا تقتله، غمغمت الفتاة، دمه سيقع علينا ويجلب علينا الشقاء".
توقف الصبى عن الضرب العنيف وهرب الرجل بسرعة شديدة.
وفيما كان "إمحمد" يخلصها من قيودها، استعادت الجريحة الشابة قوتها وبدأت تتكلم.
"اسمى الياقوتة الحمراء، قالت، وأنا ابنة لابيود إلياكوانتى، الجنى الذى يحكم كل البحار. وقد ارتكبت خطأ الابتعاد وحيدة عن قصر أبى، وهذا الرجل الذى تعرَّف علىّ أسرنى لكى يلتقط الياقوت الأحمر من دمى. وأراد أن أتزوج منه لكى يكون لديه ياقوت أحمر طوال حياته. وما دمت قد أنقذتنى، فإنك سترافقنى حتى قصر أبى حيث سيجعل أبى منك أسعد الرجال، لأنه قادر على تحقيق كل رغباتك".
سارا نحو الجهة التى ترك فيها الشاب حصانه، وركبا كلاهما هذا الحيوان القوى والنشيط، وأسرعا العدو فى اتجاه البحر.
وعند شروق الشمس، وصلا إلى الساحل الرملى الذى تغنى فيه الأمواج.
"انتظرنى هنا، قالت الفتاة، سأعود فى الحال للبحث عنك".
غطست فى الماء الذى لوَّنته الأشعة الأولى للشمس بألوان قوس قزح واختفت. قلقا إلى حد ما انتظر الصبى متفحصا الموج. مرت ساعات عديدة، لا نهاية لها، ثم عندما كان الضوء المتألق فى ذلك الحين يشوش الأفق، رأى مجموعة من الفرسان يظهرون راكبين خيولا بيضاء تعدو بسرعة على الماء مثيرة سحبا من القطرات الصغيرة المتلألئة.
"اترك هنا ركوبتك التى لن تكون لها أية فائدة لك بعد الآن، قال الفارس الذى يقود هذه المجموعة، واركب هذا الحصان الذى منحك إياه سيدنا لابيود إلياكوانتى".
أطاع "إمحمد" وبعد عدة ساعات من العدو السريع فوق الأمواج لمست قدماه جزيرة صخرية ارتفعت فوقها أبراج وأسوار قصر فسيح. وفى قاعة الشرف المبلطة بالذهب، انتظرته الياقوتة الحمراء برفقة رجل عظيم جدا وقوى جدا كان لعينيه اللون الأزرق للأمواج العميقة فى أمسيات العواصف.
"أنا أب هذه التى أنقذتها، قال جنى البحار. أنت هنا فى بيتك. أريد أن تبقى هنا الوقت الذى يلزمك لتقول لى ما الذى يمنحك أعظم الفرح. لا تكن مسرعا فى الإجابة. يمكنك أن تطلب منى الثروة، أو القوة، او مملكة، أو جيشا، أو الحياة الأبدية على هذه الأرض".
وفيما كان لابيود إلياكوانتى يتكلم، لم يرفع "إمحمد" عينيه عن الفتاة، التى كانت ترتدى فستانا طويلا من الحرير الأزرق. ولم تكن تلبس أية جواهر وعلى رقبتها كان لم يعد هناك أثر لجرح. وكانت تبتسم لـ"إمحمد"، وأحس هذا بأن هذه الابتسامة تساوى أكثر من كل ذهب العالم.
وبعد أن مرّ وقت الانفعال الأول، نظر الصبى إلى جنى الأمواج وبصوت حازم قال:
"مولاى، لا أريد الثروة، ولا القوة، ولا الجيش، ولا المملكة. وفيما يتعلق بالحياة الأبدية أعرف أنها ستمنح بعد موتهم لكل أولئك الذين سوف يستحقونها خلال إقامتهم على هذه الأرض. والواقع أن الشيء الوحيد الذى ينقصنى بالفعل على الأرض هو شجاعة العمل. وأعرف أن هذه الشجاعة سوف تواتينى إذا كانت بجانبى رفيقة أحبها وتستطيع أن تمنحنى السعادة. هذه الرفيقة التقيت بها فى الليلة الأخيرة وكنت رجلا يائسا. وإذا هى أرادت حقا أن تقبل حبى، سوف أسمح لنفسى بأن أطلب منك يدها".
استدار جنى الأمواج نحو ابنته التى انحنت أمامه وغمغمت:
"أبى، بصنع سعادته ستصنع سعادتى أيضا".
وأقيمت فى القصر احتفالات لا يمكننا أن نتصورها لأننا لا نعرف إلا عالم البشر. ثم بعد احتفالات الزفاف رافق الفرسان الياقوتة الزرقاء و"إمحمد" حتى الساحل الجزائرى على الأفراس البيضاء.
ولم يقبلا أى هدية من أبيهما ولم يأتيا بزاد للسفر سوى حبهما المشترك وإيمانهما بالحياة.
وعندما صارا وحيدين، قالت المرأة الشابة لقرينها:
"أنت تعرف أننا لن نكون فقراء أبدا، لأنه يكفى أن تجعل دمى يسيل لالتقاط الياقوت الأحمر".
أخذها "إمحمد" بين ذراعيه واحتضنها بكل قوة قائلا:
"أفضل أن أموت عن أن أرى قطرة واحدة تسيل من دمك. كونى مطمئنة، إننى أستطيع أن أجعلك سعيدة كما تستحقين".
وفى الشاب بوعده. وباجتهاده وكده فى العمل استطاع أن يعيد شراء منزل أبيه، حيث قضت قرينته الراضية أياما رائعة وهى تشهد البنات السبع والأولاد السبعة ـ الذين أنجباهم خلال خمسة عشر عاما ـ وهم يكبرون.
وينبغى القول أنه، كل عام، فى يوم ذكرى التقائهما، كانا يذهبان إلى الساحل الرملى حيث كان ينتظرهما فرسان البحر. لأن جنى الأمواج واصل رغم كل شيء السهر على سعادتهما.




فى كثير من الأحيان، فى الحكايات، يصعد جنّ البحر من القاع لإثراء أولئك الذين عاملوهم جيدا. ألق فتات الخبز للبجع وستكتشف قصرا رائعا به ثلاث فتيات جميلات؛ أنقذ حياة سلحفاة صغيرة وسوف تتزوج أميرة؛ أنقذ سمكة ترس، كما فى حكاية من جريم وربما صرت إمبراطورا أو پاپا.
وهذه الحكايات تحمل جميعا سمات حكمة واحدة بعينها: من الأفضل حماية الضعيف لأنه قد يخفى كائنا بالغ القوة. وأولئك الذين يرفضون أن يفعلوا هذا يتعرضون لأخطار كبرى.
ويروى إسكيمو المناطق القطبية بهذا الخصوص قصة نولياچوك، ملكة البحر.
ففى الأزمنة التى كانت ما تزال لا توجد فيها كائنات حية فى المحيطات، حدث إلقاء يتيمة صغيرة فى اللحظة التى كان فيها سكان قرية جوينجميرتوج يستعدون لعبور مضيق.
حاولت الطفلة المسكينة أن تتعلق بأحد قوارب الكاياك، غير أنه كان يجرى دفعها إلى الوراء. ويائسة، أمسكت بمزيد من القوة. وقام جلادوها بقطع أصابعها، وهو تصرف لابد من أن يندموا عليه فيما بعد.
وتملك الكائنات ذات المظهر الهش قدرات غريبة فى كثير من الأحيان. إن دم بطلة الحكاية الجزائرية يتحول إلى ياقوت أحمر، والأصابع المقطوعة لفتاة الإسكيمو الصغيرة تتحول إلى كائنات بحرية، وهى الأولى التى سكنت البحر.
وقد هبطت الفتاة إلى قاع المحيط، وصارت أم كل سكان المياه، والأسماك، والأخطبوطات، وعجول البحر، العزيزة جدا على قلوب أهل الإسكيمو. إنها، هى التى كانت ضعيفة قديما، تعطى البشر الآن طعامهم.
ولكن لا تتصوروا أنها نسيت ما جرى لها. وقد انتقمت لنفسها من انعدام قلب البشر. فهى التى، فيما يقال، تحدث المجاعات. وعندما تكون غاضبة، فإنها تحبس كل الحيوانات البحرية داخل مصباح ولا تحررها إلا عندما يهدأ غضبها الشديد.
وقد سماها الإسكيمو نولياچوك، وأنتم تتصورون عن حق أنهم بعد احتقروها صاروا الآن بالغى الاحترام لها. وهم لا ينطقون باسمها إلا بإجلال، خشية أن يثيروا غضبها.









ساحرات پنييسكولا
(إسپانيا)

عاش فى پنييسكولا، فى قديم الزمان، صياد سمك اسمه إنريكيث ما تزال ذكراه باقية فى كل ذاكرة. وما يزال الناس، إلى يومنا هذا، يحكون بكل سرور أن هذا الصبى كان يملك قدرة سحرية وأنه كان يستخدمها فى السخرية من صيادى السمك الآخرين فى الساحل. وبالفعل فإنه بمجرد أن بلغ الثلاثين من عمره، ومع أنه كان ما يزال يصطاد السمك لا أفضل ولا أسوأ من رفاقه، بدأ يأتى بكثير من الأسماك من أنواع غير معروفة، إلى حد أن الناس بدأوا يشكون فى أنه عقد حلفا مع الشيطان.
ومن جهة أخرى فإنه، بعيدا عن العمل على تكذيب الاتهامات الموجهة ضده، أحاط نفسه بالغموض، فلم يكن يغادر الميناء إلا فى الليالى الأكثر سوادا، وحيدا دائما ليناور بقاربه الثقيل.
وبقى على هذا الحال إلى نهاية حياته. وإنما بعد موته بقرون عديدة، حدث أن كاتبا اكتشف، فيما كان يبحث وينقب فى المحفوظات، رقـًّا لم يجرؤ أحد من قبل على فض ختمه بالشمع الأحمر، وكان هذا الرِّق يحتوى على سِرِّه.
والحقيقة أن إنريكيث عاش دائما الحياة المألوفة لكل أولئك الذين ينتمون إلى حرفته، عندما لاحظ، ذات صباح، عند ذهابه لإحضار قاربه، أن عقدة ربطة حبل القارب لم تكن بالطريقة التى اعتاد أن يعقدها بها.
قال لنفسه: "شخص ما استعمل قاربى. وهو ليس بحّارا. إن رجل البحر لا يعقد مثل هذه العقدة!"
كما أن الشراع لم يكن مطويًّا بصورة ملائمة، غير أن إنريكيث لم يتفوه عن هذا بكلمة لأىّ شخص. واصطاد وكأن شيئا لم يكن، وعاد إلى بيته، ثم بعد أن حلّ الليل، انصرف، من طريق غير مباشر، ليختبئ فى قعر قاربه.
لم يكد يكمن متربصا ساعة واحدة، حتى رأى أربع نساء عجائز بقيادة لا فيرّير ، وهى صاحبة فندق سيئة السمعة. قامت النساء بحلّ حبل المركب، ورفع الشراع، و، فى الحال، انطلق المركب بسرعة بالغة إلى حد أن الناس قالوا أنه طار بالمعنى الحرفى للكلمة إلى قمة الأمواج. وخائفا قليلا، ولكنْ بفضول شديد إلى رؤية إلى أين عسى يمكن أن تعود النساء العجائز، ظل صياد السمك متربصا فى مخبئه.
ولأن الليلة كانت مظلمة جدا، والسماء غائمة، لم يستطع إنريكيث حتى أن يتطلع إلى النجوم ليحدد اتجاهه. وحدها غريزة البحار التى لديه قالت له أن القارب قد اتجه إلى الغرب.
وبعد مرور عدة ساعات من الركض، لمس مقدم المركب شاطئا رمليا نزلت فيه النساء في البر. تركهن صياد السمك يبتعدن قبل أن يغادر قعْر المركب. وعندما استطاع أن يلقى نظرة نحو البر، إذا به يرى حريقا هائلا يشتعل على مسافة مئات الأمتار من الشاطئ. وعلى ضوئه برزت بوضوح خيالات الظل السوداء لنساء عديدات كنّ يرقصن نوعا من الرقص البطيئ للغاية.
قال إنريكيث لنفسه: "إنهن ساحرات، لقد وقعتُ وسط محفل سَبْتيّ ليلىّ للساحرات. يا إلهى، يا لها من قصة!"
ولأن الساحرات كنَّ أكثر انشغالا من أن يلقين بالا إليه، سار بمحاذاة الساحل الرملى، محاولا أن يكتشف سكانا أو أىّ تفاصيل تسمح له بالتعرف على هذا الساحل. غير أنه لم يجد شيئا سوى رمل ناعم. وأثناء عودته إلى مركبه، ابتعد إنريكيث قليلا عن الشاطئ، وداست قدماه على باقة من البوص. انتزع منها ساقا وذهب بها إلى مخبئه.
وعندما انتهى محفلهن السبتىّ الليلى، وعادت العجائز إلى مكانهن في القارب، انطلق القارب يسرع وكأن نوتيته امتلكوا هذا الحبل الشهير الذى يحرك الرياح والذى يحاول الملاحون البحث عنه عن طريق النوتية الأحداث المبتدئين. رياح الخلفية للوصول، ورياح الخلفية للإقلاع ـ وأىّ رياح! ـ وبالنسبة للبحار الذى كانه إنريكيث، فقد كان لديه شيء ما يمعن التفكير فيه!
وقبل الفجر بكثير، رسا المركب فى پنييسكولا، وذابت الساحرات فى ضباب صاعد من البحر.
وبمجرد أن فتح العطار الذى يعرف النباتات دكانه، حمل إليه صياد السمك البوص الذى كان قد قطعه على الشط.
"أين وجدتَ هذا؟" سأل الشيخ مندهشا إلى حد ما.
ستكونون على حق فى اعتقادكم أن إنريكيث لن يروى مغامرته للشيخ!
قال: "بَحّار أجنبى هو الذى أعطانى إياه. ولكنْ لأنه لا يتكلم اللغة الإسپانية، لم أفهم من أين كان قادما".
قال الشيخ: "حسنا، يا ولدى، لا يوجد لغز فى الأمر. ذلك الجسور كان قادما رأسا من أمريكا. ويمكننى حتى أن أقول لك أنه لابد من أن سفينته استفادت من رياح مواتية جدا، ذلك أنه لم يمض وقت طويل جدا على قطع هذا البوص".
وأضاف الرجل المسن ضاحكا:
"لكنه لا يمثل حتى هدية ثمينة جدا لك، فهذا البوص لا يكفى حتى للتفصيل لصنع ناى".
وبعد أن أفاق إنريكيث من دهشته العميقة، انصرف ليبحث عن لافيرّير فى الغرفة الخلفية لفندقها. وحكى لها عن ليلته وأضاف:
"أنت تعلمين أن الساحرات يتم إحراقهن وهن على قيد الحياة. وإذا أنا تكلمت فإنه سيحكم عليك ويتم إعدامك بهذه الطريقة".
دمدمت العجوز بصوتها الذى كان يحدث صريرا مثل قفل سيئ: "إذنْ، كم تريد مقابل صمتك؟"
"أنا لا أريد مالا. أنت لا تملكين ما يكفى من المال، لأن السرّ الذى أحمله الآن يساوى ثروة. ما أريده سحر مثل سحركِ يسمح لى بأن أبحر بمثل سرعتكِ"
ولم يكن أمام الساحرة خيار. حركت حجرا من موضعه فى جدارها، وسحبت من مخبئه وعاءً صغيرا يحتوى على مسحوق أحمر، وقدمته إلى صياد السمك قائلة:
"سيكون هذا لك طوال حياتك. لأن حبتين منه تضعهما على الشراع تكفيان لعبور المحيط. ولن يكتشف أحد سرك أبدا، لأنك أنت أيضا ستكون الوحيد الذى يُعتبر ساحرا."
كان هذا سِرّ إنريكيث، صياد السمك فى پنييسكولا، الذى كان يجلب أنواعا ليلية من الأسماك اصطادها من آلاف الأماكن من الساحل الإسپانى.


أثناء رحلة فى إسبانيا، التقى الكاتب پروسپير ميريميه Prosper Mérimée بفلاح مؤمن بالخرافات روى له مغامرة ابن عمه، صياد السمك فى پنييسكولا. وتستلهم القصة التى قرأتموها للتو المقال الذى أرسله پروسپير ميريميه إلى إحدى المجلات.
ومن المحتمل أنكم أيضا سمعتم عن السحرة والساحرات. وكانت لهؤلاء وأولئك سمعة سيئة لأنه كان يجرى ربطهم بالشيطان. ولم يحمل الناس لهم أىّ تعاطف.
وكل يوم سبت، في منتصف الليل، كانت الساحرات يلتقين حول الشيطان لإقامة المحفل السبتى. وكان الشيطان يأتى إلى هذا الاجتماع الليلى فى صورة تيْس كبير، حاملا قرنيْن ضخمين، وكان يقود الاحتفال. وفى الساعة الثالثة صباحا، كان الاحتفال ينتهى، فتعود الساحرات بسرعة إلى كل أركان العالم. ويبدو أنهن لم يكن بإمكانهن التجول على الأرض فيما بعد تلك الساعة.
وتظهر الساحرات فى أساطير عديدة ومن النادر جدا قيامهن فيها بدور متميز. وفى أغلب الأحيان يجرى تقديمهن بملامح نساء شرسات مرعبات.
ومنذ وقت طويل، فى كيوتو، فى الياپان، كانت هناك ساحرة تقتل كل يوم عابر سبيل. وعاش السكان فى خوف، ولكنْ لا أحد جرؤ على مواجهة هذه المرأة الرهيبة، التى اختارت مسكنها فى برج منعزل. ومع هذا، قرر شاب شجاع، إيشيدو، تخليص مدينته من هذه الغولة.
وفى الفجر، ودَّع زوجته الباكية وابنه. واتجه نحو البرج المشئوم. رأته الساحرة قادمًا، وفتحت بابها، مستعدة لقتل هذا الشخص الطائش. كانت المعركة سريعة. ألقى إيشيدو بنفسه عليها باندفاع شديد جدا إلى درجة أنها لم تتمكن من الدفاع عن نفسها. وبضربة سيف بتر ساعدها الأيمن، ولكنه لم ينجح فى قتل المرأة الشريرة التى، بعد أن صارت مبتورة الساعد على هذا النحو، لجأت إلى داخل برجها.
عاد إيشيدو إلى بيته بغنيمته [ساعد الساحرة]. وبعد هذا بعدة أيام، جاءت عمة عجوز لتراه لتباركه وتبدى إعجابها بهذا الذراع.
تغيرت ملامح وجه الزائرة بمجرد أن لمحت ذلك العضو المبتور الذى كان ما يزال داميا. وتعرَّف الشاب على الساحرة، فأسرع لإحضار سيفه، غير أنه عندما عاد كان لم يعد هناك أحد فى الغرفة. ومن نافذته رأى عدوّته تختفى محلقة فى الجو، وهى تضم ساعدها إلى صدرها.


























ثلاث ربطات من الخشب
(النرويج)

كان إسبين نوتيا جيدا شجاعا جدا عشق البحر وحرفة البحار. وقد ركب البحر فى الثانية عشرة من عمره على مركب شراعى كان يذهب حتى إلى أفريقيا للبحث عن هذه البضائع الثمينة التى لا يجدها الناس فى بلاد الشمس الساطعة. وكان قبطانه يحبه وكأنه ابنه الحقيقى وفى كثير من الأحيان كان يقول له:
"فى سن العشرين، ستتقن هذه الحرفة مثلى، وفى الخامسة والعشرين، ستكون قومندانا".
كان إسبين سعيدا وبدون فرح العودة إلى والديه كان يفضل دائما البقاء فى ميناء صيد السمك طويلا جدا.
غير أنه ذات يوم، عندما كانت السفينة مستعدة لرفع المرساة، ذهب النوتى يبحث عن قبطانه وأبلغه رغبته فى أن يغادر السفينة.
"ماذا، سأل البحار العجوز، تريد أن تتركنى؟ لكنك لا تفكر فى هذا... آه! أنا فاهم، لقد وقعت فى الحب وخطيبتك هى التى تريد منك البقاء فى البر!"
إسبين، الذى لم يكن عاشقا إلا للبحر والسفن احمر من ذلك خجلا حتى أذنيه لا أقل.
"أقسم لك أن الأمر لا يتعلق بهذا، قال. أقسم لك على هذا أيها القبطان".
- إذن، فسِّر لى. تريد أن تركب قاربا آخر؟
- أوه، لا، أيها القبطان، أنا فى أحسن حال معك.
- إذن، لقد أصابك الملل من هذه الحرفة؟
- ليس على الإطلاق، أيها القبطان، ولا أعرف شيئا آخر يمكن أن أفعله ويرضينى هكذا.
- ومع كل هذا فأنت لم تر الفئران تغادر السفينة؟
- أوه، لا، أيها القبطان، الأمر مخيف أكثر أيضا!
- ما هذا الكلام؟ أيكون بعض الحمقى قد حكوا لك قصة عن العاصفة ونذرها؟ هيا، تكلم!"
غير أن القبطان ظل يتوسل، ويصرخ، ويهدد عبثا، فلم يحصل على شيء أكثر. بقى المراهق صامتا مثل مرساة مقيدة بعشر قامات [حوالى ستين قدما من مقياس الأعماق] فى القعر.
ومع هذا فقد انتهى إلى القول لصاحب السفينة:
"اصغ إلىّ، أيها القبطان، أنا لا أريد أن يغادر القارب الرصيف. صدقنى، ينبغى البقاء. أنا أتوسل إليك، لا تعُدْ إلى البحر!"
البحار العجوز انطلق بضحكة كبيرة.
"البقاء فى المرسى، ولكنك لا تعرف معنى ما تقول، يا صغيرى. أنت لست فى كامل رشدك بعد. هيا، أعتقد فى الحقيقة أن من الأفضل أن أستبدلك".
وراح يهبط على المرسى ليحاول تجنيد نوتىّ آخر، عندما ألقى عليه إسبين الصغير بنفسه وتشبث بكل قواه بمعطفه الصوفى. وبالدموع فى عينيه وبصوته المختنق، نطق:
"لا، لا، أيها القبطان. سأبحر معك. ولكن ينبغى عمل ما سأطلبه منك".
إيمو، ذئب البحر العجوز، هدّأ الولد الذى انتهى إلى القول:
"يجب أن نضع على سطح القارب ثلاث ربطات من خشب البتولا".
بدا القبطان مندهشا. للحظة، راقب النوتى سائلا نفسه ما إذا كان هذا الطفل لم يفقد صوابه، غير أنه كان يوجد فى نظرة الصبى بصيص إخلاص وصداقة أقلقه. وراغبا فى أن لا يترك شيئا يظهر من أفعاله، هزّ كتفيه وقال:
"هذه بالفعل نزوة مراهق، ولكن فى نهاية المطاف، إذا تمسكت بهذا، فإن ما نشحنه أكثر ليس من ثلاث ربطات من الخشب.
- من خشب شجر البتولا، دقق النوتى، هذا ضرورى جدا، أيها القبطان.
- نعم، نعم، هذا مفهوم، من خشب شجر البتولا"، قال القبطان مبتعدا ليعطى أوامر.
ولدهشة الملاحين البالغة، تم تحميل الربطات الثلاث من الخشب وجرى رصها بصورة منفصلة على سطح السفينة، ثم، بكل الأشرعة مشرعة، أقلعت السفينة الكبيرة فى اتجاه عرض البحر.
سار الأسبوع الأول من الملاحة فى ظروف ممتازة. كانت الريح مواتية والسماء زرقاء صافية صقيلة مثلا طلاء خزفى. ومن وقت لآخر كان القبطان يقول لإسبين:
"إذن، أيها النوتى الصغير، ألا تشعر بالبرودة؟ لا. على كل حال، لديك ما يدفئك".
وكان يضحك مخفيا ضحكته فى لحيته الشقراء.
ولكنه، فى صباح الأسبوع الثانى، كفّ عن الضحك. وعندما كان الفجر يطلع، انقضت على السماء غيوم سوداء ضخمة، مدحرجة أجسامها المفتولة العضلات على المحيط المظلم. ازدادت الريح قوة وأخذت تثير دوامات وزوابع. وتجوَّف البحر وبدأت السفينة تتدحرج وتتمايل بطريقة مقلقة.
ولم ير أحد فى يوم من الأيام عاصفة مشابهة.
"أنزلوا الأشرعة!" صاح القبطان.
اندفع البحارة وبدأوا المناورة بينما بدأ النوتى يلقى من فوق ظهر السفينة أول ربطة من خشب شجر البتولا.
"ولكن ماذا تفعل؟ صاح القبطان. ليس خشبك هو ما سوف نلقيه!"
وبين زوبعتين، قال الصبى:
"بالطبع ليس هو، ولكنه هو ما سننقذه!"
و، مندهشا أكثر فأكثر، استطاع البحار المسن أن يرى أنه كلما كان الحطب يلمس الموجة كانت الرياح تفقد من عنفها وكانت الأمواج تهدأ.
"ياه! دمدم بين أسنانه، هذه مصادفة. إذا توقفت العاصفة، فهذا يعنى أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة".
وتم إصلاح بعض الأشرعة الممزقة وعارضة صارى مكسورة، ثم استأنفت السفينة سيرها تحت سماء تخلصت من اكفهرارها.
بعد ذلك بيومين، عاصفة جديدة أشد غضبا أيضا، وقد توقفت عن الهدير عندما ألقى النوتى الكومة الثانية من خشب البتولا.
وبالفعل بدأ القبطان يفرك لحيته فيما كان يطرح على نفسه أسئلة، ولكن بعد العاصفة الثالثة، عندما لم يعد لديه حطب على ظهر السفينة، طلب النوتى إلى كابينته وسأله:
"لا أستطيع أن أقول لك شيئا، أجاب الولد، لا شيء على الإطلاق. ولكن انظر إلى البحر، فربما تفهم".
اقترب صاحب السفينة من النافذة ورأى أن المحيط كان بلون الدم.
"غريب، قال، لكننى لا أفهم أكثر.
- إذن، ختم النوتى كلامه، قد تفهم فى اليوم الذى نعود فيه إلى المرسى. كل ما أريد قوله لك، أننا لن نتعرض بعد الآن لعاصفة".
وبالفعل، خلال ثمانية شهور، تواصلت الرحلة بلا عوائق، مع رياح ممتازة. فقط عندما عاد إلى ساحل النرويج، علم القبطان، والنائب الأول، ونوتىّ شراع مقدمة السفينة أن زوجاتهم توفين بمرض غامض على وجه التحديد فى اللحظة التى واجهت فيها سفينتهم هذه العواصف المفزعة.
النوتى، الذى سُئل مائة مرة، احتفظ دائما بسره، الذى سأبوح لكم به دون أن أكشف لكم ممن عرفته.
قبل إقلاع المركب، ذات يوم فيما كان إسبين وحيدا على متنها رأى ثلاثة من غربان الزاغ تحط على عارضة صارى الشراع الأعلى. وهذه الغربان الثلاثة التى كانت لها أصوات نساء كنَّ يقمن بإلقاء سحر مؤذ على سفينة وهُنَّ يقلن أنهن يُردْنَ التخلص من أزواجهن. وما إن عُدْنَ إلى تحليقهن حتى حط نورس ساخر على نفس عارضة الصارى وقال للنوتى:
"هذه الغربان الثلاثة هُنَّ ساحرات، إحداهن زوجة القبطان، والأخرى زوجة النائب الأول، والثالثة زوجة نوتى شراع مقدمة السفينة. وإذا أصغيت إلىّ فإن السحر المؤذى الذى ألقينه على السفينة سيكون بلا تأثير".
وشرح النورس للصبى ما يجب عمله لتهدئة العاصفة. ولأن إسبين أصيب بالذهول فإن طائر البحار الجميل أضاف:
"إذا كان لك مثل هذا الحظ، سيكون هذا يوم ميلادك، فالرياح الداخلية أحضرت إلى مهدك السباتى بأربع أوراق. غير أن هذا سرّ عليك أن تحتفظ به لنفسك، وإلا فإن حظك سيتخلى عنك".
فقط عندما نجح فى تهدئة العواصف الثلاث اقتنع النوتى حقا بأن النورس الساخر لم يكن يسخر منه.



