أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - لا تقديم للنظرية على حساب الوقائع الموضوعية















المزيد.....


لا تقديم للنظرية على حساب الوقائع الموضوعية


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3701 - 2012 / 4 / 17 - 20:50
المحور: مقابلات و حوارات
    



(القسم 14)

مواقف قديمة
لا يمكن تجزئة المواقف، أو تجزئة الحقوق، ومثلما علينا التمسّك بحقوقنا، فعلينا الاعتراف بحقوق الآخرين، لاسيما حقوق الاقليات الدينية والإثنية التي تعيش بين ظهرانينا كالأكراد والتركمان والمسيحيين والامازيغيين وسكان جنوب السودان وغيرهم، باعتبارها نماذج لاحتكاكات وتعارضات قومية ودينية ساهمت في تعطيل التنمية في الوطن العربي، وخصوصاً عدم حلها حلاً ديمقراطياً والاعتراف الكامل بحقوقها السياسية والثقافية واللغوية والسلالية.
كنت ولا أزال أعتز بمواقفي الداعمة لحقوق الأقليات القومية والدينية، انطلاقا من ايماني الكامل بحقوق الانسان. حتى وإن غلبت السياسة أحياناً، فإن البوصلة المُرشدة والهادية تبقى هي كل ما يتعلّق بالحقوق والحريات.
وإذا كان ماركس وانجلز قد ربطا القضايا القومية بانجاز البروليتاريا لوظيفتها التاريخية، واعتبرا أن ذلك سيضع حداً للاضطهاد القومي، وشدّدا على أن إلغاء الاستغلال الطبقي سيؤدي إلى إلغاء الاستغلال القومي " أزيلوا استغلال الانسان للانسان تزيلوا استغلال أمة لأمة أخرى" ، وورد على لسان ماركس " إن شعباً يستعبد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حُرّاً" وهو الرأي الذي يعتبر سقفاً انسانياً للموقف من حقوق الاقليات، الذي أُومن به، لكن ماركس وانجلز لم يتمكنا من تطوير مفاهيمهما للمسألة القومية، خصوصاً للبلدان التابعة والمستعمَرة بشكل عام، وهو الأمر الذي حاول لينين معالجته لاحقاً.

