أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - الأحزاب العراقية بلا قانون















المزيد.....


الأحزاب العراقية بلا قانون


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3701 - 2012 / 4 / 18 - 18:27
المحور: مقابلات و حوارات
    


الأحزاب العراقية بلا قانون
حوار مع الأكاديمي والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان -16
أجراه: توفيق التميمي




(القسم 16)

الاحزاب
*هل تعتقد أن ثمة ضرورة تاريخية ملحّة للقيام بحركة تصحيح أو إعادة بناء (بريسترويكا) خاصة بالأحزاب العراقية، لمراجعة أطرها الآيديولوجية والتنظيمية ، بعد سلسلة الخيبات، لاسيما ما أفرزته قوى الإسلام السياسي من سياسات خلال توليها الحكم منذ العام 2003؟
- لا زالت الغالبية الساحقة من الأحزاب العراقية التقليدية ستالينية في الفكر والممارسة، والأمر لا يخصّ الحركة الشيوعية وحدها وإنْ كانت هي النموذج الأصل عالمياً، لكنه يشمل الأحزاب القومية العربية والكردية والأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية، بل أن بعض الأحزاب التي أدّعت ليبراليتها لم تشذّ عن هذا المسار.
ولعل المثل الصارخ للحزبية الضيقة الشمولية الاستبدادية،هو الصدامية التي حكمت العراق بعقلية ستالينية ميكافيلية ولكن بخليط من خميرة ريفية ممزوجة بتوابل بدوية. كان النموذج البعثي الذي ضاهى النموذج الستاليني، الماوي، الكيم إيلسونغي، الشاوشسكي، الأنور خوجي، وكذلك النموذج القذافي السلطوي البدوي وجميع الأنظمة التي أطلقنا عليها "بلدان التحرر الوطني" التي سارت في هذا الطريق، ولعلك يمكن ملاحظة ذلك وإنْ بدرجات متفاوتة في نظام مصر وسوريا واليمن بما فيه اليمن الجنوبي والجزائر وغيرها التي عانت من مشكلات مشتركة ويمكن أن نلمس ظواهر مشتركة في فكرها وممارستها، بما فيها قيادات تاريخية وجزء من حركة التحرر الوطني في مرحلة صعودها مثل جمال عبد الناصر.

ولعل مسار حزب الدعوة أو التنظيمات الإسلامية الأخرى لا يختلف عن هذا التوجه، من حيث القواعد التي اعتمدتها في بناء تنظيمها، خصوصاً وقد استندت هذه القوى جميعها في العمل السري أو حتى عندما أصبحت في السلطة على كتاب لينين " ما العمل؟" الذي ألّفه العام 1903 والذي على أساسه أراد بناء " حزب شيوعي من طراز جديد" باعتبار الحزب طليعة تضم عصبة شبه عسكرية حديدية منضبطة، متفرّغة للنضال، يمكنها القيام بالمهمات الموكولة اليها، حيث تخضع الأقلية للأكثرية والهيئات الدنيا للهيئات العليا، وتسود فيه وحدة الإرادة والعمل والتنفيذ اللاشرطي للقرارات وفقاً لما يسمى" نفّذ ثم ناقش" باعتبار المركزية والتراتبية هي الأساس في علاقة هيئات الحزب مع بعضها، لضمان وحدة القرار ووحدة التنفيذ، ووحدة الرأي، وهذا يستلزم عدم التبشير بالرأي الشخصي وهكذا.