أنقذ إسبين، الفتى النرويجى، حياته نفسها وحياة قبطانه عندما أصغى إلى أحاديث غربان الزاغ الثلاثة وطائر نورس. وقد امتلك العديد من شخصيات الأساطير، مثل بطلنا، هذه الموهبة الاستثنائية، سواء منذ الولادة، أو بتوسط شيء سحرى. أحد هؤلاء، وكان من سكان جزيرة ليسبوس الإغريقية، دَسَّ حجرا لامعا فى فمه. وذات يوم سمع أحاديث غراب. تكلم الطائر عن كنز مخبوء. ووجده الشاب وصار غنيا جدا.
ومع هذا فإن مساعدة شيء سحرى لم تكن ضرورية بصورة إجبارية. وكان يكفى أحيانا أن يكون المرء طيبا إزاء الحيوانات التى، لكى تشكرك، كانت تسمح لك بفهم لغتها. هذا ما حدث لشاب إغريقى، ميلامپوس، الذى صار إلى يومنا هذا شهيرا جدا.
أحب ميلامپوس كثيرا من الحيوانات، وكان يحميها دائما. وعلى هذا النحو أنقذ ثعبانين صغيرين كان خدمه قد قتلا والديهما.
وذات ليلة، فيما كان الصبى نائما، زحف الحيوانات الزاحفان إلى فراشه ولعقا أذنيه. استيقظ ميلامپوس، مرتعبا، غير أن دهشته كانت كبيرة عندما اكتشف أنه فهم ما قاله طائران حطا على نافذته.
الثعبانان، ليشكرا منقذهما على كرمه، سمحا له بأن يفهم لغة الطيور، والحشرات، والعديد من الحيوانات. اشتهرت سمعة ميلامپوس بسرعة وأتى الناس من بعيد طالبين منه النصيحة. ولكن إذا كان الكثيرون أحبوه، وقدروه، فإن آخرين كرهوه.
بعض الأعداء خطفوه وسجنوه. وداخل زنزانته، سمع الصبى المسكين أشعارا تبوح له بأن عوارض السقف قد نخرت تماما، وأنها لن تلبث أن تنهار.
سارع ميلامپوس إلى تنبيه سجانيه الذين نقلوه إلى سجن آخر. وقد انهار السجن الذى غادره بعد هذا بوقت قصير. وقد قام الحراس، متأثرين بشدة، ومعتقدين أنهم يتعاملون مع كاهن كبير، بتحرير السجين الذى غمروه بالهدايا من أجل كسب صداقته وثقته.


































عجول البحر
(آيسلندا)

هل تعرف، سألنى ذات يوم راع عجوز من آيسلندا، لأى سبب رغبتُ فى تربية الخرفان مع أننى من أسرة من البحارين؟ لا، أنت لا تعرف شيئا عن هذا. حسنا، سأقول لك السبب: هذا لأننى أخاف من عجول البحر. طبعا، لا تندهش، هذا ما حدث بالفعل. عجول البحر، أنت تعتقد أنها حيوانات كغيرها؛ وأنت مخطئ، لأن أسلافها كانوا رجالا.
نعم: رجالا مثلك ومثلى. وكانت الإناث نساء، بالطبع. بل حتى كنَّ فى كثير من الأحيان جميلات جدا.
كيف لى أن أعرف هذا؟ لكن لأن أبى قاله لى وقد أخذه عن أبيه، وهكذا حتى الزمن الذى عاش فيه كل الناس عراة فى جحور الصخور. هذا ما حدث، ومن المدهش أننى لا أعرف عنه شيئا! يبقى أن البشر، الذين كانوا يرتكبون دون شك الكثير من الأعمال الحقيرة، ألقوا بأنفسهم ذات يوم فى البحر ليغرقوا. غير أن البحر كالبشرية، فقد صار شريرا على مر القرون. وفى ذلك الزمن، كان البحر فتاة طيبة، وبدلا من أن تدع كل هؤلاء الناس اللطفاء يغرقون، قامت بتحويلهم إلى عجول بحر. هذه هى الطريقة التى نشأ بها هذا النوع. لا أكثر ولا أقلّ.
غير أن ما لا تعرفه أنت بعد هو أن عجول البحر يمكن أن تستعيد هيئتها البشرية مرة كل سنة، فى ليلة الغطاس. فمع شفق الغروب، تأتى عجول البحر إلى الشاطئ، وتخرج من جلدها مثلما تخلع أنت معطفك الواقى من المطر، وهى تضع جلدها على الشاطئ أو تعلقه على صخرة، وإذا بعجول البحر تعود إلى أصلها كنساء أو رجال حتى طلوع النهار.
ولا حاجة إلى أن أقول لك إن عجول البحر تستغل هذا فى التسلى وأنها، بصفة عامة، تقضى ليلتها فى الرقص.
ولكن، ذات ليلة، ها هو الفتى أولاف، وهو صبى من قرية مجاورة، يجد نفسه يمرّ من هناك. وهو ينضمّ إلى الجماعة، ويرقص طوال ساعات مع فتاة شابة جميلة جدا يقع أولاف فى حبها.
"أريد أن أتزوج منك"، قال لها.
ولكن الفتاة تشرح له من أين جاءت وتخبره بأنه يتعين عليها قبل الفجر أن تلبس جلدها الخاص بعجول البحر وأن تعود إلى البحر لمدة عام. وها هو الصبى، العاشق جدا فى الحقيقة، يبتعد وكأنه أراد أن يعود إلى القرية. ويقوم بدورة حول الطريق، ويتوارى بين الصخور ويسرق جلد الفتاة الشابة ويأتى به إلى بيته ليخبئه فى صندوق يخفى مفتاحه.
وفى الفجر، تعود كل عجول البحر إلى البحر، ما عدا الشابة التى تأخذ فى البكاء باحثة عن جلدها. وطبعا لا تعثر عليه، لكنها تلقى أولاف الذى يقول لها:
"لم يعد أمامك إلا أن تتزوجينى، وأنا أقسم لك أننى سأعرف كيف أجعلك سعيدة وكيف أجعلك تنسين حياتك البحرية".
وما العمل غير هذا؟ إن الشابة، واسمها هيلجا، تتزوج من أولاف وتنجب له ثلاثة أطفال لطاف. ولأنها لم تعد تتكلم مطلقا لا عن عجول البحر ولا حتى عن البحر، لا يتصور أولاف أنه يمكن أن تعود إليها الرغبة فى أن تعثر من جديد على رفاقها القدامى، ويكف سريعا عن التفكير فى الماضى. غير أنه لا شيء يمكن أن يقتل الغريزة. والحقيقة أن نداء المساحات البحرية الواسعة مفزع بالنسبة لأولئك الذين جرّبوا المحيط.
وذات صباح، يخرج أولاف دون أن يأخذ معه مفتاح الصندوق، وعندما يعود يجد أطفاله الثلاثة الذين هجرتهم أمهم. ويرى الصندوق خاليا فيدرك أنه لن يرى زوجته أبدا.
وتمر الأعوام، وذات يوم ينظم سكان الشاطئ مطاردة كبيرة لعجول البحر. ويقتلون منها المئات. وعندما تنتهى المذبحة، يجلسون إلى مائدة الطعام من أجل وليمة تدوم نهاريْن وليلتيْن. وتصل الليلة الثانية إلى نهايتها عندما يظهر، فجأة، فى القاعة الضخمة التى تجمع فيها المدعوون، قزم خرافى ذو قبح مرعب. ويسود الصمت. أغمى على نساء، ويختفى أطفال تحت الموائد، ويصبح الرجال أكثر شحوبا من الموتى.
يتقدم القزم. إنه قصير الأرجل، وهو يهزّ كتفيه الضخمين ويقطب وجهه وهو ينفخ بُخارًا.
"إنى ألعنكم جميعا، قال. إن عجول البحر سوف يغرقونكم وستتحول جثثكم إلى صخور ستصبح كذلك أحجار عثرة يصطدم بها البحارة".
إن ما بدا أنه الأكثر غرابة هو أن هذا القزم المرعب كان له صوت نسائى جميل. صوت هيلجا.
ويتحقق ما تنبأ به القزم. تشنّ عجول البحر على سكان الشاطئ حربا بلا رحمة. وهى تغرق الكثير والكثير منهم إلى حد أنه لا يكون بوسع المرء أبدا أن يُحصى الصخور البحرية التى تتكون مثل سلسلة على مسافة بضع مئات من الأمتار فقط من الشاطئ. وعندما يكون البحر هائجا، يسمع المرء أنين التعساء الذين تأتى الأمواج لتسوطهم بلا انقطاع.
ومنذ ذلك الحين، وأنت تدرك الآن، تصيبنى القصص المماثلة بالخوف. البحر، أتأمله من بعيد، من أعلى الشاطئ الصخرى، ويجعلنى رعى خرافى أحسّ بسعادة أكبر كثيرا من صيد عجل البحر أو صيد السمك عند الصخور البارزة قرب الشاطئ.




لا شك فى أن السهرات الشتوية الطويلة فى آيسلندا ساعدت على نشأة حكايات خيالية عديدة. وتظهر عجول البحر فى كثير من الأحيان فى الحكايات، كما هو الحال عند الإسكيمو المعروفين أيضا بأنهم رواة حكايات لا تنضب قريحتهم.
وعجول البحر حيوانات ذات قيمة عالية بالنسبة لشعوب البحار الباردة. وفى قصة عجل البحر الأبيض [أو:الفقمة البيضاء] بقلم كبلنج، نشهد أسر حوالى مائة منها، مصيرها أن تصبح "چاكيتات من الفرو". غير أنه بالنسبة لرجل واحد، ليس من السهل دائما أن يقبض على عجل بحر. وأثناء الليل القطبى الطويل، يتحدث الإسكيمو كثيرا عن الصيد وعن محاولاتهم الفاشلة التى يحاولون تفسيرها. فهل يمكن اعتبار كل هذه المحاولات الفاشلة طبيعية تماما؟ وقد عوقب أولاف وأهل قريته بقسوة بالغة على المذبحة التى نظموها. ألا يكون الإسكيمو يتلقون، بدورهم عقوبة على إثم ارتكبوه منذ وقت طويل جدا؟ إن بعضهم يتذكرون عندئذ المغامرة العجيبة لنيريڤيك، ملكة كل كائنات تحت البحر وبصورة خاصة عجول البحر التى تحميها نيريڤيك من المجازر.
وهذه القصة لا يمكن إلا أن تذكرنا بقصة نولياچوك التى اكتشفتموها فى نفس الوقت مع الحكاية الجزائرية، ابنة جنىّ الأمواج.
نولياچوك ونيريڤيك، وهما معبودتان لقبائل مختلفة من الإسكيمو، تلعبان مع ذلك نفس الدور وتعبران، عند صيادى عجول البحر، عن اهتمامهم بتفسير مشكلاتهم.
ذات يوم، قرر طائر، طائر النوء، متعبا من وحدته، أن يتزوج من كائن بشرى. يرتدى جلد عجل بحر ويلبس نظارة. وواثقا من أنه جميل جدا، ومقتنعا بأنه يشبه البشر، يصل إلى قرية، ويأسر امرأة ويقتادها إلى مسكنه. المسكينة، التى وجدت أن زوجها قبيح جدا، لم تكن لديها سوى رغبة واحدة : أن تهرب.
بعد أسبوع أو اثنين من الزواج الغريب، يرحل طائر النوء للصيد. وكان ذلك بالضبط هو اليوم الذى قرر فيه إخوة زوجته بزيارة لأختهم، التى اصطحبوها معهم. وعند عودته، اندفع الطائر، غاضبا، لملاحقة الهاربين. كان يطير بسرعة ويرفرف جناحيه بقوة بالغة إلى حدّ أنه أثار عاصفة عاتية. وحينما أدركوا أن زوجة طائر النوء كانت السبب المباشر للإعصار، ألقى بها إخوتها إلى البحر. وحاولت أن تتعلق بالقارب، ولكن جلاديها قطعوا يديها.
وفى قاع المياه، تلك التى كانت زوجة طائر النوء أصبحت "نيريڤيك"، أىْ ملكة عالم تحت البحر. وسلطتها هائلة. ولكى تنتقم لنفسها من عقوق البشر، يمكنها أن تحدث المجاعة. ويكون على الناس أن يهبطوا ليتوسلوا إليها عندما يكونون جائعين، ويحدث أن تدعهم يأسرون بعض ما عندها من عجول البحر.

































رحلة الملك سوران
(الأرخبيل الهندى)

لن أعلمكم شيئا عندما أقول لكم أن الملوك أيضا يصابون بالملل. ولأن مهنتهم هى أن يحكموا ولأنه يوجد دائما شخص ما يحكم بالنيابة عنهم فإنهم لا يجدون ما يفعلونه مطلقا. وبالتالى فإنهم، عندما يكونون قد قرأوا كل الكتب، وشاهدوا كل العروض الفنية، وتعلموا قواعد كل الألعاب، يصابون بالملل، ستقولون لى، مادام شخص ما يقوم بعملهم، فإنهم يمكن أن يبحثوا عن عمل آخر، غير أنكم تعرفون جيدا أنه لا أحد يريد تشغيل شخص لا يستطيع أن يفعل شيئا.
وكان الملك سوران مثل الآخرين، غير أنه كانت لديه أفكار. وذات يوم جاءته الرغبة فى استكشاف قاع البحار. وبطبيعة الحال، حدث هذا قبل چول ڤيرن بوقت طويل ولم يكن أحد قد تخيل الهبوط إلى قاع المحيط. وبالتالى استدعى سوران وزير بحريته وسأله:
"فى رأيك، ماذا يمكن أن يوجد حقا فى قاع البحر؟"
حك الوزير رأسه لحظة، ثم قال بخوف:
"الماء".
أشار الملك إشارة يأس.
"بالتأكيد، قال، أنت أكثر سذاجة مما كنت أعتقد. أنت لم تعد وزيرا، لقد عينتك مسئولا عن إصلاح الطرق".
وضع الوزير حقيبته الوزارية وذهب لأخذ المعول، وهو الأمر الذى أضحك كثيرا سكان المملكة ولكنه لم يؤدِّ إلى تحسين ـ أوه! بل مطلقا! ـ حالة الطرق.
وباختصار، أمر الملك بإحضار مسئول إصلاح الطرق الذى حل الوزير محله، وسأله:
"فى رأيك، ماذا يمكن أن يوجد حقا فى قاع البحر؟"
متضايقا قليلا من يديه لأنه لم يعد يمسك بمقبض المجرفة لمساعدته فى ذلك، فكر مسئول إصلاح الطرق لحظة ثم، وهو يهزّ رأسه، أجاب:
"هناك سرّ كبير، هذا شيء مؤكد. ولكن على كل حال لا أفهم لأىّ سبب قد لا يوجد عالم شبيه بعالمنا.
- أنت بالتأكيد أكثر ذكاء بكثير من كل أعضاء حكومتى، قال الملك، لقد عينتك وزيرا للبحرية".
هذا القرار أضحك كثيرا من موظفى الوزارة، غير أن ابتهاجهم كان لفترة قصيرة، لأن الوزير الجديد جعلهم يعملون، وهذا ما لم يحدث فى يوم من الأيام.
سار كل شيء أفضل كثيرا فى المملكة، وأعطى الملك سوران الأمر لأكثر مهندسيه موهبة بأن يبنوا له صندوقا من الزجاج محكم الإغلاق بصورة مطلقة يجلس بداخله ويجعلهم يلقون به فى البحر.
وداخل الصندوق، كانت توجد دواسات تقوم بتشغيل عجلة تجديف، ودَفة يمكن أن يديرها المرء كما يدير المرء دفة القوارب.
الصندوق المزود بصابورة غاص ببطء، وبدأ الملك رحلته.
وخلال عدة أيام، سأل نفسه ما إذا لم يكن الوزير، الذى كان قد فصله، على حق، لأنه قلما رأى سوى الماء وأسماك جاءت تراقبه، إلى حد ما مثلما كان هو نفسه يراقب فى كثير من الأحيان أسماكه الحمراء داخل وعائها الزجاجى. وأحس ببعض الضيق بالقرش "أبو مطرقة" الذى كان يصطدم بكل قوة بزجاج حجرته المقفلة، غير أن الزجاج كان متينا وانتهى الحيوان إلى التخلى عن الهجوم. وأخيرا، بعد ساعات وساعات من الملاحة، وصل الملك إلى مدخل كهف ضخم دُفع إليه مركبه بتيار عنيف. وفى الداخل، كان يُرَى بنفس الوضوح مثلما على الأرض بل ازداد الضوء شدة أيضا عندما أخذ الصندوق الزجاجى يصعد. وسرعان ما طفا الصندوق على مسافة عدة قامات [القامة مقياس أعماق يساوى ستة أقدام] على شط رملى أحمر رسا فيه الملك. وهناك، استقبله رجل ضخم جدا وقوى جدا، محاط بخدم ونساء. وقال هذا الرجل:
"أنا الملك أقطاب الأرض. وكما يدل اسمى فأنا سيد جوف الأرض. وأنا أرحب بك".
وقدم سوران نفسه وفى الحال صار محاطا بجمهور محب للاستطلاع أخذ يفحص ملابسه. ذلك أن هؤلاء النساء والرجال الذين يلبسون الطحالب لم يروا مطلقا مثل هذه الثياب. وكان أقطاب الأرض نفسه مندهشا ولم يكف عن طرح أسئلة عن العالم المجهول الذى آتى منه سوران.
"وكيف تعيشون؟ وماذا تأكلون؟ وماذا يفعل الأطفال؟ وما هى الشمس؟" إلخ.
ومن ناحيته، أخذ سوران يلاحظ هذا البلد، ويطرح أسئلة، وينتقل من مفاجأة إلى مفاجأة. هنا، كانت نار الأرض هى التى تعطى الحرارة والضوء، إلى حد أنه لم تكن توجد لا فصول ولا نهارات مظلمة. ولأن البحر أكثر هدوءًا بكثير فى الأعماق الكبيرة منه فى السطح، فإن الناس هنا يجهلون العاصفة. وكان الناس هادئين، ولم يعرفوا أصلا كلمة حرب، ولم يكن الملك يجد أى صعوبة مع وزرائه.
وبسرعة بالغة، صار الملكان صديقين، وكان أقطاب الأرض سعيدا بمنح يد ابنته لـ سوران. وكانت هناك مأدبة فخمة لكل رعايا المملكة. وكانت الأسماك، والمحار، والطحالب المفرومة كسبانخ، المطبوخة بنار جوف الأرض، تشكل وجبة طعام من أكثر الوجبات تغذية.
كانت الحياة فى هذا العالم لطيفة جدا إلى حد أن سوران لم يلاحظ مرور الوقت. وقد بقى هناك ثلاثة أعوام ومنحته زوجته ثلاثة صبية جميلين. ومع هذا، كان سوران يفكر فى مملكته بقلق. كان يسأل نفسه عما يمكن أن يفعله وزراؤه حقا. وتخيل حروبا، وثورات، وأوبئة، ومجاعات، وباختصار، انتهى به الأمر إلى أن صار مهموما إلى حد أن أقطاب الأرض ختم حديثا معه بالقول له:
"أنت لا تستطيع أن تحيا على هذا النحو بصورة متواصلة. كما أنه ليس لك الحق فى أن تهمل رعاياك وقتا أطول. وأنا أعلم جيدا أن ابنتى ستبكى، ولكن عليك أن ترحل. عُدْ إلى قصرك. وعندما يبلغ أبناؤك العمر الذى يتبعونك فيه سأبعث بهم للحاق بك، وأنت سيكون بوسعك أن تعود إلى هنا".
عاد سوران إلى مكانه فى قفصه الزجاجى، وبدأ يديره فيما كانت زوجته تذرف الدموع بغزارة.
وعند عودته إلى قصره، جرى استقباله استقبالا حماسيا من جانب كل شعبه الذى كان فخورا للغاية بمآثره. وأمر بتدوين حكاية رحلته وحقق الكتاب نجاحا كبيرا وتمت ترجمته إلى لغات عديدة. وبطبيعة الحال فإنه لم يقل فى كتابه أنه على المستوى الإدارى لم ينتبه أحد حتى إلى مجرد غيابه. وبالتالى بدأ من جديد فى ألا يعمل شيئا، غير أنه كان يصاب بالملل بصورة أقل، لأنه كان يتلقى باستمرار زيارة العواهل الأجانب الذين كانوا يزعمون أنهم قرأوا كتابه إلا أنهم يريدون أن يسمعوه يروى مغامراته.
ومضت الأعوام، وكبر أطفال سوران، وذات يوم رآهم الناس يصلون داخل صندوق من الكريستال أكبر وأجمل من ذلك الذى كان قد استخدمه أبوهم. وتنازل سوران عن عرشه لأجمل الثلاثة ثم عاد، بصحبة الاثنين الآخرين، إلى جوف الأرض حيث كانت زوجته فى انتظاره.
وبالطبع فقد أحضر معه بعض النسخ من كتابه، غير أن هذه الحكاية لم يهتم بها لا أقطاب الأرض ولا رعاياه الذين كانوا يعرفون أكثر كثيرا عن جوف الأرض.
"ما كان عليك أن تؤلفه، قالت له زوجته، هو كتاب آخر تروى فيه للناس هنا ما يحدث فى بلادك".
و، فى ضوء النار التى تحيا فى قلب الكرة الأرضية، أخذ سوران يكتب ليتحدث عن الشمس، عن الرياح، عن الأشجار، عن المنازل، عن وزرائه، عن الحروب، عن الثورات، عن منازعات القصر، وباختصار، لم يكن لديه مطلقا الوقت للإحساس بالملل، لأنه كان عليه أن يتحدث عن كل شيء يجهله هؤلاء الناس الذين يعيشون فى عالم لا يشترك فى شيء مهم مع عالم البشر.




