|
الإسلام.. المسيحية: أيهما أولى بالعقل من الآخر؟
إبراهيم عرفات
الحوار المتمدن-العدد: 3712 - 2012 / 4 / 29 - 17:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يوجه غالبية المسلمين للمسيحية اتهامًا بأنها ديانة تركن للعاطفة في حين هم يرون أن الإسلام دين العقل بل يرونه أولى بالعقل تماما من جميع الأديان واللا أديان. كثيرًا ما يلجأ المسلم للدفاع عن دينه بالحط من دينٍ آخر إذ القرآن بخطابه التحريضي هو من غرس فيه مثل هذه الأخلاقيات. قال لي مسلمٌ غيورٌ على دينه: عملية التبشير المسيحي تتم عن طريق العاطفة بطريق مباشر للغاية، عندما تتحاور مع مسيحيًا تسمع كلمات مثل "الله يحبك"، "اعرف خطة الله لحياتك" , "أنت ابن الله" إلى آخره. طريقها المباشر هو العاطفة لاشيء غيرها , يلعب المبشر بشكل مباشر على العاطفة الموجودة عندك , ولا أخفيكم أنني أرى أنها خطة ناجحة للكثير من الشخصيات البسيطة التي يمكنك أن تضحك عليها بكلام رنان يثير العاطفة , وأما بالنسبة للشخصيات المفكرة فلا ينجح هذا التلاعب على الإطلاق!
وأنا بدوري أسأل أخي المسلم وأخاطبه عقله هنا: ما هو الدين يا أخي المسلم؟ أنت وأنا نعلم خير العلم أن الإيمان، وبتعريف الإسلام نفسه، هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره وحلوه ومره. هل الإيمان بخالق غير منظور يمكن إثباته إثباتًا علميًا معمليًا بالعقل؟ اعلم، يا أخي، رحمك الله، أن الدين متى صار "عقليًا" أي يمكن استيعابه تمام الاسيتعاب بالعقل لم يعد دينًا بل أصبح علمًا. الدين يحدثنا عن نبوءات ومعجزات وحشر وملائكة وبُراق! فمن هنا صادقٌ مع نفسه ويريد أن يقول لنا إنه يعي كل هذه الأمور بعقله المحض ومن ثمّ فدينه دينٌ عقلي؟ هذا زعم باطل إذ لا يوجد "دين عقلي" يقدر أن يثبت بالـ "تجربة والامتحان والمشاهدة" أن نفس الإنسان خالدة ما بعد الموت وأن هناك آخرة وجنة ونار وسائر هذه الادعاءات الغيبية الميتافيزيقية. على هذا يرد الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة: "ليس ينفك فريق منهم (يقصد الفلاسفة) عن خزي في مذهبه وهكذا يفعل الله بمن ضلّ عن سبيله وظن أن الأمور الإلهية يستولي على كنهها بنظره وتخيله". وقال أيضا: "المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الأمور بالبراهين القطعية وإذا ظهر عجزكم ففي الناس من يذهب إلى أن حقائق الأمور الإلهية لا تُنال بنظر العقل بل ليس في قوة البشر الاطلاع عليها" وكثيرًا ما أشار ابن رشد إلى أن معرفة الأمور الغيبية كالنبوءات والوحي وغيرها تكون من الشرع لا من العقل. إذا الإسلام ليس دين العقل بل هو كغيره من الأديان فوق العقل، وتلك هي طبيعة الدين من حيث هو دين.
