|
عن ثقافة التغيير
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3706 - 2012 / 4 / 23 - 19:47
المحور:
مقابلات و حوارات
حوار مع الأكاديمي والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان -20 أجراه: توفيق التميمي
(القسم 20 ) سمات وسمات ويواصل الدكتور عبد الحسين شعبان تعداد السمات العامة والمشتركة للحراك الشعبي العربي الكبير الذي سماه الاعلام الربيع العربي: السمة السادسة- مثلما كان هناك مشتركات للشباب دفاعاً عن الحرية والكرامة والعدالة، فقد كان للحكومات مشتركات أيضاً، فقد اعترفت جميعها بضرورة الإصلاح وبأن مطالب الشباب عادلة ومشروعة، لكنها في الوقت نفسه ادّعت أن يد الخارج طويلة بحيث تمتد داخل حركات الاحتجاج، سواءً بالتحريض أو بنقل الأسلحة أو بالتدخل أو بالعلاقة مع المعارضات، وإذا كان هناك شيء من الحقيقة في ذلك وهو ما تحاول القوى الخارجية استثماره دائماً، فلا يصح إنكار المطالب العادلة والمشروعة للشعوب وإنسابها إلى القوى الأجنبية والمؤامرات الدولية. ولعل الحقيقة الأساسية تكمن في أن سبب التخلف وتعطيل التنمية وعدم السير في دروب الديمقراطية، هو الاستبداد والتسلّط والانفراد، الأمر الذي ضاعف من معاناة الناس، خصوصاً وقد اختبرت الشعوب بطريقتها اليومية، والحسّية، المسبّب في شقائها وآلامها، لاسيما باستمرار ارتباط البلاد بأوضاع الاستتباع الخارجية وإملاء الارادة والخضوع للأجندات الأجنبية . السمة السابعة- بقدر ما كان الشباب واعياً ومتحفّزاً للانخراط دفاعاً عن مطالب وأهداف آمن بها، ومستعدًّا للتضحية من أجلها، فإن الحكومات هي الأخرى كأن لها أنصارها، من أعضاء الأحزاب الحاكمة ومن مؤيديها أو المستفيدين من وجودها، ومن أجهزتها الأمنية الضاربة، وحاولت بعض الحكومات إنزال أتباعها إلى الشارع لمقابلة المتظاهرين، في تظاهرات موالاة، وإن كان بينهم بعض من أطلق عليهم لاحقاً أسماء "البلطجية"، فقد اعتاد هؤلاء على ارتداء ملابس مدنية لقمع المدنيين العزّل. وهكذا جرى الحديث عن الإندساس والمندسين أو المدسوسين، من الخارج أو من قوى داخلية، بل أن غالبية حكومات المنطقة إتّهمت حركة الاحتجاج بالتخريب ومهاجمة المرافق والممتلكات العامة والعبث بها، وأن هناك ضحايا من شرطتها وجنودها أكثر من المحتجين، بل أن أكثر من مسؤول حكومي إعتبر عدد الضحايا العسكريين أكثر من المدنيين. السمة الثامنة- إن الحكومات جميعها ودون استثناء تمسّكت بمواقعها وحاولت مقايضة الأمن بالحريات والكرامة، وبضده سيّحل الانفلات والخراب، ملوّحة إلى تنظيمات إرهابية وأصولية، لم تكن تنظيمات القاعدة والتنظيمات الإسلامية المتشددة بعيدة عنها، وذلك في عزف على "العود المنفرد" وكأنها تريد التلويح بأنها ستكون البديل الأسوأ عنها. السمة التاسعة- إن حركة الاحتجاج سحبت البساط من تحت الكثير من الأنظمة السياسية التي إهتزّت شرعيتها، الأمر الذي يحتاج إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم على حد تعبير المفكر اللبناني غسان سلامة، فالتغيير ليس مجرد هلوسات أو مجموعة مخربين مدعومين من الخارج أو كفّار بنعمة الأمن والاستقرار أو دعاة