|
مقدمة لمجموعة صلاح نيازي الشعرية -ابن زريق وما شابه-
حسين الهنداوي
الحوار المتمدن-العدد: 3715 - 2012 / 5 / 2 - 06:17
المحور:
الادب والفن
الكل لدى صلاح نيازي، عبر لحظاته المتقاطعة في مجموعته الشعرية الجديدة هذه، يبدو شخصيا ومباشرا وبسيطا في دفق واثق وقلق في آن، مقاد بمهارة معلّم مغامر حتى في اثراء لغة مشهودة الطيب اصلا. لكن هذا الكل يظل في وجهه الآخر متعاليا وغامضا وعصيّا عبر توقه المدهش الى تهميش الانفعالي والعابر والمعتاد مستفيدا من حرية كبيرة في استدراج اللقطات الحسية والاحتفاء بها قبل اعادة صهرها لتكون أجزاء أصلية في بنائه الخاص.
والاهم وربما الاجمل في هذا الصوت الشعري المثقل بخبرات ونزعات ونزوات شتى، انه لا يعدنا بشيء ثابت سوى انحيازه الكلي الى لحظاته المتضاربة، والى يقينه بان النهايات، قد تكون مباغتة بأسرع مما نأمل، وعابثة بالفطرة.
بيد ان "ابن زريق وما شابه" لا تتركنا في العراء لهواجسنا او لأحلامنا، انما تغمرنا بشغف جامح بالتناقض وبالحياة عبر اصرار خفي على تجريد الاشياء من محمولاتها التراجيدية المباشرة لكن من حرماتها ايضا. فهذا شاعر ينكأ الرتابة ولا يتهادن معها، تاركا للشعر وحده حرية التعالي والكشف، وللرأس مهمة الهيام على الوجه في عالم جهاته الاربع صحراء "خالية من اية رحم" على مد البصر، حيث "ضربة الشمس ثابتة في اليافوخ، “ وحيث "يترنح الرأس كأنه على وشك السقوط".. فما من شيء ثابت الا الصحراء ولا شيء يشبه شيئا: احمل الصحراء اينما حللت الشمس ثابتة الجهات ثابتة الصمت دوي ثابت
فالثبات بمعنى التغيّر هو البيئة الجديدة التي تشتد ولو على بعد خطوة من احوال كهذه يحرص صلاح نيازي ان يراها صوفية خاصة، لكنها تبدو للناظر زائغة من ذلك لتظل محكومة بغنى التناقض الذي يخترق المجموعة طولا وعرضا، علانية وخفية، ليمنحها طابعها غير المعتاد: الهواء يتغير الماء يتغير وحتى التراب
وهكذا، ف"الميلاد والموت"، "الشيخوخة والبرعم"، "النور والظلمة"، "مأتم مضى ومأتم قادم" و"أعمق الحزن واعمق الفرح".. هي بعض مسارح الصراع التي تتوحد في خصلتها الجوهرية المتمثلة في تمجيدها الجارح والمطلق للحركة: "الحركة حياة ولو كانت في نسغ لا ترى الحركة اكتمال ولو ادت الى شيخوخة الحركة بركة.."
وصلاح يترك لنا خاصة ملكة الهذيان الرحيمة لتسرّي عن وحدتنا في حضرة ادغال لا تكف عن التناسل المبارك. وفي مديح الهذيان وجدليته مع الحرية كمفهومين جماليين متكاملين، وفي نزوع مندس في كل مكان نحو رثاء وجودي، للنفس وللكون، يصعد هذا الشاعر بالهم الشعري هنا الى مراتب اعلى بإتجاه مطلقية ما في هذه الوجهة: "هذياني: حريتي لا تبلغ حريتي كمالها ، الا اذا بلغ هذياني كماله لذتي ان اسمعني ان تشتد مشادتي مع نفسي انا وانا، متصلان منفصلان في آن واحد"
لكن "ابن زريق وما شابه" نص قيمته الجوهرية في كليته وكقطعة واحدة. ولذا اشعر بالارتياح ان اسمي كلماتي هنا محض ملاحظات عابرة وجانبية عن هذه المجموعة التي هي في نطفتها الاولى قصيدة من اربع صفحات. والحال كلما تقدمنا في القراءة، كلما تفتحت لنا مكنونات اخرى متصادمة، ومكنونات عراقية تحديدا، كما لو ان صلاح نيازي مأخوذ بالتنقيب عن النفس الى حد التشظي في هذا المدار وحده. هل اسميه مدار العودة الى الجذور؟ ربما! انما يتعلق الامر بتاريخ من الجذور كوني وضارب في الخصوصية. فكعوليس العائد الى وكأبن زريق "الميت الحي"، الذي "لم يخلق من نطفة ولم تحبل به امرأة"، والعائد الى بغداد، يحلم الشاعر ان ينحت امرأة سرية من الكلمات، مستعيدا نغماتها بلغة تطمح ان تكون غريزية وجسدية لا تبارح الشهوة بما فيها الاكثر حسية وحتى العارية احيانا: ما ليل يتداخل فيه الموت والجنس كليل بغداد المرأة العراقية مستودع عصور مختلفة في جسدها شتى الكوارث والاعراس ليل بغداد عصيب في كل جسد امم وقارات لم تكتشف بعد