يبدو لي أن الأخ المسلم المعترض هنا يشكو، دون أن يدري، من الجمود العاطفي الذي يلازم طبيعة الديانة الإسلامية إذ الله مثلاً "صمد" صلد جامد جاف لا حراك فيه يأمر وينهي ويتحدث من علياءه بكبرياء بما أن الكبرياء يتسربل بها ويلقي بتلك الحفنة في النار وهو لا يبالي ولا يضر الأمر في ساديته أنه يلتذ بزيادة عدد سكان جهنم لا خلاص النفوس ونجاتها بما أن القرآن نفسه هو القائل: "ونقول لجهنم هل امتلأت فتقول هل من مزيد؟!" هل نلوم المسلم في نظرته للمسيحية بعيون إسلامية؟ على صورة إلهه الإسلامي الجاف جاءت نظرته للوجود وللأديان الأخرى وصارت محبة الله في نظره عاطفة لزجة ويفوته أمر خطير أن البشرية تهلك لافتقارها إلى الحب لا لافتقارها إلى الأديان أو الموارد الطبيعية مثلاً. انظر للعرب وحتى أفريقيا نفسها! موارد طبيعية هائلة غزيرة ومع ذلك هناك فقر مدقع! إنه الفقر إلى الحب. وأي حب؟ إنه الحب الإلهي بالتحديد. يميل كثير من المسلمين إلى الوهم ظانين أنهم أفضل من غيرهم وأن دينهم أفضل من أديان الآخرين، وهذا تفكير ينطوي على سذاجة شعوب بدائية لا تعي ما عند الآخرين من حقٍ وجمال. قال ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت": "إن كل الأديان حق لأنها تحث على الفضائل ولكن يجب تأويل أصولها ومبادئها "أحسن" تأويل- وابن رشد بهذا طفرة في زمانه إذ الغالب في الإسلام هو الإقصاء والتكفير لا التحقيق والتفكير. لكن انظر معي وتأمل كم أهان الإسلام والمسلمين شخصًا مثل ابن رشد لمجرد أنه نظر بعقله في أمور الدين. ترى ماذا كان المسلمون ليفعلوا لو أن ابن رشد قال بعشر معشار ما قاله فولتير وروسو ورينان في المسيحية؟ هل كانوا يقيمون عليه حد الحرابة؟!
إياك أن تخدع نفسك أخي المسلم وتظن أن دينك وحده قائم على العقل بل هو دين كسائر الأديان قائم على الغيبيات والماورائيات ونهجه نهج ميتافيزيقي شأنه في ذلك شأن جميع الأديان. ومن ثم نجد القرآن يتحفنا بقصص لا تمت بصلة للعقل من قبيل الميثولوجيا كأن يحدث سليمان النملة أو الهدهد أو يتحدث محمد إلى البراق (الحصان المجنّح) والذي له تكوين ميثولوجي محض كما نقرأ في الأساطير اليونانية. وهذا لا يضر الإسلام أو يعيبه لأن الميثولوجيا قالب من قوالب التعبير القديمة التي كانوا يستخدمونها لإيصال معنى يكتنزه الشكل الأسطوري الخارجي. زد على هذا أن الأديان من الأساس قائمة على الإعلان والوحي لا العقل والمنطق. الأديان لا تريد أن تقدم للإنسان وصفة في التفكير العقلاني ولكنها تريد به هداية قلبه إلى جادة الرشاد الإلهي والسير بما يوافق مشيئة الله حسب قصده للكون الذي خلقه في محبة تامة. فكيف تخدع نفسك يا أخي وتبرهن بما هو ملموس على ما هو غيبيّ وأصلاً غير ملموس كالله؟ ما تراه في الكون من أثارٍ ملموسة تدل على عمل الله إنما هو أثار وطرق استدلال بشرية بالعقل والحدس ولكن هذا لا هو بدليل أو برهان بحسب القياس المنطقي السليم. تأخر المسلمين عن ركب الحضارة العالمية والتقدم التكنولوجي العلمي الحاصل في اليابان وأوروبا وغيرها هو ما دفعهم للكذب على أنفسهم وإيهام أنفسهم بأن القرآن حاوي لعلوم الذرة والكيمياء والمايكروبيولوجي إلخ وهذا التعاطي للوهم لا يساعد المريض على العلاج واللحاق بزملائه المعافين بل يزيد الطين بلة وعندها يصدق ماقاله ماركس من أن الدين يقوم هنا بدور المخدر وعليه فهو أفيون الشعوب المنكوبة التي تتعاطى الوهم. أمور الله العلوية لا تخضع لقياس الإنسان في العلوم التجريبية إذ أن العلم المعملي التجريبي يعتمد على المشاهدة والتجريب والامتحان. أمور الدين عامة قواعدها مبنية على ما