تغريب، بل حركة شعبية عارمة يتطلب قراءتها بتبصّر وبُعد نظر من جانب الأنظمة والقوى السياسية المختلفة، جاءت بعد تراكمات لعقود من السنين. السمة العاشرة- إن التغيير لم يعد نزوة فكرية أو رغبة لنخبة من المثقفين أو المنشقين أو الليبراليين، بل أصبح مطلباً شعبياً عاماً، أجمعت قوى وتيارات فكرية وسياسية عليه بما فيها بعض أجنحة من الأنظمة الحاكمة ذاتها، حتى وإن اختلفت وتباعدت مناهجها وأهدافها، فقد أدرك الجميع إن قطار التغيير قد بدأ ولا يمكن وقف مساره أو تغييره، لكنه قد يتعثر أو يتأخر أو ينحرف، الاّ أنه سيصل في نهاية المطاف، مهما كانت المعوّقات، فالاصلاح والديمقراطية والحريات ومكافحة الفساد وتلبية الحقوق الانسانية، أصبحت حاجة ضرورية ماسة، واستحقاقاً ليس بوسع أي مجتمع أن يتنصل عنه، وهو "فرض عين وليس فرض كفاية"، وإذا كان الماضي قد احتضر فالجديد لم يولد بعد حسب تعبير المفكر الايطالي انطونيو غرامشي. حوّلت الثورة العلمية- التقنية، لاسيما ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الاعلام والمعلومات والطفرة الرقمية " الديجيتل" العالم كلّه إلى قرية مفتوحة، فما يحصل في بلد ناءٍ وبعيد، ستشاهده لحظة وقوعه أو بعد دقائق أوساعة أو سويعات وأنت مسترخٍ في غرفة الاستقبال أو مستلق في غرفة النوم وعلى بعد آلاف الأميال، ولعلك ستتفاعل مع الصورة على نحو كبير باعتبارها "خبراً" بانورامياً بحد ذاته، حيث ستشاهد فيه الحدث وما خلفه وما رافقه وما سيتبعه وما قيل أو يقال فيه، وستطلّع على رأي صانع الحدث والمشارك فيه وخصمه، وسيكون للاعلام دوراً مؤثراً، لاسيما إذا تمكّن من إلتقاط اللحظة التاريخية، فالصحافي حسب تعبير البير كامو هو "مؤرخ اللحظة" ، ولعل تاريخ اللحظة سيكون حاضراً في الصورة أيضاً. وكانت لحظة إحراق البوعزيزي نفسه في تونس وفي قرية سيدي بو زيد إشارة البدء أو ساعة الصفر أو الانطلاق لإعلان صيرورة الانتفاضة التي سرت مثل النار في الهشيم، وامتدّت من تونس إلى مصر، معلنة وحدة المشترك العربي الإنساني، دون نسيان الخصوصية والتمايز بكل بلد ولكل حالة. لقد جعلت العولمة التغيير بقدر خصوصيته شاملاً، وبقدر محليته كونياً، لاسيما وأن كل شيء من حولنا كان يتغير على نحو جذري وسريع، ولعل هذا الأمر يطرح عدداً من الحقائق الجديدة التي تثير أسئلة بحاجة إلى إعمال العقل والتفكير لا بشأنها حسب، بل بشأن سياسات وأنظمة لم تشعر أو تتلمس الحاجة إلى التغيير طالما شعرت بتوفير الأمن والاستقرار، واعتقدت واهمة أن ذلك وحده كافٍ لإسكات شعوبها أو إرضائها، وكأن ذلك الأمن والاستقرار يراد لهما تعسفاً أن يصبحا بديلاً عن الحرية والكرامة والعدالة التي هي مطالب شرعية باعتراف الحكومات جميعها، ولعل هذه المطالب المشتركة وذات الأبعاد الانسانية جعلت حركة الاحتجاج ومطالب الشباب تمتد من أقصى المغرب العربي إلى أقصى المشرق العربي ومن المحيط إلى الخليج كما يقال. يخطئ من يظن أن الحركة الاحتجاجية هي صورة نمطية يمكن أن تتكرر أو تستنسخ أو تتناسل أو أنها خارطة طريق واحدة أنيقة وملوّنة لجميع البلدان والشعوب، فالأمم والمجتمعات تحفل بالتنوّع والتعددية