شغل قاع البحار دائما أذهان أسلافنا. ماذا كان يمكن أن يكون تحت الماء؟ كائنات تشبه البشر؟ والشعب الذى اكتشفه الملك سوران تحت المحيطات قريب الشبه جدا من سكان الأرض. وهذه المملكة نسخة مطابقة لكل ما نعرف. غير أن الأمر يتعلق بمملكة سعيدة، لا يخشى فيها البشر لا العواصف، ولا المجاعة، ولا الحرب: نوع من الفردوس.
وبالفعل، فإن المحيط كان يمثل قديما إما جنة عدن، بلد هادئ ذو ثروات خيالية، أو الجحيم. ومع هذا فإن الغضب العنيف للمياه كان يستدعى فى كثير من الأحيان عالم الظلمات المعادى، المأهول بالوحوش الشرسة. وتكشف لنا حكاية ياپانية، "كاماتورى"، وجود أحد هذه المخلوقات.
كانت كوهاكيونيو، الابنة الوحيدة للسيد الإقطاعى كاماتورى، تستعد للزواج من إمبراطور البلد المجاور. وقبل الزواج، قررت تقديم قرابين للآلهة، كما تقتضى العادة. الهدايا، التى كانت توجد ضمنها عجلة من الكريستال مغلقة على تمثال صغير لبوذا، كانت ستنقل إلى معبد، يقع على جزيرة.
وأثناء الرحلة، هبت عاصفة عنيفة، غير أن السفينة وصلت مع هذا إلى هدفها، وتم نقل الهدايا إلى المعبد، وهناك يتضح أن العجلة قد اختفت. من يمكن أن يكون قد ارتكب مثل هذه السرقة؟ فقط ملك البحار كان قادر على مثل هذا العمل الشرير، وهذا هو السبب فى أنه كان قد أثار الاضطرابات. زار كاماتورى مواقع الكارثة وقام بتوحيد كل صيادى السمك فى المناطق المجاورة. وإذا قبلَ واحد منهم البحث عن العجلة ووجدها فإنه سيتلقى جائزة كبيرة. ورفض الجميع. فمن يجرؤ على أن يتحدى شيطان الماء؟ وعندئذ تقدمت شابة، رثة الملبس. وكانت تأمل أن يصير ابنها ساموراى وكان بالتالى بحاجة إلى مال. واقترحت أن تتحدى ملك البحار. وأمام مثل هذه الشجاعة، وعد كاماتورى بمساعدتها.
غطست المرأة فى الأمواج، بحبل حول جسمها لكى تطفو من جديد. وتحت الماء، اكتشفت قصرا من المرجان، محاطا بوحوش بشعة. وعلى أعل برج، كانت عجلة الكريستال تلمع. ونجحت الشابة فى أخذها، غير أن الوحوش اندفعت إليها. وقد جُرحت بضربة خنجر وجعل دمها أعداءها الوحوش تفرّ، فزعة.
وعلى الشاطئ، سحب صيادو السمك الحبل. وقبل أن تموت، أعطت الشابة العجلة، ووعدها كاماتورى بتربية ابنها وبجعله ساموراى.





سمك القرش فى تا‘أروا
(تاهيتى)

كان يوجد قديما سمك قرش بالغ الجمال يعيش بالقرب من شواطئ جزيرة. وكان اسمه إيريه وكان يعرفه كل سكان الساحل. وكان يأتى فى كثير من الأحيان إلى الشط، حيث لا يكاد الماء يكون أعمق من عدة أقدام، ويدفئ ظهره فى الشمس منتظرا خروج المدرسة. وعندما كان المعلم يحرر الأطفال كانوا يصلون صائحين فكان إيريه يبدأ فى ضرب زعانفه للنداء عليهم. وعندئذ، كانت تبدأ الألعاب وتستمر حتى الليل. وكان إيريه يأخذ الأطفال على ظهره، ويسرع إلى عرض البحر، ويقفز داخل الأمواج المسننة تماما بالزبد، ويغوص، ويطفو من جديد، ويقلد تمايل واهتزاز الزوارق المصنوعة بتجويف جذوع الأشجار... وباختصار، كان يعرف بصورة عجيبة كل الألعاب التى يمكن أن تسعد الصغار.
وزعم الناس أن هذا القرش كان ابن إله بحار كان قد تزوج قديما من إلهة للأرض. ولم يعرف أحد على وجه الدقة أىّ إله وأىّ إلهة يقصدون، غير أنهم فسروا على هذا النحو طيبة إيريه وواقع أنه كان يجد كثيرا من السعادة فى صحبة الأطفال المولودين على البر والراغبين فى كثير من الأحيان أن يتعرفوا بصورة أفضل على البحر.
تواصلت الحياة على هذا النحو بالتأكيد وقتا طويلا، غير أن الرجال ارتكبوا خطأ تصديق ما يحكى عليهم بكل سهولة. غير أنه ذات يوم فيما كان يقوم بصيد السمك بعيدا جدا عن الشاطئ، لمح راهوتى سمك القرش الذى كان يتجه بهدوء نحو الجزيرة. وواقفا فى زورقه، أشار إليه أن يقترب منه وسأله:
"هل لك أن تقدم لى خدمة؟
- طبعا، قال القرش، أنا هنا لخدمتكم.
- تصور أننى وعدت ابنى بالذهاب للبحث عنه حوالى منتصف النهار. غير أن السمكة تعض أكثر فى هذه اللحظة، ولا أريد تضييع وقتى.
- حسنا، قال القرش، لا تزعج نفسك، سيستغرق الأمر خمس دقائق".
انطلق كالسهم نحو الشط حيث كان ينتظر الطفل الذى أخذه فى فمه مع ألف احتياط من أجل حمله إلى صياد السمك. واأسفاه! لم يكد الطفل يكون فى الزورق منذ ربع ساعة حتى هب إعصار. ولم ير الناس بعد ذلك مطلقا صياد السمك ولا ابنه. فقد عثروا فى الشط على بعض حطام القارب.
عندئذ، اعتبر آلهة البحر وآلهة البر التى لم تغفر لـ إيريه أنه استطاع، أفضل منهما كثيرا، أن يكسب محبة البشر، وقدرت أن المناسبة كانت طيبة للعب دور شنيع ضده. وبالتالى أشاعوا أن ابن صياد السمك لم يمت فى العاصفة، بل التهمه القرش. ولأن أشخاصا عديدين كانوا قد رأوا إيريه اتجه إلى عرض البحر بالصغير داخل فمه، فقد سلموا بكل سهولة بأن الحيوان صار مفترسا وحظروا الأطفال من اللعب على الشط. وبالطبع فإن الأطفال كانوا تعساء جدا، وذهبوا للوصول إلى أخوين معروفين للجميع بقوتهما، وبراعتهما، وشجاعتهما.
الأكبر سنا كان اسمه تاهى ـ أ ـ را‘إى، الذى يعنى "أول الشمس"، وكان اسم الأصغر سنا تاهى ـ أ ـ نو‘أو، الذى يعنى "أول الكثرة".
قطع الأخوان من الخشب المتين للغاية رمحين قاما بتمتينهما أكثر بالكى بالنار. ومسلحين على هذا النحو، اتجها إلى الشط وانتظرا القرش. ولم يكن عليهما أن يصبرا طويلا، إذ أن إيريه المسكين، الذى كان حزينا لأنه لم يعد يتسلى مع الأطفال، توهم أن هذين الرجلين يدعوانه لكى يلعب. ومع هذا، كان إيريه يعرف ماذا يعنى الرمح وأدرك فى الحال أنهما يضمران الشر لحياته. ومستفيدا بموجة أقوى من الموجات الأخرى، وانقضّ فاغر الفم على الأخ الأكبر. وصل الرمح، الذى تلقاه داخل فمه وكسره كما يمكنك أن تفعل بغصن أملس جاف. غير أن الأخ الأصغر أطلق أيضا، وأصاب رمحه القرش قريبا جدا من القلب.
وصار البحر أحمر، ومال إيريه إلى جانبه، فاقدا دمه بغزارة.
أخذ الصبيان يطلقان صيحات الانتصار وناديا على أهل القرية ليحصل كل واحد منهم على نصيبه من القرش.
غير أن آلهة البحر والبر التى شهدت المذبحة أدركت أنها ذهبت أبعد إلى حد ما. وبحرمان إيريه من ألعابه مع الأطفال، كانت تريد فقط إبعاده قليلا عن البشر. وقد فعلت ذلك بدافع الغيرة، غير أنها اكتشفت الآن أنه يجب أيضا تجنب البشر من باب الاحتراس.
"هذه الحيوانات التى تسير على قدمين خطرة، قالت الآلهة. إنهم بالغو السرعة فى الانتقام ويتوهمون دائما أنه يراد بهم الشر. ها هنا درس ممتاز، ولكن على كل حال، ليس من الإنصاف أن يتحمل هذا الشجاع إيريه التكاليف".
ولأن الآلهة لا تحتاج إلا إلى القيام بإشارة لكى يتغير وجه العالم، فقد رفعت الأيدى وهبّ إعصار. أظلمت السماء فجأة، وبدأ البحر يهتاج مثل حيوان استشاط غضبا، وتفجر مدّ بحرى هائل أرجع الناس إلى سفح الجبال وقذف إيريه عاليا جدا فى الهواء.
طوقت السحب القرش الجريح، وهدهدته لحظة، وشفت جرحه، وأعادت إليه كل قوته قبل أن تتركه يسقط فى البحر، أبعد ما يمكن عن البر.
استعاد إيريه حبه للحياة ووجد رفاق لعب آخرين غير صغار البشر.
والتقى أيضا برفيقة، وصار لهم أولاد، وأحفاد، غير أن ذريته لم تحاول مطلقا أن تشارك فى ألعاب أولئك الذين نسميهم بشرا.




فى تاهيتى، كان السكان مولعين بكل أنواع الأسماك، وبينها أسماك القرش التى يعتبرونها مرسلة من الآلهة أو ممثلة لروح البحارة المختفين. وكانت أسماك القرش مولعة بأسرة لم يعد لأفرادها ما يخشونه من هذه الأسماك. على العكس تماما، إذا حدثت لهم مصيبة فى البحر كانت أسماك القرش هذه تمضى لنجدتهم وكانت تعيدهم على ظهورها. ومن هنا صارت أسماك القرش، بصورة طبيعية تماما، أبطال حكايات عديدة. وهذه واحدة من بينها.
كان ثلاثة إخوة يسمعون عن أميرة جميلة جدا، هورى. وقرروا الذهاب للقيام بزيارة لها. وعندما رأتهم يصلون، طلبت هورى من خادمتها، هينا، أن تستقبلهم، أثناء استعدادها للقائهم. وكانت الخادمة طموحة وغيرانة. وجعلتهم يعتقدون أنها سيدتها وانطلقت بدلا منها على قارب الأمراء الثلاثة.
وعندما رأت هورى أن الخادمة خانتها، انطلقت، سباحة، لملاحقة الهاربين. ومرّ يوم وليلة لكى تلحق بهم، رغم عاصفة شديدة.
وفى اللحظة التى وضعت الأميرة فيها قدمها على القارب، هدأت الرياح. صرخت هينا، الخادمة، بأن الأمر يتعلق بشيطان بحر، وقام الشبان، الممتلئون رعبا، بإلقاء هورى من فوق حافة السفينة. وبالمصادفة التقط سمك قرش الفتاة.
احتفال كبير على شرف الأميرة المزيفة كان ينتظر المسافرين الأربعة فى تاهيتى. أما الخادمة، التى أصابها العار أمام هذا المشهد، فقد هربت واكتشف الإخوة الثلاثة عندئذ الحقيقة وسافروا بحثا عن الأميرة الحقيقية. وما كادوا يركبون الزورق حتى هبت عاصفة عنيفة. ثم هدأت عندما وصلوا إلى المكان الذى قاموا فيه بإلقاء هورى فى الماء. أما القرش، الذى لم يتوقف عن مساعدة الفتاة، فقد قبل أن يعيد صديقته الجديدة لقاء قرابين عديدة.
وجرى تنظيم احتفال آخر فى تاهيتى، لعقد زواج هورى وأصغر الأمراء الثلاثة سنا.




































صياد السمك ذو الشباب الدائم
(اليابان)

كان أوراشيما ميزومو صيادا شابا عاش في المدينة الصغيرة سوجيكانا في إقليم يوركا. وربما كان هذا لا يوضح لك الكثير، ولكن لا أهمية لهذا مطلقا، لأن قصته يمكن أن تحدث في كل مكان يعيش فيه بشر، بالطبع بشرط أن توجد أيضا سلاحف.
ولأن صيادنا كان يتنزه على شاطئ بحر فقد رأى أطفالا يلعبون بسلحفاة صغيرة. وكان هؤلاء الأولاد المشاغبون قد أخرجوها من الماء، وقلبوها على ظهرها، وبقطعة مدببة من الخشب راحوا يُوسعونها وخزًا ليجعلوها تحرك أرجلها ورأسها. وكان على الحيوان المسكين، عاجزا عن الفرار، أن يعاني كثيرا. سارع أوراشيما ميزومو إلى توبيخ الأطفال وأعاد السلحفاة إلى الماء. وفي بيئتها، استعادت السلحفاة البحرية في الحال كل قوتها واختفت.
بعد هذا بعدة أشهر، فوجئ أوراشيما، الذي كان يصطاد بعيدا عن الميناء، بهبة ريح عنيفة مزقت شراعه وحطمت قاربه. وكان الصبي المسكين يوشك على الغرق، عندما ظهرت سلحفاة ضخمة ودعته إلى أن يأخذ مكانه على درعها.
قالت: "أنت أنقذت ابنتي التي عذبها الأطفال. وهذه مناسبة غير متوقعة لكي أثبت لك عرفاني بالجميل".
قال الصياد: "كم هو جميل منك أن تقومي بإعادتي إلى الساحل. كنتُ أصبحت حقا في غاية الإنهاك".
لو نزلت السلحفاة عند رغبة أوراشيما، ما استحقت هذه القصة حتى أن نحكيها، غير أن السلاحف تملك أحيانا خيالا أوسع كثيرا من خيال البشر، وقد اقترحت السلحفاة على الغريق أن تجعله يكتشف فردوس المحيط.
قالت: "مادام لم يعد لديك لا مركب ولا شبكة، تعالَ إذن لترى ما لم يره بشر في يوم من الأيام. أؤكد لك أنه لن يكون عليك أن تأسف على الرحلة".
ودون أن تنتظر إجابته، تندفع نحو حفرة من أضخم حُفر المحيط. ولأنها كانت تسبح بسرعة فإنها لم تكن تحتاج مطلقا إلى أكثر من ساعة واحدة لتصل إلى قصر رائع من المرجان. انفتحت بوابة كبيرة مرصعة بالكامل باللآلئ الكريمة، وصدحت موسيقى مثيرة للغاية رددت صداها تيجان الأعمدة التي أضاءتها أسماك ضخمة منتفخة الأوداج ذات جلد شفاف كانت تحمل في بطونها شموعا مضاءة.
نظر أوراشيما حوله، واكتشف أوركسترا من السلاحف كانت تنفخ في أبواق من الأصداف البحرية ذات أشكال عديدة. وكانت سلاحف أخرى تدق بأرجلها على دروع فارغة، في حين كانت سلاحف غيرها تنقر على طحالب دقيقة تمتد بين أسنان سمكة قرش ظلت ساكنة، فاتحة شدقها على اتساعه. وكان هناك عدد كبير جدا من العازفين المهرة الذين كان يحتاج إليهم بشدة الأخطبوط قائد الأوركسترا بأذرعه الثمانية لكي يقود عالمه.
كان الصياد لم يُفق بعد من ذهوله، عندما أحس بيد توضع على كتفه في حين غمغم في أذنه صوت امرأة:
"لم أتخذ مظهر سلحفاة إلا لكي أسبح لنجدتك، ولكنك ترى، فأنا ملكة القصر. ومنذ قرون ظللتُ أتمنى أن يرغب رجل طيب حقا في الزواج مني، وإنك أنت الرجل الذي سارع إلى نجدة واحدة من صديقاتي السلاحف".
كانت الملكة الشابة جميلة جدا، وكان صوتها عذبا جدا، وكانت نظرتها صافية جدا، وكان شعرها أشقر جدا، إلى حد أن الصياد لم يملك لحظة تردد.
احتضن الملكة، وفي الحال، بدأت الأوركسترا في عزف مارش الزفاف. ولم يشهد أيّ مراسل تليڤزيون الحفلة لأن التليڤزيون لم يكن موجودا بعد، ولكن يمكن إقناعك بأن هذا كان شيئا مختلفا عن حفلات الزفاف المترفة التي تعرض علينا اليوم.
يمكنك أن تتخيل بسهولة كم كان سعيدا هذا الصياد الشجاع الذي لم يعش من قبل إلا في كوخ متواضع. وقد وجد نفسه قريبا جدا من قرينته إلى حد أنه لم ير السنين تجري. وينبغي القول إن تغير الفصول لا يترك علامات على أعماق قاع البحر، ولا يسمح شيء هناك بقياس الوقت.
وذات يوم سأل أوراشيما زوجته: "كم من الوقت مضى على وجودي هنا؟"
قالت: "مرت ثلاثة أعوام، هل أنت قلق إذن؟"
"أبدا، وحتى إذا قلتِ لي إنني هنا منذ ثلاثة أشهر، فإنني سأصدِّقكِ تماما أيضا. ولكن لابد أن أمي العجوز صارت قلقة. وأنا متشوق جدا للذهاب لاحتضانها".
قالت له الملكة: "اذهب، لكن خذ معك هذه العلبة. وعليك على وجه الخصوص ألا تفتحها، لأنك إن فتحتها، سأكون مفقودة بالنسبة لك".
استردت الملكة درعها الخاص بالسلاحف، ومضت لتنقل الصياد إلى مسافة فراسخ من قريته. وحالما اختفت، نظر أوراشيما حوله، واعتقد في البداية أن زوجته قادته إلى بلد مجهول لأن أشياء كثيرة كانت قد تغيرت. وفيما كان يسير في اتجاه التجمع السكني الذي كان أشبه بمدينة منه بالقرية الصغيرة التي وُلد فيها، تعرّف الصياد مع هذا على منازل وصخور ومبان عامة كانت بالفعل تلك التي كانت في بلده القديم.
قال لنفسه: "ومع هذا، فعلت بها الأعوام الثلاثة كل هذا!"
ما أدهشه أكثر هو أنه لم يتعرف على أيّ شخص في القرية، التي كان يعرف، في كل مكان فيها، كل الناس. وأخيرا، عندما وصل أمام بيته، يحاول أن يفتح بابه، ولكن مفتاحه لا يدخل في القفل. ويقول لنفسه إنه لا شك في أن ثلاثة أعوام في قاع البحر قد تسببت في صدأ المفتاح ، ويطرق الباب وينادي:
"ماما! افتحي! إنه أنا! أنا أوراشيما، ابنكِ!"
ينفتح الباب بالفعل، ولكن امرأة مجهولة هي التي تتقدم إلى العتبة وتصرخ:
"هل ترون هذا السكير الذي يبحث عن أمه عندي، هل تريد أن أطلب الشرطة؟"
ويقول أوراشيما: "عفوا، لكن أمي كانت تعيش هنا، منذ ثلاث سنوات، عندما تركتها".
"ثلاث سنوات؟ لكنني أملك هذا البيت منذ أكثر من ثلاثين سنة. دعْني وشأني، ياشارب الكحول!"
وتصفق الباب في وجه الصياد التعيس الذي لم يعد يعرف مطلقا فيم ينبغي أن يفكر. ويبقى مذهولا لحظة تمتد طويلا، ثم يبدأ في سؤال المارة الذين يدهشهم جميعا زيه العتيق ويعتقدون أنه أبله. ويصل في الحقيقة إلى حد اليأس، عندما يلتقي أخيرا بامرأة عجوز تقول له:
"منزل الصياد أوراشيما ميزومو، لكن هاهو المنزل. إنه هناك، في نهاية شارع الميناء. أنا أعرف هذا المنزل جيدا، عشت دائما بجواره. يمكنني حتى أن أقول لك إنني كنت أعرفه، ذلك الصبي. عجبا! في الزمن الذي مات فيه غريقا في البحر، كنتُ في الثامنة، أما هو، فلابد أنه كان في العشرين... ولكن، انْحَنِ قليلا حتى أنظر إلى وجهك عن قرب! شيء غريب، هذا عجيب، لكنك تشبهه وكأنك أخوه. فهل أنت من أسرته؟"
"لكن، أنا ... أخيرا ... إنه ..."
"ما بالك، يا بني؟ أراك متأثرا جدا. مع هذا يمكن أن تكون لم تعرفه! هيا بنا، تعالَ إلى منزلي، كأس صغيرة سوف تنعشك ... تعالَ، اسمي كييوهيمي".
وبنصف وعي، دخل أوراشيما هذا المنزل الذي عرف فيه فتاة صغيرة جدا اسمها كييوهيمي. وعندما ابتلع كأسا من الكحول القوي جدا، أحس بأنه أفضل قليلا وقال:
"أنا أوراشيما ميزومو، وأنا أعرف أنني لم أغادر هذه القرية إلا منذ ثلاث سنوات".
انفجرت العجوز ضاحكة، ثم أخذت تحكي كل ما جرى منذ رحيل جارها. أمه ماتت حزنا عليه. وبيع منزلها، وتغيرت القرية، المواليد، الزيجات، الوفيات ...
وكلما واصلت الحكي، أحس أوراشيما بقلق مفزع يثور بداخله. هل كان السر في العلبة التي عهدت بها زوجته إليه؟ وناسيًا التوصيات التي قدمتها إليه، فتح العلبة التي تصاعدت منها في الحال سحابة بنفسجية غطت وجهه. وعندما تلاشت السحابة وتوقف الصياد عن السعال، أراد أن ينهض، غير أن ألمًا حادا عصر كليتيْه. ومنحنيا إلى الأمام، ومستندا إلى الجدار، نجح في السير إلى حيث المرآة التي أعادت إليه صورة شيخ أصلع تعلو وجهه التجاعيد.
كييوهيمى، التي كادت الدهشة تفارقها، رفعت المصباح نحوه وعلقت:
"حقا، إن نظري يضعف أكثر فأكثر. في الخارج، كنت أراك شابا. ولكن هذا صحيح حقا. أنت أوراشيما حقا ... وأعتقد حتى أنك تبدو أكبر من عمرك".
لم يقل الشيخ شيئا. وببطء، وعلى ساقيه اللتين كانت ترتعشان، خرج وسلك اتجاه الشاطئ. وعلى الشط، قام بدورة ليتفادى أطفالا كانوا يتسلون بتعذيب سلحفاة بحرية مسكينة تعذيبا شديدا. وظل جامدا بلا حراك حتى الغروب، محدِّقا إلى البحر حيث كانت الغيوم تمزج ظلالها الرمادية بالظل الرمادي للأمواج. ثم، عندما خفتت آخر أضواء النهار، جرجر أوراشيما قدميه بمشقة إلى كهف محفور في الشاطئ الصخري، وهناك، تمدد على الرمال، وانتظر بهدوء ساعة المدّ، وأخذ يتلو صلاة المحتضرين.




