|
الاصلاحي بيوتر ستوليبين ... والمشنقة الحديدية
عبدالله حبه
الحوار المتمدن-العدد: 3713 - 2012 / 4 / 30 - 13:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بمناسبة مرور 150 عاما على مولده
الاصلاحي بيوتر ستوليبين ... والمشنقة الحديدية عبدالله حبه- موسكو بيوتر ستوليبين جرى نقاش مؤخرا في حديث مع اعلاميين عرب بموسكو حول المرحلة التأريخية التي يمر بها العالم العربي اليوم ولاسيما تراجع الفكر العلماني وسيطرة الفكر الديني بشكله الظلامي في المجتمع الذي يعيد الامة العربية ليس الى عهود الازدهار الحضاري الاسلامي بل الى فترات التخلف في كافة الميادين. الامر الذي جعل الشاعر ادونيس يتساءل : الى متى يبقى العرب على هامش الحضارة؟. وفي سياق النقاش الآنف الذكر قال احد الزملاء المصريين ان الامة العربية لم تنجب في العقود اخيرة زعيما مثل جمال عبدالناصر يقود الآمة العربية في درب التطور والتقدم. وهنا يحضرني قول غاليلو في مسرحية بريخت الشهيرة عنه: مسكينة الامة التي تحتاج الى بطل!،المقصود بالزعيم الذي يصلح الدولة والمجتمع طبعا. والحقيقة ان الدول العربية التي لم تقدم أي شئ يستحق الاهتمام في تطور البشرية بعد سقوط الدولة العثمانية ونيل الاستقلال قبل حوالي المائة عام. وربما هي بحاجة فعلا الى مثل هذا "البطل" الذي سيخرج شعوبنا من القبو المظلم الذي أضحت فيه. ان العقلية العربية كما قال الدكتور علي الوردي ما زالت أسيرة اسلوب التفكير العشائري وما زال الانسان العربي مستمر ا في عادة الخضوع الى زعيم القبيلة والانصياع لأوامره حتى لو كانت باطلة وغير معقولة. وتطور المجتمعات العربية لا يتم على الأسس الديمقراطية السائدة في دول اوروبا الغربية مثلا، بل كل شئ يتم وفق رغبات "الزعيم الضرورة" و" القائد" و" حبيب الأمة". وهؤلاء لا يفعلون شيئا من أجل تحويل بلدانهم الى "نمور اسيوية" او الهند او الصين . والامثلة على ذلك كثيرة تتجسد في سلوكيات بعض الحكام العرب الذين يعتقدون ان بناء الابراج الزجاجية العالية والفنادق الفاخرة وشراء اليخوت المزودة بأحدث الاجهزة الالكترونية هي ذروة الحضارة ، بينما لا تنتج بلدانهم حتى المسمار والابرة ، وتستهلك مجتمعاتهم ما ينتج في الدول المتقدمة . ويذكرني هذا الوضع بقصة بيوتر ستوليبين المصلح رئيس الوزراء الروسي في العهد القيصري الذي أراد ان ينقل روسيا من بلاد زراعية وشبه اقطاعية الى دولة صناعية متقدمة مثل المانيا وفرنسا وبريطانيا أيامذاك. وفي الواقع أنه أراد مواصلة مسيرة الاصلاح التي بدأها القيصر الروسي بطرس الاكبر قبل قرنين من الزمن ثم توقفت بسبب سيطرة العلاقات الاقطاعية في المجتمع الذي تتألف غالبيته من الفلاحين، وعدم وجود "القيصر المصلح" الذي كان سيغير الاوضاع بإرادة سامية. وقد اراد ستوليبين ان يكون هذا " البطل" الذي يخرج روسيا من أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المزمنة . وفي هذه الايام نشرت وسائل الاعلام الروسية الكثير من المقالات والريبورتاجات عن بيوتر ستوليبين وعن محاولته إجراء الاصلاح الزراعي الشامل في روسيا القيصرية بعد ثورة عام 1905-1907 ، لكن النخبة الحاكمة وجدت في حينه ان هذا يشكل خطرا على مصالحها وامتازاتها فتم التخلص منه بإغتياله في ايلول عام 1911 في مسرح الاوبرا في كييف. وقد عرف لاحقا ان قاتله هو اليهودي الفوضوي دميتري بوغروف( مردخاي) عميل الشرطة السرية القيصرية. علما ان 11 محاولة جرت لأغتياله ونجحت الاخيرة فقط. واليوم حين تتطلع روسيا مجددا الى اصلاح نظامها السياسي اصبح ستوليبين رمزا لتحرك روسيا تدريجيا نحو النموذج السياسي والاقتصادي الاوروبي ، ويبدي الزعيم الروسي الحالي فلاديمير بوتين اعجابه به. ولكن ستوليبين يبقى من ناحية أخرى بصفته رمزا للمأساة الابدية للرجل المتعلم والمثقف الروسي الذي يبرز في فترة الازمات ليقوم بإصلاحات غير تقليدية من أجل إنقاذ الوضع في البلاد ، وحين تستقر الامور يبدأ باستثارة انزعاج الجميع ...