وبوجود اختلافات وخصوصيات وتمايزات، بقدر ما يوجد بينها جامع مشترك أعظم، وقواسم عامة، لاسيما حاجتها الماسّة إلى التغيير طلباً للحرية والعدالة. وبهذا المعنى فإن الحركة الاحتجاجية ليست طبعة واحدة أو فروعاً من حركة قائمة، أو صورة مصغّرة عنها. وإذا كان للتغيير جاذبيته فإن للتغيير قوانينه أيضاً، لاسيما المشترك منها والذي يشكّل قاعدة عامة، وبقدر ما يحمل التغيير من خصوصية، فإنه في الوقت نفسه يمتلك أبعاداً شمولية، تتخطى حدود المحلّي إلى الاقليمي والكوني، وما حصل في مصر بقدر كونه مصرياً بامتياز قلباً وقالباً، فإنه عربي أيضاً، بل هو تغيير عالمي بحكم الجاذبية، الأمر الذي ينبغي التأمل فيه لا مكانياً حسب، بل زمانياً أيضاً، وخصوصاً بفعل العولمة وما أفرزته من معطيات، إيجابية وسلبية، فإذا كانت قد عممت الهيمنة العابرة للحدود والقارات والجنسيات والأديان والقوميات، وفرضت نمطاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً سائداً، فإنها عممت الثقافة والحقوق والمعرفة بما تحمل من آداب وفنون وعمران وجمال وعلوم، ولعل هذا هو الوجه الايجابي للعولمة في مقابل وجهها المتوحش واللاانساني!. هكذا يصبح التغيير استحقاقاً وليس خياراً حسب، وتصبح الخصوصية جزءًا من الشمولية ويندغم الخاص بالعام والاستثناء بالقاعدة، على نحو فاعل ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وقانونياً ومعرفياً. وبقدر ما يمكن القول أن التغيير في تونس هو غيره في الجزائر، وأنه في اليمن لا يشبه البحرين وأنه في سوريا سيكون مختلفاً عن مصر، وفي الاردن لا يتشابه مع المغرب، وعموماً فالتغيير في المشرق قد لا يشبه التغيير في المغرب، لكنهما يجتمعان في المشترك العربي الانساني الذي هو الحاضر والجامع في سلسلة عمليات التغيير أو الطموح إليه، وعلى سعة شموليته وكونيته فسيكون خصوصياً ومحلياً أيضاً. مثل الحياة والحب قد تبدو الانتفاضة عصيّة على الفهم لأول وهلة، فهي لا تأتي دفعة واحدة، كما أنها لا تحضر كاملة ونهائية، ولكن مظاهرها تتضّح وتتكشّف مع مرور الأيام وبالتدريج، ولعل الزمن كفيل بكشف أسرارها وتسليط الضوء على خفاياها وخباياها، لاسيما في مراحلها المختلفة، بما فيها من عوامل قوة ونقاط ضعف، بالتقدّم والتراجع، بالنجاح والإخفاق، خصوصاً بتحديد مصيرها، وبالاقتراب من تحقيق أهدافها. الانتفاضة سياسة بامتياز وهي تكثيف لكل ما سبقها من سياسات واحتجاجات ونضالات، إلى أن وصلت ذروتها من خلال تراكم كمّي طويل الأمد وتصاعد بالفعل الثوري، حتى وإن خبا أو إختفى عن الأنظار، لكن قانون الطبيعة كان يفعل فعله، حيث تصل التراكمات إلى تغييرات نوعية في لحظة معينة يحدث فيها الإنفجار. وإذا كانت الانتفاضة تتطلب كفالة الإعداد السليم وبرنامجاً طويل الأمد مع برامج فرعية أولية ومؤقتة، وتاكتيكات مناسبة وغير تقليدية، فلا بدّ أيضاً من توفّر ظروف موضوعية وذاتية للانطلاق، ومن ثم الإمساك بخيطها الصاعد حتى تحقيق أهدافها، سواءً تحقيق مطالب محددة أو إصلاح النظام السياسي أو استبداله أو تغييره بنقيضه. حسابات موضوعية هكذا يتطلّب الأمر قراءة الوضع السياسي على نحو صحيح