فى الزمن الذى عاش فيه أوراشيما ميزومو، كان الناس لا يذبحون السلاحف فى الياپان. وعلى العكس، كانوا يعتبرون أنها، وهى رعايا الله فى البحار، قد تعيش عشرة آلاف عام، ولم يكن لدى أى شخص فكرة إساءة معاملتها.
وبنفس الطريقة، فى مدغشقر، فإن كل ما ينتمى إلى البحر له طابع مقدس. وعلى هذا النحو فإن بعض الأشخاص لا يستعملون الملح أبدا ولا يأكلون إلا سمك المياه العذبة. وبالنسبة للسلاحف، ينطبق الشيء نفسه. والملاجاشيون لا يلمسونها أصلا، وإذا أنت التقيت بأحد السلاحف فى بداية رحلة فإنهم يؤكدون لك هناك أن الأمر يتعلق بفأل حسن.
وبطبيعة الحال فإنه يعيش، هذه الجزيرة الكبرى، سلاحف برية أيضا. غير أن الرب صممها، فى الأصل، للماء المالح، ولا يجب أن يأكل البشر إلا حيوانات تعيش على الأرض. ومن جهة أخرى، فإنه لو لم يكن أحد السلاحف فضوليا بصورة غير مفرطة فربما ما كان لنا مطلقا أن نلمح هذه الكائنات البطيئة الثقيلة على الأرض، فهكذا تحكى لنا خرافة ملاجاشية.
رغبت سلحفاة، كانت تعيش دائما فى المحيط، أن تعرف الأرض وسكانها. واقترح عليها طائر أن يساعدها كدليل، واتجها معا نحو داخل البلاد.
فى نهاية بعض الوقت، بدأ حيوان البحر المسكين يشكو وينتحب. إذ كان من الصعب جدا أن ينتقل على هذه الأرجل الصغيرة جدا وأن يحمل هذا الدرع السميك. وبدأت السلحفاة توجه اللوم لصديقها. دَبَّ خلاف بين المسافرين. وترك الطائر، غاضبا، رفيقه على طريق العودة.
ومنذ ذلك اليوم، صارت سلحفاة البحر سلحفاة البر. إنها تائهة، مع أطفالها، دون أن تتمكن من العثور على الطريق المؤدى إلى الشاطئ، ولا العثور على دليلها، الذى كان يود، دون شك، أن يتصالح معها.
جلاوكوس وسيلا
(اليونان)

تنتمى هذه القصة إلى الأساطير الكبرى. وقد رُويت فى كثير جدا من الأحيان إلى حد أننى أكاد لا أجرؤ على المخاطرة بروايتها مرة أخرى، ولكن ماذا؟ إنه ينبغى حقا أن يتم تقديم مثل هذه الشخصيات الأسطورية الأكثر شهرة هنا. ثم إنها ذات أهمية كبيرة للبحر.
كان جلاوكوس، الذى ولد فى أنثيدون، يقيم على شاطئ البحر ليمارس هناك حرفة صياد السمك. وقد عاش الحياة المألوفة لكل صيادى السمك، إلى اليوم الذى حدثت له فيه مغامرة غريبة. ذلك أنه بعد أن سحب قاربه إلى الشط قام بتفريغ سلة مليئة بأسماك جميلة أنزلها على الأرض لبيعها. وبالطبع فإن الأسماك التى كان قد اصطادها فى الليل كانت ميتة منذ ساعات. على أنه ما كاد جلاوكوس ينتهى من ترتيبها وفقا للحجم حتى أخذت كلها تهتز، وتقفز، وتتلوى إلى أن عادت كلها إلى البحر قبل أن يكون بوسع صياد السمك أن يتدخل.
"شيء غريب، قال لنفسه. هذا ليس عاديا!"
فكر لحظة، ثم مقتنعا بأن عشب الشاطئ يملك القدرة على منح الحياة والقوة، أكل منه ملء يديه. وجاءت النساء لشراء السمك وعندما رأينه أصابهن الفزع. وبالفعل فبمجرد أن امتص جلاوكوس العشب تمدد على الأرض وأخذ يتلوى، ويتثنى، ويقوم بقفزات نحو البحر. وفيما كان يستسلم لهذه التمارين غير المتوقعة، كان جسمه يتحول. ساقاه الاثنتان التحمتا ببعضهما وصارتا ذيل سمكة، وجذعه تغطى بالقشور، ويداه تحولتا إلى زعانف، واتخذ شعره ولحيته لون الطحالب وقوامها. ولم تفق النساء من ذهولهن إلا عندما كان جلاوكوس قد اختفى بالفعل، وجرفه انحسار الأمواج.
سبح جلاوكوس طويلا، حتى الصخور التى تحيط بجزيرة ديلوس حيث أقام داخل كهف تحت البحر.
لقد حدستم ما حدث: آلهة البحر جعلته ضمنها. ومنذ ذلك الحين، عرف حياة مليئة بالمغامرات كانت المغامرة الأفظع بينها دون شك لقاؤه مع سيلا، إحدى أجمل حوريات الأوليمپ.
ففى صباح فى الربيع كانت فيه السماء صافية والبحر هادئا للغاية، لمح جلاوكوس سيلا التى كانت تستحم فى خليج صغير حيث كانت الأمواج قد قامت بترسيب الرمل الأشقر مثل شعرها وناعم الملمس مثل بشرتها. وبمجرد أن رآها، وقع جلاوكوس فى حبها. واقترب ليطلب الزواج منها غير أنه كان قبيحا جدا بشعره الأخضر وجسمه المغطى بالقشور إلى حد أن الحورية أصيبت بالذعر وهربت نحو داخل الجزيرة. وغير قادر على اللحاق بها فقد أخذ يتوسل:
"تعالى. لا تهربى منى. أنا لا أريد إلا سعادتك. أنا أحبك. وسأكون قادرا على إسعادك!"
غير أن صوته الأجش كان يتسم بشيء من زمجرة وحش، وكلما صرخ أعلى كانت الحورية المذعورة تقفز من صخرة إلى صخرة.
ومقتنعا بأنه لن ينجح مطلقا فى إغوائها، مضى جلاوكوس للبحث عن سيرسى التى كانت أشهر الساحرات. وكانت سيرسى، ابنة الشمس، قد سممت زوجها، ملك السارماتيين. ولأن رعايا الملك المتوفى كانوا يلاحقونها فقد هربت مستولية على كنوز كبيرة. ولاجئة إلى سواحل صقلية، أمرت بأن يُبنى لها فى جزيرة آييا الصغيرة قصر خرافى تحرسه حيوانات شقراء متوحشة كانت قد استأنستها بمساعدة أدوية حيوانية سحرية. وكان الجميع يخشونها، لأنهم كانوا يعلمون أنها تملك أسرارا مفزعة.
وبالطبع فلأنها لم تكن تشبه أى امرأة أخرى، لا جسمانيا ولا خلقيا، فإن قبح جلاوكوس كان يلذ لها كثيرا. وقد اقترحت عليه فى الحال أن تصنع منه أغنى الآلهة وأقواها، غير أن جلاوكوس أجاب:
"أنت لطيفة جدا. ولكننى لسوء حظك أحب سيلا وقد جئت على وجه التحديد لأطلب منك أن تساعدينى فى إغوائها".
فى البداية بدت الساحرة حزينة جدا، ثم، بعد لحظة من التأمل، قالت:
"هذا مفهوم، وما دمت مشغوفا بها، فسأعطيك شرابا للحب، ويمكن أن أؤكد لك أنها لن تستطيع أن تقاومه".
أشعلت نارا وضعت عليه قِدْرا من الذهب. وداخل هذا القِدْر، أخذت تغلى أحشاء طائر القطرس، وعينىْ فأر الماء، ورماد عظام جاموس، وقبضة من الفلفل الأحمر، ووردة بيضاء وثلاث حصوات صغيرة لامعة. وعندما صارت المواد المغلية جاهزة، ذاقتها، وأعطت انطباعا بأنها وجدتها ممتازة، وصبتها فى وعاء زجاجى أعطته لـ جلاوكوس قائلة له:
"ستقوم بتفريغ محتوى الوعاء الزجاجى فى ماء الخليج الصغير حيث تأتى جميلتك لتستحم ثم ستختفى وراء صخرة وتنتظر".
انصرف جلاوكوس سعيدا جدا، وبعد أن صب شراب الحب فى البحر أخذ يراقب، وكان انتظاره لمدة قصيرة، لأن سيلا، جميلة أكثر من أى وقت مضى، ظهرت مع أول أشعة للنهار. وألقت شعرها الطويل وراء ظهرها، وجعلت رداءها ينزلق بطول جسمها، ثم، بقفزة رشيقة، غاصت فى الماء.
عندئذ شهد جلاوكوس مشهدا جمده من الرعب. حدث وكأن كل مياه الخليج الصغير أخذت فجأة تغلى. ولم يكن للثورة المفاجئة لبركان تحت الماء أن تثير دوامات أكثر. الجمال الأزرق الشفاف للأمواج أفسح المكان لأوحال خضراء، وشققت السطح فقاعات ضخمة، وتكونت أمواج بارتفاع أكثر من ثلاثة أمتار لتصطدم الواحدة بالأخرى قبل أن تذهب لتجلد الصخور والشاطئ وسط الظهور المفاجئ لزبد مائل إلى الصفرة. وبعد عدة دقائق من هذه العاصفة الغامضة، ظهر وحش على السطح وأخذ يطلق صيحات مفزعة. وضع الوحش أقدامه على الرمل واستطاع جلاوكوس أن يراه بالتفصيل بصورة أفضل قليلا. كان يتقدم ببطء ثقيل على دزينة من الأرجل المغطاة بالشعر والمسلحة بمخالب مسنونة. ومن جسمه المشوّه كانت تخرج ست رقبات طويلة جدا كانت تحمل ست رؤوس ذات أعين حمراء كالدم. وسمحت الأشداق الستة برؤية صف ثلاثى من أسنان شبيهة بأسنان الذئاب. تواصلت الصيحات، فكانت تذكر بصوت أعنف العواصف. وصارت نائحة وأليمة عندما قام الوحش، منحنيا على الرداء الأبيض المستقر على الرمل، بتمزيقه بمخالبه وأسنانه المعوجة.
وفكر جلاوكوس فى كل الشر الذى قاله عن سيرسى ففهم أنها انتقمت لنفسها منه بتحويل تلك التى أحبها.
يائسا وعاجزا، تابع الوحش الذى ألقى بنفسه من جديد فى الماء وسبح فى اتجاه صقلية. واعتقد للحظة أن الحيوان الشرير ذاهب لعقاب سيرسى، ولكن لا، فلم يكن أحد يستطيع أن يفعل شيئا ضد الساحرة. وعندما وصل إلى مدخل المضيق، قبالة هاوية شاريبدى، تجمد الوحش، وقامت الأمواج، دون إزالة أىّ شيء من قبحه، بتحويله إلى حجر.
وهو ما يزال هناك إلى اليوم، فى صورة صخر بحرى يخشاه البحارة ويطلق زمجرات مفزعة عندما يهيج البحر. ويقال حتى أن أذرعته الطويلة تمتد وأن أحدها أمسك دفعة واحدة بستة بحارة عندما كانت سفن يوليسيس تعبر المضيق.
غير أنه لم يحدث مطلقا أن نجح جلاوكوس ولا سيلا فى الانتقام لنفسهما من سيرسى.



تحت اسم الحوريات، صنف الإغريق كل إناث الآلهة اللائى اتخذن سكنهن فى البحار، الغابات، الأشجار، الجبال. ولأنهن كنَّ بنات زيوس، كان القدماء ينسبون إليهن مواهب كبيرة. كنَّ، على سبيل المثال، يحمين الخطاب ويشفين المرضى.
وفى الميثولوچيا الإغريقية، يصل عدد الحوريات إلى الآلاف، ومنهن النايادات (حوريات الأنهار والبحيرات) اللائى اخترن السكن فى الأنهار، والنيرييدات (حوريات البحر) اللائى كنَّ يعشن فى البحار. وبعضهن صِرْنَ شهيرات، مثل سيلا، بفضل المؤلف اللاتينى أوڤيد Ovide.
وليس هناك ما يدهش فى واقع أن سيلا هربت من حب أحد الآلهة. فعندما كانت الحوريات يتخلين عن إله، كنّ يرين أنفسهن مجبرات إما على قتل أطفالهن، وإما على أن يَمُتنَ هن أنفسهن. ومن أجل تفادى مصير قاس إلى هذا الحد، كانت بعضهن تتخلى عن هيئتهن البشرية. وكانت هذه حالة نيرييدى، هى أريثوزى، التى جرى تحويلها إلى نافورة هربا من صداقة الإله النهرى ألفى. كما أن دافنى، وهى حورية أخرى، يعنى اسمها "الغار"، لاقت نفس المصير تقريبا. ومرة أخرى كان أوڤيد هو الذى روى لنا هذه القصة.
دافنى، ابنة نهر پينى، رفضت الزواج من بشر فان، ولسبب أقوى الزواج من إله. إذ أنها أحبت الحرية. وفى نظرها، لم يكن للحب أن يكون إلا مصيدة. ومع هذا فإن الإله أپولون، بعد أن لمحها ذات يوم، عشقها فى الحال واندفع فى مطاردتها.
هربت النيرييدى الشابة. وكانت بارعة فى السباق، وعانى أپولون بعض الصعوبات فى ملاحقتها. ومع هذا فقد نجح فى الاقتراب منها. مذعورة، ولكن مستعدة للصراع حتى النهاية، اندفعت دافنى فى هروبها، عندما رأت أمامها نهر أبيها. صرخت "أبى، ساعدنى، أنقدنى!"
فى الحال، استولى خدر عليها، وانغرزت قدماها فى الأرض. وأحاطت بها بالتدريج قشرة، وظهرت فجأة أوراق شجر. وتحولت دافنى إلى غار.
وإنما على هذا النحو صارت الغار الشجرة المفضلة عند أپولون.
















ملكة بحر البلطيق
(ليتوانيا)

لا أعلم ما إذا كنتم قد دخلتم بيتا من بيوت صيادى السمك على ضفاف بحر البلطيق، أما أنا فإننى لم أر مطلقا مسكنا مليئا بنفس القدر من الأسرار، والشعر، والدفء. الغرف صغيرة، والجدران مغطاة بالخشب وبلاط الخزف، ويدخل الضوء الرمادى من خلال نوافذ ضيقة ذات ألواح زجاج صغيرة تطلّ على عرض البحر. وفى أحد هذه البيوت، وأمام موقد مرتفع مزخرف تطقطق نار جذوع الصنوبر فيه بصوت خافت، استمعتُ إلى بحار عجوز يحكى قصة چوراتا الجميلة.
وچوراتا، التى كانت تحكم البحار، كانت تسكن فى قصر تحت البحر تتكدس فيه الكنوز. وكان يحيط بها ما لا يحصى ولا يعدّ من الخدم الذين كان يسهرون فى آن معا على راحتها وعلى أمن رعاياها. ولكن، ذات يوم جاء يقصدها سرطان بحرى عجوز وقال لها:
"أنت تعلمين أننى، منذ وصلت إلى سن التقاعد وصار أولادى يتكفلون بإعاشتى، اعتدت أن أذهب عصر كل يوم للقيلولة داخل تجويف صخرى، قريبا جدا من الساحل. وأنا عجوز، لكننى ما أزال أملك الأذن المرهفة، وقد سمعت صيادى سمك يتكلمون عن شبكة جديدة تماما لا تستطيع أية سمكة أن تنجو منها. ويبدو أن صيادا شابا، اسمه كاستيتيس وهو مقيم على شاطئ نهر إسڤينتوچيا، هو الذى قام بنصب آلة الموت هذه".
الملكة، التى كانت تملك مجموعة رائعة من خيول السباق، استدعت فى الحال أسرع ثلاثة وثلاثين من سمك الكراكى وأمرتها بالانطلاق للبحث عن حوريات الماء الثلاث والثلاثين الأكثر جمالا فى العالم. انطلق فرسان السباق كالسهم، ومن المحيط الهندى، ومن المحيط الأطلنطى، ومن المحيط الهادى، ومن القطب الشمالى، ومن بحر الشمال، ومن البحر الأبيض المتوسط، ومن بحر الصين وبحر اليابان، وأخيرا، من كل جهات العالم، وصلت حوريات الماء الأكثر شهرة. وجمعتهن چوراتا فى مجلس حول مائدة من المرجان، وأصدرن حكما بالإجماع بالسجن المؤبد على صياد السمك كاستيتيس.
وتم إعداد كهف تحت الماء يقضى فيه أيامه دون أن يرى مرة أخرى أبدا أىّ شخص، تحت حراسة أخطبوط عملاق لم يعرف عنه المزاح فى الخدمة.
ولم يبق بالتالى إلا القبض على المخترع، وفكرت الملكة فى أنه إذا أخذت الحوريات كلهن يغنين معها فإنه سيُصاب بسحرهن ويقبل أن يغتسل ليلحق بهن.
وتنطلق الجماعة بالتالى وكل هذه الكائنات الحسناوات جالسات على حافة الشاطئ أخذن يغنين. كاستيتيس، الذى كان أمام كوخه وكان ينكب على اختراعه، رفع رأسه ورأى الحوريات. وكان عليه أن يقرص ذراعه ليطمئن إلى أنه لا يحلم. كان لم يشاهد من قبل مطلقا حفلا شبيها به. سمراوات، وشقراوات، وأسماك شرطة، بعضهن بيض، وأخريات سود، أو صفر، أو بلون المغرة [أكسيد الحديديك]، لكنهن كلهن جميلات للغاية. غير أن أكثرهن تألقا كانت چوراتا، بعينيها الواسعتين الخضراوين وشعرها الذهبى الطويل الذى تتلألأ منه ماسات ضخمة كالنجوم.
عندما انتهى الغناء، نهضت چوراتا ببطء وسارت وحدها نحو صياد السمك. ولأنها كانت تعيش دائما تحت البحر فإنها لم تر مطلقا صبيا وسيما مثل كاستيتيس. ظلت تتأمله طويلا، ثم استدارت نحو رفيقاتها وقالت لهن:
"لا أحد يسجن الجمال، عُدْنَ إلى بيوتكن، وسأبقى هنا، وأنا أتعهد بأن أعيد هذا الرجل إلى صوابه".
لم تجرؤ حوريات الماء على الاعتراض، ولكنهن غيورات قليلا من الملكة وغاضبات لأمرهن بالانصراف بدون داع، وفى طريق انصرافهن، مررن بالقصر ورَوَيْنَ لوالد چوراتا أن ابنته تواطأت مع العدو.
وبطبيعة الحال فإن الملك الهرم پيركوناس، الذى كان قد نقل سلطاته إلى ابنته لأنه منحها كل ثقته، غضب غضبا شديدا. وصرخ بصوت مرتفع جدا حتى أن كل سكان سواحل بحر البلطيق ظنوا أن عاصفة هوجاء على وشك الهبوب. وجمع الملك ناس تحت الماء، وأمرهم:
"اذهبوا، واغزوا البرّ. اقبضوا على بنتى وعلى من أغواها، واقتادوهما ميِّتيْن أو حيَّيْن".
زحف جيش ضخم من القشريات، والأصداف، والأسماك بقيادة حوت ضخم وتوجَّه إلى مصب نهر إسڤنتوچيا. الحوت الذى كان يتقدم الجيش كان كافيا، وحده، لسدّ كل عرض مصب النهر. وأحدث كل هذا اضطرابا لا يوصف، وكان على قوات الجيش أن تتقهقر فيما كان الچنرال يئنّ:
"اجذبونى إلى الوراء، أنا محشور. أسرعوا إلى نجدتى".
كان على سرطانات البحر أن تقضم الضفتين لتخليص قائدها، وأرجوكم أن تتخيلوا الجهد الذى لم يكن صغيرا.
عندما عرف پيركوناس ما حدث صار لونه بنفسجيا من الغضب.
"أنت جعلتنى موضوعا للسخرية، صرخ مخاطبا قائد جيوشه. من المؤسف أنه ليس عندى سجن كبير بما يكفى لوضعك فيه، وإلا فإنك كنت ستقضى حياتك فى زنزانة. اغرب عن وجهى! لا أريد أن أراك مرة أخرى فى بحر البلطيق".
رحل الچنرال، وهدأ الملك وانتهى إلى الإقرار بأنه كان أيضا مسئولا إلى حد ما عما حدث. لا أحد يرسل السمك للهجوم على برّ.
"هذا صحيح، استنتج، سأستخدم وسائل كبرى".
وأطلق على بحر البلطيق عاصفة لن يرى أحد مثلها أبدا. هدمت العاصفة قصر چوراتا، غير أن هذا كان لا أهمية له، لأن الملكة الشابة لم تكن لديها أىّ رغبة فى ترك كاستيتيس. كانت قد أدركت أن الحياة فى كوخ متواضع لصياد سمك فى صحبة الكائن الذى تحبه أفضل كثيرا من أغنى حياة فى العزلة. وباختصار، كانت قد اكتشفت أن الغنى الحقيقى ليس فى المجد ولا فى القوة، ولا فى الثروة، لكن حقا فى بهجة الحب.
وا أسفاه! كانت كراهية أبيها أقوى من كل شيء. لأن الكوخ أيضا جرفه الموج الهائج، ومات العاشقان مهروسيْن تحت الأنقاض مثل آلاف الأبرياء الذين لا شك فى أنهم لم يستحقوا أبدا غضب ملك المحيطات.



