نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1090 - 2005 / 1 / 26 - 11:44
المحور:
الادب والفن
1
تسير البنت التي أحبها مسافة كيلومتر مرتين يومياً من منزلها لمدرستها و بالعكس. ذاهبة و آيبة. بحقيبتها نصف المفتوحة. تقدر لسيرها هذا الكيلومتر ساعة كاملة. تسيرها بنشاط. لدى وصولها يكون وجهها قد نزف عرقاً كثيراً. على قدر الموسيقى التي تزرعها في الهواء. في كل ميلليمتر مكعب من الهواء. تخرج إزميلها الصغير كأنه لعبة من حقيبتها. تطرق على الهواء. كل يوم نفس الهواء. ما بين منزلها و مدرستها. تنقش في الهواء ألحاناً و أصوات زئبقية ذات لون الفيروز. يشق عليها عملها . أشهد لها بهذا. تفاجئها ذرة هنا أو ذرة هناك تنادي من ينقشها باللحن أو لا تنادي. فرِحةً بقتامتها. تبكي أثناء العمل. تقول هذا العمل مجهد و أنا بنت ضعيفة في النهاية و لست ولداً. أصحح لها أنا هذا عمل لا يقدر عليه إلا البنات اللاتي تشبه البنت التي أحبها.
تخرج هذه البنت في عودتها من المدرسة إزميلها مرة أخرى و تعاود النقش. هذه البنت الكفيفة, مضطر أنا لقول هذا, لا يفاجئها كون الموسيقى التي نقشتها في الصباح قد اختفت. لأنها لا تراها. و لو رأتها لعزت الأمر إلى العوامل الجوية السيئة, برودة أو حرارة. تقول هذا الطقس! أف!. ماذا أفعل أنا يا ربي.
هذه البنت أقامت في حجرتها مستعمرات من رحمانينوف و برامز و الرحبانية. لأنها لم تر في حياتها إلا جمل موسيقية. و هي تراها حقيقة. و هي أخبرتني بذلك, أنا أبوها. قالت لي يا أبي أنا رأيت أمامي أول جملة من آخر إيام الصيفية. و قلت لها لماذا هذه الجملة و لماذا لم ترين سائر العمل. قالت لي ربما أكون قد رأيت سائر العمل غير أنه كان متوار. كانت هذه الجملة تتراقص بشدة و ترتعش و بدت كأنها تريد إغاظتي وكنت أحاول الرقص معها أو حتى دغدغتها و هذا أضعف الإيمان. سألتني بنتي كيف ينقشون الموسيقى في الهواء. هذه البنت المتعبة. قالت لي في الكنيسة أنها ترى العذراء جيداً و كأنها أمامها. و عندما عادت ساورتها الشكوك. سألتها عن جملة آخر إيام الصيفية. كيف بدت لها.
أسير كل يوم من شقتي قبالة مستشفى هليوبوليس إلى ميدان تريومف. أرقب بنتاً كفيفة تسير بملابسها المدرسية و تقف عند كل خطوة دقائق و تواصل السير. راقبت الأمر بدافع من الفضول أولاً ثم أحببت البنت. أحببتها لأنها كانت تبدو و كأنها تحادث الهواء. كانت تمد يدها إلى الهواء و تبدو تصافحه أو تنتزع منه شيئاً لا أدريه. و كانت تتحاور مع الفراغ المحيط بنا. لم أر من هو على هذا القدر من التوافق مع الهواء. و لأنها لم تكن تحتاج لرؤيته فقد بدت تحس به أكثر منا. و عندما أحببتها بعمق (أقول بعمق لأني أدري ما أقول, كان حبها عميقاً أو كان غائراً كأن ثم من نقشه و لم يرسمه) أدركت أني وقعت في فخ ما لا أدريه, أو كأن حبها هو ما يبث هذا الشعور. كان الفخ مسموعاً. لم أره أو أحسه. ربما أيضاً لم أسمعه بالضبط. أحسست أنني أسمعه. و عندما فاجئني الإدراك ذات مرة فجأة لم أكن قد غرقت بكليتي في الشرك. أدركت جملة واحدة: تنقش هذه البنت الموسيقى في الهواء. تجعلها غائرة و راسخة. و كان لابد من الحس الكاريكاتيري: ماذا لو تصدع الهواء و انهار على رؤوسنا. نحن الذين لم نعرف الموسيقى في حياتنا, و لا ننوي أن نعرفها. لم أكن أحب الدمار, أو تخيل المشاهد المريعة.