دون مبالغات بسبب التفاؤل المُفرط أو التشاؤم المُحبط، لا بتضخيم الذاتي على حساب الموضوعي، سواءً بالرهان على المغامرات وصولاً إلى الانتحار أحياناً، ولا بتقزيمه بحيث يقود إلى العجز والقنوط، وتضييع الفرص بانتظار أخرى، وكثيراً ما ضاعت انتفاضات بسبب حرق المراحل أو عدم إقتناص اللحظة الثورية على نحو صحيح. ومن أصعب الأمور هو إتخاذ القرار ببدء الانتفاضة، ثم الشروع بتهيئة مستلزمات انطلاقتها وبالتالي الحفاظ على جذوتها حتى تحقيق أهدافها والوصول إلى النتائج المطلوبة، خصوصاً ما حددته من أهداف، ولعل ذلك ما يمكن أن نطلق عليه " علم التنبؤ الثوري"، وهو يحتاج إلى معرفة بالظروف والمحيط وتوازن القوى وقيادة لتدير خطط العمل والتاكتيكات، ومن ثم كيفية التدرّج في وضع المطالب والشعارات، والتقدّم باقتحام معسكر الخصم أو العدو وصولاً إلى تحقيق الهدف بالاصلاح أو التغيير حسب أهداف الانتفاضة ذاتها، وهذا الأمر يعتمد على مدى تصدّع معسكر الخصم أو العدو، وانهيار بعض أركانه، أو انتقال بعضها إلى المعسكر الآخر أو تحييد بعض قطاعاته أو تمردّها أو حتى تركها مواقع العمل مع النظام. ولعل أخطر ما يحصل للانتفاضة بعد انطلاقتها هو التردد وعدم الحسم، ولا يعني ذلك سوى موتها وتعريض مصيرها للدمار. والانتفاضة ليست هندسة أو رسماً بيانياً أو "خارطة طريق" كما يتصوّر البعض بحيث يتم تحديد أبعادها ومسافاتها وتضاريسها سلفاً، ووضع محطّات لاستمرارها وتحديد مسارها، بقدر ما تعكس الواقع وما يزخر به التغيير من مستجدات وتطوّرات وتفاصيل واحتمالات، يمكن التكيّف معها لوضع الخطط والبرامج المناسبة للمواجهة، وتجاوز المعوّقات التي تعترض طريقها، والتناقضات التي تستوجب إيجاد حلول مناسبة لها، للاستمرار بالانتفاضة وصولاً للتغيير المنشود. وفي ذلك مقاربة لمفهوم الانتفاضة بمعنها الكلاسيكي، خصوصاً وجود قيادات معلومة لها ومخطِطة لإندلاعها. لعل بعضنا استعاد صورة الانتفاضة كما تم تحديدها في الأدب الماركسي، خصوصاً الصورة السائدة والنموذجية التي كانت دائمة الالتصاق بثورة اكتوبر الاشتراكية العام 1917 وقيادة لينين، وهي الصورة ذاتها التي استعدناها في انتفاضة العام 1988 الفلسطينية، التي عُرفت باسم انتفاضة الحجارة، لدرجة أن بعضنا استعمل تلك التعاليم باعتبارها " مدوّنة" قانونية أقرب إلى مسطرة يقيس بها بالأفتار، مدى انطباقها أو عدم انطباقها على الانتفاضة الأكتوبرية الشهيرة وذلك ضمن وصفة نظرية أقرب إلى الوصفات العلاجية. وكنت قد واجهت ذلك عند إلقائي محاضرة بدعوة من السفير الفلسطيني سميح عبد الفتاح، خلال زيارتي إلى براغ مطلع العام 1989، حول "مفهوم الانتفاضة"، وكانت المحاضرة بعنوان " انتفاضة الحجارة بين السياسي والآيديولوجي". وقبل ذلك عند حديثنا عن الثورات التاريخية الكبرى، عدنا إلى الثورة الفرنسية البرجوازية، والى انتفاضة باريس العمّالية العام 1871 (الكومونة الحمراء الشهيرة) وتوقفنا كثيراً عند ثورة اكتوبر، ووصلنا إلى الثورة الايرانية الدينية الاسلامية، العام 1979، تلك الثورات التي تركت تأثيراتها على النطاق العالمي واستمرت تفعل فعلها في العقول والنفوس. ومثل