|
الأخ الآسيوي الأكبر يضيع فرصة ذهبية لتأكيد نفوذه
عبدالله المدني
الحوار المتمدن-العدد: 1088 - 2005 / 1 / 24 - 10:46
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
طوال حقبة الحرب الباردة و ما بعدها بقليل كانت الولايات المتحدة هي صاحبة النفوذ الأكبر و الأقوى سياسيا و اقتصاديا و امنيا في الشرق الأقصى ، فيما كانت الصين منكفئة على نفسها و مشغولة بهمومها الداخلية. بيد أن التحولات العالمية الكبيرة ابتداء من أواخر الثمانينات ، و انشغال واشنطون بملفات عالمية و إقليمية خارج نطاق الشرق الأقصى ، معطوفا على النمو الاقتصادي السريع و المدهش للصين ، اتاح للأخيرة البروز كقوة إقليمية في محيطها الجغرافي الطبيعي. ومع انتهاج بكين لسياسات خارجية هادئة و خطابا بعيدا عن الراديكالية و التحريض الثوري ، صارت أكثر قبولا لدى جاراتها إلى الجنوب كشريكة رئيسية يعتمد عليها.
وبطبيعة الحال واصلت بكين بناء النفوذ في المنطقة عبر بوابة الاقتصاد ، ولا تزال تعمل ذلك ، مستغلة كل فرصة من اجل أن تضفي على نفسها صورة الدولة المسئولة و المعنية بشئون السلام و الازدهار الإقليمي. إلا أن ما حدث مؤخرا لجهة ردود فعلها على كارثة تسونامي ، يشير إلى أنها لا تزال بعيدة عن لعب دور الأخ الآسيوي الأكبر. فعدم مبادرتها سريعا إلى قيادة جهود الإغاثة الإنسانية من ناحية و تواضع ما خصصته لهذه الجهود لاحقا من أموال و سلع و وسائل لوجستية – قياسا بما فعلته غيرها من دول بعيدة جغرافيا عن آسيا أو المناطق المنكوبة- لئن أضاعت عليها فرصة ذهبية لتأكيد حضورها و نفوذها الإقليمي و وقوفها إلى جانب جاراتها في السراء و الضراء ، فإنها أكدت للآسيويين أن هذه القوة الجبارة بخيلة و بعيدة عن لعب دورها المفترض إزاء جاراتها في أوقات المحن و الشدائد ، هي التي استفادت كثيرا منهن تجارة و استثمارا و علوما في بناء صروح نهضتها الاقتصادية الراهنة.
ولندع الأرقام و الوقائع تتحدث عن نفسها. كان المبلغ الذي تبرعت به الصين في الأيام الأولى للكارثة هو مائة ألف دولار ، ارتفع مع ورود تفاصيل المصيبة إلى مجرد 2.6 مليون دولار ، ليرتفع لاحقا بفعل الإحساس بالحرج من تبرعات و مساهمات الأقطار الأخرى إلى 83 مليون دولار فقط. و الرقم الأخير رغم ضخامته مقارنة بالأرقام الأولى إلا انه لا يزال متواضعا بالقياس إلى حجم الإمكانيات الهائلة لبلد ناتجه القومي الإجمالي يزيد على 6 تريليون دولار وحجم احتياطياته من النقد الأجنبي يصل إلى 610 بليون دولار ، فيما إجمالي حجم صادراته يفوق 525 بليون دولار ( الأرقام بحسب إحصائيات العام المنصرم). ومن جهة أخرى فان هذا الرقم متواضع أيضا بالمقارنة مع مساهمة كل من اليابان (540 مليون دولار) و الولايات المتحدة (350 مليون دولار) اللتين كان على الصينيين منافستهما في هذا الميدان أيضا طالما أنهم ينافسونهما على النفوذ و المصالح في المنطقة. أضف إلى كل هذا، أنه في الوقت الذي كانت فيه واشنطون تحرك أساطيلها العسكرية في المحيطين الهندي و الباسيفيكي من اجل المساعدة في جهود الإغاثة الميدانية و تقديم الدعم اللوجستي ، وكانت اليابان تفعل شيئا مشابها رغم القيود الدستورية المفروضة على حركة قواتها ، كان الجيش الأحمر الصيني ذو الإمكانيات البشرية الهائلة و القدرات اللوجستية غير القليلة غائبا عن مسرح الكارثة تماما. و يقول بعض المحللين الصينيين في معرض دفاعهم عن هذا الغياب أن السبب قد يكون رغبة بكين في تحاشي أية حساسية محتملة لوجود جنودها على أراض دولة مثل اندونيسيا المتضررة الكبرى من الكارثة ، بفعل ما كان بين البلدين في الماضي (الإشارة هنا هي إلى تورط الجيش الصيني في دعم الشيوعيين الاندونيسيين للاستيلاء على الحكم في جاكرتا في منتصف الستينات). وهذا في اعتقادي تبرير لا يصمد كثيرا في ضوء قبول اندونيسيا بمساهمة القوات الاسترالية في أعمال الإغاثة على أراضيها ، رغم كل ما بين جاكرتا و كانبرا من حساسيات ناجمة عن ملف حديث نسبيا ، إلا وهو ملف تيمور الشرقية.