فى كثير من الأحيان، كان أسلافنا يعمرون قاع البحار بمعبودات، مثل چوراتا، ملكة بحر البلطيق. وبين كائنات المياه هذه، ينبغى أن نذكر النيرييدات الإغريقية. وكانت هذه الحوريات يعشن فى البحر الأبيض المتوسط، فى قصر يتلألأ بالأنوار، يقمن فيه بتسلية أبيهن، نيريه، بأغانيهن ورقصهن. وكنَّ يظهرن أحيانا على سطح الماء، راكبات سمادل الماء أو الخيول البحرية. وكنَّ نصف نساء ونصف أسماك، وكانت بعضهن شهيرات.
واحدة منهن، أكثر سعادة من چوراتا، تزوجت إنسانا. وشهد كل آلهة الأوليمپ أعراس حورية الماء ثيتيس وپيليه. إنها نفس ثيتيس التى أنجبت أخيل العظيم.
وفى تاهيتى، يتحدث الناس أيضا عن زواج حورية ماء من كائن بشرى.
ولم تكن "هينا" امرأة غنية جدا، ولكنها كانت تريد إسعاد ابنها الأثير، "هيما". وذات يوم، توسلت إلى الصبى أن يذهب فى الصباح الباكر إلى الشاطئ وأن يحفر حفرة يختفى فيها. وعندئذ ستأتى امرأة رائعة لتستحم. وسيكون على "هيما" أن يمسكها من شعرها ويحملها إلى ما وراء البيوت الأربعة الأولى فى القرية قبل أن يدعها تلمس الأرض. وإن نجح فإن الربة ستتزوجه.
مع طلوع النهار، توجّه "هيما" نحو النهر. ورأى حورية الماء تصل وتغوص فى الماء وتعود بعد ذلك بقليل إلى الشاطئ لتجفف شعرها الكثّ. أسرع الشاب، وأمسك بشعر الشابة، وخطفها.
أخذت الربة تصارع وتتوسل إلى مختطفها أن يطلق سراحها. "هيما"، معتقدا أنها ستسير بجواره، وافق على هذا، ولكنهما كانا لم يصلا بعد إلى البيت الثانى، فهربت الحورية.
فى اليوم التالى، عاد "هيما" إلى النهر. وفى ذلك اليوم، كان أقل سذاجة بكثير. وعندما ظهرت تلك التى أحبها من قبل، أخذها إلى مسكنه، دون أن يتوقف. قررت "هورى"، وكان هذا اسم الحورية، أن تتزوج ابن "هينا". وأنجبا طفلين فى غاية الجمال، وعاشوا جميعا سعداء على خير ما يرام.






























سرّ المدّ والجزر
(الجزر الأنجلو نورماندية)

يفسر العلماء حركة المدّ والجزر باجتماع دوران الكرة الأرضية والجاذبيتين القمرية والشمسية. ولن أخاطر بمعارضتهم، وإذا كنتم متشوقين لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع فإنه يمكنكم أن تطلبوا بعض التفسيرات من مدرس الجغرافيا. ومع هذا، دعونى أروى لكم ما أسرّت به إلىّ امرأة عجوز من جزيرة جيرنيسى. وعلى كل حال فإن التفسيرات العلمية شيء، وذاكرة الناس الذين يغوصون فى ماضى أسلافهم شيء آخر. وبين العلم والشعر ينبغى أحيانا أن ننجح فى إقامة توازن أترك لكم العناية بالعثور عليه.
هذه العجوز الجزيرية روت لى إذن قصة رئيس لدير ليهون الذى كان يشغل نفسه دائما بالسحر أكثر من وظيفته الوعظية. وكان الجميع يرتابون فيه، لأن بعضهم أكدوا أنه استسلم لممارسات غريبة. ورآه بعضهم يتحادث مع العديد من الشياطين ذوى القرون، وفاجأه آخرون وهو يلقى فى النار بكتب أخذت تتقافز مثل الضفادع بمجرد أن بدأ اللهب يلعقهم. وما يدعو إلى عدم تصديق هذه الشهادات هو أنه لا أحد شاهد فى يوم من الأيام كتابا واحدا يخرج من موقد، وأن وصف الشياطين قريب جدا من الوصف الذى يمكن أن نعطيه للتيس الأكثر عادية.
ومع هذا فإن الأمر الأكيد بصورة مطلقة هو أن رئيس الدير كان يملك كتاب الطلاسم Grand Mêle، وهو الكتاب الأكثر خطورة كما نعرف. فهو يحتوى على كل أسرار كل الطلاسم المؤذية وكل أعمال السحر. وهذا يوضح لكم إلى أى حد ينبغى الارتياب فيه. لا تسألونى ماذا يشبه، فأنا لم أره مطلقا وليست لدى أىّ رغبة فى رؤيته، لا من قريب ولا من بعيد. ودائما كان رئيس الدير هذا يخبئ بعناية هذا الكتاب، وكان يبحث فيه عن السر الأكبر.
وينبغى أن أقول لكم أن رئيس الدير هذا كان يقيم فى جزيرة صخرية صغيرة غير متصلة بالجزيرة الرئيسية باليابسة إلا خلال الجزر. غير أنه ذات يوم عاد فيه على القدمين من جيرنيسى، فوجئ رئيس الدير باكتشاف أن البحر ارتفع فى الوقت الذى كان ساعة الجزر الأشد انخفاضا.
وأخذ يركض، غير أن الموج كان سريعا جدا إلى حد أنه أدرك فى الحال أن شيئا ما خارقا للطبيعة قد حدث. وفى نهاية عصف الريح، كان عليه أن يتوقف ويتسلق على صخرة. وعندئذ، ناظرا نحو الشاطئ، رأى خادمه جالسا على كومة من أعشاب البحر الجافة وكان يقرأ كتاب الطلاسم.
كان رئيس الدير على علم تام بالأشياء الشريرة بما يكفى لجعله يفهم فى الحال الشيء الذى سيكون ضحيته بعد قليل.
"إيو، صرخ. ها أنت قد صرت مجنونا! ألا ترى إذن أننى أوشك على الغرق؟"
الخادم، الذى لم يتوقع سيده فى مثل هذه الحالة، اضطرب، وأغلق الكتاب، ونهض بسرعة.
"لا! صرخ رئيس الدير. لا تفعل شيئا كهذا. ابق هادئا وافعل ما سأقوله لك. عُدْ إلى الصفحة التى كنت تقرأها... بسرعة... بسرعة... بسرعة
- لكننى لم أعد أعرف أى صفحة كانت...، تلجلج المسكين. لم أعد أعرف".
ومرتجفا مثل ورقة شجر، عاد يتصفح الكتاب بسرعة.
"إنها فى الموضع الذى يوجد فيه صورة تمثل موجة ضخمة فى شكل شيطان. ابحث بسرعة. إنها عند ثلثى الكتاب.
- ألا تعرف رقم الصفحة؟
- بالطبع لا. أنا أعرف هذا الكتاب عن ظهر قلب، لكننى لم أعرف مطلقا أرقام الصفحات! هيا، أسرع. وإلا سأموت".
تكسرت الأمواج بفرقعة على الصخر داخلة إلى حيث كان المسكين، الذى كان مبتلا بالرذاذ بالفعل، يتشبث.
"ها هى الصفحة، صرخ الخادم. لقد وجدتها. ولكن ما العمل؟
- عُدْ إلى حيث كنت فى الكتاب، ولكن اقرأ بالمقلوب
- ماذا قلت؟ هل ينبغى أن أواصل القراءة؟"
كانت ضجة الدموع مرتفعة بحيث تلاشت الأصوات.
"لكن لا، أيها الأحمق. إذا فعلت هذا، سأهلك. ينبغى أن تقرأ بادئا بالنهاية وعائدا إلى البداية".
لا أعرف ما إذا كنتم قد جربتم بالفعل أن تقرأوا نصا بالمقلوب، لكننى أدعوكم إلى أن تفعلوا هذا، وستدركون أن الخادم المسكين قد أصيب بالجنون.
ومع ذلك فقد بدأ يتلجلج بكلمات غير مترابطة، غير أنه أخطأ، وعاد إلى الوراء، ثم إلى الأمام، ونسى كلمة، وفاصلة، وأضاف ترقيما دون أن يرغب فى هذا، حتى البحر، بدلا من أن ينحسر، دخل فى الهيجان الأكبر.
ولم ير أحد مطلقا مدًّا بمثل هذه السرعة مصحوبا بمثل تلك العاصفة.
وعندئذ، وقد استولى عليه الذعر، مطاردا بالأمواج التى انقضت تهاجم الجزيرة، ابتعد الخادم عن الشاطئ. وحالما صار محتميا بالحاجز، عاد، هادئا أكثر، يقرأ بالمقلوب. عندئذ هدأ البحر وانحسر الموج بسرعة. غير أن هذا كان بعد فوات الأوان. ولم يعثر أحد مطلقا على الكاهن المنتهك للمقدسات، أما الخادم الذى أفزعته القوة الغريبة لكتاب الطلاسم فقد حاول تدميره، غير أنه يبدو أن البحر لفظ الكتاب كما يقذف سمكة وأنه ما من موقد قبل مطلقا إحراقه إلى رماد.
وعلى كل حال فإنكم ستجدونه ذات يوم، وأنا أنصحكم بأن لا تفتحوه، لأن له قدرات أخرى غير إحداث مدّ البحر. وعندما لا نعرف حقا سر هذه الأشياء فإن من الأفضل تركها تستريح فى سلام تحت غبار الزمن.



أن تعرفوا أسرار الشيطان، هذا يمكن أن يسمح لكم بإحباط دسائسه، غير أن هذا فى منتهى الخطورة أيضا. ورئيس دير ليهون لم يكذبنى!
ويبدو أنه كان يوجد قديما الكثير من كتب السحر. وبالإضافة إلى هذا كانت فيها نقطة مشتركة؛ فعندما كان المرء يحاول إحراقها، كانت تقفز فى النار، وكأنها تريد الخروج منه. أحد هذه الكتب اسمه كتاب الطلاسم الصغير Le Petit Albert، ولكن، صدقونى، من الأفضل ألا تبحثوا فيه. والأشخاص الذين غامروا بقراءته كانوا يختفون ببساطة، دون أن يعرف أحد ماذا كان مصيرهم.
وفى أريافنا، ما يزال القرويون يتحدثون عن الشيطان، وأنتم تعرفون بالتأكيد العديد من الأساطير حول موضوعه. وربما حتى سمعتم أن هناك أفراد قاموا بتوقيع أحلاف معه. ومع هذا فإنكم لا تتصورون إلى أى حد كان الشيطان قويا. وكون بعض البشر قبلوا خدمته أمر ممكن جدا فى نهاية المطاف، أما أنه كان قادرا على الإخلال بالنظام الطبيعى للأشياء فإن هذا هو ما يبدو خارقا أكثر كثيرا. وكان قد جرؤ على تعديل ساعة المد وذات يوم ساعد مجرى ماء على الالتحاق بالبحر. وإذا كان الكورسيكيون يرتابون كثيرا فى نهر ليامون، فذلك لأنهم كانوا قد عقدوا قديما اتفاقا مشؤوما مع الشيطان.
وهذه القصة قديمة جدا. كانت كورسيكا قد ظهرت لتوها من الماء. وقد انصرف الجن الذى كانوا قد أعطوا للجبال هيئتها. وكانت أمهم، الطبيعة، قد وجدت نفسها وحيدة وسط البحر المتوسط وأخذت تبكى. ودموعها، التى جرت على منحدرات جبل ريتو، كونت ثلاثة أنهار: الجولو، والتاڤينيانو، والليامون.
قرر الإخوة الثلاثة أن يذهبوا ليروا البحر، ولأنهم كانوا يعرفون أنهم لن يلتقوا به بعد ذلك مطلقا، فقد ودعوه، وكان كل واحد منهم يرغب فى أن يكون أول من يصل إلى الهدف المحدد.
ولهذا اتجه جولو وتاڤينيانو بأسرع ما كان بوسعهما نحو الساحل. أما ليامون، الذى توقف بسبب العديد من العقبات، فقد يئس من الوصول قبل الآخرين. وعندئذ لمح جنيا مجنحا قال له: "أنا الشيطان، وإذا أعطيتنى كل عام روحا بشرية، فإننى سأساعدك". قبل ليامون دون تردد، مقتنعا بأن المتنافسين معه لن يتغلبا عليه. أسرع عبر الثغرات التى فتحها الشيطان، مدفوعا بالرغبة فى كسب الرهان وألقى بنفسه فى البحر فى الحال.
ومنذ ذلك الحين، وخلال قرون كثيرة بعد ذلك، لم ينس ليامون فى يوم من الأيام أن يدفع ضريبته السنوية.




























جنى جبل تان ڤيين
(ڤييتنام)

كان هناك قديما، عند سفح جبل تان ڤيين حطاب شاب اسمه "مين"، عاش وحيدا في كوخ من الأغصان. وفي كل صباح، كان يدلف إلى الغابة، ويقطع الأشجار، ويقوم بتقطيعها إلى أشكال مدورة كان يدحرجها حتى النهر. وهنا كان التجار يأتون ليشتروا الخشب الذى كانوا يشحنونه فى سفن طويلة ذات أشرعة خيزرانية للذهاب بها نحو البحر.
"مين"، الذى لم يعرف سوى الغابة، كان يفكر أحيانا فى البحر والبواخر التى يصنعونها بخشبه، ولكنه كان يعرف أن حياته كانت هناك، لأن الحطابين خلقوا للغابة، فلم يعلل نفسه بأىّ أمل فى أن يهبط فى يوم من الأيام إلى الساحل.
وذات يوم، قطع شجرة كان جذعها ضخما جدا وكثير العُقد جدا، إلى حد أنه احتاج إلى طول النهار لكى يفرغ منه. كان الشمس قد غربت فى ذلك الحين عندما سقطت الشجرة أخيرا بفرقعة عنيفة من الأشواك المهروسة. أخذ "مين" فأسه وعاد إلى مسكنه، عازما على تقطيع الشجرة فى صباح اليوم التالى. فقط، عندما عاد بعد ليلة جيدة من الراحة، كانت الشجرة الضخمة واقفة ولم تكن تحمل أىّ آثار لضربات الفأس. وحدها الأشواك المهروسة أثبتت أن "مين" لم يخطئ الشجرة وأنه لم يكن يحلم.
الحطاب الشاب، الذى لم تكن تنقصه الشجاعة، استأنف العمل، وهو فى حيرة من أمره، وقضى نهارا جديدا فى الضرب بالفأس بقوة.
وفي الغسق، سقطت الشجرة، وبعد أن قطع "مين" حوالي مائة خطوة فى اتجاه كوخه تغطى بغطاء وعاد بلا ضوضاء ليختبئ لكى يراقب. ولم يبق متربصا تحت الأدغال منذ ساعة إلا ووصل شيخ مجهول. أخذ الشيخ يلاطف الجذع الراقد، وفى الحال نهضت الشجرة وعادت إلى مكانها. غاضبا ظهر "مين" خارجا من مخبئه وهو يصرخ:
"قل إذن، أيها الشيخ المجنون، من الذى يدفع لك لكى تدمرّ عملى؟ هل تعتقد أن من الممتع تقطيع نفس الشجرة مرات عديدة؟"
بصوت جميل ولطيف وعميق، أجاب الشيخ "أنا جنى الجبل، وهذه الشجرة كانت صديقتى منذ البداية. إن عمرها أكبر كثيرا مما تعتقد فهى مولودة مع الأرض. إنها مكان راحتى. أنا أعرف أن صنعتك تضطرك إلى قطع الأشجار، لكننى أطلب منك أن تترك هذه الشجرة. وإذا وافقت، سأعطيك هبة عبارة عن عصا سحرية سوف تسمح لك بشفاء أمثالك".
قبل "مين"، وترك الشيخ وشجرته، وذهب إلى أقرب قرية حيث استطاع بلا انتظار أن يجرب عصاه على أربعة مرضى أعطوه مالا أكثر مما كان يكسب من قطع الخشب خلال شهر. وفهم أن الجنى أراد أن يبعده عن غابته، ولكنه قال لنفسه أنه لم يعقد صفقة خاسرة. كان استعمال العصا أقل صعوبة من استعمال الفأس. فكر "مين" من جديد فى البحر الذى لم يره مطلقا، وانطلق يحاذى مجرى النهر حتى مصبه. وفى كل قرية عبرها قام بعلاج عدد من المرضى وكسب ما يعيش عليه بكل سهولة.
وعندما وصل إلى شاطئ البحر، رأى أطفالا مسلحين بالعصىّ يهاجمون بضراوة أحد الزواحف الضخمة كان مريضا بالفعل. طرد "مين" الأطفال و، بضربة من عصاه، شفى الثعبان.
"وصلت فى الوقت المناسب، قال الحيوان الزاحف الذى كانت له عينان سوداوان جميلتان، وإلا كنت ضعت.
- ولكن أية فكرة فى أن يأتى حيوان من البحار ليتنزه على الشط؟
- لا تؤنبنى، تنهّد الثعبان. إننى أعرف. كان أبى ينهانى دائما عن هذا، لكننى أردت أن أرى كيف تسير أحوال الناس. هذا درس لن أنساه أبدا، يمكنك أن تكون واثقا من هذا.
- كان من حظك أنك لقيت أطفالا. لو أنك لقيت رجلا لكان قتلك بالتأكيد من أول ضربة.
- اسمع، قال الثعبان، أنا ابن ملك بحار الجنوب. أنت أنقذت حياتى، هذا عمل يستحق المكافأة. تعال معى، سأقدمك إلى أبى".
تبع "مين" الثعبان حتى قصر ملك بحار الجنوب حيث أقيمت احتفالات كبرى على شرفه. وقد قبل الاحتفالات وكلمات الشكر، غير أنه لم يرغب فى الحصول على أى مكافأة. وعندما اقترح عليه الملك أن يحرسه فى قصره، قال:
"أشكرك، لكننى الآن بعد أن رأيت قاع البحار أرغب فى العثور على غابتى. فأنا لم أخلق للحياة هنا أكثر مما خلقت للحياة فوق الجبل".
الملك الذى كان حكيما فهمه جيدا جدا، وعاد "مين" إلى جبل تان ڤيين حيث وصل ليشهد نهاية الجنى الشيخ الذى قال له:
"إذا عدت إلى هنا بعد أن تكون رأيت كثيرا من الأشياء، فهذا يعنى أنك تحب هذه الغابة كما أحببتها أنا نفسى، لأننى عشت نفس المغامرة مثلك. وسوف يمكننى أن أكسب بكل هدوء مملكة الضياء، وستكون أنت أيضا حاميا جيدا للجبال والغابات". دفن "مين" الجنى الشيخ أسفل شجرته، وأخذ مكانه بين أغصان الشجرة. وكان ينزل منها كل صباح ليعتنى بالمرضى الذين كان الناس يأتون بهم إليه، لأن سمعته انتشرت فى كل البلاد. وكان الناس يثنون كثيرا على جماله، وشبابه الدائم، وكرمه، ومقدرته إلى حد أن ملك البلاد ذهب لرؤيته ذات يوم وعرض عليه يد ابنته للزواج. قبل "مين"، غير أن ما كان يجهله الجميع هو أن الثعبان الذى صار ملك بحار الجنوب عند موت أبيه، كان يحب الأميرة الشابة.
تم الزواج على الجبل حيث تواصلت الاحتفالات سبعة أيام وسبع ليال. ثائرا مهتاجا، عبأ الثعبان الأسماك، والسلاحف، والأخطبوطات، والأصداف، والأمواج، ورياح البحر، لاقتحام الجبل، ومعاقبة "مين"، وخطف زوجته.
وعندئذ شهد الناس معركة لم يعرف العالم مثلها فى يوم من الأيام. كان البحر كله هو الذى انطلق ليغزو الجبل. الحيوانات، الأمواج والرياح، المدّ والجزر والعاصفة، كلها صارت تتكسر على الغابة. لأنه، منذ لم يعد "مين" حطابا، كبرت الأشجار مرتفعة جدا ومضمومة جدا إلى حد أن جذوعها وأغصانها كانت تشكل متاريس منيعة.
تكسرت آلاف الأمواج عند سفح جبل تان ڤيين، وكانت كلها عاجزة عن تحطيم الجسور الطبيعية للغابة.
وإذا ذهبت ذات يوم إلى هذا البلد العجيب، سوف تكتشف أن الأمواج تواصل دائما هذا الصراع المستميت وسوف ترى أيضا أن "مين" وزوجته يواصلان الحياة فى هدوء وحب على قمة جبل أبدى.
وحدهم البشر يعكرون أحيانا سلام هذا البلد، غير أن الغابة ستنتهى حقا باستعادة حقوقها. إنها سوف تفرض السلام على البشر كما فرضته على البحر.



قديما، كان الناس يتصورون أن الأرض مسكونة بكائنات مرعبة. الأفعوانات، هذه الزواحف العجيبة، كانت تسكن أريافنا، كانت تقتل المتهورين الذين كانوا يجرؤون على الاقتراب منها. فلماذا كانت أعماق البحار، غير المعروفة جيدا، والمعادية، لا تخفى وحوشا مماثلة؟ وإلى الأخطار التى كان يمثلها البحر، العواصف، وصخور الشاطئ، أضاف الخيال الشعبى خطرا آخر: الثعابين. وبالنسبة لقدماء الپيروڤيين، كان لهذه الحيوانات من جهة أخرى أصل؛ كانت مولودة من الماء فى لحظة الطوفان الذى غمر الأرض. وكان بعضها يفضل الحياة وسط الناس، والبعض الآخر فى المحيطات، مثل هذا الذى يحكى عنه "مين" الحطاب.
وفى الرحلة العجيبة للقديس براندان Merveilleux voyage de saint Brandan تشهد مبارزة بين هذه الزواحف الضخمة. أحدها، وكان أقوى من خمسة عشر ثورا، كان يشق الماء بسرعة خارقة، قاذفا النار من فمه.
ومع هذا كانت هذه الحيوانات لا تظهر إلا فى الحكايات. وفى 1819، يبدو أن سفينة الصيد سالى Sally، هاجمها ثعبان بحر على سواحل لونج آيلاند. وفى 1848، لمح طاقم سفينة، ديدالوس Daedalus، بدورهم "شيئا ما غريبا يقترب بسرعة نحو السفينة. وهذا ما كتبه قبطان الباخرة، فى تقرير بتاريخ 11 أكتوبر:
"كان قطر الثعبان من 40 إلى 50 سنتيمترا خلف الرأس، الذى كان بلا جدال رأس ثعبان...؛ وكان لونه أسمر داكنا، ببياض مائل إلى الصفرة حول العنق . ولم تكن له زعانف؛ ولكن شيئا ما أشبه بعرف حصان، أو بالأحرى بملء حضن من الطحالب، كان يتموج على الظهر".
ودقق، بدوره أحد النقباء البحريين فى "ديدالوس" فى مذكراته الخاصة: "إنه يعطيك تماما الانطباع بأنه ثعبان ضخم أو أنقليس ضخم".
وتحدث بالتأكيد ظواهر غريبة للغاية. فهل كان هؤلاء الناس ضحايا خيالهم أم أنهم رأوا بالفعل حيوانا خرافيا مثل ثعبان البحر؟ ويبقى المحيط مليئا بالأسرار، إذنْ دعونا تأسرنا حكاياته التى، بدورها، يمكن أحيانا أن تجلب لنا إجابة.


























