|
حقوق الإنسان والمواقف السياسية
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3702 - 2012 / 4 / 19 - 17:22
المحور:
مقابلات و حوارات
(القسم 18) حقوق الإنسان والمواقف السياسية بعض الواجهات السياسية حاولت أن تعزف على وتر حقوق الإنسان في إطار صراعها السياسي، لا حبًّا بمبادئ حقوق الإنسان، ولكن بحكم جاذبيتها أولاً، وثانياً لما لها من تأثيرات دولية، وثالثاً لإمكانية توظيفها في الصراع السياسي، حيث يمكن الاختباء وراءها في مناهضة توجهات الحكّام، في حين أنها حركة مهنية خارج حدود الأديان والطوائف والقوميات والآيديولوجيات وغيرها، وهي عابرة لها جميعها. كان بعض مدّعي الانتساب إلى الحركة يعارضون سياسة الاستبداد والدكتاتورية لصدام حسين عبر رفع يافطة حقوق الإنسان، ولكنهl بعد الإطاحة بحكمه، بلعوا ألسنتهم إزاء الانتهاكات اللاحقة التي أعقبت انهياره، وأخذوا يكذّبون تقارير المنظمات الدولية التي كانوا يتعكّزون عليها في مناهضتهم للنظام السابق، ولعلها هذه مفارقة كبرى تقترب من الفضيحة. أما المفارقة الموازية لها، فإن بعض أنصار النظام السابق، ممن كانوا يتّهمون منظمات حقوق الإنسان الدولية، بالانحياز وينعتونها بأقسى النعوت وأشدّها، بما فيها الإرتزاق وخدمة مصالح القوى الغربية، تراهم اليوم يتشبثون بتقاريرها لمناهضتهم للحكم الحالي. هؤلاء وأولئك لا علاقة لهم بقضية حقوق الإنسان الاّ بقدر توظيفها سياسياً، فالمنظمات وتقاريرها هي ذاتها ضد الانتهاكات من أي أتت، سواءً من نظام صدام حسين الاستبدادي، أو من نظام المحاصصة الطائفية والإثنية أو من الجماعات الإرهابية المسلّحة. المشكلة ليست العداء لهذا النظام أو ذاك، بل الوقوف مع قضية الإنسان وحقوقه وحرياته، بغض النظر عن أفكاره وآرائه ومواقفه، والوقوف إلى جانب الضحية طالما تعرّضت حقوقه للانتهاك. ولهذا السبب فإنني بقدر موقفي المناهض للانتهاكات في السابق، ما أزال أناهض أية انتهاكات ومن أي أتت، ولا هدف سياسي لي بقدر ما يكون هدفي هو حماية الحقوق والحريات وضمان احترامها طبقاً للمعايير الدولية ولقواعد الشرعية العالمية. ولهذا فإن أي موقف إلى جانب الحقوق لا يعني موقف من النظام الاّ بقدر انتهاكه للحقوق، وهذه هي النظرة الحقوقية التي عرفتها وقمت بتدريب وتأهيل العشرات بل المئات من النشطاء العرب عليها. لا يمكن لحقوقي ومهني أن يكون ضد الانتهاكات هنا ، ومعها هناك، لا بدّ من معايير موحدة لكي تكتسب حركة حقوق الانسان صدقيتها، وبسبب بعض الانحيازات السياسية والمواقف الطارئة، فإن هناك بعض الانتقادات للحركة وهي انتقادات في مكانها ومحلّها. لا بدّ للحركة من وضع مسافة واحدة من جميع الفرقاء، حكومات ومعارضات، وعدم اتخاذ مواقف مسبقة منها، الاّ فيما يتعلق بالممارسات والانتهاكات، كما أن عليها أن تضع مسافة بينها وبين الانخراط في الصراع الآيديولوجي والسياسي الدائر في مجتمعاتنا، فعليها أن تكون مع الحقوق ومع الضحايا وضد الانتهاكات والذرائع، من أين أتت دون تبرير أو تسويغ. كما أن عليها المحافظة على استقلاليتها الادارية والمالية، بحيث يكون عملها في إطار شفاف ومعلن وليست جزءًا من أجندات خارجية أو