كنتُ قد أشرتُ منذ سنوات إلى أن كتاب لينين وعلى الرغم من أخذه بسياقه التاريخي، خصوصاً مرحلته، وظروف روسيا ونضال الحزب البلشفي ضد القيصرية، قد أصبح جزءًا من التاريخ وأن معظم تعاليمه لا يصلح الآن لعصرنا، كما أن مفهوم الحزب والدور الطليعي قد اختلف إلى حدود كبيرة في إطار الثورة العلمية- التقنية وثورة الاتصالات والمعلومات وبوجود الانترنيت والفيسبوك والتيوتر وغيرها، بل أن مفهوم الطبقة العاملة تغيّر كثيراً عمّا كان في عهد ماركس أو عهد لينين أو حتى قبل الحرب العالمية الثانية، وظهرت عليه تطورات كبيرة.
وقد ناقشت ذلك مطولاً في كتابي " تحطيم المرايا".
وإذا كنّا في الحزب الشيوعي نصف خصومنا بالمارتوفيين دليلاً على الليبرالية وعدم الانضباط، فإن المارتوفية اليوم هي الأقرب إلى فكرة الحزب السياسي من عهد لينين، فالحزب يمكن أن يكون تياراً عريضاً واسعاً، فيه حرية الرأي والتعبير والتبشير بآراء مخالفة للقيادة وللتوجّه العام، ولعل ذلك ما كان سائداً في فترة ذهبية داخل بعض الأحزاب الأوروبية التي تطورت إلى ما أطلق عليه الاشتراكية الديمقراطية، وعلى نحو محدود كانت بعض تقاليد الحزب البلشفي تقبل النقاش العلني أحياناً، لكن الأمر بعد ثورة اكتوبر تحوّل إلى شيء آخر، وتدريجياً ساد الصوت الواحد، وهو صوت الحزب ولجنته المركزية ومكتبه السياسي وأمينه العام يجلس فوق رؤوس الجميع، وأسدل الستار على حرية التعبير حتى داخل الحزب.
تصوّر أن حزب البعث بعد إعدام صدام حسين عيّن الأمين العام المساعد أميناً عاماً للحزب، بل إنه أصبح أميناً قومياً، دون الرجوع إلى عقد مؤتمر أو اجتماع، حتى وإن كانت ظروفهم لا تسمح بذلك، فعزة الدوري لا يزال متوارياً عن الأنظار ومطلوباً من السلطات، ومتهماً بعدد من التهم السابقة واللاحقة، فقد حكم حزب البعث العراق نحو 35 عاماً، لكنه كان تنظيماً سرّياً ولم يعقد اجتماعاته علناً، وعلى الرغم من أن قراراً صدر عن مجلس قيادة الثورة باعتبار تقريره للمؤتمر القطري الثامن، العام 1974 مرجعية للدولة، وأن الدستور يعطيه هذه المكانة وكذلك ميثاق الجبهة، لكنه في واقع الحال كان تنظيماً سرّياً، ولم يتقدّم حتى بطلب ترخيص من وزارة الداخلية، لا هو ولا الحزب الشيوعي بين العام 1973-والعام 1979 ولا الحزب الديمقراطي الكردستاني بين أعوام 1970-1974، وامتدّت هذه العدوى حتى بعد الاحتلال، فالأحزاب التي تأسست أو مارست نشاطها علناً ودخلت انتخابات واشتركت في قوائم وكتل وتحالفات، كلّها غير قانونية، إذْ لا يوجد قانون لتنظيم عمل الأحزاب والكشف عن عضويتها وماليتها وهيئاتها وإداراتها.