إن التنافس في أعمال الخير و الإغاثة عادة ما ينطوي على التنافس على كسب قلوب المحتاجين و المصابين في الدول المتضررة و الوصول من خلالهم إلى حكوماتهم توطئة لبناء ثقة مفقودة أو تعزيز نفوذ مهدد أو فتح قنوات مغلقة أو على الأقل لتسجيل موقف. و هذا ما تنبهت إليه سريعا تايبيه غريمة بكين اللدودة. فتايوان المعزولة دبلوماسيا بفعل الضغوط الصينية و المطرودة من كل المنظمات الدولية ، وجدت في كارثة تسونامي فرصتها لتؤكد أنها أكثر مصداقية و مسئولية و التزام من العملاق الصيني – و لتستثمر ذلك في استعادة حظوة كانت لها في المنطقة في الماضي- رغم صغرها المتناهي مساحة و سكانا و موارد و إمكانيات بالمقارنة مع الأخير. وهكذا رأينا حكومتها تساهم بخمسين مليون دولار أو ما يقارب ثلثي حجم المساهمة الصينية ، و تسارع إلى إطلاق حملة أهلية لجمع التبرعات أثمرت سريعا عن جمع 14 مليون دولار حتى الآن. أضف إلى ذلك أن المنظمات الخيرية التايوانية و المؤسسات الصناعية و التجارية سارعت إلى التعهد ببناء 3000 مسكن مع كافة مرافقها الخدمية لضحايا المد البحري في اندونيسيا و سريلانكا و المالديف بتكلفة تصل إلى 23 مليون دولار ، ناهيك عن تعهدها برعاية 10 آلاف طفل مشرد من هذه الدول على مدى السنوات الثلاث القادمة. و المفارقة هنا انه رغم كل هذا الحماس التايواني في مقابل البخل الصيني ، فان تايبيه استبعدت من مؤتمر الدول المانحة الذي عقد في جاكرتا في الشهر المنصرم إرضاء لبكين ، بل أن أمين عام الأمم المتحدة السيد كوفي عنان بخل عليها حتى بكلمة ثناء صغيرة في معرض تثمينه لجهود بعض الدول الاغاثية ، هو الذي ذكر الصين بالاسم شاكرا لها مساهمتها الرسمية وكأنما تلك المساهمة كانت أضعاف أضعاف ما قدمته تايوان. وفي السياق نفسه لابد من الإشارة إلى ما قاله نائب الأمين العام لشئون المساعدات الإنسانية جان ايغيلاند في معرض الاستياء من ضعف و تأخر مساهمات الكثير من الدول رغم ما يعيشه العالم من ثورة اقتصادية غير مسبوقة. فهو لئن أشار إلى دول أوروبا و الخليج و أمريكا اللاتينية ، فانه تجنب ذكر العملاق الصيني الغني الذي لم يساهم إلا بمبلغ يفوق قليلا ما ساهمت به دولة غير محورية مثل السويد. و عندما حوصر بالأسئلة لم يجد السيد ايغيلاند ما يقوله سوى أن الصين حالة خاصة و لديها التزامات تنموية. وهذا تقريبا مشابه لما قاله بعض المسئولين الصينيين تبريرا لضعف مساهمتهم ، وهو أن الصين دولة نامية و كانت حتى وقت قريب تعتمد على المساعدات الخارجية وبالتالي لا يمكنها منافسة الكبار في مد يد العون لضحايا كارثة التسونامي.