هذا الأمر يجري استعادته أو القياس عليه في ظروف مختلفة وتطورات هائلة، لاسيما في عصر العولمة والثورة العلمية- التقنية وما أحدثته من تأثيرات كبرى في مجال الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الاعلام والمعلومات والطفرة الرقمية " الديجيتل" وغيرها، خصوصاً في العقدين الماضيين. وإذا كان الهدف هو البحث عن القاسم المشترك والقانون الجامع لتلك الانتفاضات، فإن لكل انتفاضة خصائصها وشروطها التي لا تشبه الانتفاضات الأخرى، زمانياً ومكانياً، ناهيكم عن البيئة التي تنطلق منها والسياق التاريخي لها. وقد عاش جيلي وربما الذي بعده انتفاضات أوروبا الشرقية في الثمانينيات، لاسيما أواخرها، وحتى انهيار جدار برلين العام 1989، ومن ثم انحلال الاتحاد السوفيتي في العام 1991 وانتفاضات أمريكا اللاتينية التي شهدت تلاحماً شعبياً ويسارياً مع دور خاص للكنيسة، من خلال لاهوت التحرير، وانتقال الثورة من "الكفاح المسلح إلى صندوق الاقتراع"، وهو الأمر الذي يمكن اليوم التوقف عنده بقراءة جديدة للتغييرات الراهنة التي بدأت انتصاراتها الأولى في تونس ومصر، واستقطبت شعوباً وشباباً وبقايا أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني في الجزائر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين وعُمان والعراق وغيرها. شخصياً أجد في مثل هذه القراءة الجديدة ضرورية جداً، خصوصاً ببعدها السياسي والاجتماعي والثقافي، وليس بهويتها الآيديولوجية، ولعلها تحتاج إلى وقفة جادة لدراسة تطوّر فن الانتفاضة من جهة، وثانيا لدور الشباب المتميّز فيها من جهة ثانية، وثالثاً دراسة تأثير العولمة لا بوجهها المتوحش واللا إنساني حسب، بل بوجهها الإيجابي، بما فيها عولمة الحقوق وعولمة الثقافة وعولمة وسائل الاعلام والتكنولوجيا والعلوم وغيرها. وإذا كان الشباب هو العمود الفقري في أية حركة أو انتفاضة أو أي فعل تغييري جاد، فهذه المرّة أراد هؤلاء الشباب بصدورهم العارية وعقولهم أن يكونوا وقود الثورة وقادتها، سداها ولحمتها، دماغها وسواعدها في الآن ذاته، فلم يفتش هؤلاء الشباب بين السطور ومن خلال النصوص الآيديولوجية ليضعوا خطط الانتفاضة على الورق ويدرسونها ويشبعونها بحثاً وتحليلاً، بل نظر إلى المجتمع الذي يعيش فيه وتفحّص ظروف حياته واحتياجاته الانسانية التي يواجهها كل يوم دون أن يكترث كثيراً بالآيديولوجيات والعقائد السياسية، وعلى الرغم من تفاعله مع السياسة، فإن منظوره لها يختلف عن جيل الانتماءات الحزبية والسرية الصارمة، وإدعاءات احتكار الحقيقة ولغة الإقصاء والتهميش والتخوين، كما عبّر عنه د. عمر الشوبكي، فشباب اليوم أكثر انفتاحاً ومرونة، وأقدر على تقبّل الآخر. وبقدر ما حاولت الأنظمة تطويعه لإبعاده عن السياسة أو لجعل الأخيرة تمرّ من قناة ضيقة، فقد كانت انتفاضاته تعبيراً عن ردّ اعتبار للسياسة، كعلم وقيم ومبادئ، مثلما هي خطط وبرامج وافعال وأعمال. مواقف الغرب لم يكن هناك الطراد أورورا موجوداً، مثلما لا وجود للقصر الشتوي الذي يتطلب اقتحامه لكي تتحقق كلمة السر في الانتفاضة الاكتوبرية ضد الحكومة الكيرنسكية التي تحتاج إلى