جاء في الكتب والنبوءات وتصديق ما جاء فيه لا تكذيبها. من حقي أن أكذب ما جاء في العلوم التجريبية ولكن الإسلام يقول للمسلم: "لا تسألوا عن أشياء إنْ تُبدَ لكم تسوءكم" ويوبخه أشد التوبيخ على الشك في دينه. أمور الأديان والإيمان قلبية وأما أمور العلم فتجريبية استقرائية. هذا عالمٌ وذاك عالمٌ آخر. المؤمن المستنير يفصل ما بين ما هو للمنطق الفلسفي والعلمي وما هو لـ "الوحي"، ولا يرى أبدًا أنه أولى بالعقل من غيره بل يرى أن الجميع يطلب الله بطريقته الخاصة به والله لا يحرم إنسانًا من معرفته ولا يترك نفسه بدون شاهد كما قال الإنجيل بل البشر وعلى اختلاف مشاربهم العقائدية قد انطبعت الأبدية في قلوبهم وما هي إلا مسألة وقت حتى يلتقي بهم الإله الحيّ الذي يطلبهم لذاته بالحب ولا يريدهم أن يخافوا منه في شيء. وحيّ الله لا يخضع بالضرورة للعقل بل له "براهين قلبية" قد تخاطب العقل وفي أحيان كثيرة تتجاوز العقل، وهذا الوحي في الإنجيل يريد منا أن ننفتح على عمل الله وأن نحيا بالله ونتحرك ونتواجد به؛ والله هو من يحترم عقولنا ويترك لنا تصريف جميع شئون حياتنا بما قد تقتضيه الضرورة. مشكلة الإسلام ومن هنا خُلقت أزمته الحاضرة في أنه أقحم نفسه في ما لا يخصه ودس بأنفه في أمور العلم التجريبية. ربط الإسلام كرامة العلم بكرامة الدين لأنه أراد أن يقوم على تعجيز غير المسلمين وإثبات أن الإسلام فيه الجواب على كل شيء من اللوغاريتمات حتى الفيزياء الذرية! يغيب عن بال كثير من المسلمين أن للعلم دائرته وللدين دائرته الأخرى التي يتحرك فيها بحرية، ودون أن يقتحم الواحد حيز الآخر. هذا بالطبع أدى إلى تقزُم العقل والإبداع (ومن ثم مصادرة الكتب والتصدي لحرية الفكر!) ووقوف العلوم عند حد معين لا تتخطاه في البلاد الإسلامية ومن ثم جاء التخلف وحلّ بالمسلمين فتخلفوا عن ركب الحضارة الإنسانية وصار العالم كله في وادي والمسلمين في وادي آخر آخر. وماذا يفعل دين بدائي في تفكيره ومستواه كالإسلام وقد أخرجته قريحة البدو في القرن السابع الميلادي وهو يناطح أصحاب الفكر الحرالحديث وأهل العلوم في القرن الواحد والعشرين؟ والسبب هو تبجح القرآن لما قال عن نفسه إن هذا الكتاب لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وأحصاها في كتاب مبين، وبهذا حشر نفسه كدين في دوائر لا تخصه كالعلوم التجريبية.
الأديان هي معارف إلهية تبحث في وجود العلة الأولى للوجود أو في المطلق أي في الله وصفاته وكيفية الوصول إليه. من جهة أخرى، الفلسفة تركن إلى المنهج العقلي والبراهين التي ينبغي أن تكون براهين دقيقة محكمة، وشأن الفلسفة هنا شأن العلوم الرياضية والطبيعية وتطبيق الاستقراء والتجريب. الإيمان الغيبي لا يرتكز على الاستقراء أو التجريب، أيًا كان هذا الدين ومسماه. لذلك يرى الأستاذ عبد الرحمن بدوي أن أفلوطين أقرب إلى أن يُدرج بين الصوفية من أن يحسب بين الفلاسفة، على الأقل في أجزاء مذهبه التي يعتمد في تحصيلها على الوجدان أو الذوق أو العيان (راجع كتابه "مدخل جديد إلى الفلسفة"). والأديان، كما يعرف معظمنا، تبحث في علّة العلل ومسبب الأسباب أي الله. هنا الدين، أي دين أيًا كان، يستمد تقديراته وعقائده من مصادر خارج العقل وهي الوحي والنبوءة. ولذلك فأي كلام سوف نقوله في الدين هو من باب "التصريحات الإيمانية" ولا نملك الحق أن نقول فيه إنه قياس فلسفي منطقي عقلاني إلخ إذ لكلٍ مجاله ولا يصح أن نقحم أنفسنا وندعي ما ليس لنا وكأننا نستغفل عقول الناس. الإيمان يستنير بالعقل ولكنه لا يرتكز على العقل بل كثيرًا ما يتخطاه. الإيمان يقين القلب المطمئن إلى