لم يعرف العراق الحياة الحزبية العلنية إلاّ في فترتين: الأولى- عندما أجاز وزير الداخلية سعد صالح جريو العام 1946 في وزارة توفيق السويدي، خمسة أحزاب هي الحزب الوطني الديمقراطي (بقيادة كامل الجادرجي) وحزب الاستقلال (بقيادة محمد مهدي كبّة) وحزب الاتحاد الوطني بقيادة (عبد الفتاح ابراهيم) وحزب الشعب (بقيادة عزيز شريف) وحزب الاحرار (الذي كان توفيق السويدي رئيسه ثم أصبح سعد صالح نفسه بعد استقالة الوزارة) ولكن هذه التجربة انكفأت وتراجعت سريعاً.
الثانية- عندما أجاز أحمد محمد يحيى وزير داخلية وزارة الزعيم عبد الكريم قاسم عدداً في الأحزاب في العام 1960، واستثنى الحزب الشيوعي، ولم يتقدّم حزب البعث وبعض الأحزاب القومية للحصول على ترخيص، واستبعد الحزب الجمهوري بقيادة عبد الفتاح ابراهيم (بسبب برنامجه) ثم جمّد الحزب الوطني الديمقراطي نشاطه، ولم يبق سوى الحزب الوطني التقدمي (بقيادة محمد حديد) والحزب الشيوعي (جماعة داود الصائغ- المبدأ) أما الحزب الديمقراطي الكردستاني فقد صعدت قياداته إلى الجبال بعد اندلاع الثورة الكردية، وكان حزب التحرير قد مارس نشاطاً في تلك الفترة، لكن الوضع السياسي ذلك سرعان ما انقلب سريعاً بسقوط قاسم العام 1963 وتحكّم حزب البعث والحرس القومي بالعمل السياسي والنقابي .
ولكن بعد انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) الذي قاده عبد السلام عارف شهد العراق فترة سياسية رخوة بتأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي (الحزب الوحيد أيام سلطة عارف الأول) العام 1964 والذي تأسس بقانون لكنه انشطر إلى عدّة أقسام وتلاشى دوره تدريجياً، وعندما وصل حزب البعث إلى السلطة مرّة ثانية العام 1968 لم يشعر لحظة بحاجة إلى وجود قانون للأحزاب ينظم علاقتها بالدولة.
وبسبب غياب الحياة الديمقراطية ونزعات التسلّط والفردية، كم من المرّات انشطرت الأحزاب وتشظّت وكثرت الاتهامات داخل صفوفها وبين قياداتها، ولعل أقلّها الاتهام بالخيانة أو بالشرف الوطني أو الشخصي، وفي ظروف الغربة والمنافي تعاظمت هذه الظاهرة على نحو صارخ، وكانت بعض قيادات الأحزاب تتصرف وكأنها أجهزة مسلّطة على رؤوس أعضائها تتحكم في قضايا عملهم وجوازات سفرهم ودراسة أبنائهم وعلاجهم وتنقّلهم وسكناهم وتزكيتهم أمام السلطات المحلية، وهناك أمثلة صارخة، ولعلّي أحتفظ بالكثير من المعلومات، بل والملفات التي تخصّ ممارسات يندى لها الجبين، والأمر لا يخصّ جهة واحدة، بل انه يتعلق بالجميع بلا استثناء.
سيتحدث لك من كان في إيران عن مراراته وعذاباته من أصحاب النفوذ والسطوة، وسيتحدث لك من كان في سوريا عن معاناته وآلامه من علاقات البعض وتحكّمه بمصائر الناس وحياتهم وأرزاقهم ، وسيتحدث لك من كان في عدن والدول الاشتراكية، كيف كانت تتم المساومات والضغوط؟.