الحيرة ليست لديّ في هذا الشأن المبدئي، الماركسي، النقدي، الوضعي، بل لدى إتجاهات ماركسوية حائرة، فهي إما مع الاتجاه القومي اللاماركسي بشأن الموقف من العروبة، أو مع الاتجاه الماركسي اللاعروبي واللاقومي في الموقف من القضية الكردية ومن مسألة الاقليات بشكل عام.
وتلك مفارقة النظرة المبسّطة الأحادية، ولعل هذه المواقف التي أنفرد بها باعتزاز لا تقدّم النظرية والتصوّرات المسبقة على حساب الواقع الموضوعي، وذلك ما اعتبره استشرافاً للماركسية النقدية الوضعية.
لم يكن هناك ثمة وعي نقدي لليسار العربي وللماركسيين العرب بشأن الهوّية العربية وطبيعة الصراع العربي -الاسرائيلي، فإضافة إلى الاتكالية والكسل الفكري وتنفيذ تعليمات المركز الأممي، فقد كان هناك قصور في فهم طبيعة العلاقة من خلال رؤية مركبة ومتداخلة للوعي التاريخي العربي، بجعله جدلياً هادفاً التنوير والتغيير بشروط موضوعية لبلورتها وليس عبر محاولات تفسيرية محدودة وقاصرة.
إذا عدنا إلى الرأي "الماركسي" السائد باستثناء ارهاصات محدودة، فإنه بشكل عام اقتفى أثر الموقف الستاليني، الذي تبدّل بين عشية وضحاها بالموافقة على قرار التقسيم بعد ان كان يدعو إلى دولة ديمقراطية يتعايش فيها العرب واليهود، وهو الموقف الذي لا أفهم أي تبرير له ماركسياً، إنْ لم يكن هو ضد الماركسية، فكيف لمن يدّعي انه طليعة البروليتاريا العالمية يوافق على تقطيع أوصال بلد وتسليم ما يزيد عن نصفه إلى مهاجرين جاؤوا من أصقاع الدنيا وطرد سكان البلاد العرب الاصليين، إنْ لم يكن ذلك بصفقة قد تمت من وراء ظهورهم بعد اتفاقية يالطا عام 1943، وضمن تسويات ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي شملت بلداناً ومناطق عديدة، ولعل الأمر لا يتعلق بالسياسة التي قد تصيب وتخطئ وبالإمكان تصحيح الخطأ، لكن المسألة تتعلق بالتنظير الآيديولوجي الخاطئ، واعتماده باعتباره تطبيقاً للماركسية في ظرف ملموس هذا من جهة، ومن جهة أخرى المصالح السياسية للدولة السوفيتية، وهو الأمر الذي استمر دون نقد ماركسي حيوي من جانب الأحزاب الماركسية الرسمية، بل وأحياناً الاستمرار في تبرير ذلك الموقف الآيديولوجي الخاطئ بتبريرات سياسية ساذجة وخاطئة أيضاً.
وبكل الأحوال فقد كان ذلك خطيئة تاريخية لا يمكن غفرانها، والغريب أن قيادات الأحزاب الشيوعية وافقت عليها وتبّنتها، بل وتحمّست لها (باستثناء الحزب الشيوعي السوداني)، كما ذهب إلى ذلك الحزب الشيوعي السوري- اللبناني والحزب الشيوعي المصري والشيوعيون الفلسطينيون والاردنيون، والحزب الشيوعي العراقي، لاسيما مطارحات زكي خيري الصادمة للمزاج الشعبي، ناهيكم عن خطئها ماركسياً باعتبار " اليهود أمة" ولها " الحق في تقرير المصير" وبمقارنة أوضاع اسرائيل المغتصِبة للحقوق والارض باعتبارها " دولة ديمقراطية" قياساً إلى البلدان العربية الرجعية، ولأن فيها حزباً شيوعياً علنياً ونقابات مرخّصا بها، وهو الموقف الخاطئ الذي كان سائداً في إطار الحركة الماركسية العالمية التي حاول خيري تمثيلها آنذاك رغم وجوده في السجن.
ولا أريد هنا أن أشكك بموقف أحد باعتبارها مؤامرة حيكت لصالح الحركة الصهيونية، وإن كنتُ لا أستبعد تواطؤ البعض، إلاّ أنني بشكل عام ومن خلال الوضعية النقدية للماركسية، أستطيع القول أن ثمة موقفا لا ماركسي، لاسيما من الناحية النظرية بما فيه كل التبريرات التي قيلت، إضافة إلى أنه يُلحق ضرراً بقضية النضال والتحرر القومي في المنطقة، وهو ما تفترضه الماركسية في الصراع الطبقي- البروليتاري ضد الرأسمالية والامبريالية " أعلى مراحلها" على حد تعبير لينين.

وللأسف الشديد لم يبادر الشيوعيون والماركسيون العرب إلى تصحيح ذلك الموقف الخاطئ، والأقرب إلى الخطيئة نظرياً وعملياً، بل كانوا يزوغون عنه كلّما جرى الحديث عن القضية الفلسطينية، وتراهم بحماسة منقطعة النظير يرددون ويستذكرون "الانذار السوفيتي" عام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر " انذار بولغانين": وتسليح بعض البلدان العربية والموقف من حرب الاستنزاف وهي كلها مواقف مشرّفة للاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية العالمية، في حين أنك تناقش في مسألة التقسيم، بل ان بعضهم يبرّر بسذاجة وسماجة قائلاً: ألم تكن الموافقة على قرار التقسيم أفضل من عدم الحصول على شيء؟ ألا يتمنى العرب حالياً العودة إلى قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947؟ ألا يكفي مزاودةً وهي التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، حيث ضاعت نصف فلسطين بموجب القرار، وأصبحنا نوافق على 22% منها حسب اتفاقات أوسلو لعام 1993، التي لا تنفذها إسرائيل!؟