من النخبة الحاكمة الى بسطاء الناس. ولهذا يجري ابعاده عن الساحة السياسية سواء بالعزل ام الاغتيال. ولا تسمح له النخبة بأن يكون" البطل المنشود". والطريف ان المجتمع الروسي لم يكتف بإغتيال ستوليبين بل قرر حتى بعد قتله وإقامة تمثال له في المكان الذي اغتيل فيه بمدينة كييف لاحقا ان يصدر حكمه بإعدام التمثال أيضا. وقد يبدو اسقاط تمثال الدكتاتور صدام حسين في بغداد عام 2003 عملا يتسم بالشفقة اذا ما قيس بعملية "شنق" تمثال بيوتر ستوليبين في 16 آذار عام 1917 بعد اندلاع ثورة شباط البرجوازية في روسيا القيصرية. فقد عمد الفوضويون واعضاء الحزب الاشتراكي الثوري الى اعداد مشنقة حديدية تولى صنعها مهندسو وعمال مصنع "ارسنال" في كييف من أجل شنق تمثال ستوليبين. وجرى شنق التمثال – وهو عمل يبدو غير منطقي - في وسط كييف وسط ترحيب حشد كبير من الناس وبقي معلقا هناك عدة اسابيع وازيل فقط بعد تغير الوضع المضطرب في البلاد. وأقيم فيما بعد بدلا من النصب تمثال كارل ماركس في عام 1919 حين تولى البلاشفة الحكم. لكن الجنرال دينيكين أمر بإزالة تمثال ماركس لدى دخول قواته كييف..كما اقيم في هذا المكان أكثر من نصب آخر من العهد السوفيتي. ومعروف ان بيوتر ستوليبين كان سليل اسرة من النبلاء ومارس دورا كبيرا في قمع ثورة عام 1905 - 1907 بروسيا حين عينه القيصر وزيرا للداخلية في عام 1906. كما أبدى قسوة بالغة حيال خصوم النظام حيث امر بإعدام المئات من البلاشفة والاشتراكيين الثوريين وغيرهم من رجال المعارضة. وآنذاك شاعت في اوساط الناس عبارة "رباطة عنق ستوليبين" في أشارة الى انشوطة حبل المشنقة. واصدر ستوليبين مجموعة من القوانين الصارمة وحين اصبح رئيسا للوزراء حل البرلمان (مجلس الدوما)، وقال في خطابه امام النواب عبارته الشهيرة :" انتم تريدون هزات كبرى.. ونحن نريد روسيا العظمى". وكان ستوليبين من أشد أنصار الدولة الروسية القوية التي ستنهار لدى اولى بوادر الضعف. وقد اثبتت الاحداث التأريخية اللاحقة صحة رأيه حين تعرضت للتفكك وفقدان الكثير من أراضيها بعد ثورة اكتوبر عام 1917 اذ وجد الكثير من الطامعين في أراضيها وثرواتها الضخمة. لكن ستوليبين عرف أيضا في تأريخ روسيا لاحقا بصفته الرجل الذي قاد الاصلاح الزراعي في روسيا وانقذ البلاد من الأزمة الاقتصادية الخانقة. ويحتفل بروسيا في هذه الايام بمرور 150 عاما على مولده. وكان إسمه مقترنا في العهد السوفيتي بالحكم الاستبدادي القيصري . لكن عندما أعلن غورباتشوف سياسة " البيريسترويكا" واشاعة الديمقراطية واجراء الاصلاحات في الاتحاد السوفيتي في اوساط الثمانينات برز اسم ستوليبين مجددا بأعتباره من كبار المصلحين في روسيا. وبعد زوال الاتحاد السوفيتي استحدث الرئيس الروسي بويس يلتسين ميدالية بإسم ستوليبين منحت الى العديد من رجال القيادة الروسية الجديدة مثل غوردييف وزير الزراعة وكودرين وزير المالية وسوبيانين عمدة موسكو الحالي تقديرا لانجازاتهم في مجال الاصلاح الاقتصادي والاداري بروسيا. وهذا يعتبر مفارقة عجيبة في تأريخ البلدان حين يوصم الرجل بالاجرام في فترة ثم يجري تكريمه في فترة أخرى. وكانت اصلاحات ستوليبين تتركز على منح الفلاحين حق امتلاك الاراضي الذي حرموا منه حتى بعد التخلص من نظام القنانة في ايام القيصر الكسندر الثاني، وبهذا ازداد الانتاج الزراعي وتحسن الوضع المعيشي للناس. كما شجع ستوليبين رجال الصناعة بتخفيف الضرائب وساعد على جلب التكنولوجيا المتقدمة من الدول الاوروبية