ولعل مسؤولي الأحزاب بحكم العقلية الستالينية، يمكنهم لاحقاً قبول أي شيء الاّ الرأي، وقد يصبح صاحب الرأي عليهم أخطر من عدوّهم الأصلي الذي غالباً ما ينسوه، لاسيما وهم منشغلون بالحفاظ على سلطاتهم وامتيازاتهم، وكان بعض القياديين يتكالبون ويوقعون أحدهم بالآخر، للحصول على امتياز " الزعامة" حتى وإن كان يعني الاقتراب من حبل المشنقة، ولعل قصة الرسالة التي أخفاها يهودا صدّيق في ملابسه الداخلية، وهي عبارة عن تكليف صادر من قيادة فهد من السجن يطلب فيه تسليم المسؤولية إلى مالك سيف تكشف مدى التشبث بالمواقع على حساب القيم والمبادئ، وقد انتقل هذا الصراع اليوم إلى دست الحكم، على نحو لم يسبق له مثيل، بحيث يبدي كل طرف استعداده للقضاء على خصمه أو حليفه ليوم أمس، إنْ حاول الاقتراب من السلطة او امتيازاتها على حساب القوى المتنفذة فيها أو في بعض مواقعها.
لم أسمع خلال حياتي الحزبية الطويلة وخلال علاقاتي السياسية ما بعدها، أن أحداً قد تم فصله لأسباب تتعلق بالسرقة أو التجاوز على مالية الحزب أو التلاعب بها أو إرتكاب فاحشة أخلاقية أو الصلة بجهاز أجنبي أو ضعف موقف خلال الاعتقال، أو الاساءة للحزب لسلوك معين أو التنكيل بأعضائه واستغلال نفوذه، كل ذلك يمكن غفرانه أو نسيانه أو تناسيه أو غضّ النظر عنه، إذا أعلن الطاعة ورفع يديه إلى الأعلى بالاستسلام ونفّذ ما يريده المسؤولون، الاّ خطيئة الرأي فهي لا تغتفر حتى وإن لبست ألف قناع، فستظل تلاحق أصحابها إلى الموت وربما بعده.
الأحزاب العراقية بحاجة إلى شفافية وعلانية، وعلى الناس الاطلاع على برامجها ومناهجها وإدارتها وماليتها ومؤتمراتها وانتخاباتها، في أطر قانونية. تصوّر أن موضوع التوريث الحزبي المعلن وغير المعلن موجود لدى أحزابنا. عدّد أسماء الأحزاب وسترى من يتحكّم فيها ومن يملك النفوذ ومن بيده المال، وستظهر لك الصورة واضحة، فالقسم الأكبر من هذه الأحزاب لا يزال يعيش في مرحلة ما قبل الدولة.
أما موضوع الديمقراطية، فهي ليست سوى يافطة، فقد مضى على أحزاب، أكثر من ثلاثين عاماً بقيادة لا تتغيّر أو بأمين عام لا يتغيّر وبعضها حتى دون مؤتمرات شكلية، وأحياناً يبقى الأمين العام لوحده ويشكّل قيادة جديدة، غالبيتها يتبخّر، ولكنه لا يزال يتحدث عن التعددية والتداولية والشفافية، بكل أريحية دون أن يذكر حاله أو يحاسب نفسه، وهو يراهن على " إستغفال" الجمهور أو عدم معرفته، لاسيما وقد تباعدت أوضاع الداخل عن أوضاع الخارج بسبب النظام الدكتاتوري السابق، فمن هم في الداخل حيث لا أحزاب ولا حريات، ليس لديهم معلومات عن الخارج، ومن هم في الخارج ووصلوا إلى السلطة، لاسيما بصيغة بريمر تعاملوا مع الداخل كأنه " تابع"، خصوصاً بتداخل الأجندات الدولية والإقليمية، والتنطّع أحياناً باسم " المعارضة" ومقارعة النظام الدكتاتوري.
وخلال وجود المعارضة في الخارج تعرّضت إلى اختراقات كثيرة، بعضها لم يكن بعيداً عن أيدي النظام السابق وأجهزته وهو كثير ومتشعّب، وبعضها الآخر من جانب الدول والأجهزة التابعة لها سواءً في إيران أو في سوريا أو الأردن أو في الدول الاشتراكية أو في ليبيا أو في مصر وحتى في اليمن أيضاً، إضافة إلى الاختراقات التي تسللت إلى صفوفها، لاسيما من القوى الدولية وبخاصة الأميركية والبريطانية، وقد قلت في مقابلة لي في أواخر العام 1993 لم أستبعد أن يكون للموساد الإسرائيلي دور في ذلك، وكنت ولا أزال أعني ما أقول، وبعد غزو الكويت دخلت عليها جهات عربية وخليجية، لاسيما بعد حرب قوات التحالف لتحرير الكويت التي استمرت حتى تدمير العراق.