وكأنهم يريدون القول أن مواقف الحركة الشيوعية كانت ماركسية وإنها لا تخطئ، مقدِّمين تبريرات مصالح الدولة السوفياتية على مصالح الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه العادلة والمشروعة، وغير القابلة للتصرّف، ولم توجد هناك سابقة قانونية بحيث تقوم الأمم المتحدة بإنشاء دولة على حساب سكان البلدان الأصليين، وتتعهد هذه الدولة باحترام ميثاق الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية، لكنها تتنكّر لذلك بما فيها لقرار التقسيم نفسه وللقرار رقم 194 الخاص بحق العودة لعام 1948 وللقرارين رقم 242 لعام 1967 ورقم 338 لعام 1973 وغيرها من القرارات دون أي إلزام أو إكراه أو عقوبات من مجلس الأمن والأمم المتحدة.
وأرجو ألاّ يتم تفسير كلامي هذا باعتباره انحيازاً إلى الضفة الاخرى، فهي وإن تمسّكت بالحق الفلسطيني شكلياً، لكن مواقف بعضها لم تكن تميّز بين الصهيونية كأيديولوجيا وبين اليهودية كدين، فضلاً عن نزعاتها الشوفينية الاستعلائية ومواقفها الدونكيشوتية حول " رمي اليهود في البحر" و" التحرير" الكامل، لكنها قامت حين وصلت إلى السلطة بقمع شعوبها وتكبيل حركتها، بل والتآمر أحياناً على القيادة الفلسطينية المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، كما قننت حركتها واغتالت بعض قياداتها، في حين كان موقفنا من الصهيونية كحركة رجعية أكثر وضوحاً منها، وكنّا نفرق بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كعقيدة، لكن هذه المواقف ضاعت وتبدّدت عند تأييدنا قيام دولة اسرائيل، باعتباره انسجاماً مع مبدأ حق تقرير المصير ومنه حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره وقيام دولته الخاصة، وأحياناً برّرنا ذلك بالشرعية الدولية وبمواقف الاتحاد السوفيتي، التي تعتبرها الادارات الحزبية المحك " الحقيقي" الذي تقيس به الخطأ والصواب، والأكثر من ذلك تفسيرنا هذا الخطأ النظري وفقاً للماركسية، الأمر الذي يتناقض مع جوهرها ومحتواها.

نقد للمواقف
وإذا كان هذا جزءا من النقد الذاتي فقد كنت أريد أيضاً نقد مواقف القوى القومية التي تعكّزت على مسألة فلسطين لتصادر الديمقراطية وتعطّل التنمية وتؤجل الاستحقاقات الاجتماعية الضرورية، ليس هذا حسب، بل ان الهمّ الرئيس لبعضهم أحياناً كان هو القضاء على الشيوعية بدلاً من اعتبار الصهيونية والامبريالية، الخطرين الأساسيين. ولعل العودة إلى بعض كتابات تلك المرحلة، تراها تقارب مثل هذه الاطروحات الخاطئة، على الرغم من أنها كانت هي الأخرى محكومة بظروف الصراع اللاعقلاني الذي ساد بين التيارين الماركسي- الشيوعي من جهة والقومي- البعثي من جهة أخرى.
وإذا كان ساطع الحصري تحدّث عن نشوء الفكرة القومية وميشيل عفلق تناول القومية بشيء من الرومانسية في كتاباته الأولى مطلع الاربعينيات، بعناوين مثل: "القومية حُبٌ قبل كل شيء" و" القومية قدر محبّب"، لكن ما واصله عبدالله عبدالدايم وعبد العزيز الدوري وسعدون حمّادي وعبد الرحمن البزاز وشبلي العيسمي والياس فرح وقبل ذلك قسطنطين زريق، كان شيئاً مختلفاً أكثر عمقاً وشمولاً.
وبسبب ارتباك وضعف مواقف الحركة الشيوعية، إزاء قضايا الوحدة والمسألة الفلسطينية وجدتني مندفعاً منذ عقود من الزمان، وبمعاناة فائقة، بالدرس والتمحيص وإعادة النظر والنقد، في محاولة لبلورة موقف ماركسي أكثر انسجاماً مع تطلعات الأمة العربية، متخطياً بعض ما كان من اتهامات حول تقديم مصالح الدولة السوفيتية ودور اليهود في الحركات الشيوعية مثلما هو دور بعض المكوّنات الأخرى غير العربية في قيادات الأحزاب الشيوعية، لصياغة وبلورة مواقف الأحزاب الشيوعية أو ضعف وعيها أو غير ذلك.