سياسية، حكومية أو غير حكومية، وذلك وحده يمنحها فرصة أن تكون مؤثرة على السلطات وعلى المعارضات وفي نشر الوعي والثقافة الحقوقيين. إن ثقافة حقوق الانسان لا تزال متدنية في عالمنا العربي إلى حدود مريعة، وخصوصاً في العراق، في ظل حكم شمولي استمرّ 35 عاماً، قياساً بالتطور الدولي، سواءً على الصعيد الرسمي أو على الصعيد الشعبي، وحتى الأغلبية الساحقة من العاملين في هذا المجال يفتقرون إلى التأهيل النظري، ناهيكم عن الممارسات التي لا تعطي انطباعاً لدفاعهم عن الحقوق والحريات، طالما يبررون لهذه الجهة أو تلك القيام بالانتهاكات أو ممارسة العنف أو غيرها، فالحركة الحقوقية هي حركة سلمية وطوعية وديمقراطية في أفكارها وأساليبها ولا تسعى للوصول إلى السلطة، بقدر ما تريد بسط احترام حقوق الإنسان وضمان ذلك قانوناً في أجواء من الشفافية والمساءلة والعدالة وفي ظل سيادة القانون، وليس المقصود هنا الحقوق السياسية والمدنية، بل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خصوصاً في ميادين العمل والضمان الاجتماعي والصحة والتعليم والثقافة والأدب والفن. أعتقد أن النظرة الحقوقية إذا ما سادت فإنها تجنّب الكثير من الاختلافات السياسية أو تعيد تبويبها بما يتناسب معها وليس العكس، وهذا الأمر إذا تم اعتماده من جانب الفرقاء السياسيين، فسيكون له شأن عظيم لاحقاً، وهو سرّ تقدم المجتمعات الغربية وجميع المجتمعات التي تحترم حقوق الانسان.
لقد بدأت حركة حقوق الإنسان أولى بداياتها بتشكيل جمعية حقوق الإنسان في العراق، وهي المنظمة التي تشكّلت في العام 1960 وكان من أبرز مؤسسيها حسين جميل وزكي جميل حافظ وخالد عيسى طه وآخرين وهي أول جمعية حقوقية تعنى بحقوق الانسان في العالم العربي، وبعد نحو عقدين من الزمان تشكلت منظمات تونسية ومغربية، لكن المناسبة المهمة كانت بتأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، في العام 1983 وعلى هامش ندوة حول أزمة الديمقراطية في العالم العربي انعقدت في ليماسول (قبرص) بعد أن امتنعت الحكومات العربية الترخيص لها. وكانت المبادرة من مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وضمّت عدداً من الشخصيات من أبرزها أديب الجادر ومحمد فائق وفتحي رضوان ومنذر عينبتاوي وعبد الرحمن اليوسفي وخير الدين حسيب وفاروق أبو عيسى ومهدي الحافظ وسعد الدين ابراهيم وليلى شرف وسعاد الصباح ومنصور الكيخيا وآخرين. واختارت المنظمة مقراً لها هو القاهرة، التي لم ترخص لها قانونياً الاّ في العام 2000، وظلّت موجودة على الأراضي المصرية كإعتراف واقعي De Facto وليس De Jure (الاعتراف القانوني) حتى تم توقيع بروتوكول تعاون مع وزارة الخارجية المصرية، باعتبارها منظمة دولية اقليمية. وكنت لدورتين عضواً في مجلس أمناء المنظمة ورئيساً لها في بريطانيا. وقد إنسحبت منها لإيماني بالتعددية والتنوّع وتناوب المسؤوليات وتداوليتها، وهو ما أبلغته لقيادة المنظمة وما كنت أطالب به ووضعته موضع التطبيق، وهو الموقف ذاته يوم أصرّ مؤتمر المنظمة في لندن على بقائي رئيساً لها، لكنني أعلنت انسحابي ببيان وزّعته سلفاً، أملاً في إفساح المجال أمام طاقات جديدة.