صياد ورق الشجر
(ألبانيا)
ليست حرفة صياد السمك سهلة دائما، وبدون قليل من الحظ يحدث أن هؤلاء العاملين فى البحر قلما يتم تعويضهم عن جهودهم. وعلى هذا النحو، وجد أب شجاع لأسرة فى ساحل البحر الأدرياتيكى، بالقرب من رأس سامانا، كثيرا من الصعوبة فى إطعام أطفاله الخمسة. ولم يكن صيد السمك وفيرا فى يوم من الأيام فى الحقيقة، بل جاءت لحظة بقى فيها عشرة أيام دون أن يجلب أقل قدر من السمك.
"كل هذا ظلم شديد، قال أهل قريته، لأنه كان الأكثر عملا وكان يعرف حرفته أكثر من أى شخص".
كانوا يرثون لحاله كثيرا، ولكن لأن كل الناس كانوا فقراء فإنه لا أحد كان فى وضع يسمح له بأن يقدم له مساعدة. جاع أطفاله ولم تستطع زوجته التى لم تكن صلبة جدا إلا أن تغسل قليلا من البياضات لتكسب ما تشترى به الخبز.
الرجل الشجاع قام بالفعل بحرفة أخرى، غير أنه لم يجد عمالا يستأجرهم. ثم، لأنه أحب البحر، كان يأمل دائما أن ينتهى إلى أن يبدو كريما معه.
وذات يوم فيما كان الملك يمر من هناك، سمع الأطفال يشتكون من الجوع. استعلم وقيل له كم أن صياد السمك هذا الفاضل جدا يعانى من سوء الحظ، وقرر الملك الغنى والطيب أن يساعده.
"أريد أن أعمل شيئا ما من أجلك، قال له، لكننى أتمسك تماما بأن تبقى صياد سمك. ستواصل حرفتك، وفى كل مرة تعود فيها بشيء ما فى شبكتك، سوف تأتى لإحضاره على كفة ميزانى. وفى الكفة الأخرى سأضع نفس الوزن من النقود الذهبية، وسيكون هذا الذهب لك".
من جديد، ممتلئا بالشجاعة والأمل، عاد صياد السمك إلى البحر. مضت ثلاثة أيام، ثلاثة أيام وثلاثة ليال دون دقيقة واحدة من الراحة. ثلاثة أيام وثلاثة ليال من التجديف، وطرح شبكته، وسحبها دون أن يرى ظلا لسمكة.
"لقد حلَُت بى اللعنة! أخذ ينتحب. سنموت كلنا من الجوع".
عاد صياد السمك منهكا إلى المرسى، ولكن قبل إرساء قاربه، طرح شبكته للمرة الأخيرة، وعندما سحبها، لم يجد فيها سوى ورقة شجرة بلوط تالفة بالفعل بشدة بالماء المالح. كان على وشك الإلقاء بها عندما قال له أحد رفاقه:
"لماذا لا تجرب أن تحملها إلى الملك؟ إنه لم يتحدث عن السمك، لقد طلب منك أن تحمل إليه كل ما تجلبه لك شبكتك.
- سيتصور أننى أسخر منه، وربما أمر بإلقائى فى السجن؟
- لا، لن يفعل هذا. إنه ملك طيب. ثم إننى مستعد تماما للشهادة بأنك اصطدت بالفعل هذه الورقة".
كان صياد السمك يائسا إلى درجة أنه وضع الورقة فى جيبه ومضى فى الطريق إلى القصر الملكى.
عندما رآه الملك يصل بغنيمته، انفجر ضاحكا.
"" يا صديقى المسكين، قال، هذه الورقة خفيفة إلى حد أنها لن تقوم حتى بتحريك شعرة من ذراع ميزانى. ولكن أخيرا ما دمت قد جئت حتى هنا لنحاول التجربة على كل حال".
وضع صياد السمك الورقة على الكفة التى سقطت وكأنها محملة بالرصاص. وبدأ أمين خزانة الملك يضع نقودا ذهبية على الكفة الأخرى. وبصوت مرتفع، أخذ أحد الكتبة يَعُدّ.
"قطعة، قطعتان، ثلاث قطع..."
الميزان لم يتحرك مطلقا. وكان يلزمه ستون قطعة ذهبية لكى يرتفع أخيرا الكفة التى توجد فيها الورقة.
انصرف صياد السمك بقطعه الذهبية، نظر الملك، الذى لم يحنث بعهده، إلى الورقة. تم توجيه دعوة إلى كل علماء المملكة إلى القصر حيث أقاموا وقتا طويلا يفحصون ورقة شجر البلوط هذه الغريبة للغاية. وانكبوا على كل التحليلات التى استطاع العلم أن يسمح بها، وفى نهاية المطاف كانوا مضطرين تماما إلى الإقرار بأن هذه الورقة لا تملك أية خصوصية أخرى سوى وزنها.
وبطبيعة الحال فإن صياد السمك الذى صار هناك شك فى أنه ساحر تعرض للتحقيق، غير أن المحققين، الذين كانوا قضاة نزيهين، أعلنوا أنه كان أكثر سذاجة من أن يكون ساحرا.
ولم يعرف هو نفسه شيئا. ولم يكن بوسعه أن يعرف شيئا، لأنه لم تكن لديه ذاكرة تكفى ليتذكر أدنى تفاصيل حياة طفولته.
ومع هذا فإنما فى طفولته الباكرة جدا يرقد سر هذه الورقة. ذلك أن صياد السمك لم يكن إلا فى الثالثة أو الرابعة من عمره عندما قام شغيل، جار لأبيه، بقطع شجرة بلوط صغيرة نبتت على حافة حقله وألقى بها فى الطريق. والتقط الطفل هذه الشجرة الصغيرة جدا وزرعها فى مكان لم يكن يزرع أرضه أحد. وعرفانا بالجميل، انتهزت شجرة البلوط، التى كانت قد كبرت بحرية، هذه المناسبة لتشكر ذلك الذى تدين له بالحياة.
وبطبيعة الحال فلأنها كانت تملك القدرة على تجنب المصير السئ، قامت بترتيب ألا يسحب صياد السمك من الماء بعد ذلك شبكة فارغة.


يحتفظ البحر أحيانا بالكثير من المفاجآت الكبرى فهو يمكن أن يصنع حظ أتعس التعساء. وعلى هذا النحو هناك هذا الشاب الجزائرى، الذى يكتشف فى بطن سمكة، ليس ورقة شجر، بل زجاجة مليئة بالذهب، وفى وقت لاحق، خلال مرة أخرى فى صيد السمك، خاتما كان ينفذ كل الأوامر التى كان يأمره بها. ولا حاجة إلى أن أقول لكم أن هذا الشاب صار غنيا جدا وقويا جدا.
ومن الجلى أن الزجاجة، والخاتم، وورقة الشجر، كانت تملك قوة سحرية. وفى حكايات عديدة، نشهد ظهور هذه الأشياء، وليس فقط العصا التى لابد أن تملكها كل جنية، بل أيضا نايات، ومصابيح، وحيوانات. وللحصول عليها أو اكتشافها، لابد للمرء من أن يكون جديرا بها. وهى عندئذ تحمى البطل من الفقر وتساعده فى التغلب على كل العقبات. شابة رومانية "عانت من سوء الحظ"، مثل صاحبنا صياد السمك الألبانى، جرت حمايتها من حياة بائسة بفضل قطعة من الحرير، سحرية بكل تأكيد. والقصتان من جهة أخرى متقاربتان جدا من إحداهما الأخرى.
ومطرودة من كل البيوت التى حاولت أن تلجأ إليها حيث كان يبدو أنها تجلب سوء الحظ، فإن ماريا آوتها أخيرا امرأة عجوز. وهذه الحامية غير المتوقعة لم تكن تخشى صديقتها الشابة كثيرا، لأنها كانت ساحرة إلى حد ما وكانت تستطيع تجنب المصير السئ.
وكانت ابنة امبراطور البلد المجاور تقوم بالإعداد لزواجها. وقد صنعوا لها فستانا رائعا من الحرير، غير أنه لوحظ، فى عشية الزفاف، أن الفستان تنقصه قطعة. الساحرة، التى كانت تملك هذه القصاصة من القماش، قررت أن تساعد محميتها. وأخبرتها أنها ستبيع النسيج لمن يدفع لها ما يساوى وزنه ذهبا. وذهب خطيب الأميرة إلى القصر ليبحث عن أكياس عديدة من الذهب.
وبالفعل، وضع على الميزان أولا دوقية، ثم اثنتين، ثم ثلاثا، غير أن قطعة الحرير كانت أثقل فى كل مرة. ولم تكف ثلاثة أكياس من الذهب وكان الملك نفسه مضطرا إلى الصعود بنفسه إلى الكفة لتحقيق التوازن. وعندما رأت ذلك، اتخذت الأميرة الصغيرة القرار بفسخ خطوبتها والزواج من تلك التى كانت، قديما، تجلب سوء الحظ، حيث أن الحرير سيكون ملكا لها.
ومنذ ذلك اليوم، صارت الفتاة الفقيرة سعيدة جدا، مثل أولئك الذين كانوا يحيطون بها، ومحضت صداقة عميقة للساحرة العجوز.





































الشحاذ الجميل
وروح اللآلئ
(ألمانيا)

فى جزيرة تقع فى أقصى شمال الجزر الألمانية، عاش صياد سمك شديد الفقر، وعرف طوال حياته كثيرا من المصائب. ماتت زوجته وابنتاه من مرض غامض، ولم يبق له سوى ابن فى حوالى العشرين من عمره. ومنهكا بعمله، أحس الرجل المسنّ بأن الموت يقترب. ابنه، الذى كان جميلا وقويا، لم يرغب فى أن يكون صياد سمك فكان يقضى وقته يشحذ فى القرى.
"هانس، يا بنىّ، قال صياد السمك ذات مساء، سأترك الدنيا قريبا. ويسبب لى ضيقا شديدا أن أتركك وحيدا على الأرض حيث الحياة شاقة جدا. فأنت لن ترث حتى هذا البيت الذى لا أملكه. وليس عندى أىّ شيء أتركه لك، بل، على العكس، هناك شيء ما سيُطلب منك.
- تكلم، قال هانس. أنت تعرف جيدا، يا أبى، أننى أصلى كل يوم من أجلك، وأننى بعد موتك سأصلى من أجل راحة روحك.
- شكرا لك على صلواتك، يا صغيرى، لكنك تعرف أنه ليس عندى شيء كبير أحتاج إلى المغفرة عنه. ومع هذا فليس هذا ما أريد أن أحدثك عنه. لقد اكتشفت، بين صخور شاطئ البحر التى فى غرب جزيرتنا، جنية بحر أراقبها منذ بعض الوقت. إنها جميلة، ولها صوت ملئ بالسحر و، بالإضافة إلى هذا، تملك قلائد من اللآلئ لم تر مثلها فى يوم من الأيام. لكنها، عندما تمر سفينة فى البحر فى منطقتها، تنطلق فى الغناء وتجعل لآلئ قلائدها تلمع فى الشمس. وعندما يسمعها البحارة وصيادو السمك أو يرونها يصيبهم الجنون. أيضا هذه الكائنة الشريرة مسئولة عن العديد من حوادث غرق السفن حيث مات كثير من البحارة الشجعان".
رسم هانس إشارة الصليب. وكان يستمع، خائفا إلى حد ما من فكرة أنه أمكن أن يتعرض أبوه لخطر كبير إلى هذا الحد دون أن يكاشف عنه أحدا.
"وماذا تريدنى أن أفعل، وحدى ضد هذا الوحش؟ سأل هانس.
- ستبدأ بتنبيه كل صيادى السمك وكل البحارة الذين قد يتعرضون لخطر أن يضلوا بالقرب من هذه الصخور. وأنا أوصيك بالاحتراس، لأنه لا أحد يعرف ما الذى تقدر عليه هذه الجنية. ثم، عليك أن تبحث عن طريقة لمنعها من إيذائك".
وعد الابن، وعندما سمع الأب قسمه، أغمض عينيه وغادر بهدوء عالم الأحزان هذا.
وبمجرد دفن أبيه، بدأ هانس يشحذ من جديد. وفى كل قرية مرّ بها، كان يتوقف طويلا تحت تمثال للمسيح المصلوب أو داخل كنائس وكان يصلى فى صمت. وسرعان ما عرفه كل سكان الجزيرة. سموه "الشحاذ الجميل" وكانوا يهمسون بأنه مبعوث الله على الأرض.
"أنتم تدركون، هكذا كان يقول الأكثر ورعا الذين كانوا أول من أحبوه، هو يشحذ، هذا واقع فعلى، غير أنه ينشر الكلام الطيب، وينقذ حياة البشر. أنتم ترون، قام بالفعل بتنبيه كل صيادى السمك فى الجزيرة، وهو فى الوقت الحاضر يقضى ليله ونهاره على الشاطئ لينذر البحارة عن المصائب التى تتربص بهم إذا ذهبوا إلى الصخور الغربية.
- ولكن ماذا هناك إذن، على تلك الصخور الغربية؟ هكذا يسأل الأكثر تشككا.
- لا نعرف. وربما كان الشحاذ الجميل هو الوحيد الذى يعرف.
- أليس من المحتمل أنه يسخر منا؟
- فى كل الأحوال. أنتم تعرفون جيدا أن مئات الأشخاص ماتوا لاقترابهم من هذه الصخور البارزة. أما منذ ظهر الشحاذ الجميل على الساحل فإنه لم تغرق سفينة واحدة".
كانت تلك هى الحقيقة، وانتهى الناس جميعا إلى الإقرار بها.
واستمر هانس فى مهمته، واعيا بأنه مخلص لإرادة أبيه.
ومع هذا، حدث ذات يوم أن سفينة لم يستطع أن ينبه طاقمها ذهبت وتحطمت على الصخور. وكان على متنها ستة وعشرون ملاحا، ونوتى حدث، وأربعة عشر راكبا، منهم امرأتان وخمسة أطفال. وكان الإحساس بالكارثة أنها مصيبة كبرى، وفكر هانس فى أنه، للصراع مع هذه الجنية بصورة أفضل، لابد من معرفتها. ولأنه لم يكن يستطيع أن يحيا دون أن ينام أبدا، فإنما على وجه التحديد أثناء نومه حدثت الكارثة.
وبالتالى راح يطوف قريبا جدا من الأماكن التى لمح أبوه الجنية فيها. ولأنه كان شديد الإيمان بالله، لم يشك مطلقا فى أنه سوف يستسلم لسحر هذه الكائنة ولا أن تغريه لآلئ قلاداتها، ذلك أنه كان لا يبالى بالثروة.
بحث دون جدوى أياما وأياما، لم ير الجنية، لكنه، تحت صخرة زحزحها ذات صباح ليرى ما إذا كانت لا تخفى مدخل كهف، اكتشف كتابا ضخما. ولأنه كان لا يعرف القراءة فقد كان سيترك الكتاب بالطبع تحت الصخرة إنْ لم تتدخل الجنية. وهى ترتجف بشدة من الغضب، تقدمت نحوه زاحفة على الرمال وأخذت تصرخ:
"أرجع إلىّ هذا الكتاب. إنه ملكى. وإذا خطفته فأنت لص وسوف تعاقب!
- انظرى هنا، راقب هانس دون أن يفقد هدوءه، ها أنت تظهرين أخيرا! لابد أن يكون هذا الكتاب قيما جدا فى الحقيقة حتى تدخلى فى مثل هذا الغضب الشديد.
-هذا الكتاب ملكى. عليك أن ترده إلىّ".
ظلت تصرخ بقوة أكثر فأكثر وبدت نظرتها الخضراء مرصعة بآلاف من الشرارات الحمراء.
"لقد قيل لى أنك جميلة وأن البحارة يستسلمون لجمالك وسحر صوتك. إذن، كانت أذواقهم غريبة! ذلك أننى أراك قبيحة جدا وصوتك يصفر كما تفعل أسوأ رياح الشتاء. إن الغضب هو الذى يجعل المرء قبيحا. وأنا أريد أن أخطف هذا الكتاب لكى يزداد غضبك فتصبحين أقبح أكثر".
الجنية ضحكت هازئة بصوت يذكر بصياح غراب البحر ثم قالت، مشيرة إلى قلادات اللآلئ التى تلبسها:
"حتى إذا كنت قبيحة، حتى إذا صار صوتى مفزعا، تبقى لى هذه اللآلئ لتجذب الرجال... انظر هنا، إنْ شئت أعطيك قلادتين مقابل هذا الكتاب".
تردد الصبى، لكنه قال لنفسه أنه لابد أن الكتاب أشد خطورة أيضا من اللآلئ، خاصة بين يدىْ هذه الكائنة، وفضل الاحتفاظ به. وابتعد، يلاحقه عويل الوحش.
"ستعاقب، صاحت الجنية. سوف تعانى آلاما بالغة وستموت بإرادتى!"
عند عودته إلى القرية، سأل هانس أين يمكن أن يجد شخصا قادرا على قراءة هذا الكتاب، ودله الناس على فتاة متعلمة للغاية تعيش فى جزيرة صغيرة مجاورة. أخذ فى الحال القارب الصغير الذى تركه له أبوه، وذهب إلى هذه الجزيرة الصغيرة التى لم يكن يسكنها سوى ثلاث عائلات فقيرة. ولم يجد أى صعوبة فى العثور على هذه الفتاة. كان اسمها "فريدا"، وكانت لطيفة بقدر ما كانت جميلة.
"أنت من يسمونه الشحاذ الجميل، قالت. كثيرا ما حدثونى عنك. أنا أعرف أنك شديد التقوى وأنك تحاول النضال ضد هذه الجنية التى ألحقت كثيرا من الأذى بالبحارة. وكنت أنا خطيبة نوتىّ مات فى غرق سفينة أحدثته الجنية. ويمكنك الاعتماد علىّ فى مساعدتك".
مدّ هانس يده بالكتاب لـ"فريدا" التى تصفحت بسرعة بعض الصفحات وبدت فزعة.
"أعتقد بالفعل، قالت بصوت يرتجف قليلا، أن هذا المجلد يحتوى على كل أسرار الجنية. غير أنه مكتوب بلغة معقدة ومليئة بالرموز التى ينبغى تفسيرها. إننا نحتاج إلى كثير من الوقت لفك شفرته. وكما ينبغى التصرف مع أكبر الأسرار، أقترح أن تأتى ليلا، كلما كنت وحيدة. ولأجعلك تعرف إذا كان يمكنك أن تأتى، سأشعل نارا على الساحل الرملى".
عاد هانس إلى جزيرته، ومنذ الليلة التالية عندما رأى النار، لحق بـ"فريدا".
وكانا يذهبان ليجلسا جنبا إلى جنب داخل صخرتين وعلى ضوء النار، كانت الفتاة تقرأ. وبعد أسبوعين من القراءة، عرفا بعضهما البعض وتحابا. اعترف كل منهما للآخر بهذا غير أنهما تعاهدا على ألا يتزوجا إلا عندما يكونان قد هزما الجنية.
وبالتالى ظل حبهما خالصا تماما وطاهرا على أكمل وجه. كانا يقرآن، ويتأملان، وقبل أن يفترقا كانا يصليان معا.
وذات مساء، انتظر هانس دون جدوى على الشط، ولم ير ضوء النار يلمع. وبعد منتصف الليل استنتج أن "فريدا" لم تر أن من الحكمة الخروج فى ذلك المساء، فذهبت تنام. غير أن "فريدا" كانت فى انتظاره. كانت قد أشعلت نارها، وإذا كان هانس لم يستطع أن يرى ضوءها فذلك لأن الجنية كانت قد رفعت فى منتصف الطريق بين الجزيرتين ستارا كثيفا من الضباب من البحر.
قلقة بصورة مرعبة، أرادت "فريدا" أن تلحق بهانس. ولأنها لم تكن تملك قاربا فقد ألقت بنفسها فى الماء وانطلقت تسبح.
هذا ما كانت تنتظره الجنية. لأنه إذا كانت جنيات البحر يصيبهن العجز عندما يَكنَّ على الأرض فإنهن يملكن فى الماء قوة هائلة. وعندما كانت الفتاة على مسافة عدة أمتار من الصخور حيث كان ينام هانس، رفعتها موجة قاع هائلة وقذفتها إلى مقدمة شاطئ صخرى.
استيقظ هانس بألم شديد ضغط على قلبه. وفهم فى الحال أن كارثة حدثت وانطلق يهيم على وجهه فى الساحل الرملى. بسرعة بالغة، اكتشف جثمان "فريدا" وأخذه بين ذراعيه باكيا.
وتألم وهو يتطلع من بعيد إلى ضوء النار الذى كان يواصل الاشتعال فى الجزيرة التى غادرتها "فريدا". لأن الضباب قد تبدد وكانت الليلة ذات صفاء رائق.
ومع هذا، وبالتدريج، تشوشت رؤية الشحاذ الجميل. هل كان هذا هو الضباب الذى تكوَّن من جديد؟ لا، لم يكن ذلك كذلك، بل دموعه التى كانت قد صارت جامدة كالأحجار.
بكى هانس حتى الصباح. وعندما أتى سكان الجزيرة إلى الشط، اكتشفوا صخرة كان لها شكل رجل يأخذ امرأة بين ذراعيه. ومن عينى الرجل كانت تسيل آلاف اللآلئ الجميلة الشبيهة باللآلئ التى كانت تلبسها جنية البحر.




تستلهم هذه الحكاية حوليات التلميذ المتجول La Chronique de l écolier itinérant لـ كليمانس برنتانو Clemens Brentano، حيث يحكى لنا الشاعر تاريخ "روح اللآلئ"، جنية البحر هذه التى كانت تجذب البحارة بغنائها مظهرة لهم اللآلئ.
ملكة جميلة جدا، ولكن متغطرسة جدا، كانت لها ابنة عاقة للغاية. وتزوجت هذه الأخيرة من روح شرير من البحر وأنجبت جنية بحر، روح اللآلئ، التى، كما تعرفون، كانت تهلك كثير من البحارة.
وكانت جنية البحر تظهر تارة فى صورة شاب وسيم، وتارة أخرى بسمات امرأة. وكانت تحبس سجناءها داخل "آبار المرارة" وهى نوع من حجرة مُعَدَّة تحت الصخور. ومحرومين من النوم، ومربوطين بالحجر من شعرهم، كان الأسرى يشيخون بسرعة. وكانت أجسامهم تتغطى بالتدريج بالحراشف، ومن عيونهم كانت تسيل بلا انقطاع دموع كانت تتحول فى الحال إلى لآلئ.
وبعد موت "الشحاذ الجميل"، تضاعفت شرور جنية البحر. وإليك، على سبيل المثال، مغامرة فتاتين، من ضحايا روح اللآلئ.
حلمت ثلاث أخوات بالعثور على لآلئ على الشاطئ. توجهن نحو الشط، وعندئذ سمعن، فى الوقت نفسه، صوت جرس صغير وغناء فى غاية العذوبة. أرادت الصغرى بينهن أن تذهب للتأمل فى المصلى، أما الاثنتان الأخريان فقد أرادتا، على العكس، أن تكتشفا مصدر هذا الغناء الرائع. وبالتالى افترقن.
على الشاطئ كان قارب بلا مجاذيف ينتظر الفتاتين. وجالستين بصعوبة فى القارب، جرى حملهما إلى أعلى البحر. وفى الحال، واقفا على صخرة، ظهر أمامهما شاب وسيم. كان الشبح الغامض يغنى بصوت صاف ومتناغم. وبيدٍ أمسك الطيف بقلائد طويلة من اللآلئ، وبالأخرى مرجانا. ومأخوذتين داخل دوامة، بدأت الفتاتان تصرخان، لكنهما اختفتا فى الأمواج. ومحبوستين، بدورهما، فى قاع "آبار المرارة" كانتا تبكيان دائما بالتأكيد، إلى جانب سجناء آخرين.






