وكتبت على هذا الصعيد أكثر من ثمانية كتب منذ أواسط الثمانينيات، لاسيما في قضية الصهيونية وقد نشطتُ في تأسيس اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 القاضي بمساواة الصهيونية بالعنصرية، والتي أصبح إسمها " اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية" وانتخبت أميناً عاماً لها، بمساهمة من شخصيات مرموقة مثل: إنعام رعد وناجي علوش وصابر محي الدين وعبد الرحمن النعيمي وسعدالله مزرعاني وعبد الفتاح ادريس ود. جورج جبور الذي كان مديراً لقسم الدراسات والأبحاث في مكتب الرئيس حافظ الأسد (والذي اعتمد رئيساً للجنة ثم أعقبه انعام رعد).
ولعلي أفشي سرّاً لك إذا قلت إن القرار الذي صدر عن قمة الكويت للمؤتمر الاسلامي العام 1987 بخصوص دمغ الصهيونية بالعنصرية واعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، كان باقتراح منّي وبدعم وتشجيع من الدكتور جورج جبور وأعضاء اللجنة، وكنت قد كتبت رسالة إلى الرئيس حافظ الأسد ( بصفتي أميناً عاماً للجنة ) طلبت منه التكرّم والإيعاز إلى وفد وزارة الخارجية السورية لحمل مقترحنا، ولعرضه على المؤتمر باسم الوفد السوري. وحصل الأمر فعلاً وعُرض المقترح ووافق عليه المؤتمر كما هو مدوّن ومن دون أي تعديل.

لقد كنّا قد تلمسّنا حجم الضغط الدولي لإعدام القرار 3379، خصوصاً بعد حملة تواقيع دولية قادتها اسرائيل ومطالبة الأمم المتحدة بإلغاء القرار، حيث شارك فيها أكثر من 800 شخصية سياسية واجتماعية وفنية عالمية (العام 1985) وكانت اسرائيل قد حددت على لسان رئيسها هيرتسوغ الذي كان ممثلها في الأمم المتحدة عند صدور القرار، بأن لا يمرّ العام 1990 الاّ ويكون القرار قد ألغي، وحصل الأمر فعلاً بحكم اختلال موازين القوى في كانون الأول (ديسمبر) 1991.
أقدّر أن مثل هذا الموقف الماركسي لا يروق للكثيرين، لاسيما للصهيونية وذيولها، وقد لمست خلال وجودي في أوروبا أن الكثير من الأصابع والبصمات تقف خلف بعض المواقف، ولم يكن ذلك بعيداً عن إلحاق الأذى بي ومحاولات الإساءة على نحو مباشر أو غير مباشر، وكانت تلك تظهر تحت مسميات مختلفة، وقد يأتي الوقت المناسب للحديث عنها على نحو تفصيلي.