مواقف وكنت قد أسست الشبكة العراقية لثقافة حقوق الإنسان والتنمية في أربيل ولندن وعدد من البلدان الأوروبية والعربية في العام 2000 وبعد الاحتلال وسقوط النظام، عقدت الشبكة مؤتمرها الأول في بغداد في نقابة المحامين بحضور أكثر من 200 شخصية وانتخبت أول رئيس لها (العام 2004) وتعهّدت خلال كلمتي للشكر على الثقة، بأن لا أستمر سوى دورة واحدة، وقبل انتهاء الدورة بشهرين كتبت رسالة وعممتها لتأكيد التزامي ورفضت تغيير رأيي في المؤتمر على الرغم من المناشدات، كما لم أقبل في أن أكون رئيساً فخرياً، إيماناً مني بالتداولية والتناوبية، وتم اختيار رئيس فخري في المؤتمر الثاني 2009 هو الاستاذ ضياء السعدي نقيب المحامين السابق كما تم انتخاب الأمين العام ومن ثم استبداله بعد عام تقريباً في اجتماع للجنة التنفيذية على أن يصادق المؤتمر على ذلك في المؤتمر الثالث ( كان المفروض انعقاده في نهاية العام 2011). وأظن أن التشجيع على هذه الممارسة الديمقراطية أمر مفيد ويؤدي إلى تراكم وتطور تدريجي، لأنه سيكون بالاتجاه الصحيح. يوم استقلت من قيادة المنظمة في بريطانيا، كتب الاعلامي عبد الحميد الصائح مدير تلفزيون البغدادية (القاهرة) في جريدة الزمان العراقية مقالة بعنوان " درس خارج النظام الرسمي العربي" أشاد فيه بهذه الخطوة الريادية، وهو ما ذكره الآخرون خلال كلمات تقويم العمل الحقوقي لأكثر من مرّة وعلى النطاق العربي. وعلى الرغم من أنني حصلت على جوائز وأوسمة منها في القاهرة 2003 كأبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، وعمان 2005 للدفاع عن الحقوق والحريات في العالم العربي(من اتحاد الحقوقيين العرب)، ووسام الصداقة العربية- الكردية، ووسام التسامح وجائزة دار القصة وشهادة اعتراف بالدور الحقوقي الأول من اتحاد الحقوقيين العراقيين 2009، ولكنني أعتبر نفسي لا أزال تلميذاً في أولى مراحله الدراسية في الحقل الحقوقي المهم، الذي يتطلب توازناً وموضوعية، بحاجة إلى المحافظة عليهما باستمرار، وأي خلل يحدث فيهما، فإنه سيترك تأثيراته اللاحقة. وبخصوص الجزء الآخر من سؤالك حول تناولي موضوع تسفير اليهود في العام 1950 في كتابي "من هو العراقي؟" حيث تناولت فيه أيضاً بالتفصيل عمليات التهجير التي تمت في ظل النظام السابق وما سبقه، لاسيما خلال حملة التهجير المرعبة العام 1980 وما بعدها، والتي شملت عشرات الآلاف من الكرد الفيلية، وحيث تم رميهم خارج الحدود، بطريقة وحشية لا مثيل لها، وأستطيع أن أختصر هذا الموقف الموثق والمدعوم بالشهادات والمدوّن في كتابي المذكور والتي يمكن الرجوع اليها، وذلك عبر مسألتين: الأولى- قضية عميدة بنت مير مصري (اليهودية الشيوعية عمومة) فقد تم الحكم عليها في العهد الملكي لمدة 20 عاماً، قضت منها 10 أعوام من العام 1948 ولغاية العام 1958 وذلك بسبب انتمائها إلى الحزب الشيوعي