وصلاح نيازي يغذي التناقض بأناة وعلى اكثر صعيد في هذه المجموعة. فعلى صعيد المشهد المحض يتشابك التاريخي بالسياسي (متمثلا بأبي جعفر) بالديني (متمثلا بالمتصوف) بالدنيوي متمثلا بنحيب معشوقة ابن زريق (قصيدتان عموديتان)، واخيرا بالجانب الاخلاقي متمثلا بالمومس فاطمة، فيما يبدو الشاعر مهتما بتوصيف غائية للفن في المقاطع الاخيرة:
من تيه الى تيه ومن وهم الى وهم الشاعر كالنهر يوصل الضفة بالضفة وفي نفس الوقت يفصل الضفة عن الضفة لولا النهر لما وجدت الضفتان اصلا الفن عموما كالانهار ضفافها اوهام واقعية
وعلى صعيد تقنيات المجموعة، ربما كان الشاعر متأثرا بهنريك إبسن في جعل الكلمات كالبذور التي ينثرها حبات هنا وهناك في الصفحات الاولى ولكنها تكبر وتكبر في الصفحات الاخيرة وكأنه كتب النص من النهاية الى البداية. فمن الكلمات البذور "الدمى المعطوبة الرقاب" التي تطورت الى "بغداد دمية" ثم والى "لا تجعل بغداد دمية". وقد نجد في تقنية القصيدة تأثرا بشكسبير من حيث تقابل الحواس والمشاهد الذي يعد بين اهم تقنيات الشاعر الخالد، ومن حيث ان عودة عوليس تقابل عودة ابن زريق. كما قد نجد تأثرا ثالثا بكتابات الياباني كاواباتا ولا سيما في روايته التي ترجمتها "العاصمة القديمة" حيث ما ان يذكر شيئا في المقدمة حتى يأتي بالنقيض بعد ذلك مباشرة او لاحقا.
اما على صعيد الاسلوب، فان التنقل ما بين الرومانسية والانطباعية، التجريدية والحسية، البصرية والسمعية والرؤيوية، يقترن بالاستعانة بالطريقة العمودية العربية (كما في قصيدتي نحيب معشوقة ابن زريق الاولى والثانية)، وبإيقاع الموشحات (كما في قصيدة المتصوف) وبالاسلوب القرآني وكذلك الافادة من الغناء العراقي الشعبي كالابوذية، تتآلف في ذات الوقت مع الاستفادة من الاسلوب االسومري عبر تكرار الجمل والالفاظ والافكار، ثم في استحضاره عن طريق الشمس التي تصيب الراوية بالهذيان وعن طريق الصحراء لأنها مشهد متكرر بحد ذاتها، بينما تتعامل القصيدة على العموم مع الليل والقمر السومريين ومع الوهم الذي صار واقعا.
وهذا التعامل يعكس بذاته عودة واعية الى بنية النص السومري وحتى الى موسيقاه الداخلية تعلن عن نفسها في اكثر من مشهد من هذه المجموعة الشعرية الجديدة لنيازي. لكن تلبس روح النص المذكور، لا تعدم كإغواء لاارادي في نظري، ومستلهم عبر الشعر الغربي على الارجح. وهنا، في هذه العودة الجياشة الى روح اولى واسخى، يبدو صلاح نيازي مبشرا بشعر عربي جديد قد يلوذ بالعمودي والموشح والجناس والطباق، الا انه لا يغني انما يستفهم دون هدف بذاته كاشفا عن هشاشات الحواس. فالشعر الذي لا يكف عن الركض وراء الموسيقى سيكف عن ان يكون شعرا.
حسين الهنداوي لندن 20 اغسطس 2002 انتهى
#حسين_الهنداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ناوكليكان..* في ذكرى شهداء القيادة المركزية
-
دمُ بابلَ نور..
-
الى أحمد أمير
-
أثر الحلاج في كتابات رامون لول
-
العراق.. العراق
-
في ذكرى فنان العراق الخالد مؤيد نعمة
-
عبد الكريم قاسم في آخر مقابلة صحفية
-
من اللاهوت الى الايديولوجيا : فلاسفة الأنوار والإسلام
-
الثقافة الأمريكية في خدمة التجار
-
كاظم السماوي.. شيخ المنافي وشاعر الأممية الصافية
-
تهافت المشروع البعثي للتطور (1968-2003)
-
هل عرف البابليون الفلسفة؟
-
الهندية – طويريج : بيتنا وبستان بابل
-
علي الوردي والمنطق الجدلي
-
لغة الضاد حين نخذلها..
-
محنة «النهضة» و «الاصلاح» و «التنوير» بالعربية...
-
قناة فضائية عراقية طليعية حاجة عاجلة
-
هيغل وأهل الحلة!
-
أحمد أمير – بيوغرافيا حميمة
-
العراق بين احتلالين: 11 آذار 1917 - 9 نيسان 2003
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|