ربما اجتمعت فيّ أغلبيات كثيرة منها أنني مسلم والمسلمون هم غالبية سكان العراق (نحو 95%) وإنني عربي والعرب يتجاوزون نسبة 80% وقد يحتسبني البعض على طائفة أو مذهب معين بحكم العائلة، وأزعم أنني دافعت عن مصالح الفقراء والكادحين لعقود طويلة من الزمن، لكنني أشعر بعروبتي أو بانتمائي إلى الاسلام كحضارة وتراث، بل إلى المواطنة والانسانية إن لم أقرّ وأعترف بحقوق الغير، لاسيما القوميات والأديان الأخرى وعلى قدم المساواة مع العرب والمسلمين في إطار التنوّع الثقافي والتعددية.
ولعل هذا الموقف يختلف عن مواقف بعض من يتنكرون لعروبتهم ويلصقون بها أرذل الصفات، ويحابون الغير لاعتبارات أخرى، وترى بعضهم كان ينام حتى أمس بملابس الجيش الشعبي أو يحمل الهوية الأممية، ليتحوّل إلى داعية ضد العروبة وضد العرب، ناسباً كل ما فعله الحكام الفاشست أو الدكتاتوريون المستبدون إليهم، فهل نستطيع أن ننسب ما فعله الجحوش وعصاباتهم من فرسان صلاح الدين والمتعاونين معهم إلى الشعب الكردي، لكي نتهم ونندّد به أو بسبب علاقات مع هذه الجهة أو تلك.

مقاربة بشأن المقاومة
*كيف تنظر إلى المقاومة؟ وهل ما جرى في العراق يندرج تحت هذا العنوان،خصوصاً إستهداف المدنيين الأبرياء وتبدّل الأدوار وتجاذبها بين الميليشيات الشيعية والسنية؟ هل من مقاربة لما يسمى بالمقاومة العراقية مع المقاومات الباسلة في فيتنام وتشيلي وكوبا والجزائر وغيرها؟

قانونياً أستطيع القول إن المقاومة حق مشروع لكل شعب تحتل أراضيه، وهو أمرٌ مكفول بموجب القانون الدولي وجميع الشرائع الوضعية والدينية، ولا أعتقد أن شعباً تُحتلّ أراضيه لا يقاوم الاحتلال بكل الوسائل الممكنة ابتداءً من الوسائل السلمية، المدنية، وصولاً إلى الوسائل العنفية فيما إذا رفض الاحتلال الانسحاب أو الجلاء، ولعل الشعب الذي لا يقاوم محتليه إنما هو شعب من العبيد، ولا أظن أن الشعب العراقي كذلك، لأنه شعب حي ونابض بالحياة والحيوية والشجاعة ويتوق إلى الانعتاق والحرية، ويريد العيش مثل بقية الشعوب تحت الشمس، ويطمح إلى إقامة نظام ديمقراطي يلبّي آماله المشروعة، في ظل سيادة كاملة وتنمية شاملة دون تدخل خارجي أو إحتلال أجنبي.
لقد قلت عشية غزو العراق في مقابلة مع صحيفة القاهرة التي يرأس تحريرها الكاتب والصحفي صلاح عيسى: أعتقد أن النظام سيسقط سريعاً وقد لا تدوم الحرب أكثر من ثلاثة أسابيع، ولم يكن ذلك يحتاج إلى علم وخبر أو معرفة بالستراتيجيا، فقد كان النظام العراقي يعاني من عزلة شعبية كبيرة وليس لديه حلفاء في الداخل والخارج، والجيش مترهّل ويتحكم فيه الحرس الجمهوري، وهذا يتبع قيادات خاصة إضافة إلى دور الحرس الخاص، كما عانى العراق طويلاً بسبب الحصار لدرجة الشلل تقريباً، ولأن قوة دول التحالف كبيرة والهجوم سيكون كاسحاً مع تكنولوجيا متطورة وأسلحة فتّاكة، فقد كان مؤملاً أن يسقط النظام سريعاً.