عدوى الدكتاتورية

لقد انتقلت بعض مساوئ السلطة وأساليبها إلى المعارضات وكأنها عدوى، بل إن بعض المعارضين كان يتشبث بأساليب صدام حسين، وحتى بعد الاحتلال والإطاحة بالنظام السابق، ظلّت الكثير من أحزاب السلطة أو المشاركة معها أو التي تدور في فلكها تتصرف وكأنها في المعارضة وليس في السلطة، مسقطة ما في ثقافة المعارضة على ثقافة السلطة، مستبدلة أحياناً موقع الضحية بموقع الجلاد، حتى وإن استمرت تندب الحظ حول المظلومية وتلوك خطاب الماضي حول التضحيات والبطولات، فلم يعد لذلك الخطاب من معنى في الوقت الحاضر.
ولهذا قلت وأقول أن على الأحزاب السياسية أن تعيد النظر في برامجها ومناهجها وخططها وأساليب عملها وعلاقتها بالناس ومع بعضها البعض، لاسيما بما له علاقة بالحداثة والثورة العلمية- التقنية وثورة الاتصالات والمواصلات، فالداعية الحزبي وأساليب الدعاية والضبط الحديدي- اللينيني- الستاليني وما يسمى بالمركزية الديمقراطية، وكون الحزب هو الطليعة ومفهوم القيادة التاريخية والأمين العام الذي لا يخالفه أحد وهو المناضل الأول والفيلسوف والأديب، لم يعد له مكان في عالم اليوم، الاّ في الأطر المتخلّفة والصيغ الجامدة غير القابلة للتطور.
ولعل مثل هذا الأمر يتعلق أيضاً بفكرة التجديد والتداولية والانتخابات الحقيقية وتبادل المسؤوليات وتحديد سقف زمني للقيادة (دورتين مثلاً لاسيما للمواقع الأولى- الرئيس والأمين العام، نوابه، أعضاء المكتب السياسي، اللجان التنفيذية والمركزية...) ولا بدّ من الاعتناء بالمناضلين القدامى وتكريمهم والاستماع إلى آرائهم كإستشاريين يمكن الاستفادة من خبرتهم ومعرفتهم...الخ. كما يمكن تحديد سقف عمري للتقاعد من تولي مناصب حزبية مع إمكانية البقاء في الحزب.
لا بدّ أولاً وقبل كل شيء تقديم الشباب بتحديد كوته بحيث يكون نصف القيادة أو ا يزيد عليها على الأقل من الشباب دون سن الـ 35 مع مراعاة النوع الاجتماعي وخصوصاً النساء وحقوقهن وتوليهن القيادة، وكم سيكون متقدّماً وجود إمرأة على رئاسة الحزب مثل الكثير من الدول الآسيوية وإن كان طابعها إسلامياً أو في إطار التقاليد المقاربة من ذلك مثلاً في باكستان، وسريلانكا، والهند وغيرها، إضافة إلى بعض دول أمريكا اللاتينية، كالبرازيل مثلاً. ولعل ذلك سيكون دليلاً على لحمة النسيج الاجتماعي لو تولّى أحد المسيحيين رئاسة حزب عراقي مثلاً أو حتى رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء أو رئاسة القضاء أو البرلمان، ففي الثلاثينات قاد فهد(يوسف سلمان يوسف) المسيحي الحزب الشيوعي دون أن يشعر أحد بأية حساسيات.
وإذا كان من حق أية مجموعة تأسيس حزب يعبّر عن مصالحها وتطلعاتها سواءً إدّعت تمثيل طائفة أو إثنية معينة، لكنها لا بدّ أن تضع ذلك في إطار وسياقات الدولة العراقية، ويمكن أن تلعب الأحزاب الوطنية العراقية المفتوحة لقبول الجميع دوراً في استقطاب الانتماءات إليها، مثلما كانت في السابق، خصوصاً إذا استطاعت عبور المغريات الطائفية والإثنية والعشائرية والمناطقية، مثلما كانت جماعة الأهالي وحزب الشعب وحزب الاتحاد الوطني وحزب التحرر الوطني وهذه كلّها مجاميع ماركسية، إضافة إلى الحزب الشيوعي، وكذلك الحزب الوطني الديمقراطي وغيرها .
إن وجود أحزاب هو أساس وجود الديمقراطية، التي لا يمكنها أن تتبلور دون وجود أحزاب ومنافسة وانتخابات، فضلاً عن سيادة القانون واستقلال القضاء والمواطنة واحترام حقوق الانسان، تلك التي على الأحزاب تبنيّها والعمل بموجبها، كما ينبغي أن تكون تلك الأحزاب تعمل في سياقات قانونية سواءً كانت أحزاباً دينية أو غير دينية ، إثنية أو غير إثنية، طائفية أو غير طائفية (من حيث التوجّه والمطالب والأهداف) وهذه اللوحة المتنوّعة يمكن حمايتها في إطار الدولة المدنية، وأعني بها العلمانية، والعقلانية والديمقراطية، فهذه أركان أساسية للحداثة، إضافة إلى المدنية، والدولة المدنية هي وحدها الضامن لإحترام الأديان والقوميات والإثنيات والطوائف وحقوقها وتطلعاتها، بما فيها وجودها واستمرارها وكذلك ضامن لمبدأ المساواة، والعكس سيؤدي إلى احتراب المجتمع وتفتيته.
وإذا ظلّت الأحزاب العراقية تعيش في الماضي، فلن تتحقق الدولة التي نطمح في الوصول إليها، كما أنها هي الأخرى ستتعرّض إلى الجمود والتقوقع، لأن عجلة الزمن سوف تتخطاها وتتجاوزها، عليها كما قال الروائي الروسي مكسيم غوركي أن تعيش نصف عقلها في المستقبل وليس في الماضي.