إيمانه والفلسفة يقين العقل الذي يبحث ويجرّب ويشك ويستقريّ. الإيمان هو دعوة إلى الإله الذي نؤمن به والذي قد بلغنا خبره من جيل إلى جيل، إله إبراهيم، إله إسحق، إله يعقوب، إلهنا الحيّ الذي نعرفه عن طريق القلب، لا إله الفلاسفة، الإله المجرد، الخاضع لعقولهم، والقلب له أسبابه والتي لا يعرفها العقل، كما قال باسكال. والإيمان ليس علمًا كالكيمياء والرياضيات بل هو اعتقاد، وهذا الإيمان هو "ما وكر في القلب وصدقه العمل" كما جاء في الحديث. ولذا فالعقل يجب عليه أن يلزم حدوده (بما أن للعقل حدود!) ولا يدعي لنفسه معرفة أمور الإيمان معرفة حقيقية بالعقل. يرى الفيلسوف إدوار لوروا (1870- 1954) أن استنباط وجود الله يساوي إنكاره لأن العقل حين يتكلم عن الله فإنه لا يتناول الله حقًا لأن البرهنة على وجوده معناها إمكان ردّه إلى حقائق أخرى غيره، لها سلطتها بالنسبة إليه؛ ولكن الله إذا قيس بهذا القياس فلن يكون بعدُ هو الله (راجع كتابه Le problème de Dieu- Ed. LeRoy). عندما يحرص المسلم أن يدعي العقل لدينه وأنه يبرهن هذا ويبرهن ذاك في دينه فإنه إنما يختزل الله إلى مجرد تصور كما يراه هو، مفهوم، فكرة من بنات أفكاره تخضع لعقله المحدود. ولكن الله، ومن حيث هو الله، لا يوجد تصور أو مفهوم دقيق العبارة ليحتويه، والماهية الإلهية لا يمكن حصرها ضمن حدود التعريفات الإنسانية. يبقى اللفظ الإنساني عاجزًا تمام العجز عن أن يعطي وصف دقيق للماهية الإلهية. أقصى ما يقدر عليه المسلم والمسيحي حيال مسائل الإيمان هو إيجاد شواهد ولا نقول أبدًا براهين وأدلة، ولكن ونحن نورد الشواهد فنحن نفترض وجود الله وصحة ما نؤمن به أي أنه إفتراض مسبّق قد قرر النتيجة مسبقًا. إذا، الرغبة في البرهنة على وجود الله أو صحة هذا الدين من سواه أو أنه أولى بالعقل من سواه كما يزعم المسلم لأمرٌ بالغٌ الهزل لأن الله إما هو موجود يا أخي المسلم وعندها لا يمكن البرهنة عليه أو هو غير موجود وهذا أيضًا لا يمكن البرهنة عليه.
جرّب أن تقول لمسلم هات برهانك يا مسلم على أن محمدًا نبيًا من عند الله. عندها، وكالمعتاد، سوف يستشيط المسلم غضبًا ويخرج دخان من أنفه ويصرخ في وجهك ربما قائلاً: كيف تتطاول على رسول الله يا كافر! وكل هذا لأنك طالبته بدليل يبرهن على أن محمد رسول من عند الله. وفي أحسن الظروف، قد يتألق المسلم في أحلى حلية من التسامح ويجيبك إجابة يراها أنها المنطق والعقل بعينهما فيقول لك: الدليل على أن محمد رسول هو أنه قد جاء بالقرآن. وما الدليل على أن القرآن من عند الله يا أخي المسلم؟ يجيبك المسلم: لأن سيدنا محمد قد جاء به. ونلف وندور في حلقة مفرغة يزعم فيها المسلم أنه أولى بالعقل من المسيحيين وهنا ينطبق المثل: "من يشهد للعروسة سوى أمها". هذا الأمر ليس بجديد بل قد صاحب الإسلام منذ نشأته ولذلك قال أبو بكر الرازي واصفًا حال المسلمين الذين يزعمون واهمين أنهم أهل العقل دون سواهم: "إن أهل الشرائع إذا طولبوا بالدليل شتموا" (راجع كتاب أعلام النبوة، أبو حاتم الرازي وأبو بكر الرازي وبتحقيق جورج طرابيشي، دار الساقي). الشرائع تُستنبط بالعقل والوحي ولكنها ليست قائمة على العقل وحده، وإلا فقل لي يا مسلم: أين هي الروح بالعقل وبالدليل والبرهان؟ وأين عرش الرحمن؟ وأين هم الملائكة؟ وأين هو الله نفسه؟ ما عندك وما عندي لا يتجاوز سوى الاستنباط ولكني لست أولى منك بالعقل وأيضا أنت لست أولى مني بالعقل لمجرد أنك مسلم. أنت تطلب الله الذي يكلمك برسالة القرآن وأنا أطلب الذي الذي خاطبني في بشارته الحيّة وكلمته، المسيح. وجه الله نطلب وإياه وحده نعبد.
