أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين سليمان- هيوستن - طالعة من بيت -أبوها-















المزيد.....

طالعة من بيت -أبوها-


حسين سليمان- هيوستن

الحوار المتمدن-العدد: 1090 - 2005 / 1 / 26 - 11:40
المحور: الادب والفن
    


قال لي محمد جبل وهو يضرب كفا بكف ، بلهجة حلبية فيها بعض الفصحى أخذها من قراءاته لروايات حب غابرييل غارسيا ماركيز وموسم هجرة الطيب صالح : هي يوب ، خطت خطوتين .. من دار أبيها لبيت الجيران . ثوبها الطويل يرف بهواء يدخل الزقاق الضيق ، ونسمع وقع خطاها -الزقاق في أحد أحياء دمشق – لماذا تذهب الذكرى الى الشام -هناك في حي المحطة في حلب ، محطة الحجاز القديمة الجامع الذي رفع أربع مآذن مزينة بأضواء فيها طيف شمس غاب قبل ساعات ، وكانت الشمس تهبط خلف المدينة حين مررنا بلافتة تقول حلب ترحب بكم ، أهلا وسهلا في حلب الشهباء ، وكان الرجل المسافر الذي يجلس الى جانبي في مقعد الباص قد شده الوجد والحماس ليصرخ : يوب .. حلب أم المراتب والكبب .
وكان الجامع يقابل كنيسة بناها المسيحيون للجوار والقربى فيها مشفى ومدرسة عند الرصيف. تتمشى الصبايا بلباس الشورت وهن يتلفتن الى الخطوات التي تخلفها أقدامهن تطبع الثرى كي تنرسم سماء في الأرض حبا يحكي بالأرمنية وبالسريانية وبعضها عربي ينزل من جوار القلعة ينصت الى لغته التي هربت من يده لا يعرفها. أهل القلعة يعودون محسورين وفي قلوبهم لوعة ، أما الصبايا فترفع الأصوات على لغة قامت في حلب الآن . ياحلب يا حلب ، يترنح على أغنية شادي جميل ، ثم يبكي .
حلب فيها الآن كل شيء ليس فقط القلعة .
في سيارة اللاندروفر خاصة الشركة السورية للنفط نصعد الطريق المؤدي الى القلعة ، فلا تظهر لنا القلعة في الطريق الصاعدة اليها ، تختفي وراء البيوت والتاريخ الذي غمر الشرق فنحسب أننا لن نرى قلعة حلب ، وكانت الى جانبي الطريق بيوت قديمة وبنك ومكتبة عجان الحديد ومؤسسات أنهت الدوام الرسمي ومؤسسة الأقطان فيها نهاد خياطة ووليد إخلاصيز كلما أمر من هناك أذكرهما كما أذكر عبد السلام العجيلي حين أمر في باص السفر بجرف العكيرشي من طرفه ماء ومن طرفه الآخر جبل يقوم على صخر كبير ينهار بين فينة وأخرى - فيداهمنا خوف – لكنني أتذكر وانا أتملى مدينة الرقة من بعيد فأقول في نفسي هذه رقة عبد السلام ؛ ثم نصعد الطريق نحو القلعة ، ولا شيء سوى الزمان ، حتى ندور مع الطريق الصاعدة ، ثم كالحلم وسينما الفن السابع : قطع ثم إعادة تصوير للقلعة التي تظهر أمامنا فجأة بكاملها بأعمدتها ودرجها ومائها وجبلها نازلة علينا من السماء ، هذه حلب !
كنا نرى الى المآذن الأربعة فنتصور التاريخ الذي مر والناس الذين فعلوا في هذه الأرض. فيردد محمد جبل متأملا : لو أن الله يهبني في هذه اللحظة سر الوجود ثم أموت !
ثواني الهبة والتعرف بسر الخلق أطول من العمر كله .
ثم أموت .
هي حلب ، فيخلط يديه وهو يقول : يوب ، كيف أكتب رواية كاملة على طالعة من بيت أبيها داخلة ببيت الجيران .
هو لأن الثوب الطويل ، ثوب صبية الشام يرف حين تعبر الزقاق على حياء وخفر كي تدخل الى بيت الجيران . عمرها أربعة عشر عاما مثلا والثوب فيه بعض الورد والزهور مثلا . تقول العجائز وهن يستعرضن الثوب : شو يا بنتي هادا التوب مزهر حلو . ثم يسألنها أن ترقص رقصة ستي: تدق الدربكة ثم تتشجع الصبية فتقوم للرقص الشامي الذي الذي الذي ثلاث مرات حتى رأينا إبطيها وجسدها المسكوب في النهر يمر من الغوطة والأشجار والسيران وأهل الشام لا يهجرون الشام أبدا .