ناس قاع البحار
(البرازيل)

قريبا جدا من البحر، عاش ميجيل حياة متواضعة، لأنه لم يكن صياد سمك ولم يكن يملك سوى بضعة أفدنة من الأرض كان يزرع فيها الفول. وكان يكدح بجدّ على هذه التربة غير الخصبة مطلقا، ولم يكن حصاده وفيرا دائما. غير أنه، من كثرة ما جرف من الطحالب التى جرّها بجهد جهيد من المحيط، وروث الخيل المتجمع على الطريق، نجح في إخصاب التربة العضوية إلى حد أنه في سنة أمطرت فيها السماء كثيرا، بدا حصاده ممتازا. وكان يذهب كل يوم للعناية بزرعه وهو ينضج، وينتظر متلهفا موسم الجنى.
وجاء هذا الموسم، وعندئذ اكتشف ذات صباح أن نصف محصوله من الفول اختفى أثناء الليل. غضب وثار، وعندما أتى المساء، أخذ عصا ضخمة واختبأ بين شجر كثيف يحيط بالطريق.
كان القمر قد اكتمل بدر تمام وكان يسطع على الأرض بنور كوضح النهار. كان الجو هادئا، وكان تلاطم الأمواج على الشاطئ القريب هو الضوضاء الوحيدة. وانتظر ميجيل، وهو يقاوم النعاس.
وعند منتصف الليل، رأى امرأة ترتدى ثوبا أبيض طويلا، دخلت أرضه وبدأت جنى المحصول. أسرع الفلاح. وعندما رأته، انطلقت المرأة تجرى نحو الشاطئ، ولكنْ أعاقها الثوب الطويل وقفة كبيرة لم تشأ أن تتخلى عنها فسقطت على الرمل حيث قام ميجيل بشلّ حركتها. ودار صراع قصير، كان الرجل قويا وبسرعة لقيت المرأة الهزيمة.
وعندئذ رأى ميجيل أنها كانت شابة وجميلة.
"مَنْ أنتِ؟ سأل.
- لن تعرف، قالت بصوت جاف.
- أنتِ لستِ من هذا البلد. لم أركِ أبدا هنا".
لم تجب، وتفحَّص ميجيل قفتها واكتشف أنها مجدولة من سيقان طحالب رفيعة جدا.
" من أين أنتِ إذن، لأن قفتك ليست مصنوعة من القشّ مثل قفف كل الناس عندنا هنا؟"
ظلت الشابة مترددة طويلا، ثم، عندما رأت أن الفلاح لن يتركها، انتهت إلى القول:
"اسمى كونشيتا. وأنا من الناس الذين يعيشون فى قاع البحار".
كان ميجيل قد سمع الناس يتكلمون عن هؤلاء الناس الغامضين، لكنه كان يرفض دائما تصديق وجودهم. ومضطربا، تذكر المرة التى قالت له أمه فيها ذات يوم:
"بنات قاع البحار لهن عيون لونها أزرق مخضرّ وشفاهن لها طعم الملح".
أجبر ميجيل الشابة على أن تدير نظرتها إلى اتجاه القمر، واستطاع أن يتأكد من أن عينيها كان لهما حقا هذا اللون الجميل الأخضر الذى لا مثيل له. وقبّلها. وكان لشفتيها طعم الملح.
لكن هذه القبلة أربكتهما كليهما بعمق، وقبلت كونشيتا الزواج من ميجيل، عندما وعدها بألا يلعن أهل تحت الماء.
وأنجبت هذه الفتاة الآتية من قاع البحار ثلاثة أطفال لطاف للفلاح الذى كان سعيدا بهم.
ومع هذا، لم يكن من الممكن أن تكون سعادة ميجيل كاملة، لأن زوجته كانت تفكر فى زينتها هى أكثر من زينة أطفالها. ولم تكن تعرف كيف تطبخ، وكانت تهمل الغسيل وتنظيف البيت. وكان على الرجل المسكين أن يعتنى بالبيت ويستمر فى العمل فى غيط الفول.
غير أنه، بعد خمس سنوات من الحياة المشتركة، وفى يوم كان ميجيل متعبا فيه بوجه خاص، انفجر غاضبا:
"لا أنتِ أم جيدة ولا أنتِ زوجة جيدة، قال لزوجته. أنا لا أعلم كيف كانت تربيتك، لكننى لا أعرف أىّ بنت من بلدى فى مثل إهمالك وكسلك!
- أنا أحتقر بنات بلدك، صرخت كونشيتا. فى رأيى، الناس الوحيدون الذين لهم اعتبار، هم أولئك الذين يعيشون فى قاع الماء!"
اقترب منها ميجيل، وقد أعماه الغضب، قائلا:
"إذن، من ناحيتى، أنا احتقر ناس تحت الماء. أنا احتقرهم، وألعنهم!"
وبمجرّد أن نطق بهذه الكلمة، تركت كونشيتا البيت. واعتقد ميجيل للحظة أنها ذاهبة لتغضب فى مكان ما. وعندما رأى أطفاله يخرجون وراءها، بدأ يقلق. غير أن قلقه استحال إلى ذهول، عندما أخذ كل شيء يحذو حذو كونشيتا: المنضدة، المقاعد، الموقد، البوفيه، الأسرّة، القدور... وأخيرا كل ما كان أثاثا للبيت.
خرج الفلاح التعيس ليحاول الإمساك على الأقل ببغله الذى كان يرحل أيضا، وفى تلك اللحظة أخذ المنزل نفسه يتحرك، ونزل نحو البحر.
كان على ميجيل أن يسند ظهره إلى شجرة حتى لا يسقط من شدة ما كانت ساقاه ترتجفان. وكان هذا هو الوضع الذى رأى فيه أسرته وكل ممتلكاته وهى تختفى فى الماء.
ظل التعيس وحيدا، مجرَّدا من كل شيء. حتى أدوات عمله اختفت وكان على أحد جيرانه أن يقرضه معزقة ليعزق غيطه. ولأنه كان شجاعا فقد استأنف العمل. وكدح كثيرا، ولم يحصد دائما ما كان يستحقه، غير أنه لم يعد يخرج أحد أبدا من المحيط ليأتى ويسرق منه الفول.




فى البرازيل، يتكلم الناس كثيرا عن الكائنات التى تعيش تحت الماء. فالأنهار والبحار مأهولة بالمعبودات، أو الجنيات، أو الساحرات، أو فاتنات البحر المغويات فى كثير من الأحيان. وبالطبع فإن البرازيليين، مثل الشعوب الأخرى، كان يجذبهم هذا العالم المجهول، بهذه الكائنات الخيالية التى كانت تأتى، فيما اعتقدوا، إلى الشواطئ أحيانا. وكانوا يتصورون عندئذ لقاءات وحتى زيجات.
ومع هذا، ليس كل الناس أهلا للمشاركة فى حياة كائن من قاع المياه. إن ميجيل، بطل هذه الحكاية، مرّ بالتجربة: كان ينبغى عليه ألا "يلعن أبدا أهل تحت الماء". غير أنه لم يستطع أن يفى بوعده وعادت زوجته إلى المحيط. والحكاية اليابانية، صياد السمك ذو الشباب الدائم تتضمن نفس الفكرة. كان على أوراشيما، لكى يلحق بزوجته، ألا يفتح الصندوق.
ويروى فلاحو شمال شرق البرازيل القصة التى انتهيت من قراءتها لتوك. حكاية أخرى، وتقع أحداثها عند مصب ريو نيجرو، تقدم "يارا"، أىْ "أمّ الماء"، ورجلا يقرر، هذه المرة، أن يعيش فى عالم آخر.
كان شاب هندى يسير بمحاذاة مجرى النهر، جالسا فى قاربه الخشبى، عندما رأى شابة فى غاية الجمال، واقفة على الشاطئ، غير بعيد عن شلال صغير، وأخذت تمدّ إليه ذراعيها قبل أن تختفى فى الماء.
أصبح بطلنا عاشقا ولهان للطيف العجيب. عاد إلى أهله، ورفض أن يأكل وأن يتكلم. وطول اليوم، ظل متقرفصا أمام كوخه، وظل ينظر حوله شارد الذهن. أمه، قلقة، ألحت عليه بسيل من الأسئلة. وفى النهاية حكى لها مغامرته. مجنونة بالقلق، توسلت إليه الأم المسكينة ألا يعود أبدا إلى شاطئ النهر. فلابد أنه التقى بـ"يارا"، التى أرادت موته دون شك. ففى البلاد، كانوا يشكون فى أنها تخطف الشبان.
ورغم تحذيرات أمه، يعود الصبى فى اليوم التالى ويركب قاربه الخشبى. ولم يعد مطلقا. واقتنعت القرية كلها بأنه راح ضحية "يارا".
بعد هذا بفترة من الوقت، أبلغ صيادون أنهم شاهدوا، بالقرب من الشلالات، رجلا وامرأة جالسين على الساحل. وكان الزوجان يبدوان سعيدين، ولكن عندمـا كان أىّ شخص يحاول الاقتراب منهما، كانا يختفيان فى مجرى الماء. ومع هذا، انتهى الصيادون إلى التعرف على الشاب الهندى و"يارا". وغير مصدِّق أمه، وواثقا بحورية البحر، استحق الشاب أن يعيش معها تحت الماء.



































بجع البحر
(آيرلندا)

كان داڤ صبيا صغيرا في الثامنة من عمره أحسن تربيته والداه اللذان لم يكن لديهما سوى هذا الطفل وكانا يعتنيان به عناية فائقة. وكان عاقلا، ومهذبا، ولم يحاول مطلقا أن يبتعد بمفرده عن البيت المبنىّ على مسافة بضع عشرات من الخطوات من شاطيء جميل من الرمل الناعم. وفي الأيام التى كان البحر فيها هادئا كانا يسمحان لداڤ بأن يلعب بمفرده على الشاطئ بشرط ألا يتسلق الجسر. لأنه عند نهاية الجسر، كان الماء عميقا وكان الصبى لا يعرف السباحة.
وكما قلت منذ قليل، كان داڤ مطيعا، ومع هذا فإنه، ذات صباح، ذهب إلى نهاية الجسر لأن ثلاث بجعات رائعة وقفن فوق الماء على مسافة عدد من الأذرعة من رصيف الحجارة. داڤ، الذى كان قد عثر فى جيبه على كسرة خبز، فتتها وألقى بفتات الخبز إلى البجعات. تقدمت هذه الطيور الكبيرة البيضاء نحوه، وانحنى هو ليداعبهن، ولكن كلما مدّ يده، كانت البجعات يبتعدن. وعلى الأمواج التى كانت تلامس الحجارة المغطاة بالطحالب، كان يطفو لوح خشبى كبير. داڤ، الذى نادرا ما كان رأى البحر بكل ذلك الهدوء والسماء بكل ذلك الصفاء، تصور أنه لن يخاطر بشيء إذا تمدّد فوق هذا اللوح الخشبى ليقترب من البجعات. غطس يديه فى الماء، وأخذ يقوم بنفس الحركات التى تقوم بها البجعات بأرجلها الشبيهة براحة اليد. وشيئا فشيئا، ودون أن ينتبه إلى ما يحدث، ابتعد اللوح الخشبى عن الساحل.
كل يوم، ودون أن تدع نفسها تلمسه، كانت الطيور تسبح بالقرب منه. بجعة تمضى إلى الأمام، والأخريان إلى اليمين وإلى اليسار. كان ذلك أشبه بلعبة. كانت الأمواج تهددهم بنعومة. والشمس التى كانت حامية ما تزال كانت تغريهم بالمحيط الساكن.
كان كل شيء يبعث على الاطمئنان. وكان كل شيء مليئا بصفاء لا حدّ له أثار الرغبة فى الرحيل بعيدا دون اهتمام بالبرّ والناس.
لم ينزعج داڤ بالمسافة التى قطعها حتى أنه انتهى إلى الابتعاد عن الشاطئ إلى حدّ أنه اختفى عن عينيه. وعندما أدرك ما حدث، أراد أن يقوم واقفا على اللوح الخشبى لكى يرى أبعد لكنه فقد التوازن وسقط فى الماء. ولم يكد يملك الوقت للتفكير فى والديه وفى الأيام الجميلة التى قضاها معهما، لأنه كان قد أغمى عليه الآن
وعندما استعاد الصبى وعيه، فوجئ تماما بأن وجد نفسه فى فراش ناعم مصنوع من زغب ناصع البياض. نظر حوله. الغرفة، التى كان محاطا فيها بالسكون المطلق، كان لها شبّاكان عاليان يدخل منهما ضوء دافئ وذهبىّ جدا. والزينة التى تكسو الجدران كانت تمثل الآلاف من الطيور، والزهور، والحشرات، المجهولة والجميلة إلى حدّ أنها بدت وكأنها وصلت فى الحال من الفردوس.
"أنا ميت دون شك، غمغم داڤ، لكن ما دامت قد عصيت والدىّ، فلابد أننى فى الجحيم. وإذا كان الجحيم جميلا إلى هذا الحد، فإننى أتساءل لماذا يخاف منه الناس."
وبقى صامتا لحظة، ثم نادى، بصوت قلق قليلا:
"هوه! ألا يوجد أىّ شخص فى هذا البيت؟"
وفى الحال، انفتح الباب وتقدمت ثلاث شابات جميلات جدا، يلبسن فساتين بيضاء مثل ريش البجع. إحداهن أخذت مكانها عند مقدمة السرير، والأخريان إلى اليمين وإلى اليسار.
"عجبا، قال لهن الصبى، أنتن تذكرننى بالبجعات الثلاث اللائى صحبننى فى البحر"
إذ أنه لاحظ أنهن يشبهن الطيور الثلاثة بهيئة الرأس الملئ بالكبرياء وبطريقتها فى النظر.
"لا تشغل نفسك بمن نكون، قالت التى كانت عند مقدمة السرير. فقط كنْ مطمئنا إلى أننا لا نريد لك أىّ شرّ. وإذا عدت إلى بيتك بعد هذا الغياب الطويل، لا شك فى أن والديك سيعاقبانك بقسوة. ولهذا يمكنك أن تبقى هنا. سوف نعتنى بك، وسوف نقدم لك لعَبًا لم ير مثلها صبى مطلقا، لكنك يجب أن تعلم أنك، إذا بقيت أكثر من ثلاثة أيام، سيكون من المستحيل عليك أن تعود إلى البر لأنك لن تستطيع أبدا أن تتحمل لا الريح ولا الشمس".
قبل أن يجد داڤ الوقت للتفكير، غطت الشابات الثلاث سريره بهدايا رائعة. كانت هناك لَعب من كل الأنواع، وفواكه غريبة جدا، وزهور، وبونبون، وبصورة خاصة آلات ذاتية الحركة كانت تعزف الموسيقى وترقص من تلقاء نفسها.
اعتقد داڤ أنه فى مملكة الجنيات الطيبات، ومذهولا بكل هذا القدر من الهدايا، قال دون تفكير:
"ليست عندى أىّ رغبة فى أن أترككن".
ابتسمت السيدات البيض الثلاث ابتسامة عريضة، وتعانقن بحنان وأخذن يلعبن معه. لعبن وقتا طويلا، ثم جعلنه يزور المسكن الذى كان قصرا جميلا مليئا تماما بألعاب أخرى مدهشة أكثر أيضا من تلك التى كانت الشابات قد أحضرنها إلى الحجرة.
كان هناك الكثير والكثير من العجائب فى هذا المكان الرائع كالأحلام، إلى حدّ أن داڤ لم يلاحظ مطلقا أن الوقت يمرّ. وكلما كان يكبر، كانت السيدات البيض الثلاث يقدمن له ألعابا أخرى. وكانت هذه الألعاب فى وقت واحد ممتعة جدا ومفيدة جدا إلى حد أن داڤ، عندما بلغ العشرين من عمره، كان شابا جميلا صار بالفعل واسع المعرفة.
وفى ذلك الحين أتت لزيارة القصر ابنة ملك واسع الثراء وقعت فى حبه وطلبت يده من السيدات البيض. وهؤلاء رددن عليها بأن داڤ حر ويمكنه أن يتخذ قراره بنفسه.
"ليست عندى أىّ رغبة فى أن أتزوجك، قال داڤ للأميرة. أنا لا أحبك، وثروة أبيك لا تهمنى".
الأميرة التى لم يكن يجرؤ أحد مطلقا على أن يرفض لها طلبا أصيبت بغيظ شديد. وبلهجة غاضبة، صرخت فى السيدات البيض:
"ما دام الأمر كذلك، سيغضب أبى غضبا شديدا وأنا أنذركن بنهاية مفزعة لكنَّ وللشخص الذى تحت حمايتكن".
وبمجرد أن اختفت بعد أن صفقت باب القصر الثقيل، سألت السيدات البيض داڤ عن سبب رفضه لطلب زواج كهذا.
" قلت لها السبب، أجاب داڤ. أنا لا أحب هذه الأميرة. وعلى كل حال، غضبها يثبت أننى محق فى رفضى. من ذا الذى يمكن أن يكون سعيدا مع امرأة مزعجة إلى هذا الحدّ؟"
سكت لحظة، ثم أضاف بصوت لطيف جدا:
"وبالأخص، أنتن طيبات جدا معى إلى حدّ أننى لا أحسّ بأىّ رغبة فى أن أترككن".
السيدات الثلاث تبادلن نظرة توهَّم الصبى أنه رأى فيها عبور فرحة كبرى مشوبة بالحزن. ومرّت لحظة صمت ثقيل جدا، ثم أعلنت إحداهن:
"طيب، يا داڤ، نحن تأثرنا بمودتك. غير أنك تعبت اليوم. ستشرب العشب المغلىّ وتستريح".
شرب الصبى العشب المغلىّ الذى كان له طعم الطحالب البحرية، وفى نفس اللحظة غرق فى نوم عميق.
عندما استيقظ، وجد نفسه فى بيت والديه اللذين، رغم أنه كان قد تغيرّ كثيرا، عرفاه فى الحال. وفى الخارج، كانت الريح تعوى. ولابد أن السماء غضبت، فمن حجرته سمع داڤ الأمواج الضخمة تتكسر على الشاطئ وتطرق على الجسر.
"ابنى المسكين، قالت الأم، أنت وصلت إلينا قبل هذه العاصفة الرهيبة مباشرة. وجدناك على الشاطئ، بجوار لوح خشبى لابد أنك كنت متعلقا به".
فى تلك اللحظة، كانت هناك موجة قوية جدا إلى حد أن زبد الموج كان يأتى ليسوط الزجاج. قالت الأم للأب:
ينبغى أن تذهب وتغلق المصراعين. لكن افعلْ هذا من الخارج، لأنك إذا فتحت الشبّاك، فإن زجاج الشبّاك سيتعرض للتحطم".
خرج الأب وعاد بعد هذا بلحظة، مرتجفا من رأسه إلى قدميه.
"لم أر شيئا شبيها بهذا مطلقا، قال. يقال إن آلهة المحيط غاضبة غضبا شديدا. حتى طيور البحر لا تستطيع أن تقاوم. فالأمواج أتت إلى أمام بيتنا بثلاث بجعات بيض جميلات قتلتهن العاصفة".
"هيا، قالت الأم، لندع داڤ يستريح، ألاحظ أن الضوء يُتعبه".
وخرج الوالدان وهما يحملان المصباح. وضع داڤ يده على عينيه، لكن ليس بسبب الضوء، بل كان ذلك فقط لكى يخفى دموعه.



داڤ، الآيرلندى الصغير، ألقى بفتات الخبز إلى البجعات، وداعبهن، وكوفئ على هذا. وفى الحكايات الأسطورية، تكون المبادلات بين البر والمحيط كثيرة الوقوع. وكثيرين كانوا أولئك الذين قاموا بزيارة سكان تحت الماء. ولهذا، كان يكفى أن يكون المرء طيبا، وبوجه خاص مع الحيوانات، لأن هذه الأخيرة كانت تخفى فى كثير من الأحيان كائنات ذات نفوذ. ومع هذا، كان بعضهم يقوم بالرحلة ضد إرادتهم. وعندئذ يتعلق الأمر بحالات خطف حقيقية. وهذا هو ما حدث لشابة من مقاطعة بريتانيى قبلت، فى وقت لاحق، أن تعيش نهائيا تحت الماء.
عاشت مونا، وكانت ابنة صياد سمك فقير، فى جزيرة صغيرة وكانت تقضى وقتها فى البحث عن المحار. وكانت مونا على قدر كبير من الجمال. وكانت تحظى بإعجاب صديقاتها، وبالأخص بإعجاب أمير البحار الذى كان قد لمحها عدة مرات على الشاطئ. واعتزم الأمير أن يخطفها ويقتادها تحت الماء إلى مسكنه، ولم يكن هذا بالشيء السهل، لأن الشابة لم تكن تذهب لتصطاد السمك بمفردها. ومع هذا تحققت رغبته ذات يوم. فعندما ابتعدت مونا عن رفيقاتها، انقض عليها الأمير وجذبها إلى البحر، رغم صرخاتها وتوسلاتها.
ومنذ ذلك اليوم، عاشت بطلتنا فى قصر من المرجان. وقد تزوجت خاطفها، لأنه أحبها حبا عميقا وبدا عطوفا عليها. ومع هذا، فرغم ثراء رفيقها ورغم كرمه، كانت مونا قلقة. كانت تود أن ترى مرة أخرى أباها وأمها وكذلك كوخهما الفقير. كانت تعيسة جدا وكانت تبكى بلا انقطاع.
وأمام حزنها الشديد، عرض عليها زوجها أن يرافقها إلى أهلها. وطلب منها أن تعطيه وعدا بأنها لن تعانق، فى البر، أىّ رجل. وافقت مونا، لأنها لم ترد أن تؤلم زوجها. وسافرا على هذا الأساس. وفى الجزيرة، أسرعت مونا إلى بيت والديها، بينما كان الأمير ينتظرها على الشاطئ.
عند لقائه بابنته، ألقى صياد السمك العجوز بنفسه بين ذراعيها وعانقها. وفى تلك اللحظة، نسيت مونا كل حياتها السابقة بجوار أسرتها. وذات ليلة، سمعت أنينا وراء بابها. ذكرها صوت بوعدها القديم. خرجتْ. وعادت إليها الذاكرة عندما رأت زوجها الذى كان يئنّ. وعندئذ، اندفعت نحوه، ولم يرها أحد بعد ذلك مطلقا فى البلد.

