|
المتسول ( قصة)
ميساء البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3701 - 2012 / 4 / 18 - 23:44
المحور:
الادب والفن
داهمني الوقت وأنا أتسوق لبعض الحاجيات .. أوشكت الشمس على المغيب .. لملمت حاجياتي وانطلقت نحو سيارتي التي كنت أصفها في شارع شبه خالٍ من المارة أو السيارات .. فتحت باب السيارة والنافذة المجاورة لي وألقيت كل ما كان في يدي من أكياس إلى الكرسي الخلفي والتفت للقيادة . ما أن رفعت ناظري حتى فوجئت به .. رجل مسن يحمل صندوقاً خشبياً فارغاً يرفعه فوق رأسه ويتمتم ببعض الكلمات .. مظهره كان مخيفاً للغاية .. ارتعدت مفاصلي لرؤيته وخيل لي أنه سيهوي بهذا الصندوق على رأسي ويأخذ مني مفتاح السيارة كما كان يتناهى دائماً إلى مسامعي عن حوادث من هذا القبيل فما كان مني إلا أن أغلقت النافذة والأبواب وانطلقت بسرعة الصاروخ من أمامه وأنا انظر إليه بالمرآة وقد أنزل صندوقه الخشبي من فوق رأسه ووضعه جانباً وما زال يتمتم . لم تهدأ أعصابي حتى تجاوزت أول أشارة مرور وعندها سمعت آذان المغرب فأسرعت كي لا أتأخر عن موعد الصلاة . صورته لم تغب من بالي .. ماذا كان يريد ؟ هل كان ينوي قتلي أم فقط سرقتي ؟ مظهره الرث الكئيب لا يوحي بذلك .. لكن هذه التحذيرات التي تملأ البلد عن حوادث السرقة والقتل المنتشرة منذ فترة قريبة ما هو مصدرها ؟ لا يمكن أن تكون مجرد إشاعات . لكنه رجل مسن .. فقير الحال .. لا يقوى على المشي فكيف سيضربني بهذا الصندوق ؟ إذاً لماذا يرفعه عالياً إن لم يكن قصده الإجرام ؟ وصلت بيتي وأنا لم أصل لأي إجابة عن كل تلك الأسئلة والتساؤلات .. رآني الجميع مكدرة تماماً .. سألني زوجي عن السبب فقصصت عليه الحكاية .. هدأ من روعي وقال إن تصرفي صحيح وحوادث السرقة والقتل منتشرة بكثرة هذه الأيام ولا أحد يمكنه أن يضمن نوايا أحد حتى لو كان رجلاً مسناً . مع هذا ظل ضميري يؤنبني وبقيت الحكاية تلازمني كل الوقت فصرت أجوب ذلك الشارع والشوارع المحيطة به .. أذهب إليهم في ساعات متفرقة وحتى في بعض ساعات المساء .. كنت أرغب برؤيته.. كنت أريد التأكد من أنه مجرد متسول وليس قاتل أو سارق أو مجرم ولكن عبث . لقد أصبح هاجسي وبت أفكر فيه كثيراً وأفكر كيف يتركه أولاده لقمة سائغة للتشرد والتسول ؟ ربما ليس لديه أولاد ..لكن أليس له أقارب ؟ ربما ليس له أقارب .. أهل .. جيران .. لكن أليس له دولة ينتمي إليها ؟ أليس هو مواطن منتمي لدولة يرفع علمها ويردد شعارها ( بلادي أولا ) بمناسبة ودون مناسبة ؟ ألا يدلي هذا المتسول بصوته في الانتخابات التشريعية والبلدية ؟ ألا يمسك على طرف الدبكة في عيد الاستقلال ؟ و كل هذا مقابل ماذا .. مقابل صندوق خشبي مهشم ويد ممدودة تدعو (حسنة لله )؟ حاصرتني الأسئلة وتأنيب الضمير وفظاعة ما قمت به تجاه هذا المتسول العجوز .. واستمريت على هذا الحال المضطرب شهور عدة حتى هلَّ علي شهر الخير والبركة شهر رمضان الفضيل فأخذت في ليلة القدر أدعو الله وألح عليه بالدعاء أن ألتقي هذا المتسول الذي أشغل فكري منذ مدة ليست بالبسيطة .. وظهرت لي صورته فشعرت بفظاعة ما عملت وتأنيب الضمير وأخذت أجهش في البكاء حتى اجتمعت عليَّ أسرتي وعرفوا أنها المشكلة ذاتها التي تؤرقني وتأثروا جداً لحالتي وبدأنا جميعاً بالدعاء لهذا المتسول الذي لا أعرفه ودعوت ربي أن أعثر عليه ونمت ليلتي ودموعي لا تفارقني . بعد يوم أو أكثر لا أذكر بالضبط ذهبت إلى ذلك الشارع في طريقي إلى مكتب البريد .. هناك وجدته يجلس على درجات مكتب البريد يضع صندوقه الخشبي أسفل منه ويتمتم .. كما رأيته أول مرة . هل فرحت في لقاءه ؟ لا أعلم .. ربما طرت من فرحتي .. ركضت إليه كأنني عثرت على ضآلتي المنشودة .. ناولته قطعة من النقود .. أخذها وشكرني .. ودعا لي .. كنت أنظر إليه بفرحة كبيرة وقد ارتسمت الابتسامة العريضة على وجهي .. لكن هو لم يعرفني .. لم يذكرني .. أنا فقط من أذكره ولا يفارق خيالي أبداً .. لم أشأ أن أكلمه بأي شيء أو أستفسر منه عن أي شيء فأنا قد عرفت مكانه .. وسأراه في كل يوم . عدت في اليوم التالي متفائلة جداً لأخوض معه وأسأله عما أرق فكري ... لكني لم أجده .. وفي اليوم الذي تلاه واليوم الذي بعده .. ولكني لم أجده .. بعد ذلك اليوم لم ألتقِة أبداً. سافرت وقطعت من السنوات وهو لا يغيب عن بالي لا هو ولا سؤال واحد فقط من الأسئلة التي كانت تدور في ذهني .. سؤال واحد يقض مضجعي .. أليس هو مواطن منتمي لدولة مسؤولة عنه .. إذاً لماذا لا يملك سوى صندوقه المهشم ويده الممدودة تدعو ( حسنة لله )؟
#ميساء_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خطوة
-
أيلولية الميلاد
-
نبوءات كاذبة
-
لا أتوب !
-
إلى زوجي في عيد ميلاده
-
مطر .. ووعود عنترة .
-
عطر الربيع
-
إلى نادين .. عنقود الفرح .
-
همسات نورانية
-
ليل وعسكر
-
اعشق البحر
-
غصة أسمها أنتَ .
-
كالحلم
-
سوزان .. سنبلة آذار .
-
يدك التي تكتبني
-
حماقات صغيرة
-
إلى متى حبيبي ؟
-
ورطة
-
رسائل إلى أمي .. الرسالة السابعة والأخيرة .
-
رسائل إلى أمي .. الرسالة السادسة .
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|