المحظور. وكانت عضواً في أول خلية نسائية للحزب العام 1943 وكان منظمها الرفيق فهد أمين عام الحزب. وقد اضطرّت إلى تغيير دينها كما غيّرت إسمها من عمومة إلى عميدة، وقد حدثتني عميدة بنت مير مصري في موسكو في شباط (فبراير) 1974 واستكمالا لحوار معها في براغ عام 1971 انها اعتقلت عام 1963 في سجن " قصر النهاية" واكتشفوا انها تنتمي إلى الطائفة اليهودية على الرغم من أنها أصبحت مسلمة رسمياً كما تقول، فأرادوا إبعادها إلى إسرائيل استناداً إلى قانون إسقاط الجنسية عن اليهود العام 1950، وبما أنه لم تكن هناك طائرة مباشرة إلى إسرائيل من أي بلد عربي فقد نقلوها إلى بيروت أولاً، ومن بيروت نُقلت إلى روما ثانياً، ولكنها رفضت الذهاب إلى إسرائيل وطلبت نقلها إلى براغ حيث مقر الحركة الشيوعية العراقية في الخارج آنذاك ومركز الحركة الشيوعية الدولية، ففيها توجد مجلة قضايا السلم والاشتراكية واتحاد نقابات العمال العالمي واتحاد الطلاب العالمي واتحاد الصحفيين العالمي وغيرها من المنظمات الدولية. ولكن السلطات التشيكوسلوفاكية لم ترخص لها بالدخول إلى الاراضي التشيكية، ولم تستطع أن تشرح قصتها وأعيدت من براغ إلى روما ومنها إلى بيروت ومن بيروت إلى بغداد، حيث أودعت مجدداً في سجن قصر النهاية، وعندما أبلغت المعتقلات والمعتقلين الذين كانوا معها بقصتها الدرامية تلك، تصوروا إن مسّاً من الجنون قد أصابها بسبب التعذيب، فكيف لها وهي المعتقلة في سجن قصر النهاية الرهيب وتذهب إلى بيروت وروما وبراغ ثم تعود إلى السجن مرة ثانية؟ وأخذت بعض السجينات يتهامسن بما أصاب رفيقتهن من " لوثة عقلية" ولم تنفع معهن الأيمان الغليظة التي أقسمتها بأن ما حصل لها هو قصة حقيقية وليست مجرد خيال. ظلت عميدة بعد إطلاق سراحها في بغداد لبعض الوقت ثم غادرت إلى موسكو وتوفيت هناك في منتصف التسعينيات وكانت من الكوادر الشيوعية البارزة، كما أن أخيها يعقوب (عادل) مير مصري كان هو الآخر قد حُكم عليه في العهد الملكي وقضى عشر سنوات في السجن وأطلق سراحه بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، ولوحق بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963، ولكنه استطاع الاختفاء وظل مختفياً في العراق حتى العام 1967، ثم سافر إلى الخارج ليعيش في يريفان بضع سنوات وينتقل بعدها إلى براغ للاقامة والسكن والعمل في الإذاعة العربية هناك، ومات فيها في أواخر التسعينيات . ولعل هذا الهامش المطول يستهدف عرض الجانب الانساني من المأساة سواءً الطلب بتغيير الدين (كان من جانب القيادي الشيوعي هادي هاشم الأعظمي حيث اضطرّ غالبية اليهود الشيوعيين الباقين في العراق الى تغيير دينهم بقرار من الحزب باستثناء حسقيل قوجمان) أو الاجبار على مغادرة البلد أو التبديد بقوى يهودية معادية للصهيونية وما حصل لها، بعيداً عن قيم ومبادئ التسامح.