تطوير وتثوير كما حصل في الثورة الروسية العام 1917. كانت صورة العالم العربي تبدو للناظر من بعيد: أنظمة مستقرّة وبدت عملاقة، وشعوباً "مستكينة" و"راضية" سواءً لبلدان اليُسر أو لبلدان العسر، وإذا كان ثمت هوامش سياسية ومدنية في بعضها فثمت بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بلدان أخرى، حتى أن الرئيس الفرنسي شيراك سليل أمّة لها الفضل في إصدار أول إعلان لحقوق الإنسان في العالم لم يتورّع من وصف تونس على قدر من مجافاة الحقيقة لنظام بوليسي بقوله: بأنها تؤمن الحقوق الإنسانية الأساسية، المتعلقة بالغذاء والسكن والعمل، وذلك في ردّه على حقوقيين تونسيين. وفعل الرئيس الفرنسي ساركوزي مثله حين ظلّ متردداً في الموقف من انتفاضة الياسمين بسبب المصالح، حيث كان صوته باهتاً في مطالبة بن علي وقف المجازر وإنْ حاول الاستدارة سريعاً بعد الانتفاضة الليبية، التي ردّ عليها نظام القذافي بمطالبته لاسترداد المبالغ التي غطّت حملته الانتخابية العام 2007، كما بقيت واشنطن حائرة بين دعم نظام حسني مبارك المستقر وبين تأييد حركة الانتفاضة "الغامضة" و"المقلقة" لها بسبب من خشيتها غير المبرّرة بصعود الأخوان المسلمين، ومن الموقف من إسرائيل واتفاقيات كامب ديفيد، وتضاربت تصريحات العديد ممن يطلقون على أنفسهم قادة العالم الحر بشأن التغييرات، مثلما فقد الكثير من القوى توازنه لانهيار أنظمة دكتاتورية دموية، بحجة الخوف من "التدخل الخارجي"، وهي وإنْ كانت خشية في مكانها باستعادة تجربة العراق ومأساته، لكن ذلك لا يعني السكوت عن عمليات القتل والإبادة، وتبرير الدفاع عن أنظمة متسلطة، هكذا تنقلب الآية لتوضع مسألة المطالبة بحماية السكان المدنيين من عمليات القتل ومنع الأنظمة من استباحة مواطنيها، مقابل التدخل الخارجي، في حين أن أي كيان ووحدة وسيادة للأوطان ستكون قوية ومنيعة باحترام حقوق الانسان دون إحداث تصدّع في كياناتها ووحدتها وسيادتها. لقد نسي المتردّدون والحائرون والمفاجأون والناقمون على التغيير الذي يرفعونه هنا ويرفضونه هناك أو العكس بحجة آيديولوجية أو بغيرها، إنما حصل هو استعادة للكرامة المهدورة لشعوب على أيدي حكامها، والكرامة والحرية ومكافحة الفساد ورفض الاستبداد، كانت هي المحرك الأساس وراء انتفاضات الشباب المحروم والمكلوم والمستباح والمستلب، وليس السبب الأساس هو ثمت أصابع أجنبية أو اندساسات خارجية، وحتى لو وجدت مثل هذه، وهو أمر محتمل، فلا يمكن الاستخفاف بالشعوب ومصائرها بمثل تلك الحجج المزعومة. ولعل ملاحظة مهمة تشكل قاسماً مشتركاً لجميع الحكام وهي العزف على التدخل الخارجي وعمليات التخريب والاندساس، ابتداءً من زين العابدين بن علي وشمولها حسني مبارك ومعمّر القذافي وعلي عبدالله صالح وصولاً إلى نوري المالكي، ومن الجزائر إلى البحرين فالسودان الذي أضاع نصف أرضه ولا يزال يتحدث عن المؤامرات الخارجية، فقد كانت المقطوعة واحدة والعزف موحّداً، ولا يتعلق الأمر بالأنظمة حسب، بل أن بعض الحركات السياسية، لاسيما التي قدّمت الآيديولوجيا ونظرية المؤامرة المعروفة، حاكت بعض الأنظمة، بل كانت أكثر استفزازية منها.