2
يخرج ولد من منزله كل يوم في التاسعة صباحاً. يسير و يسير مسافة كيلومتر رائحاً و غادياً. يلفحه جو مزدحم بضوضاء مستفزة. أحياناً ما يقول أعصابي لا تتحمل و ستنهار يوماً. ماذا أفعل أنا وقتها. لم ينتبه في أول الأمر إلى كنه الضوضاء. مع تكرار غدواته و روحاته, ملاحقاً لطالبة في المرحلة الثانوية, أرأيتم إلى أي مدى كان مراهقاً, بدأ يستشعرها. و في أيام كان لا يستطيع السير. كانت الضوضاء ذات كثافة ما. شعر حينها بأن ثم تياراً يعاكسه, و كان الضوضاء. و عندما أدرك الأمر على حقيقته و عرف أن تلك الضوضاء إنما تزرعها البنت التي هو موله بها (بل و أكثر من ذلك, و أهم من كل شيء, عرف أن لتلك الضوضاء اسماً آخر, عرف أن البنت تدعوها موسيقى, حتى و إن كانت نظرته لم تتغير تجاهها) ظل لأيام مروعاً. لم تكن الصدمة عليه بالهينة. رأى البنت و هي تحفر في الهواء. رآها و هي تدق على الهواء بهدوء أحياناً و أحياناً بعصبية. رأى في كوابيسه العالم كمجال لقوى متصارعة بلا رحمة. رأى الهواء كحائط يحجبنا عن بعضنا البعض. و سمع من قال له أن هذا هو الحل لكي نحتفظ بحد أدنى من الكرامة الإنسانية. خصوصية ما. رأى البنت تغرز ضوضاءها في هذا الحائط. لم تتحمل أعصاب الولد المرهف.
(الولد المرهف كان يحلم بعالم نقي. رسم بينما هو طفل العالم أبيض. كل شيء أبيض. قلت له العالم ليس كذلك. بكى و قال لي العالم كذلك. يجب أن يكون كذلك. لماذا خفت على الولد كثيراً بينما هو طفل؟ كان يجلس في غرفته ساعات طوال و لا يفعل شيئاً. لم أكن أتصور هذا نشاطاً طبيعياً لإنسان. أن لا يفعل شيئاً. كنت أدخل له الطعام في غرفته و كان ينقل لي مخاوفه عندما كان يقرر كسر الصمت لفترة قصيرة. كان يرتعب عندما ينادي بائع على بضاعة. و كان يحلم في كوابيسه بي أدخل عليه في غرفته و أتحدث. و أظل أتحدث. كلاماً كثيراً كثيراً و تبرق عيناي بنظرات ماكرة. قاتلة هي بالنسبة للولد, ابني. و كان يستيقظ مرعوباً. كنت أشعر به برغم أنه لم يكن يصرخ أبداً, و عندما كنت أدخل عليه لتهدئته كان يخبئ رأسه في اللحاف).
قال لي الولد كيف ننزع ضوضاء ما من الهواء. سألته ولماذا تريد أن تنزعها. قال لي لأنها ضوضاء. و لأن الناس تظنها شيئاً جيداً. و هي شيء مرعب. و أخذ يرتجف. أنا أحبك يا أيتها البنت التي تزرع الضوضاء. غير أنني لن أفهمك أبداً. و لا تفهمينني أنت. لن تفهمي (لماذا لن تفهمي!؟) كون العالم يصير جميلاً في حال ابيضاضه. لماذا لا تتركين الأشياء على حالها. لن أسامحك على ما فعلته بالعالم و بي.
3
تذهب البنت كل يوم إلى مدرستها باليونيفورم الأزرق. تنقش ما تقدر عليه من الموسيقى في الهواء. تحاول قدر ما تقدر جعل الطريق نفسه موسيقى. تجهد في تحويله إلى كونشيرتو فيولينة لموتسارت. تدق بإزميلها و تكتب ما تريده من الجمل الموسيقية. ما تريده تماماً. هو مجال رحب لممارسة الحرية الفردية بلا كوابح تقريباً.
بلا كوابح سوى ولد يسير وراءها كل يوم. يرمم ما أفسدته من الهواء. يجعل الأشياء مثلما كانت قبل مجيئها. لا يتخطي أي جزء ما لم يتأكد أنه صار أبيض تماماً مثلما كان. في خلقنا الأول و الآخر و ليس في حاضرنا المربك. كل شيء فيما خلا الإنسان أبيض. يحلم الولد بصمت كاسح يغمر الإنسان حتى يذوب. كل ما في عقلنا يستحق الإلغاء. قصاصات جرائد. و هاهو الولد يلغيها. تكتسب الأشياء نصاعتها من جديد و شيئاً فشيئاً تعود إلى بياضها الزاهي. يدمع الولد, لأنه رأى نفسه أخيراً و قد نجح في شيء ما جدي.
لم يقدر للولد و البنت أن يلتقيا أبداً. لأنه لم يتخطى أبداً حاجز السرعة المقررة له لكي يتأخر عنها حوالي مائة متر. يسير بنفس سرعتها تماماً. سواء و هي ذاهبة إلى المدرسة أو و هي آتية منها. ربما لم تره هي في حياتها و ربما لم ير هو منها منذ خمس سنوات إلا ظهرها الأزرق و جانباً من وجهها و إزميلها المجرم. و كان يتمنى الالتقاء بالبنت, لسبب رئيسي و هو أنه كان قد نسي ملامحها طوال خمس سنوات لم ير إلا ظهرها فيها و كان واعياً بأن الشعور لم يكن متبادلاً لأنها لم تكن تعلم بوجوده أصلاً. و في كل مرة كان يعزم فيها على ملاقاتها كانت تفاجئه هبة هواء ساخنة أو باردة تحمل إزعاجاً لا يحتمل. و ينصاع الولد في النهاية لواجبه, و ماذا سيُفيد المرء منا غير أداؤه لواجبه, في نهاية الأمر و يمضي في إرجاع الهواء مسالماً و رقيقاً.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