حكاية تهجير الخليلي أما الثانية فهي قضية تهجير الأديب عبد الغني الخليلي، شقيق جعفر الخليلي أحد رواد القصة والصحافة في العراق منذ الثلاثينيات وصاحب المؤلف المشهور بأجزائه العديدة "هكذا عرفتهم" وقد نشرت شهادتين له في كتابي المذكور الأولى بعنوان " أمهات بين الذئاب" والثانية بعنوان " ليلتي الأخيرة في بغداد" ففي الأولى التي سبق أن لخّصها في رسالة العام 1984 وعاد ورواها لي خلال استضافته لي العام 1990 في استوكهولم، وهي تتحدث عن زوجة قريب له بلغت السادسة والتسعين وهجّرت مع نفر من أفراد أسرتها وفي عتمة تلك الدروب المخيفة الموحشة هاجمتهم عصابة... فأصابهم الفزع والرعب منها، ففروا هاربين إلى قرى خربة مهجورة، لكن المرأة المسنّة العاجزة، لم تتمكن من الهرب، فبقيت في مكانها غير مختارة، لتصبح طعاماً للذئاب. وفي الرسالة ذاتها أكمل روايته بعد أن وصل إلى شيراز مدينة " الأولياء والشعراء" كما يسميها وبعد خروجه من المخيّم العام 1983، فشعر بوجع مرير، "حيث جئنا حفاة مرضى نثير الشفقة" وبينما كانوا يبحثون عن مأوى يستريحون فيه بعيداً عن عيون المارّة، " تقدّم رجل من أهل شيراز ووضع في يد أمي " تومان" (العملة الإيرانية) واحداً فظنّها متسوّلة، ولما عرف قصتهما قبّل يد والدته وبكى". أما عن ليلته الأخيرة في بغداد فيروي الخليلي أن علي جواد الطاهر زاره وقد حمل اليه كتاباً جديداً هو للروائي القرغيزي " ايتماتوف" بعنوان " الكلب الأبلق" قائلاً له لعلك بقراءة هذه الرواية يبتعد عنك هاجس الخوف من التهجير. ويقول الخليلي: بدأت بقراءة إيتماتوف ولكن لم أفهم منه الاّ قليلاً، وحين كاد الفجر يقترب من الأفق وأويت إلى فراشي... رنّ الجرس، فنهض ولدي الصغير وفتح الباب فإذا بوجوه سمجة لم تعرف الرقّة يوماً تطلّ عليه فعاد إليّ شاحباً خائفاً وهو يردد " جاؤوا.. جاؤوا.."، وعندما دخلوا أيقظوا الجميع ولدي الكبير ووالدتي التي تجاوزت الثمانين عاماً، ويمضي قائلاً: أخرجونا من البيت وأمرونا أن نصعد السيارة التي أعدّت لنا فسارت بنا وحين وصلوا إلى مركز شرطة الداوودي، أنزلوا ولدّي من السيارة وأخذوهما إلى المركز الذي يحتجز أولاد الذين يراد تهجيرهم ... وبقية القصة معروفة فوالدة الخليلي والخليلي نفسه وشقيقه علي كلهم ماتوا في الغربة. هذه نماذج صارخة من حالات شخصية، لكنها تمثل حالات عامة قد تكون أكثر قسوة، وقد ذكرت في شهادة على لسان والدتي (الحاجة أم حسين) أن شارعنا وحده (شارع المحامين) في منطقة العطيفية شهد تهجير 8 عوائل منه، ووالدتي تذكرهم بالإسم هم وأولادهم جميعاً، وكيف ترك الجيران سجادهم لدينا وبعد مرور عشر سنوات أرسلوا أحد أقاربهم مع رسالة يطلبون فيها تسليمه اليه، وذلك عبر أحد القريبات في الشام (المقصود أختي سلمى) وقد اختتمت الوالدة شهادتها بالقول: إذا لم أر عودة هؤلاء المهجرين، وقد أغادر هذه الدنيا الفانية، لكن الله لا يديم الظلم إلى الأبد ولا بدّ أن يعودوا إلى أملاكهم وبيوتهم وحقوقهم مثلنا نحن العرب ويعيد الغريب إلى وطنه وأوصي أبنائي وأحفادي وكل العرب بهؤلاء المساكين. وهو ما نقله الصحافي عبد الوهاب بدرخان في جريدة الحياة بالكتابة عن هذه المأساة وعن كتاب من هو العراقي الذي وضع عنواناً مثيراً له " عراق عبد الحسين شعبان" وقصد بذلك عراق المواطنة واللاطائفية وحقوق الانسان. وحول تتمة سؤالك أي مستقبل للحركة الحقوقية يؤثر على المشهد السياسي؟ فلا بدّ من تأكيد مسألة الوعي الحقوقي والقانوني، ولاسيما نشر ثقافة حقوق الانسان بين النخب السياسية الحاكمة وغير الحاكمة، وخصوصاً من خلال تأكيد سيادة القانون وتطبيقه على الجميع دون استثناء أو تمييز لأي سبب كان، وبين الحكام والمحكومين على حد سواء والتمسك بمبدأ المساواة على أساس المواطنة الكاملة والتامة. كما يعتمد الأمر على وجود مجتمع مدني متطور بحيث تتمكن مؤسساته أن تكون بمهنيتها ودورها التنموي رقيباً وراصداً على الدولة، وفي الوقت نفسه قوة اقتراح وشراكة، في اتخاذ القرار وفي التنفيذ أيضاً، وهو ما يكسبه مكانة مرموقة في المشهد السياسي لدى الحكومة التي ستضطر إلى إحترامه والتعاطي معه كقوة موازية. أعتقد أن مؤسسات المجتمع المدني التي تأسست ما بعد الاحتلال تعاني من عوامل ضعف كثيرة، وقسم منها لا يرتقي أن يسمى مؤسسات مجتمع مدني، بقدر كونها واجهات سياسية أو دينية أو طائفية، ناهيكم عن أن المعايير المهنية لا تنطبق عليها، وقسم منها أو بعض قياداتها سعى للتكسّب والترزّق عبر مشاريع وهمية أو شبه وهمية، وخصوصاً يوم ساب المال السحت لدرجة أغرى الكثيرين بالسرقة، وقد وزّع بول بريمر حسبما تذكر التقارير 780 مليون دولار على مؤسسات المجتمع المدني خلال عام وجوده (أيار/مايو 2003-حزيران/يونيو 2004) دون أن يحدد من هي المؤسسات التي نالت الحظوة، ولعل الجميع ينكر ذلك، الأمر الذي بحاجة إلى تدقيق ومساءلة. كما أن العديد من المؤسسات الدولية الخاصة بالتمويل ساهمت في إفساد مؤسسات المجتمع المدني، بتقديم منح وعروض سخيّة لمشاريع لم يجرِ التأكد من فاعليتها وجدواها أو صدقيتها. ومع كل ذلك فأنا أعتقد أن هذه فترة انتقالية وقد يسود فيها ما هو خادع وغير صادق، لكنها في نهاية المطاف لا بدّ أن تخضع لقوانين، مثلما تخضع مؤسسات الدولة إلى هذه القوانين التي لا تزال غائبة أو معطلة. والظاهرة السلبية التي تحدثت عنها ليست عراقية، بل هي ظاهرة عربية ودولية وقد ناقشت ذلك مطولاً في كتابي " المجتمع المدني الوجه الآخر للسياسة" حين توقفت عند النوافذ والألغام التي تواجه المجتمع المدني بما فيها من إشكاليات ومشكلات عملية يتعلق بعضها بإدائه السلبي أحياناً، وعلينا الاعتراف بذلك بكل شفافية ونقد ذاتي ودون وجل، فالأمر لا يتعلق بالتستر على عيوب هذه المؤسسات التي لم يعقد بعضها مؤتمراً واحداً لانتخاب هيئاته القيادية، وغالباً ما تنحل هيئات وتتشكل هيئات دون انتخابات أو دون رقابة، وبعضها لا وجود لها باستثناء إسم الأمين العام أو الرئيس.