حقائق عن الانتفاضات وإذا كانت الطبقة الوسطى تمثل وعاءً حاملاً للشباب الثائر، ساهمت في تحفيزه وفي تشكيل ملامح تطلعاته بالرفض والاحتجاج، سواءً في تونس أو مصر أو ليبيا أو الجزائر أو اليمن أو سوريا أو البحرين أو العراق أو غيرها، فإن الانتفاضات الراهنة اختلفت عن سابقاتها فلم تكن ثورات جياع أو هجوم سكان العشوائيات على المدن، واختلفت عن انتفاضة يناير المصرية العام 1977 وثورة الخبز في تونس العام 1984، بل كانت مزيجاً من طلب الحرية والكرامة ومحاربة الفساد وسوء الحكم. ولعلها كانت أقرب إلى انتفاضة العام 1948 العراقية ضد معاهدة بورتسموث وانتفاضة اكتوبر السودانية، العام 1964 ضد حكم الجنرال عبود. وبقدر ما كان الحاكم ينتفخ ويهيمن على كل شيء، من السلطة والمال والاعلام والتجارة والثقافة والرياضة والسياحة، كان هناك من جهة أخرى شعوب جائعة ومقموعة ومكتوية بالفساد المالي والإداري ونهب المال العام، ومهزومة على أكثر من صعيد، وتعاني من سلطات مترهّلة وأبناء وأقرباء وأنسباء، وهمْ الدولة لوحدهم، وما عداهم المواطنون ليسوا سوى رعايا أو تابعين في أحسن الأحوال، وفي حين يتقدم العالم نحو مواطنة فاعلة وحيوية وعضوية تقوم على قواعد متطورة من الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة، بحيث تشكل ملامح في هوية وطنية عامة وجامعة، انحدرت بلداننا إلى ضيق قاعدة الحكم وارتفع هرم السلطة إلى درجة غير مرئية، بحيث لا يمكن للحاكم أن ينظر إلى القاع أو يشعر بشعور من يعيش عليها، والأكثر من هذا فإن بلداننا تم استتباعها للخارج الذي تحذّر منه الأنظمة اليوم، ولعل الكثير منها يردد: إن مجرد سقوطها سيعني انتصار الارهاب وهيمنة تنظيمات القاعدة، بل والأكثر من ذلك وجد من يحرّض " اسرائيل" التي ستتضرر لمجرد إطاحة هذه الأنظمة، وليس ذلك سوى استخفاف بالعقل وبمنطق التفكير السليم وبوقائع التاريخ ذاته. كانت الغالبية الساحقة من انتفاضات أوروبا الشرقية قد بدأت سلمية وانهارت أنظمة توتاليتارية شمولية استمرّت عقوداً من الزمان على الرغم من أنها حققت بعض المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لشعوبها، لكن غياب الحريات وانعدام الديمقراطية وسيادة الصوت الواحد، قاد إلى هذه النتائج وحدث الأمر بعد أجواء داخلية مناسبة، لاسيما في ظل قيادة غورباتشوف الذي بشّر بالبريسترويكا (إعادة البناء) والغلاسنوست (الشفافية)، وانهار نمط من الأنظمة الاشتراكية التي شاركت في تأسيس نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، لاسيما بانفكاك الحلف المعادي للنازية، والذي يشكّل ما يسمى بالقطبية الثنائية التي شهد العالم بسببها حرباً باردة وسباقاً على التسلح، كان الخاسر الأكبر فيها شعوب البلدان الاشتراكية، إضافة إلى التنمية والتقدم على المستوى العالمي، لاسيما في مجالات الصحة والتعليم والبيئة والثقافة والفضاء والعلم وغيرها.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة الى الحزب الشيوعي السوداني
-
نعمة النفط أو نقمته في الميزان الراهن
-
السياسة والطائفة
-
حقوق الإنسان والمواقف السياسية
-
الأحزاب العراقية بلا قانون
-
3 تريليونات دولار خسرتها أمريكا في العراق
-
لا تقديم للنظرية على حساب الوقائع الموضوعية
-
الشيوعيون والوحدة العربية
-
الحرب العراقية – الإيرانية عبثية ، خدمت القوى الإمبريالية وا
...
-
الميثاق الاجتماعي العربي: تنازع شرعيتين
-
الحزب الشيوعي وتشكيل الجبهة
-
معارضة الحصار
-
في بشتاشان
-
كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
-
كلمة الدكتور شعبان في تكريم الاستاذ عزالدين الأصبحي
-
الأكراد في النجف
-
الحركة الطلابية
-
من هو العراقي؟
-
الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة
-
ماذا بعد الربيع العربي!
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|