الطائفة والسياسة
*أنت من دعاة الدولة المدنية.. ألا يتعارض موقفك مع الدين؟ وكيف تنظر للعلاقة مع رجال الدين ومن بعض ممارساتهم؟
- كانت علاقتي ولا تزال ودّية وإيجابية مع الكثير من رجال الدين، على الرغم من معرفتهم المسبقة بدعواتي المعلنة لفكرة الدولة المدنية وفصل الدين عن السياسة، فمنذ وقت مبكّر ربطتني صداقة مع السيد محمد بحر العلوم وبيننا مطارحات كثيرة والسيد مصطفى جمال الدين وقد كتبت عن غزلياته، وكنت قد زرت السيد محمد باقر الصدر في النجف وهو في "الإقامة الجبرية" الفعلية، وكتبت عن ذلك لاحقاً مادة بعنوان " حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة".

وعلاقتي ودية مع محمد مهدي شمس الدين، ودائماً كنت أستذكر أطروحاته حول ضرورة إندماج الشيعة بمجتمعاتهم وطلبهم المساواة في دولة المواطنة، وهو ما يخدم مذهب آل البيت حسب تعبيره ويجعلهم في المكانة التي يستحقون، وكثيراً ما استشهدت بكتابه القيّم " الوصايا" الذي اعتبره دليل عمل لمن يريد من الشيعة أن ينخرط في إطار نسيجه الاجتماعي وعلى أساس المشتركات الانسانية، وليس بغيرها، كما ربطتني علاقات حميمة مع السيد محمد حسين فضل الله، وكتبت أكثر من مادة عنه، إضافة إلى السيد محمد حسن الأمين والسيد حسين الصدر (لندن) والسيد حسين اسماعيل الصدر (الكاظمية) والسيد علي الأمين وغيرهم.
ولعل الكثير من الذين ذكرتهم هم من المجددين في الفكر الاسلامي المعاصر، لاسيما في إطار المذهب الجعفري، كما ربطتني علاقات وطيدة مع الكثير من القيادات الاسلامية مثل السيد محمد باقر الحكيم وكذلك السيد عبد العزيز الحكيم والسيد محمد الحيدري والشيخ همام حمودي والشيخ المولى، إضافة إلى من عمل في الإطارات السياسية سواءً في حزب الدعوة ممثلاً بإبراهيم الجعفري ونوري المالكي وعلي الأديب وسامي العسكري وحيدر عباس العبادي ووليد الحلي أو في إطار المجلس الإسلامي الأعلى والحركة الاسلامية بشكل عام مثل عادل عبد المهدي وباقر جبر صولاغ وأكرم الحكيم وحامد البياتي وعز الدين سليم وليث كبّه ومحمد عبد الجبار وخالد العطية وعلي العضاض وغانم جواد ورضا جواد تقي ( أبو أمير) وموفق الربيعي وعلي الدباغ وشمران العجلي وحسين الركابي والسيد عامر الحلو، بل وغالبية الكوادر الأساسية للحركة الإسلامية، لكن الجميع يعرفون توجهي بصدد الموقف من الدولة المدنية وهو ما حاولت أن أضفيه على توجهات المعارضة في فترتها الأولى خلال كتابتي لتقاريرها وبياناتها الأساسية، خصوصاً في مؤتمري فيينا وصلاح الدين(1992).
لعل مشكلة الحركة الدينية، لاسيما الشيعية، تعتبر أن مشكلة العراق الأساسية، هي الطائفية، فهي تصوغ كل شيء من خلال هذا المنظور، حتى وإن قصدت الدولة بجميع مكوّناتها، في حين أنني أرى أن المشكلة في سوء الحكم وفساد الإدارة وشحّ الحريات وعدم احترام حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية وانعدام سيادة القانون وضعف المواطنة، لاسيما في ظروف عدم المساواة والتمييز سواءً ما يتعلق بحقوق الأكراد أو فيما يتعلق بمسألة التمييز الطائفي التي تندرج في هذا الإطار كجزئية من المشكلات العامة للدولة، يضاف إلى ذلك ضعف النوع الاجتماعي وأعني به حقوق المرأة وعدم مساواتها مع الرجل، ناهيكم عن ضعف المشاركة بشكل عام، وللمرأة بشكل خاص، وعدم الإقرار بالتنوّع والتعددية، لاسيما بجانبها الثقافي: الديني والإثني واللغوي والسلالي والاجتماعي والفكري. هنا الافتراق في زاوية النظر.