قال الأخ المسلم لي: إنك لو ذهبت الى رجل بسيط غير متعلم وقلت له كلام من قبيل "هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" أو يسوع الذي سفك دمه من أجلك، يسوع الذي صلب من اجل الخطية , الخ كلام عاطفى بالطبع يمكنه التأثير على الشخصيات البسيطة ويمكنه ان يجعل اى مسيحى تغرورق عيناه بالدموع !
وأنا أقول له إنه إذا مر بك المسيح حمل الله الوديع والمتواضع القلب ولم تتحرك عاطفتك فمن الواضح لي أنك مقتول عاطفيا. تمشي على قدمين ولكنك ميت وتظن أنك حيّ. ترضي الله بأصوامك وصلواتك ولكن قلبك صلب أمام حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم. هل تظن حقًا أن صلابة القلب أمام مرور حمل الله بك هي العقلانية ونحن لا ندري؟ هل صلابة القلب قد جعلت منك آينشتاين أو كانط؟ ربما ينقصك بعض الرأفة الموجودة عند النصارى، أقصد شفقة القلب والتي تحدث عنها قرآنك لما قال: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبان وأنهم لا يستكبرون... وترى أعينهم تفيض من الدمع. كان القرآن يسجل واقع لا ينكره أحد وهو واقع النساك الرهبان والذين كانوا في حالة وداعة ومحبة وشفقة ويصادقون كل الكائنات من أسود وطيور وحيات ولا عداء في داخلهم تجاه شيء مما خلقه الله. ما يظهر لك على أنه ضعف يا أخي المسلم هو القوة بعينها وهو العقل بعينه فلا تنخدعن بما قد التبس على رؤيتك وهي رؤية ضبابية فيها الشفقة ووداعة الحمل ابن الله قد أضحتا لك من سمات الضعف. لعله زمان تدارك ما قد عانيته أنت من حرمان طوال هذه السنين التي مضت بك.
عندما يبذل المسيح ذاته لأجلك ويتخطى كل ما تعرفه عن التفكير العقلاني فاعلم أن المحبة هنا تتجاوز المعقول وتريد أن تنقلك نقلة كبرى في حياتك لأن تحب أنت أيضا بشكل يفوق العقل. المحبة لا تخضع لنواميس المجتمع بل فيها يبذل المحب ذاته وبإرادته الكاملة، وهذا ما قام به المسيح والذي قال: ليس لأحد حبٌ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبائه. ما حاجتي لإله طرقه تخضع لعقلي ويحتويها عقلي؟ يقدم لنا الإسلام إله يخضع لعقل المسلم وتبريراته (أو هكذا يظن المسلم واهمًا في سذاجة) ولكن الإله في المسيحية يتخطى كل ما يعرفه الإنسان ويتجاوز عقله تمامًا. فالإنجيل وإنْ قال لنا إن الله أبٌ فهذا لا يعني أن أبوته على مستوانا البشري الساقط الأناني بل هي أبوة من نوعٍ آخر تمامًا فيها الأب هنا يبذل ذاته ويقدم ذاته للخليقة دون أن ينتظر منهم شيء. من فينا كأباء يفعل هذا؟ إذا يستخدم الإنجيل فكرة الأبوة من باب "الصورة" ويطورها ويستخرج لنا فيها حقيقة الله الأب الكلي الحب والذي حبه يقتضي أن يتنازل ويأخذ طبيعتنا الإنسانية كي ما نلبس نحن ما له ونتلامس مع عمق أعماق الله. المسيح لم يفعل هذه الأمور في محبته اللا متناهية اعتباطًا وإنما فعلها لأجلك أنت لأنك أنت كنت في بال الله منذ البدء عندما خلق الخليقة. ما أسهل إلقاء الأوامر والنواهي ووضع الأحكام الفقهية الشرعية ولكن ما أعظمه من إله عندما يدخل غمار معاناتك البشرية كإنسان ويدعك أنت تتلامس مع إنسانيته هو وعندها تتقدس إنسانيتك فيه. هذا هو منطق الحب والذي يغلب كل عاطفة ويتجاوز بكل عقل إلى بذل الذات لأجل الآخر الذي نحب لأن الحب ليس عاطفة عابرة ومشاعر رومانسية جيّاشة ولكنه وإن بدأ بكل هذه إلا أنه أفعال وتضحيات وتقديم نفوسنا للآخر الذي نحب.