مدينة تحت الماء
(هولندا)

كان هذا فى ذلك الزمن الذى أخذت فيه هولندا (بلاد الأراضى المنخفضة) تجفف أولى أراضيها المنخفضة المستصلحة من البحر، لتنتزع منه مراعى واسعة لتربية الماشية. وعلى الأراضى التى تم اكتسابها بهذه الطريقة، بُنيت مدينة نسى التاريخ اسمها. وكانت تشقها قنوات، وتحيط بها طواحين هواء تدور مراوحها مع الريح لتقذف إلى البحر بالماء الذى يحاول دوما، بمكر، عن طريق التسرّب، أن يمرّ تحت السدود ليستعيد من الناس الأرض التى لاقوا الكثير من العناء فى سبيل اكتسابها. وفى هذه البلاد التى يكون فيها مستوى الأرض فى كثير من الأحيان أكثر انخفاضا من مستوى المحيطات، يدور صراع دائم، ويغدو على السكان أن يتحالفوا باستمرار مع الريح ليحتفظوا بأقدامهم غير مبتلة. ولكنْ، لأن السدود بناها أناس يعرفون ما هى القوة الكبرى للبحار، فإنه يمكن أن يعيش الناس مطمئنين، وهم يشعرون بأنهم آمنون. ومع ذلك، فإنه فى كل مرة يغدو فيها بحر الشمال هائجا، يرتجف النساء والرجال بالليل والنهار ويظلون يراقبون السدود.
والحقيقة أنه، فى ذلك الزمن، كان الخوف أكبر منه اليوم، لأنه، منذ بناء السدود، لم تشهد البلاد مطلقا عاصفة قويا جدا. وقد تم بناء المدينة فى عشرين سنة تقريبا، وفيها وُلِد أطفال أخذوا يكبرون وهم يلعبون على ضفاف القنوات. وهم وحدهم الذين عاشوا فى حالة من اللامبالاة، وفى كثير من الأحيان كانوا يتسلقون على الجسر ليتطلعوا إلى البحر.
غير أنه، فى يوم من أيام الخريف، حدث أن هبّت رياح البحر قوية إلى حد أنه تكونت أمواج هائلة. وبدا أن هذه الرياح، التى كانت أعلى من المنازل، تصل من أعماق الأفق حيث كانت تضغط سُحُب سوداء كثيفة. ومثل قطيع من بهائم تهزّ عضلاتها اللامعة، زحفت السُّحُب أيضا فى اتجاه البحرّ.
وفى منتصف النهار، وخاصة عندما وصلت السُّحُب إلى المدينة، صارت البلاد كلها غارقة فى الليل.
خرج الناس إلى الشوارع ليروا ما كان يحدث، ولكنْ كان عليهم أن يعودا إلى منازلهم فى الحال، لأن السماء انشقت فجأة، وأخذت تصبّ مطرا غزيرا ظلت الريح تضربه بسياطها بلا توقف.
ومن منازلهم، ورغم هدير وابل المطر وعواء العواصف، سمع سكان المدينة المرتعبون ضربات الأمواج المتزايدة الغضب وهى تنطح الجسر فترتفع أصداؤها المدوية.
"– ضِعْنا!
- اِحْمنا، ياربّ!
- هذه نهاية العالم!"
النساء بكين وبكى الأطفال. سجد آخرون وأخذوا يُصلون.
وعندما رأى الناس القنوات تفيض والمياه تغمر شيئا فشيئا قِطع الأرض الأكثر انخفاضا أخذوا يصعدون فوق الأثاث فى طوابق البيوت وفوق مخازن الغلال.
ومع هذا فإن "ييبّى" و"جريسيلدا"، اللذين كانا طفليْن فى السادسة والسابعة، أخذا يلعبان فى ساحة الكاتدرائية فى اللحظة التى بدأ فيها سقوط المطر الغزير. ولأن منزل والديهما كان يقع فى حىّ بعيد جدا، قررا أن يدخلا الكاتدرائية لينتظرا بداخلها فترة يهدأ فيها المطر. ولأن مصابيح زيت كثيرة كانت تضئ، لم ينتبه الطفلان كثيرا إلى الظلام الذى أغرق المدينة. اتجهت أنظارهما إلى التماثيل المنحوتة على الأعمدة وأعجبهما تمثال العذراء حاملة يسوع الطفل، وأعجبتهما تماثيل قديسين كثيرين لم يعرفهم الطفلان غير أن وجوهم المبتسمة طمأنتهما.
مرت ساعتان، وظل المطر يسقط بلا انقطاع. والريح التى كانت تتذمر وهى تمرّ بالمزاريب وقمم برج الأجراس ظلت تعوى دون توقف، ولكنْ لأن الجدران والقباب كانت متينة، بدا أنه لا يمكن أن يحدث شيء خطير.
ومع هذا، ففى لحظة معينة، حدثت رجّة قوية، وكأن الأرض أخذت تهتزّ. وبعد هذا مباشرة، غطتْ ضجة سيول على ضجة العاصفة. نظر الطفلان إلى بعضهما وأنصتا مرة أخرى والتقط سمعهما استغاثات وصرخات.
قال ييبّى، وكان أكبرهما سنا: "كان ينبغى أن نرى ما الذى يحدث. ربما كان الجسر قد تحطم".
وبينما كانا يقتربان من الرواق، رأى الطفلان المياه القذرة ترغى وتزبد وهى تمرّ تحت البوابة الخشبية. وقبل أن يكون بوسعهما الوصول إلى المدخل، غطت المياه الأرض وواصلت الارتفاع.
قال ييبّى، وهو يجذب جريسيلدا التى كانت ترتجف: "ينبغى أن نعثر على سُلم برج الأجراس. تعالى، تعالى بسرعة، وإلا فإننا سنغرق".
عندئذ كانت المياه قد وصلت إلى مستوى ارتفاع رُكب الطفلين. وأخذت المقاعد الخشبية تطفو، وهى تتصادم وترتطم بالأعمدة.
وجد الطفلان السُّلم وراء المذبح، وخائفين قليلا من الظلام، وهما يتحسّسان درجات السلم المبتلة ويتعثران عليها، بدأ الطفلان يصعدان. وتسلقا وقتا طويلا قبل أن يصلا إلى السطح. كان قد هدأ المطر والريح. وكانت السماء قد صارت أقلّ تلبُّدا بالغيوم فسمحت بأن يتسلل ضوء شاحب. اقترب الطفلان من الحاجز الحجرى ووقفا على أصابع الأقدام لرؤية المدينة. وعندئذ فقط استولى عليهما الرعب فجأة.
لأن المدينة كانت قد اختفت.
المدينة والأراضى المجاورة. الأراضى والقنوات، القنوات والجسور.
لا شيء! لم يعد هناك شيء سوى المدى الشاسع للمياه حيث الأمواج المتلاطمة التى كانت ما تزال قوية تركض هائجة نحو الكاتدرائية التى كانت لم تعد أكثر من صخرة ضائعة فى البحر.
وكان قد حلّ المساء. أحسّا به فى الضوء الأرجوانى الفاتح الذى ألقى ظلالا على تلك الخضرة الباردة والمظلمة للمياه.
تنهدت جريسيلدا: "يا إلهى! نحن الآن مهجوران وحدنا. لابد أن الناس كلهم هربوا. ووالدانا لم يجدانا. لابد أنهما يعتقدان أننا متنا فرحلا مع الآخرين".
استغاثا، غير أن صرخاتهما ضاعت فى ذلك المدى الشاسع. استغاثا طويلا، ثم إنهما، مرتجفيْن ومنهكيْن، رقدا على البلاط البارد وناما.
فى الصباح التالى، كانت الشمس هى التى أيقظتهما من نومهما. وكان كل ما حولهما هو البحر الهادئ الذى كان يشعّ فى الشمس، متموّجا بالكاد بأمواج صغيرة.
طاف الطفلان حول السطح. وحامت حولهما طيور النورس وزمَّج البحر، وهى تلامس الماء، لكنهما لم يريا أىّ أثر للمدينة. كل ما هناك أنه كانت تطفو، هنا وهناك، بقايا يتقاذفها المدّ والجزر. أثاثات محطمة، وباب، وزجاجات فارغة، وحشائش، وقشّ.
الطفلان اللذان أيقنا أنهما صارا متروكيْن وحدهما، أخذا يبكيان من جديد حينما، عند منتصف ذلك الصباح مرت باخرة فى عرض البحر. أخذا يصرخان ورفع ييبّى قميصه ليلوّح به على طرف ذراعه كإشارة استغاثة. وفى الحال، طويت أشرعة الباخرة، وألقيت المراسى، وتم إنزال قارب إنقاذ إلى البحر. وانطلق البحارة يبحثون عن الطفلين واتجه المركب إلى أقرب ميناء.
وعندما انتشر الخبر، اتجهت إلى تلك المواقع زوارق عديدة لتحاول التقاط ناجين آخرين، غير أن المنقذين لم يتمكنوا مطلقا من العثور على موقع المدينة. وعندما اقتلعت الأمواج الكاتدرائية من أساسها تهدّمت وانهارت ولم يعد وجود لأىّ أثر مرئىّ لهذه المدينة التى كانت قد بُنيت على الأراضى المنخفضة المستصلحة من البحر.
وكان الناجيان الوحيدان فى الحقيقة هما ييبّى وجريسيلدا، وقد آواهما أولاد عَمِّ لهما كانوا يعيشون فى قرية بعيدة عن البحر.
ولم يعد هناك أحد تقريبا يتحدث عن المدينة المختفية، غير أنه يحدث لبعض البحارة الذين تدفع بهم عواصف عاتية إلى تلك النواحى أن يسمعوا، وسط صخب البحر والريح، الصرخات اليائسة لسكانها، الذين جرفهم غضب البحر فى سالف العصر والآوان.



يجب على سكان هولندا (بلاد الأراضى المنخفضة) أن يناضلوا بصورة متواصلة ضد الماء. ويقع جانب كبير من أراضى هذه البلاد تحت مستوى البحر ويصير من الواجب أيضا تشييد جسور ضخمة للنضال ضد الفيضانات. فليس من المدهش إذن أن نلتقى فى الحكايات الهولندية بثيمة (موضوع) المدن التى ابتلعها البحر.
إنه موضوع نلقاه فى بلدان عديدة، لكنْ فى مظهر مختلف بعض الشيء. ويبدو أن مدنا كثيرة قد اختفت نتيجة لسوء تصرف سكانها، أو للنجاة من خطر وشيك. وكانت هذه هى حالة "كيتيچ" فى روسيا، أو حالة "زيج" فى سويسرا، والأساطير وحدها تتيح لنا ألا ننسى أسماءها.
وفي بريطانيا، كانت توجد قديما مدينة، اسمها "وايس"، جرفتها المياه. وإليك قصتها.
منذ زمن طويل جدا، التقى "جرادلون" ملك "كيمبر وكورنوول"، على الشاطئ بامرأة تلبس الدروع. ولم تكن تلك امرأة أخرى سوى "مالجڤين"، ملكة الشمال. وتزوجا وصارت لهما ابنة، "داهوت".
وذات يوم، أحسّت "مالجڤين" بقرب موتها فطلبت من زوجها أن يذهب بها إلى الشاطئ ويلقى بجثمانها إلى البحر. وأطاع "جرادلون" يائسا. وقام بمفرده بتربية ابنته.
وعندما بلغت "داهوت" السادسة عشرة من عمرها، صارت حزينة وعبّرت عن أمنيتها أن تعيش قبالة البحر. ولم يجرؤ أبوها على الرفض. وبنى لها مدينة رائعة على ساحل المحيط، أحيطت بجسر بالغ الارتفاع لحمايتها. وكانت تلك المدينة تسمى "وايس".
ولم تعرف المدينة الحزن مطلقا. لم تعرف "داهوت" سوى الولائم والأعياد، ولم تذهب مطلقا للاستغراق فى التأمل فى مُصَلى أو فى كنيسة لسبب بسيط هو أن المدينة لم يكن بها شيء من هذا.
ومع هذا، حدثت ضجّة مرعبة ذات مساء. هبّت الريح واندفع البحر الهائج عبر شقوق الأسوار. وابتلع البحر المدينة. ولم تجد "داهوت" وسكان المدينة وقتا للهرب؛ واختفى الجميع تحت الأمواج.
ويقول بعضهم إن الشابة تم تحويلها إلى جنيّة من جنيات البحر، وإنها، عندما يأتى المساء، تخرج إلى الساحل وتمشط شعرها الطويل الأشقر الذهبى.






شيخ البحر
(سيبيريا)

تبدأ هذه القصة بعيدا جدا عن البحر، فى قرية صغيرة اسمها كاماتتشاتكا. وكانت هذه القرية تقع على ارتفاع ثمانمائة متر تقريبا عن سطح البحر، ومع هذا، عاش سكانها جميعا على صيد السمك لأن النهر، الذى كان فى سرعة سيل، كان يجرف مياه نقية إلى حد أن أعدادا لا تحصى من الأسماك الآتية من بحر أوخوتسك كانت تندفع نحو منبع النهر فوق سيوله السريعة بلا توقف.
هناك وُلد ذات يوم صبى ترك رضيعا على جزيرة صغيرة قاحلة. التقطه وآواه صيادون سمعوه يبكى وأطلقوا عليه اسم نازروم.
فاجأ نازروم العالم كله لأنه، خلال بضعة أسابيع، صار فى قامة رجل. وفى الشهر الثالث من عمره، صار أقوى وأذكى شباب المنطقة. كان الناس يتطلعون إليه بذهول، ولكنهم أحبوه كثيرا لأنه كان لطيفا ومجدًّا فى عمله. أحبوه إلى أن جاء يوم اختفى فيه السمك فجأة. لم يعد هناك سمك يعيش فى مياه النهر، وبقيت الشباك فارغة. وأدى هذا فى الحال إلى مجاعة، وبدأ الناس يحكون أن نازروم هو الذى جلب اللعنة على القرية. وتحدث بعضهم عن قتله، ورغب آخرون فى طرده، وكان أبوه بالتبنى، المسكين پليتون، قلقا.
"يجب أن تختفى إلى أن يعود السمك"، قال لنازروم.
أجاب الصبى بهدوء شديد: "إذا اختفى السمك فهذا لأن تايينادز، شيخ البحر، قد نام. ولن يعود السمك إلا عندما يستيقظ".
حك پليتون لحيته. وهذا ما جعله يبدو غريبا تماما!
"ومتى سيستيقظ؟
- عندما سنذهب لإيقاظه، قال الصبى.
- ومَنْ إذن سيذهب لإيقاظه؟
- أنا، إنْ كنتَ ترغب.
- ولكن أين هو؟
- فى مكان ما فى جزيرة فى بحر أوخوتسك.
- وهل تعلم أين تلك الجزيرة؟
لا، قال نازروم، ولكننى سأجدها".
وعندما ازدادت القرية تهديدا، ترك الصياد العجوز ابنه بالتبنى يسافر وبدأ يصلى فى انتظار عودته.
سار نازروم بمحاذاة ضفة النهر حتى البحر. سار ثلاثة أيام وثلاث ليال و، عندما وصل إلى الساحل، منهكا، نام على رمال الشط.
وقبل الفجر مباشرة، أيقظه شبان كانوا يتكلمون، دون أن يهتموا بوجوده، عن تايينادز وكأنه سيدهم.
"يمكننا أن نرقص ونتسلى فى سلام، كانوا يقولون، فهو ليس على وشك الاستيقاظ".
رقصوا طول اليوم، ثم انتهى أحدهم إلى القول:
"على كل حال، علينا أن نذهب لرؤية ما إذا كان ما يزال ينام".
وأراد بعضهم أن يبقوا أكثر؛ وكان هناك جدال، غير أن ذلك الذى اقترح العودة انتهى إلى إقناع أصدقائه، وجرت كل الجماعة المرحة نحو الساحل. دون أن يتردد، نهض نازروم ودخل الماء خلف المجهولين. ولأن نازروم كان صبيا لا يمكن أن يدهشه شيء بدا له من الطبيعى جدا أن يرى هؤلاء الشبان يتحولون إلى نوع من الدلافين الكبيرة حالما يلمسهم الموج. ركب نازروم الموج أقوى من الجميع وترك له نفسه ليحمله.
استغرقت الرحلة عدة ساعات فقط؛ وحينما وصلوا إلى الجزيرة، استعادت الدلافين صورتها البشرية وتوجه الشبان إلى منزل مبنىّ من قشور الأسماك ومن الصدف.
وفيما كان الشبان ينظرون بخوف من خلال النافذة ليروا ما إذا كان شيخ البحار ما يزال نائما، دخل نازروم إلى المنزل.
كان تايينادز يشخر بصوت مرتفع جدا، ممددا على جلد دُبّ. ودون أىّ تحفظ، هزّه الصبى وصاح به:
"ألا تخجل من النوم بينما يموت صيادو سمك الأنهار من الجوع! إذن، هل هذه هى الطريقة التى تقوم بها بعملك؟"
استيقظ العجوز مذعورا، وفرك عينيه، وغطس رأسه فى حوض ماء مجمد، ونفض جسمه وانتهى إلى استعادة وعيه. وعندما أخبره الصبى أنه ظل نائما منذ أيام عديدة، انفجر الشيخ فى غضب شديد وصرخ:
"لابد أن هذه الدلافين الكسولة هى التى صبت منوما فى نبيذى. وأثناء نومى، استمتعوا بوقت طيب. ساكربليه، سرعان ما سنرى من هو سيد البحار!"
وبعد أن قال هذا، أمسك بسوطه وخرج إلى العتبة وهو يفرقع عذبة السوط وصرخ:
"إلى العمل، يا عصابة الكسلى! اذهبوا واضربوا الأمواج حتى يصعد السمك من جديد فى اتجاه منابع الأنهار. اذهبوا، أسرع من هذا! أنتم لا تخجلون!"
لم يكد ينتهى إلا وكانت الدلافين قد غطست بالفعل واختفت.
"شكرا، قال الصبى. ولكنك طردتهم كلهم، وأنا، من الذى سيعيدنى إلى الساحل؟"
بدأ الشيخ يضحك خفية.
"أنت، انطلق الشيخ. أنت ستعود على القدمين.
- على القدمين؟ قال نازروم وألقى نظرة قلقة نحو البحر الذى كان يلمع على مدى البصر.
- أىْ نعم، قال الشيخ".
وبحركة هائلة من ذراعيه رسم قوس قزح كانت إحدى قدميه تقف على الجزيرة والأخرى بجوار القرية التى كان قد سافر منها نازروم.
عندئذ، تسلق نازروم إلى أعلى المنحنى الذى انزلق منه ببطء، مفرشحا رجليه على القوس الضوئى الهائل.
وأترككم تتخيلون دهشة صيادى السمك عندما رأوه يهبط على هذا النحو من السماء. وأترككم أيضا تتخيلون ابتهاجهم عندما استداروا نحو النهر حيث وجدوا الأسماك تعود إليه بأعداد كبيرة إلى حد أنه كان عليهم أن يزيدوا متانة الشباك.
وصار يُحتفل بنازروم. فقد أصبح سيد البلاد، وأعتقد تماما أنه صار كذلك دائما لأنه، منذ ذلك الزمن، لم يعد شيخ البحر ينام أبدا.




كل شعوب العالم تخيلت كائنات مثل "شيخ البحر". ولأنهم كانوا ملوكا أقوياء فقد كانوا موضوع إجلال عميق.
الإغريق، الذين نعرف عنهم صفات البحارة، كانوا يكرمون بصورة خاصة پوزيدون، سيد البحر الأبيض المتوسط. وكان يحكم العاصفة ويملك فى قاع المياه قصرا رائعا. وكان يخرج منه أحيانا ويظهر على السطح فى مركبة من الذهب، ممسكا فى يده بشكوكة ثلاثية.
ويتكلم سكان نيچيريا أيضا عن شخصية من هذه الشخصيات: ألْ‘-أوكونْ. وكان يعيش فى قصر تحت الماء محاطا بجلساء عديدين، وكانوا مخلوقات بشرية أو مخلوقات أشبه بالأسماك. وذات يوم تحدى سيد البحر الإله ذاته، لكنكم تتصورون جيدا من الذى خسر. ومنذ ذلك الحين، لم يعد ألْ‘-أوكونْ يشغل سوى المرتبة الثانية بين الآلهة، مباشرة بعد الخالق.
وعند الإسكيمو، تحكى قصة تشبه بشدة قصة شيخ البحر. ففى قديم الزمان كانت امرأة، هى "أمّ الماء" تحكم المحيطات. وكانت هى التي توزع الطعام على الرجال. ولم تكن دائما ذات شخصية سهلة؛ وأيضا، من أجل إرضائها، كان ينبغى تقديم قرابين لها.
وذات يوم، كانت تنتشر مجاعة كبرى فى إجدلوليك ومات كثير من الناس جوعا. واجتمع سكان القرية فى منزل لإعداد الهبات المخصصة لأمّ الماء. وأعلن رجل عندئذ أنه يريد الهبوط مع الهدايا. وكان عليه أن يلح طويلا لأن أصدقاءه، مندهشين بمثل هذا الاقتراح، حاولوا أن يمنعوه. وأخيرا حصل على الحق فى الاختفاء تحت جلود وفى الرحيل. وعندما صار مختفيا تماما، جرى إلقاء الحِزم فى البحر.
وصل الرجل فى حالة جيدة إلى أمّ الماء، غير أن الناس لم يعرفوا أبدا ماذا قالا لبعضهما فى ذلك اليوم. ومهما كان من أمر فإنه لم تعد هناك مجاعة، وكان سكان إجدلوليك سعداء من جديد. وبعد ذلك بوقت طويل، أدركوا أن من أنقذهم كان ساحرا. وأخذوا بالتالى يرسلون دائما سحرة إلى جوار أمّ الماء، ذلك أنهم كانوا بحاجة إلى مساعدتها.


























المؤلف فى سطور

ولد برنار كلاڤيل Bernard Clavel فى لونس-لو-سونييه Lons-le-Saunier فى 1923، وكان يحلم منذ أيام المدرسة الابتدائية بدخول الفنون الجميلة؛ غير أنه كان فى البداية حلوانيا مبتدئا وكان عليه أن يمارس فى سبيل لقمة العيش المهن الأكثر تنوعا، ولم يمنعه هذا من التصوير بالألوان وفى الحال من الكتابة. ومن الكتابة جاء نجاحه. وفى 1968، حصل، بصورة متلاحقة، على جائزة جونكور، وجائزة چان ماسيه، والجائزة الأدبية الكبرى لمدينة پاريس. وقد كتب برنار كلارڤيل قصائد، ومقالات، وقصص أطفال، وقرابة ثلاثين رواية، تم إخراج العديد منها فى التليڤزيون.

































المترجم فى سطور

كاتب ومترجم مصرى، كتب العديد من مقالات النقد الأدبى فى النصف الثانى من الستينيات وبداية السبعينيات صدرت مؤخرا بعنوان "خطوات فى النقد الأدبى". وفى النصف الثانى من السبعينيات كتب (باسم قلم) العديد من المقالات والكتب فى مختلف مجالات السياسة المصرية والعربية والعالمية. يعمل منذ بداية الثمانينيات فى مجال إعداد المعاجم والترجمة عن الإنجليزية والفرنسية حيث ترجم العديد من الكتب فى مجالات الأدب والنقد الأدبى والسياسة والفكر.
وفى مجال كتب الناشئة والأطفال: كان المحرر والمستشار اللغوى لمعجم Elias Illustrated Junior Dictionary, English-Arbic الصادر عن دار الياس العصرية للطباعة والنشر (عام 1999) وهو من إعداد كارين جلاسجو وإيڤا الياس، كما ترجم كتبا أخرى صدرت عن نفس الدار وهى: دينو، الديناصور تأليف: آنا ماريا روميرو يبرا (عن الإسپانية)؛ وملك الغابة تأليف: ميكيل باربيردى (عن الإسپانية)؛ وتيمور والتعبيرات تأليف: آنى جروڤى (عن الفرنسية بالاشتراك مع هويدا نور الدين).


































أساطير البحر

فى بلاد الأساطير، يسافر الملك سوران بالغوص فى البحر داخل صندوق زجاجى، ويلعب سمك قرش جميل مع الأطفال، والرجال يتزوجون من بنات البحر.
لكن احترس من جنيات البحر الغيورة، ومن عجول البحر التى تنتقم لنفسها، ومن أشباح المدن التى طواها جوف البحر، ومن الحوت الجنرال بجيشه من الأسماك.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تسع قصائد للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
- سبع قصائد لناظم حكمت
- غنوة
- مشاكل تخلُّف (قصيدة)
- الإعداد للموت (قصيدة)
- أربع قصائد لبورخيس
- الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ
- الأب ضد الأم وقصص أخرى
- طريق الآلام
- وَقْع أقدام
- الازدواج فى اللغة العربية بين -الفصحى- و-العامية-
- شعار -ثورتنا برلمان وميدان- مُخَدِّر جديد لقوى الثورة!
- المهدى الرئاسى المنتظر فى مصر!
- من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة للإلقاء فى مؤتمر الثو ...
- الانتخابات الرئاسية واحتمالات الصراع بين المجلس العسكرى والإ ...
- -الجحيم، 1، 32- ، لويس بورخيس ت: خليل كلفت
- توفيت ابنتى السيدة هند خليل كلفت
- النسوية - أندرو ڤنسنت
- ثورة 25 يناير: سؤال السبب (ملخص حديث سوف يُلقَى فى مؤتمر بوز ...
- سباق رئاسى محموم فى مصر بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لج ...


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - أساطير البحر - برنار كلاڤيل