الأخرى. وقال في حديث صحفي مرة :" اعطوني فترة عشرين عاما من الهدوء الداخلي والخارجي وبعدها لن تتعرفوا على روسيا "- في أشارة الى حدوث نهضة اقتصادية فيها. وعرف ستوليبين بصفته خطيبا مفوها حاز على أعجاب كثير من الناس وكذلك على حقد آخرين من خصومه. فقد وصفه لينين بأنه " كبير الجلادين" بينما وصفه الكاتب الكسندر سولجينتسين الحائز على جائزة نوبل بأنه "مثال الاخلاق الرفيعة". كما قام الرسام الروسي الشهير ايليا غلازونوف برسم لوحة بورتريه له بالبزة الرسمية والاوسمة في عام 2004. ولد بيوتر ستوليبين في عام 1862 في درسدن بإلمانيا. ودرس في كلية الفيزياء في الجامعة الامبراطورية في سانكت – بطرسبورغ ، لكنه إلتحق بعد التخرج بالعمل في جهاز وزارة الداخلية، وعين بعد ذلك محافظا لغرودنو في بيلوروسيا ومن ثم محافظا لمقاطعة ساراتوف. وجذب اهتمام السلطات لدى قمعه الانتفاضة الشعبية هناك. ومنها انتقل الى العاصمة وزيرا للداخلية ومن ثم رئيسا للوزراء. وتوالت محاولات اغتياله ومنها القاء قنبلة على بيته في سانكت – بطرسبورغ مما أدى الى مصرع 24 شخصا، بينما فقدت ابنته ناتاليا ساقيها. ويومذاك صدر بمبادرة منه قانون حول تأسيس المحاكم العرفية التي صارت ترسل المئات من الاشخاص الى المشنقة. وقال الكاتب الكبير ليف تولستوي عنه آنذاك: "انني لا استطيع السكوت !" ودعا ستوليبين الى عدم الرد على القتل بالقتل. ورد الاخير عليه بعبارات مؤدبة بأن الضرورة تملي ذلك. وهو مضطر الى ابداء القسوة حفاظا على كيان الدولة. في الوقت ذاته واصل ستوليبين خطواته الاصلاحية فأعلن منح الاقاليم استقلالية كبيرة تشبه الحكم الذاتي بإسم " الزيمتسفو". لكنه منح الحكم الذاتي لمقاطعتي فنلندا وبولندا (التابعتين لروسيا آنذاك) بغية وضع حد للحركات الثورية هناك ، وبدأ بإسكان الفلاحين في سيبيريا من اجل استثمارها. وعمليا نفذ ستوليبين جميع مطالب اللبراليين الروس. لكن ستوليبين اغتيل ولم يحصل على فترة العشرين عاما من الهدوء والطمأنينة التي كان يريدها من اجل انقاذ روسيا. وحاول اللبراليون الذين تولوا الحكم في روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي احياء افكار ستوليبين الاصلاحية من اجل ضمان بقاء روسيا كدولة كبرى فاعلة ، بيد ان الامر اقتصر على الكلام فقط. فقد تواصل على مدى اكثر من عشرة اعوام نهب الممتلكات العامة وظهور اصحاب المليارات والملايين الذين يهربون الاموال الى الخارج ولا يهمهم البتة مصير البلاد. اما اصلاحات ستوليبين فقد بقيت في طيات صفحات كتب التأريخ.
#عبدالله_حبه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنابت الفلسفية لفن محمود صبري
-
المخرج السينمائي الروسي الكسندر سوكوروف
-
لغز بولغاكوف
-
مأساة مكسيم غوركي
-
يوسف العاني موليير العراق
-
محمود صبري - فنان ومفكر
-
بريماكوف يتحدث عن الماركسية - اللينينة و-الثورات العربية-
المزيد.....
-
راكبة تلتقط بالفيديو لحظة اشتعال النار في جناح طائرة على الم
...
-
مع حلول موعد التفاوض للمرحلة الثانية.. هل ينتهك نتنياهو اتفا
...
-
انفصال قطعة كبيرة من أكبر جبل جليدي في العالم!
-
15 قتيلاً على الأقل خلال انفجار سيارة في مدينة منبج في سوريا
...
-
روسيا تعلّق الطيران في عدة مطارات عقب هجوم أوكراني بالطائرات
...
-
عواقب وخيمة لوقف أمريكا المساعدات الخارجية.. فمن سيعوضها؟
-
الصفائح الجليدية في القطب الجنوبي أكثر قدرة على الصمود
-
انتشال رفات 55 شخصا ضحايا اصطدام طائرة الركاب بمروحية عسكرية
...
-
لبنان .. تغيير أسماء شوارع وساحات تذكر بالنظام السوري السابق
...
-
الرئيس الجزائري: أبلغنا الأسد رفضنا للمجازر بحق السوريين
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|