على أن ما تجاهلته الصين الرسمية ، تنبهت إليه الصين غير الرسمية. فالحملات التي أطلقتها الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية ، ثم الفعاليات الشعبية الكثيرة التي أقيمت في مختلف مقاطعات البلاد بهدف جمع ريعها لصالح الدول الآسيوية المنكوبة ، أثمرت حتى منتصف الشهر الجاري عن جمع نحو ثلاثين مليون دولار. وهذا المبلغ كبير إذا ما أخذنا في الاعتبار تواضع دخول الغالبية العظمى من الصينيين ، ويعكس إحساس المواطن الصيني بآلام و فجيعة إخوانه في الدول المنكوبة ، ربما بصورة أكثر من مواطني أي دولة أخرى ، لأنه سبق وان جرب بنفسه نكبة مماثلة لجهة حجم الأضرار و عدد الضحايا.
ففي عام 1976 ضرب زلزال مدمر بقوة 7.8 على مقياس ريختر منطقة تانغشان الصينية ، بلغ عدد ضحاياه الإجمالي نحو 242 ألف قتيل ، أي أكثر من عدد ضحايا المد البحري الأخير الذي وصل حتى ساعة إعداد هذا المقال إلى 219 ألفا. في هذه الكارثة خبر الشعب الصيني عمليا مدى أهمية وصول الإمدادات و المساعدات الخارجية بالحجم المطلوب و السرعة القصوى في تقليل عدد الضحايا و تخفيف آلام المنكوبين و المشردين. وقتها كانت الصين تحت حكم ماو تسي تونغ الراديكالي وكانت أيديولوجية مخاصمة العالم بكتلتيه الغربية و الشرقية تتسيد السياسة الخارجية الصينية ، فرفضت قيادتها تلقي عروض الولايات المتحدة و أوروبا و اليابان و الأمم المتحدة بالمساعدة وسط نفخ إعلامي للذات و إمكانياتها وترديد لشعارات الكرامة الصينية غير المستعدة للاستجداء من الأعداء. هذه الحماقة الإيديولوجية ، معطوفة على تخلف البلاد اقتصاديا و تواضع قدراتها اللوجستية الذاتية وقتذاك ساهم في ارتفاع عدد الضحايا إلى الرقم المهول المشار إليه آنفا ، لتسجل الحادثة كثاني اكبر كارثة طبيعية في تاريخ البشرية بعد زلزال منطقة شانسي الصينية في منتصف القرن السادس عشر (بلغ عدد ضحاياه 830 ألف نسمة).
و يبدو أن القيادة الصينية استشعرت بعد فوات الأوان مدى الخسارة التي لحقت بصورتها الدولية و الإقليمية من جراء بخلها و بطء تحركها، فتحاول راهنا ترميم بعض ما اهتز من ثقة بها ، بدليل قرارها قبل عدة أيام إرسال ثلاث بعثات مكونة من مسئولين و فنيين و باحثين و مقاولين إلى سريلانكا و المالديف و تايلاند و اندونيسيا لتقصي حجم الدمار في هذه الدول استعدادا لإطلاق مشروع متكامل يستهدف إعادة اعمار ما تهدم من خطوط المواصلات و شبكات الكهرباء و المياه و المرافق الصحية و الاجتماعية.
د. عبدالله المدني *باحث أكاديمي و خبير في الشئون الآسيوية تاريخ المادة:23 يناير 2005 البريد الالكتروني: [email protected]
#عبدالله_المدني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التسونامي يخلق فرصا للسلام في آسيا
-
2004 ، عام آسيوي متميز لولا -التسونامي-
-
استراليا كنموذج للحيرة ما بين الشرق و الغرب
-
آسيا تتجه نحو التوحد على خطى أوروبا
-
آسيا تفتح باب الترشيحات لخلافة كوفي عنان
-
نزع صور - الزعيم المبجل-
-
فيما العرب مكانك سر الآسيويون يتجاوزن ثورة المعلوماتية إلى -
...
-
عظيمة أنت يا بلاد غاندي - الهند إذ تمنح قيادتها لسيخي من الأ
...
-
في الذكرى الأولى لاستشهاد الزعيم بعد تحرير العراق من جلاديه
...
-
عزاء للعرب.. الهند و-إسرائيل- بين زمنين
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|