يعتقد بعض " الشيعة" ممن يطلقون على أنفسهم علمانيين أن بإمكانهم المساهمة في تغيير المشهد السائد للشيعة الدينيين، ولكنني أعتقد أنهم على وهم كبير، وقد حاولت شخصيات مرموقة بوزن عبد الكريم الأزري وعبد الأمير علاوي وعبد الغني الدلّي (وهم وزراء سابقون في فترة العهد الملكي) ومعهم آخرون تكوين تصوّر أولي حول دور علماني لشيعة العراق، وأتذكّر أنهم دعوني في إحدى الأماسي في لندن لحضور اجتماع أو لقاء ، وطرحوا الموضوع عليّ، وكان جوابي: أنكم جئتم على العنوان الغلط، وإذا كنت علمانياً فأنا لا أخفي ذلك، ولكنني ماركسي وأممي ولا يمكن اختزال نفسي بحكم انتماء عائلتي التاريخي، للعمل في إطار مصغّر بإسم الشيعة العلمانيين أو غيرهم، فمن الناحية الفكرية ليس بإمكاني فعل ذلك، ومن الناحية السياسية فهو خطأ فادح، فكيف يمكن أن أنشغل بمجموعة صغيرة وهي جزء من طائفة لمواجهة مشاكل البلد ككل، ناهيكم عن أن ذلك لا يتناسب مع فكرة الحداثة التي اؤمن بها منهجاً وسلوكاً وتصرفاً؟ .


جريدة الناس العراقية 16/4/2012



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 3 تريليونات دولار خسرتها أمريكا في العراق
- لا تقديم للنظرية على حساب الوقائع الموضوعية
- الشيوعيون والوحدة العربية
- الحرب العراقية – الإيرانية عبثية ، خدمت القوى الإمبريالية وا ...
- الميثاق الاجتماعي العربي: تنازع شرعيتين
- الحزب الشيوعي وتشكيل الجبهة
- معارضة الحصار
- في بشتاشان
- كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
- كلمة الدكتور شعبان في تكريم الاستاذ عزالدين الأصبحي
- الأكراد في النجف
- الحركة الطلابية
- من هو العراقي؟
- الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة
- ماذا بعد الربيع العربي!
- قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى -المحفوظات-
- المساءلة: عدالة أم انتقام؟
- الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية ( ...
- حلبجة: العين والمخرز! - شهادة عربية حول حلبجة والأنفال
- “إسرائيل” . . من حل الصراع إلى إدارته


المزيد.....




- الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
- بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند ...
- لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
- قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب ...
- 3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
- إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب ...
- مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
- كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل ...
- تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
- السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - الأحزاب العراقية بلا قانون