يوم الجمعة تتوقف باصات حلب الشام كي تذهب سيرانا الى الغوطة .
ثم يلف محمد جبل برأسه ويدور فيقول : اسمع ، مثلا ، الحرب والسلم ، صاحبها ، الذي قضى نحبه عند سكة حديد ، أقضى أياما في كتابة صفحات عن اجتياز جنود لجسر ، كي يضبط إيقاع الحياة فيقرأ القارئ اجتيازهم للجسر بواقعية كأنه يراهم ، لقد قضوا عشرة دقائق في اجتياز الجسر والقارئ سيقضي الوقت نفسه في قراءته لجنود يجتازون الجسر الخ ؛ اما انا فكيف سأكتب رواية كاملة مائتي صفحة قطع كبير لصبية من الشام تجتاز زقاق ضيق من بيت أبيها الى بيت الجيران ، يمكن ثلاث ثوان أو أربع ثم تدخل الى باب البيت المفتوح ، ابنة الجيران تهز لها رأسها بهمس : تعالي .
كي لا يسمعها أحد .
وأهل الشام في العصر يتنزهون وفي يدهم راديو الترانززستور على أغاني فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ونور الهدى . فيعلق محمد جبل بعد صمت : يا يوب .. يا يوب ، نسيتُ الست .
ماهي الأغنية ، وماذا كانت الست تغني في حوالي العام 1964 ؟
شمس الأصيل مثلا أم الحلم .
أنت عمري .
لايهم ، لقد نسيتُ الست .
وإذا حسبنا أننا في العام 2005 فسيكون قد مضى أربعون عاما على هذا الكلام ، تريدني أن أكتب عن ثلاث ثوان من عمر صبية من أهل الشام في مائتي صفحة من القطع الكبير .
إنها الشام .
صبية الشام .
فتذكر محمد جبل ذلك الزمان ، عاد بذاكرته الى الوراء ، بل الى الحاضر ، لأنه مازال يتخيل الصبية التي خطت مثل الطيف من أمامه. كل يوم تنزل الذكرى كالمطر ، لقد مدت رأسها من باب البيت كي تسرق لحظات ممنوعة ، وكان الزقاق ، بعرض أربعة أمتار ، فارغا ، لا أحد فيه سوى الطفل الذي سيؤرخ لحظات حياة لا يراها التاريخ ، ورفعت صوتها : يا أمي أنا رايحة لعند جوريه ، وكانت جوريه عند الباب تهز رأسها الى الأمام ثم تهمس قائلة : ولك تعي .. ولك تعي. وقالت الأم من وسط الحيطان : لا تطوّلي يا بنتي ..
فعبرت الزقاق ببهجة ، سمعت وقع خطاها الراكضة : كيف تركض في أربعة أمتار وأمامها جوريه تعانقها كعاشق قديم عند الباب : ولك بس تعي .
الحاج وابنه يذهبان كل صباح الى دكانه في سوق الحميديه .
فدمدم محمد جبل : هدا كل شيء .. يا ظالم .. صفحة معليش .. روح صفحتين معليش .. إلي ولك كيف أعملها ميتين صفحة من القطع الكبير تصدر عن دار الآداب للدراسات والنشر ؟
سهيل سامح إدريس سيبهدلنا !
إسمع:
كتاب أرقام الهواتف .. رقم الهاتف من سبعة أرقام صافية .. ألفوه بآلاف الصفحات ..لأن القارئ لا يقرأ كل الكتاب ، بل يقرأ فقط جملة من الصفحة ، وبعض الأحيان لا يقرأ البتة .
سبعة أرقام ، أما أنت فعندك مثلا سطر أو سطران من كلمات صافية ، تعمل منها مائتي صفحة من القطع الكبير مع جودة تفوق مجلد تلفونات مدينة ، أي مدينة ، في أي لغة ، ثم لا تخاف يمكن لا أحد سيقرأ .
- طيب. طأطأ الى الأرض. ولما وصلت الى باب الجيران كانت جوريه تنتظرها هناك ، واقفة قبل العتبة كي لا يراها المارة الذين يلتفتون من الشارع الرئيس الى بيوت الزقاق.
فعانقتها ، يا ربي على ذاك العناق ! سمعت قبلاتها مع شهقات تلتهم إحداها الأخرى .
كلما يغني ناظم الغزالي .. يسقط قلبي في وجع غريب .. لأن الزمان ذاك قد ولى .
يا ريت كنا قراء لكتاب أرقام هواتف وبس ، أي كتاب ، في أي لغة .
ثم سمعتها وهي تشم وجه جوريه ورقبتها ، سمعت اختلاط القبل ، وكانت لثم .
لو أن الله يهبني العرفان لدقائق : كي اعرف سر الخلق ، ثم أموت .
الله عليم أين أراضي جوريه الآن ، الله عليم أين ديار الزقاق الضيق ، في مدن الشام ، اليوم ، وأين
تلك اللحظات ؟!