لكي تحكم على المسيحية حكمًا عادلاً يكفيك أن تقرأ موعظة المسيح على الجبل والتي فيها يتجلى الرقي الإنساني خير تجليّ إذ هي خلاصة الكمال البشري الذي ما بعده من كمال. اضمن لي مجتمع يعيش بتعاليم المسيح في هذه الموعظة على الجبل وأنا أضمن لك مجتمع إنساني متفانٍ في إنسانيته. اقرأ وتدبر معي ما جاء في إنجيل متى الفصل الخامس: 5 فلمَّا رأَى الجُموع، صَعِدَ الجَبَلَ وَجَلَسَ، فدَنا إِلَيه تَلاميذُه 2فشَرَعَ يُعَلِّمُهم قال: 3طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات. 4طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض. 5طوبى لِلْمَحزُونين، فإِنَّهم يُعَزَّون. 6طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون. 7طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون. 8طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله. 9طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون. 10طوبى لِلمُضطَهَدينَ على البِرّ فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات. 11طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي، 12اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم.
هل بعد قراءة كلام عذب مثل هذا لازلت تصر على اتهام المسيحية بأنها دين العاطفة وأن دينك وحده هو دين العقل؟! رجاء اقرأ الموعظة كاملة في إنجيل متى والفصول 5 و 6 و7. عن هذه المسيحية يقول الفيلسوف والمفكر رينان، رغم أنه ترك المسيحية وصار لادينيًا ولكن هذا لم يمنعه من الإنصاف فقال: "هذه هي الديانة الأبدية. وإذا كان في الأجرام السماوية أجرام مأهولة فإن ديانتهم لا تكون أرقى منها مهما بلغوا من الارتقاء في سلم الكمال." وأيضا شاتوبريان في كتابه "روح المسيحية" يقيم الحجة على المصدر الإلهي للمسيحية فيصيح: "هل يمكن أن يصدر من البشر الضعفاء كمال كهذا الكمال؟!"
#إبراهيم_عرفات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
واقعنا العربي المنكوب وسبل التعافي
-
الكتاب المقدس رفيق رحلتي من الإسلام للمسيحية
-
ما معنى قول المسيحي للمسلم إن المسيح ابن الله؟
-
مفهوم التنزيل الإلهي والعبور من الإسلام إلى المسيحية
-
شهادة الحب من المسيحيين للمسلمين- الفقرة الأولى
-
تاء العورة والانتكاسة الحضارية في مواجهة الرقي الإنساني
-
ما الهدف وراء أن يصبح المسلم مسيحيًا؟
-
اللهم أعز الإسلام والمسلمين!
-
ما معنى قول المسيحي للمسلم إن الله يحبك؟
-
تنزيه الله أم عزلته؟
-
محورية الإنسان في المسيحية
-
هل تصلح اللا دينية كمنهج في الدفاع عن المسيحية؟
-
أخلاق المسلمين أم أخلاق الكفار؟ وأيهما أولى بالأخلاق من سواه
...
-
من يسيء إلى الإسلام؟ ومن هو المجرم الحقيقي؟
-
ولَمَاْ تَثَلّثَ مَحْبُوْبِيّ فِيْ أقانيمِه- وقفةٌ مع دين ال
...
-
ما بين الإسلام والمسيحية: حوار أم جدال؟
-
أزمة التحول الديني في المجتمع العربي: مصر كنموذج
-
عشرون عاماً عشتها في كنف نبي يتمّم مكارم الأخلاق
-
هجر الإسلام واعتناق غيره دون رجعة
-
نحو حضارة إنسانية عربية: الإنسان أولاً
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|