موجات التغيير الثلاث * ما حدث وما يحدث في المدن العربية من احتجاجات ساخطة وغضب عارم يلخّص قصة الاستعباد والاستبداد التي مارستها الأنظمة العربية حيال مواطنيها، لاسيما انعدام الحريات وتخلّف مستويات التنمية مقارنة بدول العالم المتمدن.. كيف تقرأ أنت بخبرتك المتراكمة هذه الاحتجاجات وإلى أين ستصل حسب تقديراتك؟ ثم ما هو انعكاساتها على الساحة العراقية، على ضوء تعثر العملية السياسية المرتبط بعضها بأخطاء التأسيس وبعضها الآخر بما نجم عنه من ردود فعل؟ - وصفت في أولى ارهاصات التغيير في العالم العربي، لاسيما بصعود الحالة التونسية وبروز الوضع المصري بأن ذلك مثل الريح الخفيفة المنعشة التي تسبق المطر، ولعلها جزء من قانون طبيعي للتطور الاجتماعي، خصوصاً وقد انكسرت موجة التغيير الثانية ما بعد الحرب العالمية الثانية عند شواطئ البحر المتوسط لأسباب تتعلق بمصالح القوى الدولية، لاسيما انهيارات النظام الشمولي في أوروبا الشرقية. هكذا جاءت انتفاضة الياسمين في تونس وبعدها انتفاضة النيل في مصر، وأعقبتها انتفاضات وإرهاصات واحتجاجات في ليبيا والجزائر والمغرب واليمن والبحرين وسوريا والاردن والعراق وعُمان وغيرها، حتى بدت الموجة الثالثة للتغيير الديمقراطي في العالم وكأنها غيمة تبسط جناحيها على العالم العربي من أقصاه الى أقصاه وعلى وجه السرعة والحضور. وإذا كانت الموجة الأولى للتغيير الديمقراطي قد شملت غرب أوروبا، لاستكمال التحوّل الديمقراطي في البرتغال المحكومة من الدكتاتور سالار وإسبانيا المحكومة من الدكتاتور فرانكو لما يقارب عن 40 عاماً، واليونان التي حكمها العسكر، فإن موجة التغيير الديمقراطي الثانية شملت أوروبا الشرقية التي توّجت بانهيار جدار برلين العام 1989 والإطاحة بالأنظمة الشمولية في بولونيا التي شهدت تمرّدات واحتجاجات نقابة تضامن منذ مطلع الثمانينيات وهنغاريا وألمانيا وصولاً الى تشيكوسلوفاكيا وبلغاريا التي مرّت تحوّلاتها بسلاسة وسلمية، لكن التغيير اكتسب بُعداً دراماتيكياً ودموياً في رومانيا ويوغسلافيا، التي انقسمت الى خمس دويلات، كان آخرها كوسوفو التي انفصلت عن صربيا العام 2008 وانضمّت الى الأمم المتحدة، وقررت محكمة العدل الدولية في لاهاي أن انفصالها (استقلالها) لا يتعارض مع القانون الدولي، والاتحاد السوفيتي في العام 1991 الذي شهد هو الآخر انقسامات وحروب ونزاعات ما يزال بعضها مستمرّاً.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأحزاب العراقية بلا قانون
-
3 تريليونات دولار خسرتها أمريكا في العراق
-
لا تقديم للنظرية على حساب الوقائع الموضوعية
-
الشيوعيون والوحدة العربية
-
الحرب العراقية – الإيرانية عبثية ، خدمت القوى الإمبريالية وا
...
-
الميثاق الاجتماعي العربي: تنازع شرعيتين
-
الحزب الشيوعي وتشكيل الجبهة
-
معارضة الحصار
-
في بشتاشان
-
كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
-
كلمة الدكتور شعبان في تكريم الاستاذ عزالدين الأصبحي
-
الأكراد في النجف
-
الحركة الطلابية
-
من هو العراقي؟
-
الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة
-
ماذا بعد الربيع العربي!
-
قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى -المحفوظات-
-
المساءلة: عدالة أم انتقام؟
-
الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية (
...
-
حلبجة: العين والمخرز! - شهادة عربية حول حلبجة والأنفال
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|