مّر نهاد سيريس في سيارته الفولكس فاكن الصفراء ، لوح بيده ، في المساء ، ثم غاب خلف المحرك .
-سمعت أنه يكتب مسلسلا تلفزيونيا عن حواري حلب القديمة!
-لماذا إذن تريد أن اكتب عن الشام وانا أبن حلب ؟ كتاب حلب يكتبون عن حلب وانا سأكتب عن حلب !
-لا تصر طائفي ، اكتب عن الشام !
اجتازه حزن الكّتاب الذين يبدأون في التخطيط لمشروع روائي ، ثم قال : هل ستكون تلك الفتاة بطلتي على مدى مائتي صفحة ؟
هذا لا يهم ، عليك أن تتذكر كم من الوقت قضت هناك عند جوريه ، ثم ما هي ملامح وجهها
حين عادت ؟
اهتمامي بالوقت أغاظ محمد جبل فقال : تريدني أن أكتب عن ثلاث ثوان فتنصحني بتذكر الوقت الذي قضته عند جوريه ؟ الذي أعنيه يعني كم قضت … على الأكثر نصف ساعة .. نصف ساعة صامتة لا تصلح لمشروع روائي .
إذا كان الزمن لا يصلح لمشروعك الروائي ، فتخيل إذن تراكم الحياة ونوع الأمل في فتاتك ، ما الذي دار في قلبها ، وماهي المعجزة القريبة التي تمنتها وهي تعبر الزقاق .
مرورها في الزقاق على تلك الشاكلة ألغى الزمن في الشام ، فلا تحاسبني على زمن لا تعرفه الشام .
هناك صمت ، وجوم يقتل الحياة ، مالذي كانت تطلبه وهي تعبر الزقاق ؟
يمكن الأم طلبت منها ألا تتأخر ، كي لا يأتي أخوها ، أبوها ، هنا تنغلق الدكاكين في سوق الحميديه ، ويعود الأباء ، وفاطمة بعدها هناك عند ابنة الجيران !
فاطمة غائبة !
الأب يقلب عينيه بحثا عن فاطمة ، ثم يقول : ويلك مني يا ..
الأخ ( وجهه مائل وعيناه زائغتان ) – يفكر محمد جبل بأنه لا يدري ماذا فكر الأخ ، فهو صغير ومراهق وذمته واسعة . أما الأب فقد أصابه شبه فالج حين علم بغياب فاطمة .
هذا لأن فاطمة لا تقعد بالبيت !
لهذا كانت فاطمة تعبر الزقاق على عجل ، ومرت من أمامي كما يمر طيف في شهر آذار ، ثم نظرت إلي ، في تلك الثواني القليلة من زمن الشام ، نظرت إلي كما تنظر الى حياة ستفلت من يدها ، كما تنظر الى روح تفارق الحياة ، في وجهها تعابير لم يرها الأب ، ربما فهمتها الأم بحكم أنها أنثى ، ولم يرها الأخ ، ربما فهمتها جوريه بحكم أنها هي الأخرى أنثى ، في وجهها كانت معالم للهروب ، يمنعها شفقة وحنان أمومي على الذي سيحدث لأبيها : فالج بالتأكيد ! ولأخيها : حوَل وتشوه مزمن في الخيال .
تقول الأم في لوم وعتاب : نخسر كل شيء من شان ترضى حبيبتنا فطوم !
تفكر فاطمة بأن الحياة التي بداخلها لا تختلف عن الحياة التي بداخل أبيها ولا عن الحياة التي بداخل أخيها ، فهي نفس الحياة ، فلماذا إذن تسرق زمن الشام كي ترى ابنة الجيران !
ثم تغيب فاطمة .
يظن محمد جبل بأنه سينهي الرواية على هذه الحال : تركض فاطمة حين تشرق الشمس في أرض بسيطة ، لا يعرف أي أرض ، أرض قد تكون مجهولة ، وكما يروي الشعر : أزهار ونهر وورود وقمر وغزلان ونبات ، وهي تسابق الريح التي ستصاب بالدهشة ، فالحياة التي بداخلها ستهجر الشام....



#حسين_سليمان-_هيوستن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حبي لها كان كاذبا
- ما حال القصيدة إن انقطعت الكهرباء
- تترك قلبها على ظهر حصان يركض
- لعبة ورق
- تعبر من أمامه راكضة وهـي تخفق كطير( تمهــيد للقصــة – حرف ال ...
- يصل صوتها عبر المحمول... من القاهرة
- صحراء مثل الجنة
- مقالة في الشعر العربي المعاصر- منذر المصري


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” .. ...
- مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا ...
- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين سليمان- هيوستن - طالعة من بيت -أبوها-