وكنتُ قد قلت في المقابلة ذاتها أعتقد أن المحتلين سوف لاينعمون بالاسترخاء تحت شمس بغداد الذهبية، فسرعان ما ستبدأ مقاومة ضارية وشرسة للاحتلال. وبعد عام من هذه المقابلة حاورني لذات الصحيفة الدكتور يسري مصطفى، وكان أول سؤال وجهه لي: من أين كنت تعرف أن المقاومة ستندلع ضد الاحتلال، فقد قلت عشية الحرب، ما ذكرته في أعلاه.. قلت له لم يكن لديّ أية معلومات، ولا علم لي حتى بالشؤون العسكرية، لكنني كعراقي وأزعم أنني أعرف العراقيين، فقرأت المسألة سياسياً، كما قرأت المسألة استنتاجاً لما يمكن أن يواجه أي شعب يتعرّض للاحتلال، لكنني أضفتُ أن تقديري كان خاطئاً فقد كنت قد حدّدت ستة أشهر لاندلاع المقاومة، وإذا بها تبدأ بعد أيام أو أسابيع.
وأود هنا أن أشدّد بوضوح، وهو ما أكّدته باستمرار على ضرورة التفريق بين عمليات المقاومة التي تستهدف القوات المحتلة وبين العمليات الارهابية التي تطال السكان الأبرياء المدنيين العزّل، كما حصل في تفجيرات كبرى في الحلة والكاظمية والنجف والموصل وصلاح الدين وأربيل وديإلى والأنبار والفلوجة والبصرة، فضلاً عن بغداد، إضافة إلى عمليات الخطف وأخذ الرهائن وقطع الرؤوس وجزّ الأعناق وأعمال الجريمة المنظمة، فمثل تلك الأعمال مدانة بكل المعايير الإنسانية والأخلاقية والدينية والحقوقية والقانونية.
لعل الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة والنداءات التي كان يصدرها أبو مصعب الزرقاوي وتنظيمات القاعدة لا علاقة لها بمقاومة المحتل، بل أنها ساهمت في تشويش الصورة والتأثير سلباً على أشكال المقاومة المشروعة، لاسيما السلمية والمدنية، خصوصاً باستهدافها للسكان المدنيين، وأحياناً لفئات محدّدة ومحاولة فرض فكرها التكفيري الإجرامي بالقوة، عبر موت مجاني وعقاب جماعي، لاسيما تخريب كل شيء. وبلا أدنى شك فإن مثل هذه النظرة العدمية السادية غير المسؤولة ألحقت ضرراً كبيراً بمسألة التصدّي للمحتل بالوسائل المشروعة، وكادت مثل تلك الأعمال التكفيرية والارهابية أن توقع العراق في أتون حرب أهلية، استغلّها أمراء الطوائف من الفريقين للحصول على امتيازات، رافقها عمليات عزل وتطهير طائفي ومذهبي وإثني، وتفجيرات لجوامع ومساجد وحسينيات وكنائس.
لقد قامت المقاومة في فيتنام بقيادة حزب ثوري وأفق ماركسي وجبهة وطنية لمشروع تحرر وطني، واستطاعت استقطاب جميع القوى والفاعليات السياسية الفيتنامية، لاسيما تحت رمز هوشي منه حقق لها الانتصار على الفرنسيين، خصوصاً في معركة ديان بيان فو العام 1954 وعلى الأميركان في العام 1973 حين بدأت مفاوضات السلام.
وفي تشيلي كانت حركة احتجاجية مدنية بالأساس ساهم فيها بالدرجة الأساسية الحزب الشيوعي بقيادة لويس كورفلان والحزب الاشتراكي الذي اغتيل قائده رئيس الجمهورية الشرعي المنتخب سلفادور إلندي، وساهمت الكنيسة لاحقاً بدورها في التصدي للانقلابيين الذين قادهم بينوشيه، وتحققت بعد عقد ونصف مساومة تاريخية، حين تخلّى بينوشيه عن الرئاسة مقابل احتفاظه بقيادة الجيش، وإجراء انتخابات حوّلت تشيلي تدريجياً إلى المسار الديمقراطي.
أما في كوبا فقد كانت هناك عصبة ثورية بقيادة كاسترو وجيفارا وراؤول شقيق كاسترو (حركة 26 تموز/يوليو) ضمّت 82 مقاتلاً وصلوا على باخرة من المكسيك وقتل منهم ساعة وصولهم نحو 60 شخصاً، لكنهم شنّوا كفاحاً مسلحاً لمدة نحو عامين وحققوا نصراً ساحقاً في 1 كانون الثاني (يناير)1959، حين نزلوا من جبال سيرامايسترا حتى وصلوا العاصمة هافانا، حيث فرّ الدكتاتور باتيستا.
أما في الجزائر فكان الاستعمار الفرنسي استيطانياً وحاول تغيير هوّية الجزائر على مدى 132 عاماً، لكنه فشل في ذلك، فانطلقت مقاومة عنيدة بقيادة جبهة التحرير الجزائرية في العام 1954 وحققت نجاحاً كبيراً عربياً وعالمياً، لاسيما بعد نجاحها الميداني، ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن الجزائر بلد المليون شهيد كانت كريمة جداً ثمناً للحرية، حتى اضطرت فرنسا إلى المفاوضات التي توّجت بما عرف اتفاقية إفيان العام 1962 واستقلت الجزائر بعد جلاء المستعمر.
ولعلي يمكن إضافة حركات المقاومة في أوروبا ضد الاحتلال النازي، ففي فرنسا وبلدان أوروبا الشرقية استقطبت شخصيات ثقافية مهمة وعبّأت الجماهير ضد الاحتلال في إطار حركة رفض شعبي استكملت بعمليات مسلحة، كما ساهمت السلطة السوفيتية والحزب الشيوعي في عمليات المقاومة خلف خطوط الجيش النازي وفي اختراقات كبرى، ساعدت الجيش الأحمر على دحر النازية، لاسيما عندما وصلت على مشارف بعض المدن التي استبسلت في مقاومتها للمحتل الألماني.
لعل ظروف العراق مختلفة عن الحالات التي سألت عنها، فلا توجد قيادة موحدة للمقاومة، فضلاً عن اختلاط بعض فاعلياتها بالارهاب، لاسيما وجود تنظيم القاعدة الذي حاول أن يطبع كل عمل عنفي بطابعه، وهكذا ضاعت بعض الأعمال التي استهدفت المحتل في غمرة أعمال القاعدة الارهابية، أما الاختلاف الثاني، ففي المقاومات المذكورة كان الصراع واضحاً بين محتل أو أنظمة مستبدّة وبين حركات سياسية حاولت تعبئة الشعب، لكن المشهد العراقي مختلف، فالحركة السياسية منقسمة بين من يعتبر الاحتلال " تحريراً"، ويفلسف ذلك ويبرّره بعدم إمكانية إزاحة صدام حسين من السلطة دون مساعدة خارجية، وبين قوى تعتبره احتلالاً، بعضها محسوب على النظام السابق، الأمر الذي يحدث نوعاً من المفارقة، فضلاً عن التداخل. وإذا كان الأمر واقعاً، فكيف السبيل بعد الذي حصل لإنهاء الاحتلال؟



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشيوعيون والوحدة العربية
- الحرب العراقية – الإيرانية عبثية ، خدمت القوى الإمبريالية وا ...
- الميثاق الاجتماعي العربي: تنازع شرعيتين
- الحزب الشيوعي وتشكيل الجبهة
- معارضة الحصار
- في بشتاشان
- كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
- كلمة الدكتور شعبان في تكريم الاستاذ عزالدين الأصبحي
- الأكراد في النجف
- الحركة الطلابية
- من هو العراقي؟
- الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة
- ماذا بعد الربيع العربي!
- قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى -المحفوظات-
- المساءلة: عدالة أم انتقام؟
- الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية ( ...
- حلبجة: العين والمخرز! - شهادة عربية حول حلبجة والأنفال
- “إسرائيل” . . من حل الصراع إلى إدارته
- البارزاني في ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين..الكاريزما الشخصية ...
- الأمن أولا والحرية أخيراً.. والعنف بينهما


المزيد.....




- الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج ...
- روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب ...
- للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي ...
- ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك ...
- السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
- موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
- هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب ...
- سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو ...
- إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - لا تقديم للنظرية على حساب الوقائع الموضوعية